عن موقع حكمة
هتزت فكرة الحقيقة أمام وقائع أثبتها العلماء. فهل بإمكان الفلسفة مساعدة العلم على حل هذه التناقضات؟
في الوقت الذي شيد فيه قرننا هذا ( القرن العشرين) صرحا رهيبا من المعارف، يغوص و بشكل مذهل في أزمة أسس المعرفة. لقد بدأت الأزمة في الفلسفة. إذ بقدر ما ظلت الفلسفة الحديثة تعددية في موضوعاتها و مشكلاتها، بقدر ما انتعشت بفضل جدل بين البحث عن أساس يقيني للمعرفة، و العودة المستمرة لشبح اللايقين. كانت أزمة الأسس بمثابة الحدث المفتاح للقرن العشرين. فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية إدراك الأشياء في ذاتها. أعلن نيتشه، بكيفية مغايرة تماما، حتمية النزعة العدمية، و وضع هيدجر، مسألة أساس الأسس، أي طبيعة الكائن، موضع تساؤل. نذرت الفلسفة المعاصرة نفسها، من الآن فصاعدا، لتقويض معمم، و لتجذير تساؤل يضفي النسبية على كل المعارف، بدل تشييد أنساق على أسس متينة.
لم يكُف العلم، على العكس من ذلك، طيلة القرن التاسع عشر، و مع مطلع القرن العشرين، عن البرهنة على أنه عثر على الأساس التجريبي ـ المنطقي لكل حقيقة. يبدو أن نظريات العلم هذه تجيء من الواقع ذاته، عن طريق الاستقراء الذي يقر بالتحققات / الاثباتات التجريبية بوصفها أدلة منطقية، و يرفعها الى مرتبة القوانين العامة. يبدو في نفس الآن، أن الدعامة المنطقية ـ الرياضية الضامنة للتماسك الداخلي للنظريات المتحقق منها، إنما تعكس بنيات الواقع ذاته. في هذه الشروط بالضبط، تعهد فريق من الفلاسفة و العلماء الراغبين في الخلاص نهائيا من الثرثرة المتكلفة و الاعتباطية للميتافيزيقا، من أجل تحويل الفلسفة الى علم، و ذلك بتأسيس كل قضاياها على منطوقات متماسكة، و قابلة للتحقق. هكذا إذن ادعت جماعة فيينا أنها أسست اليقين الفكري على الوضعية المنطقية، كما تزامن العمل الذي باشره فتجنشتاين Wittgensteinعلى مستوى اللغة، و دافيد هيلبرت على مستوى الصياغة الأكسيومية للنظريات العلمية، مع ما قامت جماعة فيينا.
لقد بدا، و الحالة هذه، أن تنقية الفكر من كافة الشوائب، و ضروب البداءة، هو محض وهم. فعلا لقد برهن كارل بوبرK. Popper أن التحقق verification laلا يكفي للتأكد من حقيقة نظرية علمية. و كشف، عندما قام بقلب فكرة الوضوح الظاهري الذي تكتسي بموجبه النظرية العلمية طابع اليقين، أن علمية نظرية ما تكمن في قابليتها للدحضla refutabilité .
و نبقى في سياق منظور كارل بوبر لنقول إن ذلك الأمر يصح أيضا بالنسبة لفكرة كون المنطق الاستنباطي يمتلك قيمة حاسمة في البرهان و أساسا للحقيقة غير قابل للدحض. و الحال أن هذا الصرح المنطقي ذاته بدا أنه غير كاف. هناك من جهة إنجازات الميكروفيزياء ااتي لامست نموذجا من الواقع ينهار أمامه مبدأ عدم التناقض؛ و من جهة ثانية، أقامت مبرهة Gödel غوديل اللايقين المنطقي داخل الأنظمة الصورية المركبة. آنذاك، لم يعد التحقق التجريبي، و لا التحقق المنطقي كافيين لتشييد أساس يقيني للمعرفة.
انحل، في نفس الوقت، الجوهر المحدّد و المميز للواقع في معادلات الفيزياء الكوانطية، و أخلى النظام الكوني المكان لنظام غامض و ملتبس. فبدا الكون أخيرا كما لو أنه ثمرة انشطار خارق و مثير، و كأنما خضعت صيرورته لتبديد وحيد الاتجاه. هذا بالرغم من أن كل انجازات المعرفة تقربنا من ذلك المجهول الذي يتحدى مفاهيمنا و منطقنا و ذكاءنا. فتنضاف بذلك أزمة أسس المعرفة العلمية الى أزمة المعرفة الفلسفية، حيث يلتقيان معا حول الأزمة الأنطولوجية للواقع، مما يجعلنا نواجه ” مشكلة المشاكل…أي أزمة أسس الفكر” ( بيير كورنير P. Cornaire).
في الواقع، مهما تجددت وتنوعت البحوث المتعلقة بالمعرفة العلمية، فإنها تجد نفسها أمام المشكل كما طرحه إيمانويل كانط، و من خلاله، المشكل الفلسفي الكلاسيكي حول علاقة الجسد و النفس. هكذا نجد أنفسنا على أرضية علمية من دون التخلي عن التساؤل الفلسفي. لا يتعلق الأمر بتقاسم لتلك الأرضية العلمية، أو بالمحافظة على منطقة منيعة تخص الفلسفة وحدها. إذ لا وجود لحدود طبيعية بينهما. فضلا عن ذلك فإن العصر الذهبي لازدهار الفلسفة و ميلاد العلم، كان، بحق، هو عصر الفلاسفة العلماء أمثال جاليلي وديكارت و باسكال و ليبتنز. و مهما بدا اليوم أن العلم و الفسفة منفصلان، فإنهما يصدران عن نفس التقليد النقدي، الذي لا غنى عن استمراريته و دوامه لحياة كل منهما. زيادة على ذلك، و حتى بعد انفصالهما، فقد عبّر الفلاسفة دائما عن تلك الرغبة في أن تغدو الفلسفة ” معرفة المعرفة العلمية، وعيها بذاتها ” .(كارل بوبر)
إن مشكلة العلم، كموضوع للتفكير الفلسفي، تُطرح أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن العلم بما هو كذلك، إشكالي. إن شئت قلت، إن العلم سلطة معقدة، شكل متميز و راق من العقلانية، لكنه لا يدمج الذات المفكرة، إنه يجعل الملاحظ هو المشيد للمفاهيم. حاول إيموند هوسرل E. Husserl جادا تبيان كيف أن ” أزمة العلوم الاوربية ” تعبر بعمق عن أزمة احتجاب الذات المنتجة للعلم. وحدها العودة التأملية الى وضعية العلم، تتيح، في نظره، تبيان الأزمة التي تتمظهر كذلك في المجال السياسي. تتمثل الفكرة الأساسية عند هوسرل، في عدم اكتراث العلماء أثناء مسعاهم العلمي بذاتيتهم الخاصة و تأثيرها على عملهم. بعبارة أخرى، إن من ننعتهم بالعلماء يفرغون العلم من فاعليه الحقيقيين، ومن سياقه الانساني.
إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه باستمرار، على موضوع الحقيقة العلمية، هو: هل تنفلت القوانين و الاكتشافات و الموضوعيىة التي يضمنها العلم، من الشروط التارخية و الاجتماعية و السيكولوجية الحاضرة وقت ظهورها، أم أنها تظل سجينة تلك الشروط؟ لقد بيّن مفكرون أمثال كارل بوبر و توماس كوهن Th. Kuhnو جيرار هولتون، و إسمير لاكاتوس، أن ثمة مسلمات غير معللة موجودة طي النظريات العلمية، بل الأدهى من ذلك، أن هناك ” تيمات” بمثابة أفكار استحواذية قبلية، تحرك ذهن العلماء، شأن الحتمية عند إنشتاين، و اللاحتمية عند نيلز بور Niels Bohrs . لقد كشف توماس كوهن عن وجود براديغمات paradigmes، أو مبادىء خفية تتحكم في المعرفة و تسمح بتنظيمها.
إن العلم يمشي على أربعة قوائم: التجريبية، و العقلانية، و التخيل، و التحقق. هكذا يغدو بعض العلماء عقلانيين أكثر، و آخرين تجريبيين، و من هم سواهم تخيليين أو مسكونين بقابلة التحقق. إن هذه القوائم الأربعة متكاملة، بالرغم من كونها عرضيا متصارعة، و هو صراع تتغذى منه حيوية العلم. إن العلم ينتج نفسه بنفسه. و هو لا يفعل ذلك في مجال مغلق، بل ضمن شروط تاريخية مضبوطة و دقيقة؛ إن استقلالية العلم لا تنفصل عن عملية التجديد المستمرة التي يقوم بها، في الآن نفسه، في مواجهة النزعات الدوغمائية، و التخصصية المفرطة. أكيد أن العلم يفرز، في نفس الآن، العماء و الوضوح. لكن علينا أن نعرف كيفية مقاومة الاصلاح المضاد، في كل قضية شبيهة بقضية سوكال Sokal ، و الهادفة الى إقامة مرتبة رفيعة للعلم، متعلقة قطعاً بالمؤسسة الانضباطية التقليدية، جاعلة من العلم حصنا منيعا عن الجهل بأصوله.
لكل مواطن الحق في المعرفة، و بالتالي فإن المشكلات الأساسية للنظريات العلمية الكبرى، و الأفكار الثاوية طيّها، قابلة للتداول، و لا يجب أن تبقى ـ بأي حال ـ وقفا على العلماء وحدهم. إن علماء أمثال إيليا بريجوجين I. Prigogine و ريفز H. Reevesو دي إسبانيا و فرانسوا جاكوب … يبذلون جهذا لإشراكنا معارفهم، و وهم بعملهم هذا يشخصون دور مفكري النزعة الانسانية إبان عصر النهضةles humanistes .
هناك إذن في الحالة الراهنة، قصورالفلسفة وحدها، و عدم كفاية العلم وحده لإقامة المعرفة. و نظرا لتعقد المشكلات التي تثيرها هذه المعرفة، فلن نعمل على صياغة ميتا ـ علم، أو ميتا ـ فلسفة، بل سنناضل بالأحرى ضد كل فلسفة مصابة بفقر الدم، و ضد كل علم بدون ضمير1. إن كان النشاط الفلسفي يمد العلم بالتفكير الضروري الذي يحتاجه، فإن النشاط العلمي يغذي الفلسفة بالمعرفة. عندئذ يكون بوسع العلم و الفلسفة الدخول في حوار كوجهيين مختلفين، و متكاملين لعُملة واحدة هي : الفكر