السبت، 4 مارس 2017

إشكاليَّة شرعية السُّلطة مقاربة من وجهة نظر فلسفة القانون خلدون النبواني

عن موقع الأوان


بين فلسفة القانون ونظرية القانون:
استُخدِم مُصطلح فلسفة القانون لأول مرّة في الفلسفة في كتاب هيغل مبادئ فلسفة الحق (1821) ليؤكِّد بعده المُشرِّعُ النمساوي/الأمريكي هانز كلسن في كتابه الأشهر النظرية المحضة للقانون على ضرورة التمييز بين نظرية  القانون وفلسفة القانون. منذ ذلك الحين والفرق الدقيق بين هذين الاختصاصين يتحدّد في كون فلسفة القانون تجعل من القانون موضوعاً لتأملاتها حيث يطمح الفيلسوف إلى إعادة تأسيس القانون على أساسٍ فلسفيّ، في حين تقوم نظرية القانون بطرح تصوراتها المعيارية والوضعية للقانون بشكلٍ فلسفيّ. وبشكل آخر يمكن لنا القول أن هناك قانونيين ومشرعين ومنظرين للقانون جاؤوا بنظرياتهم القانونية نحو الفلسفة وتنظيراتها واستخدموا أدواتها النظرية في مباحثهم القانونية كما هو حال هانز كلسن مثلاً أو نيكلاس لومان أو كارل شميت أو ماكس فايبر وهؤلاء تشكلوا غالباً معرفياً وأكاديمياً بالمباحث القانونيّة وليس بالفلسفة؛ بينما هناك فلاسفة اتجهوا إلى القانون انطلاقاً من اهتمامات فلسفية فسعوا إلى تأصيل وتأسيس القانون على أساسٍ فلسفيّ عبر دراسة وتحليل مفاهيم ومصطلحات القانون الرئيسيّة كما فعل كانط مثلاً في ميتافيزيقا الأخلاق و هيغل في مبادئ فلسفة الحق و جون راولس فينظرية العدالة وهابرماس في ما بين الحقائق والمعايير. على عكس أصحاب نظريات القانون القادمين من القانون نحو الفلسفة في نظرياتهم حول الحقوق والمعايير والنظم القانونية، يتجه الفلاسفة بعدتهم النظرية ـ دون أن يتشكلوا أكاديمياً بالضرورة بالدراسات القانونية ـ نحو القانون مُعيدين مساءلة مبادئه ومقولاته ومحاولين إعادة ربطه مع مقدماته الفلسفية الأخلاقية أو السياسيّة أو الاجتماعية والثقافية. من هنا لا تُعتبر فلسفة القانون فرعاً من فروع القانون وإنما فرعاً متعلقاً بمباحث الفلسفة كما يؤكّد على ذلك الفيلسوف كانط في الجزء الأول من كتابه ميتافيزيقا الأخلاق والمعنون ﺑ : “فقه القانون” بقوله ” باستقلاله عن الفلسفة ليس القانون بذاته إلا وجهاً جميلاً لكن دون دماغ”.
وفقاً لفيلسوف القانون الفرنسي جان فرانسوا كيرفيغان (كان أُستاذي المُشرف على أطروحتي الماجستير والدكتوراة في جامعة السوربون)، فإن فلسفة القانون تتموضع عند تقاطع ثلاثة اختصاصات واهتمامات نظرية هي: الفلسفة، والقانون، والعلوم السياسيّة. ولعل هذا التفصيل ضروري لأُحدّد مقاربتي هنا لإشكالية الشرعية أو شرعية السُّلطة السياسيّة من وجهة نظر فلسفة القانون مع الأخذ بعين الاعتبار كل تلك الترسانة المعيارية من المفاهيم والبنى والأحكام التي جاءت بها نظريات القانون.
الشَّرعيَّة والقانون في السّياق الأوروبي الحديث: ألمانيا نموذجاً
ليست مناقشة إشكالية شرعية السُّلطة السياسية مقصورة اليوم على الأنظمة غير الديمقراطية كأنظمة الحكم العربية، وإنما هي مُشكلة قد واجهت الغرب “الديمقراطي” الذي ركن طويلاً إلى أنه قد أسس الشرعية السياسية للحكم على أساس ثابت من المعيارية العقلانية والقانونية ولم يعد بحاجة إلى نقاش ما تعين قانونياً وصار مثالاً نموذجياً لحداثة الغرب. فقد وجدت دول أوروبا الغربية أنها كانت مطمئنة أكثر من اللازم لعقلانيتها ومعياريتها بعد حربين عالميتين قامت بها أنظمة فاشية وصلت للحكم بطريقة شرعية تماماً وفقاً لمعايير العقلانية والحداثة والتنوير الأوربي. هكذا وجد الغرب الحديث والمعاصر نفسه بحاجة إلى إعادة مساءلة مسألة الشرعية ووضعها موضع موضع الشك والبحث والمراجعة. فقد وصل الحزب النازي إلى الحكم وفق مسارات الديمقراطية وتم انتخاب هتلر وحزبه بأغلبية كبيرة؛ وكما نعلم جيداً فالنازية لم تكن الحزب الشمولي الوحيد الذي وصل إلى الحكم في أوروبا في نهايات النصف الثاني من القرن العشرين، بل إن العديد من الأنظمة الفاشية حققت فوزاً ديمقراطياً شعبياً في أوروبا الحديثة كحكومة موسليني في إيطاليا وحكومة فرانكو في إسبانيا. كان الغرب الأوروبي إذن بعد فظائع الحرب العالمية الثانية وجرائم النازية أمام معضلة شرعية السُّلطة المُنتخبة ديمقراطياً. فكيف يمكن مثلاً القبول بأن سلطة هتلر شرعية؟ ولكن كيف يمكن الاعتراض على شرعيتها بنفس الوقت وهي قانونيّة ودستورية ولم تنتهك مبدأ الديمقراطية في تقرير المصير؟ لقد واجه الفكر السياسيّ الغربي عموماً والألماني خصوصاً مشكلة كيفيّة الاعتراض على إرادة الشعب الذي اختار بأغلبية ساحقة نظاماً شمولياً كالنظام النازي بينما الدستور الألماني الحديث مبني على أسس قانونية حديثة وضعية مُستمدة من أفكار فلسفية وأخلاقية تقوم على فكرة العدالة والحرية والمساواة الخ؟
نتيجةً لذلك سيقوم جدل فلسفيّ/قانونيّ حول شرعية السلطة المُنتخبة دستورياً أو ما يمكن التعبير عنه، بمصطلحات فلسفة القانون، بالعلاقة المُعقّدة بين القانونية légalité/legality وبين الشرعية légitimité/legitimacy. وبمعنى آخر سيعود طرح السؤال القديم مجدّداً هل يكفي القانون (مُمثّلاً بالدستور هنا بوصفه الشكل القانونيّ للسُلطة) لشرعنة سُلطة ما؟ كيف يمكن الاعتراض على دستور قانونيّ حديث يخوِّل الشعب سلطة اختيار من يمثله ويحكمه؟ في ألمانيا سيحتد الجدال طويلاً وسيتم فتح صفحة جديدة من الجدل التشريعي القانوني الفلسفيّ الأخلاقيّ ستُثمر عن جملة تشريعات وتصورات قانونية وفلسفية جديدة تضع معايير جديدة لمنع انزلاق الديمقراطية في أفخاخ الفاشية والشمولية. فقد كان عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر مثلاُ لا يتوقف عن التأكيد على استقلالية القانون الغربي الحديث عن الأخلاق والسياسة، أي باختصار عن الأسس الفلسفية المؤسسة له وذلك بحجة أن القانون الحديث، بحسب ماكس فيبر، صار عقلانياً بما يكفي ليستمد شرعيته من منظومته العقلانية ذات المعيارية المضبوطة التي قد تسيء إليها المثالية الأخلاقية أو المتغيرات السياسيّة. وفي الوقت الذي كان فيه ماكس فيبر وهانس كلزن يؤكدان مثلاً على استقلالية المنظومة المعيارية للقانون الحديث، فإن الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس سيدعو لاحقاً في محاضرتيه الشهيرتين Tanner Lectures إلى إعادة الاعتبار للمحتوى الأخلاقي الكامن في القانون (ممثلاً  بالدستور في موضوع السُّلطة السياسية). يريد هابرماس في كُتيبه ذاك أن يعيد تأسيس الشرعية في القانون الحديث على أساس فلسفيّ أخلاقي قائم على التواصل. لكنه سيعيد من جديد مراجعة موقفه لموقع الأخلاق في القانون في كتابه الضخم والأهم بين الحقائق والمعايير Faktizität und Geltung ليفتح مجالاً أوسع للمشاركة الشعبية في إعطاء  الشرعية لما هو قانوني بل والمساهمة في تشريعه.
إذن بفضل تلك النقاشات المُستفيضة التي عرفتها ألمانيا الحديثة والتي خاض فيها مجموعة من مُشرِّعيها مثل هانس كلزن وكارل شميت (المُدان بالنازية) وعلماء اجتماعها كماكس فيبر، نيكلس لومان، ويورغين هابرماس، تعيد ألمانيا امتحان مسألة شرعية السُّلطة السياسيّة دون الركون إلى ذلك الخطاب المُبسّط الذي يحيل الديمقراطية إلى الأنظمة الشمولية التي ولدت ذات يوم من ممارسات ديمقراطية معينة[i].
من هنا نجد ضرورة التيقظ للمفاهيم التي قد تبدو محررة في زمن ما ثم تصبح عائق وقيد، بل ومبرر للانحراف وانتاج النقيض مما تطرحه.
الشَّرعية والدَّولة:
يكشف لنا تاريخ تطوّر القانون الغربيّ أن مسألة الشرعية والدستور هما مسألتان من اختصاص الدولةétatiques  أي من احتكار الدولة لا المجتمع وأن دولة القانون بالمعنى القانونيّ والسياسيّ الغربي للكلمة لم تكتف فقط باحتكار العُنف (الشرعيّ) وإنما هيمنت فيها أيضاً السياسة إلى حدٍّ ما على تعريف العديد من المصطلحات القانونية مثل مصطلحات السيادة والشرعيّة والقانون. وهنا مكمن الخطر إذ أن هيمنة السياسة على تعريف الشرعية وسنِّ نصوص الدستور هو أمر قد يؤدي إلى تلاعب السلطة السياسيّة الحاكمة بالشرعية وقلب ما هو إنجاز إنسانيّ إلى أداة لاستغلال الناس إما عبر أخاديد المنظومة القانونية أو عن طريق احتكار التعريف المفاهيمي وعد تجديده بعد أن روضته قوة الدولة في مقابل ضعف أو غياب مؤسسات المجتمع. وكما أوضح ذلك ماكس فيبر ثم فالتر بنيامين ومن بعده دريدا[ii] فإن  الدولة، بل والديمقراطية والقانون والعنف تؤسُّس جميعاً على شيء من العنف في أصولها ثم تحتفظ بحقها في ممارسة العنف الذي يحمي سلطتها بينما تضفي عليه لاحقاً شيئاً من الشرعية. ولعل عنف السُّلطة حتى في دول القانون والأنظمة الديمقراطية هو شرٌ لا بد منه للحياة السياسيّة الحديثة. فالدولة شرٌ لأنها تسعى لأن تفرض نفسها كسُلطة وسيادة فوق المجتمع والأفراد والتنظيمات. إنها قوة الهيمنة والسيطرة و”العنف الشرعي”، بل هي التنين والوحش العملاق كما رآها توماس هوبز في مؤلفه الأشهر Leviathan[iii]. ولكن وإن يكن مفهوم الدولة ومؤسساتها وإكراهاتها شرّاً على نحوٍ ما، فلعلها شرٌ لا بد منه لتستقيم الحياة السياسيّة وتنتظم شؤون المجتمع. فمن مهام الدولة الأساسية هو ضبط وتنظيم الحياة السياسيّة في بلدٍ ما عبر المؤسسات الحكوميّة وذلك بما تملكه الدولة من سيادة وقوة سيطرة وفق آليّات وصلاحيات أمنية وقانونيّة يحدّدها الدستور. هكذا بُنيت الدول الديمقراطيّة الحديثة على اختلاف تجاربها. لكن العنف “الشرعيّ” الذي يظل ضمن حدود قانونيّة واضحة محمية بيقظة المواطنين في الديمقراطيات الغربية الحديثة بينما هو عنف دموي غير محدود في المجتمعات والدول التي لم تدمقرط بعد كبلدان العالم العربي التي أسالت دماء شعوبها عندما جرأت هذه الشعوب ولأول مرة ربما في التاريخ الحديث على وضع  مسألة شرعية الحاكم موضع السؤال والشك.
إذ نميل إلى التأكيد على أهمية الدولة كمنظم لعلاقات الناس وضابط لحياتهم وحافظ لحرياتهم لا يعني ذلك أبداً تبني فكرة الدولة المهيمنة المسيطرة على مقدّرات المجتمع كما ذهب إلى ذلك مثلاً كل من هوبز وبودان، ولا ندعو إلى مجتمع بدون دولة كما يذهب إلى ذلك البعض مثل بيير كلاستر الانثربيولوجي الفرنسيّ الشهير، بقدر ما نفترض ضرورة وجود مؤسسات مدنية تتوسُّط العلاقة بين الدولة والمجتمع وتنظِّم العلاقة بينهما في المراحل الانتقالية تحديداً حتى يتمكن الشعب من حيازة سيادته ويوقع عقده الاجتماعيّ الذي يضمن حقوقه وواجباته وعلاقاته في إطار المجتمع والدولة ويتمكن من حماية حقوقه وحفظها بقوّة القانون.
*******
1ـ  كنتُ قد عالجتُ في كتابي الأخير المنشور مؤخراً باللغة الفرنسية العلاقة المعقدة بين الشرعية والقانونية في الإطار الديمقراطي الغربي وذلك من وجهة نظر فلسفة القانون وهذه الدراسة شغلت مساحة الفصل السابع الذي امتد على أكثر من 100 صفحة من الكتاب. أنظر:
Khaldoun ALNABWANI, Habermas et Derrida : divergence théorique et convergence pratique ?, Paf, 2013.
[ii] Max Weber, Le Savant et le Politique, trad. Julien Freund, Collection Bibliothèque, 2002.
Walter Benjamin, « Critique de la violence » in Œuvres I trad. Rainer Rochlitz, Paris, Gallimard. 2000.
Jacques Derrida, Force de loi, Galilée, 2005.
[iii] Thomas Hobbes, Leviathan: Or the Matter, Forme, and Power of a Common-Wealth Ecclesiasticall and Civill, ed. by Ian Shapiro (Yale University Press; 20100.

السبت، 18 فبراير 2017

وسائطية التربية بين إعداد الفرد وتنمية المجتمع ـ د.زهير الخويلدي

أنفاس نت


"تشكل التربية النقطة التي يتقرر فيها ما إذا كنا نحب هذا العالم بما يكفي لنتحمل مسؤوليته ونعمل على إنقاذه من هذا الخراب الذي سيؤول اليه حتما، لولا هذا التجدد، ولولا وفود اليافعين الجدد عليه" [1]
التربية هي تبليغ الشيء الى كماله وذلك عن طريق تطوير الملكات المعرفية عند الإنسان بالتدريب وتنمية الوظائف النفسية بالتمرين واكتساب المهارات. وحينما يربى المرء فإن ملكاته تتقوى وقدراته تزيد وسلوكه يتهذب ويصبح صالحا للحياة الاجتماعية ومؤهلا للوسط المدني ومعمرا للأرض ومدبرا لصلاح الكون. اللافت للنظر أن ريكور لم يترك فلسفة للتربية واضحة المعالم ولكنه يستنجد بالتربية كتدبير إتيقي بعد أن بان له فشل سلطة السياسة وواجب الأخلاق في اقتلاع بذور الشر المزروعة في الطبيعة والثقافة الإنسانيتين على السواء وقد اقتدى بأعمال ليسنغ في » تربية النوع البشري« وجون جاك روسو في سفره الكبير »إميل« وبكانط في كتابه  في التربية  وتأثر أيضا بحنة أرندت في مقالها أزمة التربية [2]. فكيف شخص بول ريكور أزمة التربية في المؤسسات التعليمية الغربية؟ ماهي أسباب الأزمة التربوية؟ وما طبيعة تأثير هذه الأزمة على التطور العلمي والسلم المدني والتنوير الثقافي؟ وهل قدم البديل المطلوب؟
لقد توجه التفكير في التربية عند ريكور نحو نزع طابع الشر عن الفعل الإنساني وتأسيس شروط إمكان الفعل الحصيف الخال من العنف والكذب وارتكاب الأذى وإحداث الضرر للغير ودون تخليف الضحية، ولذلك كان هاجس ريكور الأكبر هو اتباع تربية تنظم الفضاء العمومي وفق قيم الديمقراطية وبما يسمح بالعيش المشترك والمحافظة على التعددية واحترام الاختلاف وصيانة الحقوق والحريات وضمان التنوع. كما تحرص التربية على إقامة علاقات إتيقية بين الذوات ترتكز على قيم الثقة بالذات من أجل التخلص من جميع أشكال العنف وبلوغ الاندماج الطبيعي وعلى قيم احترام الذات من أجل تفادي كل أشكال الحرمان والاستبعاد والوصول إلى الاندماج الاجتماعي وعلى قيم تقدير الذات من أجل التخلص من مشاعر الاهانة والازدراء وتعزيز مبادئ الحب في العائلة والحق في المجتمع والتضامن في الدولة. 
علاوة على ذلك يكشف ريكور عن التوازن الصعب الذي تقوم به التربية بين الطبيعة والثقافة وبين الهمجية والحضارة وذلك بتأكيده أن» التربية بالمعنى القوي للكلمة لا يمكن أن تكون سوى التوازن العادل والصعب بين مطلب الموضعة أي التكيف ومطلب التفكير واللاّتكيف، هذا هو التوازن الممتد الذي يبقي الانسان واقفا« [3].
 لذلك تهم قضية التربية كل انسان وتشغل بال كل ذات وتطرح في المسافات الفاصلة والواصلة بين الأفراد والجماعات. كما أنها مسألة حيوية ومصيرية ترتبط بتشريع التعدد الذي يسم الوضع الانساني وتسهر على احترامه وتدبيره وتنظيمه في اطار ديمقراطي من التعايش السلمي والتفاهم بين الأفراد. ان السؤال عن التربية هو من الثراء والتعقد بحيث يعاد طرحه بشكل دائم في كل منعطف تمر به المدينة وكل هزة يعرفها مجتمع وان مسؤولية المربي الانصات الى الفيلسوف محب الحكمة من أجل ترتيب المطالب وتدقيق المسائل وتجويد الطرق وتبويب الأهداف وتصويب الأنظار نحو النافع من العلوم.
من المعلوم أن فيلسوف الحوارات الكبرى بول ريكور في كتاب »الانتقاد والاعتقاد« يميز بين علمانية الدولة التي تتصف بالامتناع والانغلاق والفصل واللاأدرية المؤسساتية وتحرص على الأمن والنظام وتطلب من المواطنين الطاعة وعلمانية المجتمع المدني التي تتميز بالديناميكية والفعالية وتنخرط في النقاش العمومي وتحرص على الحقوق والتعددية وتطلب من المواطنين المشاركة وممارسة الحرية والتحلي بالمسؤولية واحترام الغير وتقبل الرأي المخالف. كما يدعو ريكور الى علمنة المدرسة والدولة بإدخال علمانية النقاش وليس الامتناع الى مجال التربية ويدعو إلى حرية التعليم وتحرير قطاع التربية وجعله في جبهة المواجهة التي يدبرها المجتمع المدني ضد سياسات الدولة السلبية والقائمة على الامتناع وإدراجه ضمن دائرة النقاش العمومي والخلاف المعقول وأن يحصل حول توافق بواسطة التقاطع من قبل مكونات الجماعة السياسية والأطراف المتواجهة.
 بيد أن ريكور يعترف بالمكان الصعب الذي توجد فيه مؤسسات التعليم وأن التوازن الذي تبحث عنه التربية في المجتمع هو توازن هش وعسير المنال طالما أن الدولة تريد أن تسجد فيها استراتيجيا الامتناع بينما المجتمع المدني يحاول أن يوظفها في استراتيجيا النقاش العمومي وصناعة الرأي العام المضاد.
في الواقع، » ما يجعل مشكل المدرسة عويصا هو أنها تتبوأ منزلة وسطى بين الدولة، التي تعتبر هي تعبيرا عنها بوصفها خدمة عمومية...، والمجتمع المدني الذي يستثمر فيها إحدى وظائفه الأهمية: التربية بوصفها أكثر الخيرات الاجتماعية الأولية التي يتعين توزيعها... «4[4].
 ما يترتب عن ذلك هو مناداة ريكور بأمرين أساسيين: الأول هو اعتبار التربية من الشؤون التي يتولاها المجتمع المدني ويقوم بتوزيعها بشكل متساو وعادل، والأمر الثاني هو اخراج هذا القطاع من الوظيفة العمومية التي تحدد بصورة كلية من طرف الدولة وتحاول فرضها على الجميع والابتعاد عن ادعاء تعليم الناس الحقيقة المطلقة وتحول السياسي الى مربي للقيم والاعتراف بحرية التعليم في الدستور من أجل التشريع للاختلاف واحترام التعددية وتنمية الأقليات وإبرام توافقات ضرورية لإدارة العيش المشترك. لكن »  الوضع غير المستقر والصعب للمدرسة ينبغي أن يصلح موضوعا للاعتراف من حيث هو كذلك، ويتعين بهذا الصدد تبرير فتح باب للتفاوض. فكما أننا نتوفر على لجان استشارية في مجال الأخلاق لمناقشة الحالات القصوى التي تطرحها البيولوجيا، كذلك يلزم أن نملك هيئة لمناقشة مشاكل التعليم الديني في المدرسة بحيث تتألف من ممثلين عن الدولة والمجتمع المدني. 5«[5]
هكذا ينتبه ريكور إلى أهمية الاشتغال على تطوير التربية والتعليم من أجل الرد على تحد إشكالية الشر ويدعو إلى معالجة القضية من زاويتين: الأولى إعلامية بتوفير معرفة للتلاميذ عن ماضيهم الخاص وتراثهم الثقافي جنبا إلى جنب مع القيم الكونية والانفتاح على روح العصر وماضي الثقافات الأخرى.
ينقد ريكور نزعة التمركز على الذات واستبعاد الآخر التي تعاني منها الثقافة الغربية ذات الجذور اليهودية المسيحية ويدعو إلى الاعتراف بدور الخصوصيات المغايرة والثقافات القومية في بناء الكونية والمشاركة في صنع التاريخ الأممي ويدعو إلى إدماج الأفكار والقيم المنسية والمُهَمّشة وخاصة الإسلام والشرق.
بطبيعة الحال » لقد أنتجت المسيحية خلال صيرورتها التفكيكية ايديولوجيا اقتصاد السوق..وبهذا تتواجد في قلب الاقتصاد العالمي وأيضا ضمن الجماعة السياسية الدولية عن طرق الحروب والقانون الدولي". [6]
أما الزاوية الثانية فترتبط بالتربية على النقاش والحجاج والمجادلة والنقد الذاتي والمواجهة بين قناعات وازنة ونبذ التعصب والدوغمائية والانطواء على الذات والإطلاع على التعددية واحترام التنوع والكثرة. وبالتالي» إن أقصى ما يمكن أن أطلبه من الغير ليس أن ينخرط فيما أعتقد وإنما أن يقدم أفضل حججه[7]. 
علاوة على ذلك يربط ريكور بين التعليم الديمقراطي والتربية على الديمقراطية وحقوق الإنسان ويشترط أن توفر المدرسة العمومية والخاصة ثلاث مكونات لقيام نظام مجتمعي ديمقراطي وتعددي: وهي قيم الأنوار من تسامح واختلاف وعقلانية وتقدم ، وتصور تحرري للدين يؤمن بفرضية وجود الحقيقة خارج إطار الاقتناع ، ومكون رومانسي حيوي يشجع على الحب والحياة والفن والطبيعة والخلق وشجاعة الوجود [8].
زد على ذلك يدعو ريكور إلى التخفيض من المنسوب الإيديولوجي في الأنظمة التربوية والترفيع من المنسوب الثقافي وذلك بتوفير حس تاريخي أكثر وحس إيديولوجي أقل وتحقيق انعطاف من تعليم بنكي يعيد إنتاج النظام الاجتماعي القائم إلى تعليم مختلف يعالج المشاكل المرتبطة بالعلمانية والمواطنة.
» طالما كانت الأنظمة التربوية نتاج التاريخ بل التواريخ شديدة الاختلاف من بلد إلى آخر، وطالما ارتبطت هذه الأنظمة بالإنتاج البطيء للدولة الحديثة مع أو ضد الكنيسة«[9]9. كما » النقاش الدائر حول المدرسة العمومية والخاصة سيكسب مزيدا من الوضوح إذا أعدنا له مرجعياته التاريخية«10[10] وخلصنا المؤسسة الدينية من بنيتها الملكية ومن نموذجها الهرمي الاستبدادي وبددنا الوهم الذي يرى أن ضرورة نقاء السياسة يستوجب فك الارتباط مع المقدس وكل ما يشير إلى الإيمان والتحرر من كل مرجعية ثيولوجية وانتبهنا إلى الحقيقة الساطعة وهي أن » جذر السياسي وأساسه هناك لغز أصل السلطة« [11].
مهمة المدرسة عند ريكور حيوية وهامة فهي الحاضنة التي يولد فيها النوع الثالث من العلمانية المغاير لعلمانية الدولة وعلمانية المجتمع المدني وتعمل على تربية الناس على الحوار العقلاني ومعالجة المشاكل بطريقة ودية والتعود على المرونة في المفاوضات وتقدم ضمانات للارتقاء الاجتماعي وتحرر الناس من الضغط والخوف وتعطل قرارات المنع، وهي أيضا الإطار المؤسساتي الذي يشرع للتعددية الدينية ويقوم بتحييدها ويميز نقديا بين السياسي والديني وبين الإيديولوجي والمعرفي ويحقق الزواج الصعب بين الانتقاد والاعتقاد ويدمج البعد النقدي في الاعتقادات الخاصة ويعيد الاعتبار إلى الإيمان في عصر مابعد الدين. مجمل القول أن» المدرسة هي فضاء علمانية وسيطة بين علمانية الامتناع وتلك التي تقترن بالمواجهة ، فضاء علمانية أسميها ثالثة؟ إننا برأيي نتواجد في وضعية العاجز ولا نملك إلا حلول قمعية لأننا لم نبلور هذا المفهوم الخاص بالعلمانية الثالثة وهذا أمر مأسوف عليه«[12]12. فهل تقدر التربية على تدارك هذا النقص السياسي؟ وكيف السبيل لإدراك نوع من التوازن والتوافق الصراعي الجيد في مجتمع تعددي؟
لقد تناول ريكور في مقال له عنوانه »الكلام ومملكتي« نشره في مجلة »فكر« في فيفري سنة 1955 مسألة التربية وركز على بناء علاقة تربوية بين التلميذ والمؤسسة التعليمية تحميه من التأثيرات الطفيلية للشارع والمجتمع وانتبه إلى وجود تفاوت بين الأشخاص في صورهم عن أنفسهم وتمثلاتهم لأدوارهم في المجتمع ولامساواة في المعرفة بين المتعلمين مما يعرض إحساسهم بقيمة الكرامة البشرية إلى الاهانة ويعرقل تواصلهم وتعاونهم ويفسر ذلك بأن التعليم يحرص على إعادة إنتاج النظام القائم بدل إدخال الاضطراب في علاقات الهيمنة وتراتبية السلطة وإتاحة الفرصة لأبناء الطبقات الشعبية للارتقاء الاجتماعي.
»بكل تأكيد تعني التربية مجموعة الوسائل المستخدمة في تنشئة الأطفال «[13] بالمعنى الايجابي لكلمة تنشئة كما أكد على ذلك مونتاني. ولكن حنة أرندت تدعو إلى التخلي عن الطوباويات السياسية للتربية التي تزعم التحسين لللاّمحدود للعالم الإنساني وتأسيس عالم مختلف للقادمين الجديد عن طريق الولادة الطبيعة بمغادرتهم زمن الطفولة وتوجيههم في المرحلة المضطربة للمراهقة ودخولهم مجتمع الراشدين.
هكذا تعتبر أرندت اعتبار التربية وسيلة من وسائل السياسة والتعامل مع السياسة كشكل من أشكال التربية خطأ فادحا تكريس للنزعة التسلطية وزرع للدكتاتورية وفرض الراشدين لوصايتهم على الأطفال والتعامل معهم كقاصرين يجب برمجتهم وحرمانهم من فرصة الابتكار ومنعهم من المشاركة في ولادة عالم جديد.
»لا نستطيع تربية الراشدين فإن لفظ التربية في السياسة يحدث صدى سيئا" [14] والحجة على ذلك هي ضرورة خلو التربية من أية وظيفة سياسية لأننا السياسة تريد تربية الراشدين وتتوجه إلى أناس سبق لهم أن تلقوا تربية وبالتالي تريد أن تكون وصيا عليهم وتحرمهم من مواطنيتهم وتسحب منهم كل دافعية سياسية وجاهزية للمشاركة وتحمل المسؤولية وتعاملهم كقاصرين وتمارس عليهم لغة الإكراه والقوة.
في هذا الإطار "مهما كانت مقترحات عالم الراشدين جديدة فهي في نظر الجدد قديمة بالضرورة لأـنها تفوقهم سنا. وإنه لمن خاصيات الوضعية البشرية أن يترعرع كل جيل جديد داخل عالم قديم. وعليه فإن إرادة تكوين جيل جديد من أجل عالم جديد، ليست في الواقع سوى رغبة في حرمان الوافدين الجدد من فرص الابتكار" [15]
تدعو أرندت إلى التخلص من وهم بناء الأحياء على تراث الأموات وخلق عالم جديد عن طريقة تربية الأطفال، وتسند إلى التربية مهمة فعلية وهي تفكيك الاستلاب إزاء العالم الناتج عن الأزمة التي تسببت فيها الطريقة الآلية في التفكير وإتباع بيداغوجيا براغماتية وتوقف المعرفة والفهم على الممارسة والفعل والابتعاد عن تعليم معارف والتبشير بتعليم يكسب مهارات والنظر إلى التعليم باستمرار إلى أنه معرفة ميتة واستبدال التعلم بالفعل والفعل باللعب والتحرر كليا من مادة التعلم وفقدان المدرس لسلطته وتساويه في المعرفة مع تلاميذه وتجفيف مصدر شرعيته، وأن تزرع ثقافة المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومساعدة الراشدين على التخلص من عالمهم القديم وولوج العالم الجديد الذي خلقه الوافدون الجدد.
ربما ما يأخذه ريكور من حنة أرندت هو الرسالة الإيتيقية للتربية والنظر إلى مبادئ التربية على أنها مبادئ إيتيقية وذلك بإعادة الاعتبار إلى السلطة والنفوذ والإنشداد إلى الماضي بشكل مغاير والعيش السوي بين الأجيال بحيث لا يستطيع تربية الراشدين ولا يتم معاملة الأطفال كراشدين. هكذا يجب أن تحرص المؤسسة التربوية على تعليم الناس ماهية العالم وتقوم بتدبير إيتيقي لمعنى الوجود وتجعلهم يعتزون بتراثهم وهوياتهم ولغتهم وثقافتهم دون الوقوع في الانغلاق والتعصب وليس تلقين طرق الحياة.
علاوة على أن " الأخلاقيات الخاصة بمبادئ هذه التربية توجد في توافق تام مع المبادئ الإيتيقية والأخلاقية للمجتمع بشكل عام. فالتربية هي بكل بساطة ما يجعلك تدرك أنك جدير بأجدادك ويمكن للمربي أن يكون عند قيامه بهذه المهمة شريكا في النقاش وشريكا في العمل لأن نظره مشدود إلى الماضي بشكل مختلف" [16].
غاية المراد أن الحلول التي تقترحها أرندت لأزمة التربية هي الانتقال بها من خدمة السياسة إلى الإيتيقا [17] ورسم خط فاصل بين الأطفال والراشدين وتأهيلهم للعيش داخل نفس العالم بشكل مختلف، وبعد ذلك إزالة التعارض بين التقليد والخلق والسلطة والحرية، والتفكير في تعليم مابعد بيداغوجي ونقد التخصص والتشجيع على الجذع المشترك وتعدد المناهج والتداخل بين العلوم وإعادة الوصل بين التربية والتعليم حتى لا تكون مجرد تحضير إلى الحياة المعنية والاغتراب عن مشروع تأهيل الإنسان للانخراط في العالم. على هذا المنظور » لا يمكننا أن نربي دون نعلم في نفس الوقت، لأن التربية تكون فارغة من دون تعليم وقد تتحول إلى خطابة عاطفية أو أخلاقية لكن من الممكن أن نعلم بسهولة دون أن نربي ويمكن للمرء أن يستمر في التعلم طيلة حياته دون أن يكتسب تربية. لكن ذلك كله ليس سوى تفاصيل يجب تركها للخبراء والبيداغوجيين" [18].
من هذا المنطلق تدعو أرندت إلى إنهاء هذه المنزلة تربية دون تعليم وتعليم دون تربية. لأن تربية الإنسان لنفسه هو مشروع فكري وإيتيقي يستمر كامل العمر ولا يتوقف على الفترة الذي يتعلم فيها الإنسان في المدرسة ويحصل فيها على الشهادة العلمية (الديبلوم) التي تؤشر له المرور إلى التخصص والوظيفية.
 في هذا الصدد يدرس ريكور في فصل معنون: »إصلاح وثورة الجامعة؟« منشور في مجلة فكر Esprit سنة 1968 وفي كتاب قراءات1 مسألة تدريب المؤسسة التربوية على الحريات وتناقض ذلك الثقل والبنية الهرمية والحالة المرضية التي تعاني منها هذه المؤسسة وهو ما يمنع قيامها بهذا الدور وأهمية تعويض الجامعة بمعاهد عليا خفيفة وإصلاحية ولعل الهواء المليء بالغبار المنبعث من السوربون أثناء ثورة الطلاب في عام 1968 وطموحهم اللاّمعقول في نفي وتفكيك هذه المؤسسة الهرمية وتحول ذلك إلى نوع من اليوتوبيا هو الذي يبرر مثل هذا التصور. لقد كان ريكور في الآن نفسه غير راض بمنهج الإصلاح في المجال التربوي والبحث العلمي وذلك لاقتصاره على سد الثغرات دون تداركها وتبرير النقائص دون معالجتها بشكل جذري وناقدا للمنهج الثوري الذي ينتهي إلى العدمية والفوضى ويعشق التحطيم بدل البناء ويفضل الخلخلة عوض إعادة التأسيس [19].
يعترف ريكور بوجود تناقض بين منطق المعرفة والتفكير الذي يحرض على السؤال وعلى حرية البحث وعلى قول اللاّ Non وشد الرحال إلى تجارب النقد ومنطق المؤسسة الجامعية الذي يحرص على المحافظة على النظام والالتزام بالبرنامج المسطر وإتباع التقاليد وتقديم فروض الولاء والطاعة وإعادة انتاج النفوذ. فالمربي هو أبعد أن يكون مفكرا حرا وناقدا متهكما ومثقفا عضويا وأقرب من الموظف ورجل الجهاز والبرنامج [20].
هكذا لا ينبغي على التربية أن تعمل على إذابة مواطنية الإنسان وتكرس اغترابه عن هويته وعن شعوره بذاته وإنما يجب أن تساعد على خلق فرد حر ومجموعات نشطة و تعتمد على فرق متفاعلة وشخصيات مبدعة وفاعلين مشاركين في الشأن العام وكائنات مسؤولة وقامات فكرية تترك مشاريع كبرى وآثار غنية تشجع على التعاون والتكاتف وتشرع في تطهير المجتمع من المفاسد وتهذيبه وإفلاحه من الأسفل إلى الأعلى. وبعبارة أخرى " يمكن لمنشئة جامعية أن تشتغل بعض الوقت على أساس أن الطلبة هم الذين يسيرون المؤسسة" [21]، ولذلك تمثل التربية وساطة رمزية بين الباث والمتقبل وبين المعرفة المنتجة والاستعمال الاجتماعي للمعرفة ويحقق المربي المباعدة بين الذات العارفة وأفق الانتظار من طرف الجمهور والمسافة النقدية التي تساعد على التحرر من وطأة اليومي وسلطان الفكرة الأولى ودكتاتورية المباشر وتوفر أرضية ملائمة للتعود على التعلم البطيء والتأقلم مع متغيرات الزمن وتقلبات التاريخ وما تحمله من أشياء جديدة وقيم غير مألوفة. الجدير بالذكر أن في حضن التعليم ينشر المربي علامات الوعد ويوزع دون توقف طقوس الغفران ويلتزم بقيم العفو ويكرس سماحة الإنصاف ويشجع على قص الذات وتحويل السيرة الشخصية إلى تاريخ يسرد. لكن كيف ساهمت بحوث ريكور التربوية في ميلاد توجهات جديدة في فلسفة التعليم وساعدت على تغيير طرق تدريس المعرفة؟ وماذا تحمل الفلسفة السردية معها من حقائب تعلمية ووسائط تجديدية ومعايير توجهية إلى الحقل التربوي؟
الإحالات والهوامش
1-حنة أرندت، أزمة التربية، ، مجلة الأزمنة الحديثة المغربية، عدد مزدوج 3-4 ،أكتوبر 2011، ترجمة حماني أقفلي وعز الدين الخطابي،.ص.17. هذا المقال هو الفضل الخامس من كتاب حنة أرندت Crise de la culture, 1972، الذي نشرته دار غاليمار في ترجمته الفرنسية عام 1972 ويمتد من صفحة 223 الى 253.
2-  حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور ، صص،8-17.  
3-Ricœur (Paul), Histoire et vérité, édition du Seuil. 1955/ 1964 , travail et parole, p.227 : « l’éducation au sens fort du mot, n’est peut-être que le juste mais difficile équilibre entre l’exigence d’objectivation – c’est-à-dire d’adaptation- et l’exigence de réflexion de désadaptation ; c’est cet équilibre tendu qui tient l’homme debout. »
4-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), édition Calmann-Levy. 1995.p.195.
5-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens),  op.cit. pp.197.198.
6-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), op.cit. p.203.
7-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), op.cit. pp.194.195.
8-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), op.cit.  p.198
9-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), op.cit.  p.200.
10-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), op.cit. p.201.
11-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), op.cit.  p p.200.201.
12-Ricœur (Paul), La critique et la conviction (entretiens), op.cit. p.204.
13-Voir Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. Journée de l’Association Paul Ricœur : Quelle éducation pour quel monde commun ? (samedi 2 juin 2012).p.2.
http://www.fondsricoeur.fr/photo/Penser%20l%20education%20GVincentjournee%20Ricoeur(1).pdf
14-حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور.ص.9.
15-حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور.ص.9.
16-حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور.ص.16.
17-Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. pp.5.6 : « Ricœur n’aura de cesse de rappeler, au plan de l’éthique, l’importance de la  sollicitude, correctif des rigueurs de la loi et de la passion excessive de l’égalité qui peut l’inspirer. La sollicitude est la réponse qui convient, face à l’appel généralement muet de la personne fragile ; de l’enfant, en particulier ; surtout  de l’enfant que rien, dans sa famille ou sa culture d’origine, n’a préparé à affronter l’univers scolaire ; de l’enfant à qui un monde de règles, de règlements et de procédures est encore étranger. »
18-حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور.ص.17
19-  Ricœur (Paul), Histoire et vérité, p.147. «  le péril d’une révolution qui ne prend pas sa propre fin pour source et pour moyen est d’avilir l’homme sous le prétexte de libérer et de renouveler seulement la figure de ses aliénations. »
20-Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. p.5.
21-Paul Ricœur. Lectures 1, Autour du politique, édition du Seuil.1991,p.383.
كاتب فلسفي

المعلّم ومهام التربية على المواطنة البيئيّة ـ عبدالله عطيّة

أنفاس نت


التربية مشغل مجتمعيّ حسّاس ودقيق ،وحساسيته مردّها انتظارات المجموعة الوطنيّة منه في كلّ قطر، ولذلك فالاستثمار في المعرفة اليوم رهانٌ تتنافس من أجله الأمم والشعوب ،ويُباهي بإنجازاته بعضُها البعضَ، فضلا على أنّ مقياس رقيّ المجتمعات أضحى تربويّا ومعرفيّا. فالتربية مدرسيّة مثلما هو معلوم ،والمدرسة هي المؤسّسة المُناط بعهدتها وظائف ثلاث :الوظيفة التربويّة والوظيفة التعليميّة  والوظيفة التأهيليّة  ،أمّا عن الوظيفة الأولى  فتتمثل في "تربية الناشئة على الأخلاق الحميدة والسّلوك القويم وروح المسؤوليّة والمبادرة ،وهي تضطلع على هذا الأساس :
-    بتنمية الحسّ المدنيّ لدى الناشئة وتربيتهم على قيم المواطنة...
-    بتنمية شخصيّة الفرد بكلّ أبعادها الخلقيّة والوجدانيّة والعقليّة والبدنيّة..
-    بتنشئة التلميذ على احترام القيم الجماعيّة وقواعد العيش معا.."    
أمّا الوظيفة التعليميّة للمدرسة فتظلّ من أدقّ الوظائف التي تعمل من أجلها، وتتمثل بالخصوص في "ضمان تعليم جيّد للجميع يتيح اكتساب ثقافة عامّة ومعارف نظريّة وعمليّة ،ويمكّن من تنمية مواهب المتعلّمين وتطوير قدراتهم على التعلّم الذاتيّ والانخراط في مجتمع المعرفة..." ولعلّ الوظيفة الثالثة للمدرسة هي بنفس أهمّية الوظيفتين الأٌوليين ،فهي "تسعى إلى تنمية مهارات وكفايات لدى خرّجيها حسب سنّ التلميذ والمرحلة التعليميّة، وتتولّى مؤسّسات التكوين المهنيّ والتعليم العالي تطوير هذه الكفايات والمهارات لاحقا..." (1) وفي انسجام كلّيّ مع هذا المدخل النّظري الذي حدّد وظائف المدرسة في النظام التربويّ التونسيّ قدّم تقرير اليونسكو المسمّى "التعليم ذلك الكنز المكنون" الذي تمّ اعتماده سنة 1995 تصوّره لدور المؤسّسة التربويّة في القرن الحادي والعشرين مستندا إلى أربعة مبادئ أساسيّة:
- التعلّم للمعرفة.
- التعلّم للعمل.
- التعلّم للعيش مع الآخرين ، - التعلّم ليكون المرء. 

فالتعلّم للمعرفة يمثّل المدخل الرئيسيّ لباقي التعلّمات ،المعرفة من حيث كونها جديدا تؤثِّث به المدرسة المتعلّمين وتفتح به عقولهم وبصائرهم على منجزات الفكر البشريّ، وتصلهم بجذورهم الحضاريّة والثقافيّة ،وتجنّبهم الكثير من "التوتّرات" التي تسبّبها مرحلتهم العمريّة الحرجة من ناحية، وتحدّيات العولمة بمختلف عناوينها: القيميّة والتقنيّة والعلميّة والاقتصاديّة والبيئيّة من ناحية ثانية... فالنُظُم التربويّة اليوم قَدَرُها أن تواكب التحوّلات العميقة التي تطرأ في كلّ لحظة وحين على تركيبة المجتمعات وبنية المعرفة وأساليب العمل ووسائل الإنتاج ،والمؤسّسة التربويّة ،في مجتمعاتنا النامية ،كي تنهض بوظيفتها على الوجه المطلوب مطالبة بأن تعزف عن التقليد ،وتنشد في المقابل التجديد والاشتغال على القضايا التي تشغل بال الناشئة سواء في مستوى دوائر حياتهم الخاصّة أو في مستوى أعمّ ،أي باعتبارهم مواطنين سيجدون أنفسهم أمام عديد التحدّيات الدوليّة نذكر من بينها التفاوت بين الدول في الممارسة الديمقراطيّة وفي التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ ،إضافة إلى الفقر والنزاعات بمختلف أنواعها الإثنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة ،وكذلك التدهور البيئيّ و إمكانيّة نفاذ الموارد الطبيعيّة وبخاصّة المياه.
غير أنّ التعلّم l’apprentissage يختلف كما هو معلوم عن التّعليم l’enseignement فإذا كان هذا الأخير، أي التّعليم ، يُنسَب إلى المعلّم في جهده وفي مقارباته البيداغوجية وسنداته التعليميّة ، فإنّ التعلّم منسوب بدرجة أولى إلى المتعلّم في محوريّته وفي مدى تفاعله مع مجمل المناشط التربويّة المخصّصة له. وعلى هذا الأساس فإنّ المتعلّم يستوعب من خلال عمليّة التفاعل مع المعلّم خبرات متعدّدة وقيما ونماذج سلوكيّة يسير على منوالها ، وبفعل هذا التّحصيل العلميّ بمستوييه النّظريّ والعمليّ تكون المؤسّسة التربويّة قد لعبت دورها ووفّرت للمجموعة الوطنيّة ما تحتاجه من الأطر والكوادر العلميّة والفنّية. فالتّعليم – كما عرّفه الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا – هو أقوى سلاح نستطيع من خلاله تغيير العالم ! فهل أنتجت المدرسة وعْيا لدى النّاشئة بأهميّة الموارد الطبيعيّة ؟ وهل تضمّنت برامجها الدراسيّة ومناهجها التعليميّة مدارات اهتمام ذاتَ صلة بالماء تحديدا وبكيفيّة التعامل المتبصّر مع هذه الثروة الاستراتيجية؟
اهتمامنا بطبيعة الحال مركّز على التجربة التربويّة التونسيّة في هذا الموضوع ، سواء في مستوى البرامج الدراسيّة أو المحامل البيداغوجيّة ،بحيث يجدر التنويه في هذا السياق إلى أنّ الاشتغال على هذا المبحث الحيويّ يندرج ضمن مدارات اهتمام أعمّ وأشمل ،وهي موزّعة على الدرجات التعليميّة المختلفة بدءا بالمرحلة الأساسيّة ومرورا بالمرحلة الإعداديّة وانتهاء بالمرحلة الثانويّة.
الماء هو الحياة، فليس بمقدور كائن على وجه البسيطة الاستغناء عنه، وهو إلى جانب الهواء والتراب والنبات، كلّها عناصر تمثّل بيئة الإنسان ومحيطه الذي يعيش فيه. فالبيئة بهذا المعنى هي "كلّ شيء يحيط بالإنسان " وهي أيضا " مجموع العوامل الطبيعيّة والبيولوجيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة التي تتجاور في توازن ،وتؤثّر بشكل مباشر أو غير مباشر في الإنسان والكائنات الأخرى" (2) ،ولا غرو حينئذ أن يحظى الماء باهتمام الكثير من المنظمات والحكومات ومختلف الأطراف في المجتمع الدوليّ ، فتعقد له الندوات والاجتماعات والدورات التكوينيّة والتوعويّة ،وتكون الشريحة الشبابيّة التلمذيّة والطالبيّة في طليعة الفئات المستهدفة بالتحسيس بأهمّية المياه وبضرورة ترشيد استهلاكه والتحكّم فيه.
إنّ ندرة المياه تمثّل لدى العديد من البلدان كارثة طبيعيّة حقيقيّة، والندرة لها وجهان: الوجه الأوّل مرتبط بالعوامل المناخيّة التي تتميّز بضعف التساقطات وبعدم انتظام نزول الأمطار بين الفصول والسنوات والجهات، والوجه الثاني وهو الأخطر إذ يتحمّل الإنسان مسؤوليّته سواء من خلال الاستغلال العشوائيّ وغير المحكم للمياه ،أو بعدم الحفاظ على الموائد المائيّة بسبب ربطها بقنوات التطهير وإلقاء الفضلات في مصادرها وفي منابعها ومجاريها ،وهو ما يتسبّب في تلويثها وفي الإضرار بصحّة الإنسان والإخلال بالبيئة ،وهذه الظاهرة منتشرة للأسف الشديد في العديد من المناطق ولا سيما في المدن الكبرى. و"تشير تقارير البنك الدوليّ حول أزمة المياه إلى أنّ 80% من أمراض مواطني العالم الثالث تسبّبها المياه الملوّثة ،وأنّ 10 ملايين شخص يموتون سنويّا للسبب نفسه ، وأنّ هناك مليار شخص في الدول النامية يعانون من نقص مياه الشرب النقيّة ،كما أنّ 80 دولة في العالم نسبة 40% من سكانها مهدّدة بنقص المياه " (3) .
هذه الوضعيّة المحرجة والمخيفة تستدعي بالفعل توعية وتحسيسا مستمرّين من جانب المعنيين بهذا الشأن الحيويّ ،فالإنسان وسيلة التنمية وهو غايتها ،فليس بالإمكان تحقيق تنمية مستدامة ما لم تحرص الحكومات والمنظمات من خلال برامجها ونظمها التربويّة على تحسين نوعيّة حياة ساكنيها في جوانبها الاقتصاديّة والماديّة والحقوقيّة. فالتنمية المستدامة تعني قدرة المجتمعات على توفير حاجات الأجيال الحاليّة دونما إلحاق الضرر بحاجات الأجيال القادمة، فهي تنشد تحقيق:
- العدالة الزمنيّة بين الأجيال (الحاليّة والمستقبليّة).
- العدالة المكانيّة بين الشعوب والقارّات.
- العدالة البيولوجيّة بين الكائنات.
الماء في البرامج التعليميّة التونسيّة:
لا نجانب الصّواب حين نقرّ بأنّ حضور الماء كمشغل تربويّ في المقرّرات الرّسميّة لتونس حضور معتبر، هو من بين المدارات المعرفيّة التي تكاد تغطّي مختلف المستويات الدراسيّة من ناحية ،ومختلف المواد المدرّسة من ناحية ثانية ،فالماء كوحدة معرفيّة وبيداغوجيّة يمثّل مبحثا أفقيّا عابرا لأغلب المواد :فهو قارّ في عائلة العلوم (الإيقاظ العلمي وعلوم الحياة والأرض) وفي عائلة الاجتماعيّات ( الجغرافيا والتربية المدنيّة والإسلاميّة) وفي عائلة اللّغات (العربيّة والفرنسيّة والإنجليزية) ، وهو أيضا حاضر في عديد الدرجات الدراسيّة (المرحلة الأساسيّة والمرحلة الإعداديّة والمرحلة الثانويّة) ، وهذه أمثلة لبعض العناوين :
-    الدرجة الثانية من التعليم الأساسيّ: حماية المحيط، دور الإنسان في حماية المحيط(مقاومة تلوّث الماء والهواء والتربة).
-    الدرجة الثالثة من التعليم الأساسيّ: وحدة التنشئة الاجتماعيّة، مادّة التربية الإسلاميّة( المحافظة على الثروة البيئيّة ،الماء).
-    المستوى: السادسة أساسي، العنوان: لنحفظ هذه الثروة / الماء.
Sauver la nature : comment éviter le gaspillage de l’eau ?
الخدمات العموميّة: مثال التهيئة والتطهير( فوائد تصريف مياه الأمطار في قنوات معدّة للغرض، فوائد معالجة المياه المستعملة بمحطّات التطهير..)
-    المستوى: الثامنة أساسيّ،  وحدة التربية الإسلاميّة (مبحث :ولا تَبغ الفساد في الأرض ،الثروات الطبيعيّة، الماء في التشريع الإسلامي)
-    المستوى: التّاسعة أساسي ،ضمن وحدة الجغرافيا (التنمية الفلاحيّة بتونس، المنظومة المائيّة في تونس)  
                            ضمن وحدة التربية المدنيّة (مسؤوليّة المواطن تجاه المحيط الطبيعيّ :تبنّي مواقف وسلوكيّات بيئيّة إيجابيّة، ترشيد استهلاك الموارد الطبيعيّة والثروات، إنشاء الجمعيّات والأحزاب البيئيّة، إصدار التشريعات والمجلاّت القانونيّة مثل مجلّة المياه ومجلّة الغابات..)
-    المستوى :الأولى ثانويّ، مادّة الجغرافيا ،المدار المعرفيّ :(الإنسان يستثمر الموارد الطبيعيّة، الموارد المائيّة وتوزّعها الجغرافيّ ، تعبئة المياه ،رهانات الماء..)
  الإنسان والأوساط الطبيعيّة ( الفيضانات ،التصحّر).
-    المستوى: الثالثة ثانويّ ، مادّة التربية المدنيّة، المدار المعرفيّ: التدهور البيئيّ( انعكاساته على مختلف مجالات الحياة الإنسانية) ..
إنّ هذه العناوين الدراسيّة المهتمّة بالماء باعتباره أصل الحياة "وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ" الأنبياء،30 هي فيض من غيض، فالمقصد العلميّ ثابت دون أدنى شكّ من وراء الاهتمام بهذا المبحث الحيويّ، ولكنّ البعد التنشيئيّ والتوعويّ خاصّة بالنّسبة للأجيال الصغرى ليس غائبا عنها ،بل إنّ التّحسيس بالأخطار التي تهدّد محيط الإنسان الطبيعيّ ومنها تخصيصا ندرة المياه أو تلويثها هي جوهر الأهداف الوجدانيّة والسّلوكيّة التي يتعيّن على المدرّس التركيز عليها والتنبيه إلى اليقظة إزاءها.
 نحو مقاربات بيداغوجيّة تجديديّة:
المدرسة فضاء للعلم والحياة ،فإذا كان ارتياد المدارس فِعْلا محدودا في الزمان والمكان فإنّ التعلّم   l’apprentissage  نشاط يرافق الإنسان مدى حياته، ومن هذا المنطلق فإنّ الحاجة تستدعي إعادة النظر في وظيفة المدرسة وفي مهمّة المعلّم، فنحن العرب، اليوم، لسنا على وعي بأهميّة التعلّم الذاتيّ وبالتعلّم مدى الحياة، فمازالت الصّورة التقليديّة للمدرسة تحكم تعامل أجيالنا مع العلوم والمعارف، فالمدرسة في نظر الكثير شهادات ووظيفة ،والمعلّم هو مصدر المعرفة الوحيد بدون منازع ومنافس!.. فمثل هكذا تصوّر غدا بلا معنى في عصر يتضاعف فيه حجم المعارف كلّ عقد من الزّمن، وعلى هذا الأساس فإنّ السؤال الملحّ اليوم هو كيف يكون الفصل بين التعلّم والمدرسة؟ أعني كيف يصبح التعلّم حاجة يوميّة ومشروعا حياتيّا ؟
إنّ المعلّم مطالب بأن يعلّم تلاميذه كيف "يتخلّون "عنه، بمعنى أن يقتنع أوّلا بأنّه أحد مصادر المعرفة وليس كلّها. فمقارباته البيداغوجيّة والمنهجيّة يفترض أن تتأسّس على "تطوير قدرات التلاميذ الفكريّة واستقلاليتهم ،فضلا عن إكسابهم كفايات وجيهة ومتينة ومستديمة وأدوات التكوين المستمرّ والتعلّم مدى الحياة"(4).ولعلّ أهمّ الرّهانات التي لا مفرّ للمدرسة من الاستجابة إليها هو رهان التفاعل مع المحيط، ولا يتسنّى ذلك مالم يستحضر المعلّم طبيعة دوره التنشيئيّة المتمثلة في إعداد الناشئة التي تتعلّم كيف تتعلّم ،وكيف تعمل ،وكيف تعيش مع الآخرين ،وكيف تحافظ على موارد محيطها الحيويّة وأوّلها الماء.
أيّة محامل بيداغوجيّة مناسبة ؟:
المحامل البيداغوجيّة مُثيرات تعليميّة متعدّدة الأنواع ، وهي جزء من تقنيّات التعليم والتعلّم، تسمّى أيضا التكنولوجيا التربويّة على نحو مماثل للتّعريف التالي الذي تعتمده منظّمة اليونسكو "فهي طريقة منهجيّة ونظاميّة لتصميم العمليّة التعليميّة - التعلّميّة بكاملها وتنفيذها وتقويمها استنادا إلى أهداف محدّدة وباستخدام مصادر بشريّة وغيرها من أجل إكساب التربية المزيد من الفاعليّة".
فالمحامل البيداغوجيّة وسائل تعليميّة مُعينة على التعلّم، إذ أنّ الممارسة البيداغوجيّة المبنيّة على خبرات المعلّم الحسّية وعلى الاحتكاك بوضعيّات ذات دلالة بالنسبة للمتعلّم هي التي تنتج ما يسمّيه البيداغوجيوّن  الصراع المعرفيّ لدى التلميذ حين يعي التناقض بين معارفه القبليّة وأفكاره الأوّليّة ،وبين ما وفّرته له المحامل من جديد معرفيّ وحسّي، فهي مُعينة على الفهم والتفكير والنقد وبناء الموقف ، مثلما أنّها مساعدة على تجلية الغموض وإزالة اللّبس عن جوانب علميّة يريد المدرّس الكشف عنها وتمريرها إلى المتعلّمين، فقيمة العمل التربويّ لا تتمثّل فقط في المحتوى الذي يدرّس، وإنّما في الكيفيّة التي بها يدرّس، وفي سندات التعلّم المعتمدة في ذلك.
تتنوّع الوسائل التعليميّة المتاحة للمعلّم والمعينة له على إنتاج حسّ بيئيّ لدى المتعلّمين يدركون من خلاله معنى الحاجة إلى الحفاظ على الماء وترشيد استهلاكه وحفظه من كلّ أسباب التلّوث والتلف، ونورد في هذا السياق على سبيل الذكر لا الحصر عديد السّندات التعليميّة الوظيفيّة ،أي التي تساهم في تحفيز التلاميذ وشدّ انتباههم وحملهم على الاقتناع بالمتن المعرفيّ للدّرس ولتحقيق أهدافه الوجدانيّة والسلوكيّة:
- الصّورة: فربّ صورة خير من ألف مقال، فالتوجيهات التربويّة المعاصرة تؤكّد على أهميّة الصورة في عمليّة التعلّم والتعليم، وتستحسن أن تتوفّر فيها جملة من الخصائص(البساطة ووضوح المقاصد، المناسَبة لتصوّرات التلاميذ، وضوح الألوان وتناسقها، وضوح العناوين المرافقة ..)
- الرّسوم البيانيّة: فما يدفع إلى الاهتمام بها هو عقلنة الممارسة التربويّة و تنويعها كمّا وكيفا، ممّا يكسب المتعلّمين كفايات متجدّدة وقدرات على فكّ الرّموز والإحصائيّات و تجعلهم يساهمون في بناء المعرفة ذاتيّا .
- الخرائط: فهي تمثيل لسطح الأرض ولأجزاء معيّنة منها، مثلما أنّها تقدّم الكثير من المعطيات (المساحات والحدود والسواحل والصحاري والأودية والبحار..)،فهي تنقل المتعلّمين من مجال عيشهم الضيّق إلى مجال أرحب فتتّسع دائرة معارفهم وتتكوّن لديهم رؤية أشمل عن محيطهم الكونيّ.
- الرّحلات والزيارات الميدانيّة: هي تجنّب المعلّم وتلاميذه رتابة الممارسة البيداغوجيّة في القسم ،وتتيح للتلاميذ الانفتاح على محيطهم وبيئتهم فيدركون الصّلة بين ما يدرسونه على مقاعد الدراسة وبين ما يجري في الحياة الخارجيّة القريبة منهم .
- التسجيلات السّمعيّة البصريّة: سواء المأخوذة من القنوات الفضائيّة ذات التخصّص العلميّ أو ممّا توفّره التكنولوجيّات الحديثة من مادّة علميّة ذات علاقة بمبحث المياه والتصحّر والتلوّث..
إنّ أهمّية الوسائل التعليميّة في الممارسة البيداغوجيّة متأكّدة، وهي لا تكمن في مجرّد حضورها في دروس المعلّم وإنّما في ما تحقّقه هذه الوسائل من أهداف معرفيّة ووجدانيّة و سلوكيّة محدّدة ضمن نظام متكامل ورؤية شاملة يضعها المعلّم لتحقيق أهداف حصصه ،فهي" مولّدة للمعلومة ومثيرة للأحاسيس وفاعلة في السّلوك" على حدّ تعريف فاخر عاقل.
نحو عقليّة تربويّة جديدة:
إنّه ليس بمقدور المعلّم اليوم أن يضطلع بدوره التربويّ التوعويّ في مجال التنشئة الاجتماعيّة وفي التربية على المواطنة البيئيّة وفي تغيير سلوكيّات المتعلّمين لترشيد استهلاك الماء والحفاظ عليه وتجنيبه كلّ مصادر التلوّث مالم يعدّل هو أيضا مسارات تواصله معهم، ويكتسب جملة من الكفايات الأساسيّة ويتسلّح بعقليّة تربويّة متجدّدة قوامها:
-الانتقال من مجرّد التطبيق الصّارم للمنهجيّات المرسومة إلى بناء تمشّيات تعلّيميّة توجّهها وضعيّات تعلّميّة مستوحاة من محيط المتعلّمين.
- اعتبار التدريس أنشطة ترتكز على مبادرات فرديّة من المعلّم والمتعلّمين تسمح لهم بالانفتاح على القضايا الحيويّة التي تشغل جيل التلاميذ وتهدّد عالمهم وبيئتهم.
- التعامل مع التوجيهات البيداغوجيّة والوثائق المنهجيّة تعاملا نقديّا يضمن للمعلّم قدرا من الاستقلاليّة وحريّة الحركة والفعل .
- اعتبار التدريس نشاطا ذهنيّا يتطلّب تكوين عقول مفكّرة موصولة بمحيطها البشريّ والطبيعيّ، وليس حشوا لأدمغة بمعارف تتبخّر بمجرّد استهلاكها.
- اعتبار التدريس أيضا نشاطا معرفيّا يتنافى والرّتابة والتّكرار الآلي، وينزع في مقابل ذلك إلى الجمع بين مرونة الفكر والقدرة على التكيّف وحسّ المبادرة، والميل إلى البحث عن الحلول المبتكرة والأداء المتقن.
هذه العناوين المقترحة لمطلب العقليّة التربويّة المنشودة لدى المدرّس هي أسس الاحتراف التربويّ، فالاحتراف le professionnalisme  يعني أن لا يُؤخَذ التدريس على أنّه عمل تقنيّ جافّ منفصل عن إطاره وظروفه المختلفة (تلاميذ، فضاء، بيئة...) بل وجب النظر إليه  من خلال قدرة المعلّم على بناء مشروعه البيداغوجيّ وإنجازه انطلاقا من خصوصيّات الواقع المدرسيّ والمجتمعيّ ،والاحتراف يعني أيضا حسن التخطيط وسلامة ،التقييم و تشخيص الصّعوبات وتعديل التعلّمات بما يخلق الرّغبة في التعلّم لدى التلاميذ ويسمح لهم بالتفاعل الإيجابي مع المدرّس ودرسه، مثلما يمكّنهم من التفاعل الواعي والرّشيد مع محيطهم ،واستبانة طبيعة التحدّيات التي تواجه الإنسانيّة عامّة وأخطرها على الإطلاق ندرة المياه وتعدّد مصادر تلوّثها  .
هكذا إذن يسهم المعلّم في إعداد الناشئة للعيش في مجتمع متوازن وسليم وفي اكتساب سلوكيّات متبصّرة بأهميّة الموارد الطبيعيّة في حياة الإنسان، ذلك أنّ الوعي البيئيّ سبيل إلى المواطنة المسؤولة التي تنهض على السّلوك الإيجابيّ نحو المحيط الطبيعيّ بمختلف مكوّناته ومنها المياه أساسا.


الهوامش و المراجع:
1  القانون التوجيهيّ  عدد 80 – 2002 بتاريخ 23 جويلية 2002  للتربية والتعليم المدرسيّ، وزارة التربية والتكوين، الجمهوريّة التونسية.
2  د. داود عبدالرزاق الباز، مفاهيم أساسيّة في القانون العامّ لحماية البيئة ،مجلّة عالم الفكر، المجلّد32، يناير مارس 2004، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب ،الكويت.
3  مبارك أحمد مبارك ،ندرة المياه : مشكلة دوليّة تتفاقم، السياسة الدوليّة عدد 163، جانفي 2006 ص 78.
4  الإصلاح التربويّ الجديد ،الخطّة التنفيذيّة لمدرسة الغد، وزارة التربية ،تونس  جوان 2002 ،ص 26.
5 منشورات التفقديّة العامّة للتربية ،الجمهوريّة التونسيّة (إدارة البحوث والدراسات).

ينبغي في البداية أن يحطم العلم الرأي ـ ترجمة وتعقيب : د.زهير الخويلدي

عن أنفاس نت


الترجمة:
" يتعارض العلم ، في حاجته للاكتمال مثلما في مبدئه، بشكل مطلق مع الرأي.لو يتأتى له ، في نقطة معينة ، أن يُضفي المشروعية على الرأي ، فإنه سيكون من أجل أسباب أخرى غير تلك التي تؤسس الرأي: بحيث يظل الرأي دائما، من جهة الحق، على باطل. الرأي يفكر بشكل سيئ ، انه لا يفكر بتاتا: انه يترجم حاجات إلى معارف.  بالنظر إلى تعيينه المواضيع من جهة فائدتها يمنع نفسه عن معرفتها. لا يمكن للمرء أن يؤسس أي شيء على الرأي ، يجب في البداية أن يحطمه. انه العائق الأول الذي يجب تخطيه. فقد لا يكون كافيا مثلا إصلاحه في نقاط محددة،  مع المحافظة على معرفة مبتذلة ومؤقتة، مثل نوع من الأخلاق المؤقتة. تمنعنا الروح العلمية من أن يكون لنا رأيا حول الأسئلة التي لا نفهمها، حول الأسئلة التي لم نتمكن من صياغتها بشكل واضح. قبل كل شيء ينبغي أن نعرف طرح المشكلات. ومهما يقولون، لا تطرح المشاكل، في الحياة العلمية، من تلقاء ذاتها. انه بالتحديد هذا المعنى من المشكل الذي يوفر علامة حقيقي بالنسبة للفكر العلمي. كل معرفة، بالنسبة للروح العلمية، هي جواب على سؤال. لو لم يوجد سؤال، فإنه لا يمكن الحصول على معرفة علمية. لا شيء واضح. لا شيء معطى. كل شيء مبني."
 (غاستون باشلار ، تكوين الروح العلمي، 1938، طبعة فران، باريس، 1969،ص14.)
  تعقيب:
" العلم هو انتصار الفكر الواضح على الفكر المختلط"
 لا يهتدي العلم في تضاريس الآراء المتشعبة الا بنور المعرفة البشرية الواضحة ولا يصنع للحضارة مجدها الا بمحاربة كل أنواع الجهل وكل الظلمات التي وقع فيها الذهن البشري منذ عصوره الأولى ويقطع ما تقوله التصورات الميثولوجية والخرافات البالية والمعتقدات عن نشأة الكون.
 لقد أنتج العلم نموذجا تفسيريا للطبيعة يجمع في ذات الوقت بين المجرد المتخيل والمتعين المتشكل وبين العقلاني والمعقول ويحرز بعض النجاحات في تقديم أجوبة وحلول لبعض الأسئلة والمشاكل التي طرحت في الفلسفة والثقافة وبالتالي يقوم بمهمة تحرير العقل من الأوهام وإنارة درب الإنسانية على طريق التقدم.
من المعلوم أن العلم هو الخطاب العقلاني الذي يتحرك ضمن نمط من المقاربة النقدية ويخضع كامل مساراته ومختلف تمشياته للضوابط المنهجية ويشيد نظريات تسمح له بتنظيم ميدان المعرفة بصورة نسقية.
كما يندرج النشاط العلمي ضمن اختصاص مخبري يركز جهوده على الافتراض والتجريب والتطبيق ولا يخلو من التفكير والعقلنة، وفي اتجاه ذلك تقوم الفلسفة بالتفكير في العلوم بغية النقد والتوجيه والأنسنة والتنظيم. وبالتالي يجمع التمشي العلمي بين التفكري والتنبؤي ويعتمد على مناهج بحثية ينحتها من داخله ويبلور معايير للصلاحية من خلال المبادئ المتعارف عليها وبالانطلاق من المواضيع المحايثة لعمله.
على هذا النحو ينتمي الخطاب الابستيمولوجي إلى الدائرة الفلسفية ويتراوح بتعدد الاختصاصات وعبر المنهاجية ويتراوح بين الجهوية والعامة وبين التنظير والصياغة الصورية والترميز ويضبط قواعد محددة البحث الابستيمولوجي. لكن إذا كان العلم يجمع بين الصوري الرمزي والتجريبي المادي في عملية بناء النماذج والصياغة الأكسيومية عن طريق انخراطه في البحث التأسيسي والقيام بعدة إجراءات اختبارية، فكيف ينظر إلى الواقع الخارجي؟
المرجع:
غاستون باشلار ، تكوين الروح العلمي، 1938، طبعة فران، باريس، 1969،ص14.
كاتب فلسفي

الأربعاء، 1 فبراير 2017

قراءة في كناب"الحداثة والقرآن" للدكتور سعيد ناشيد بقلم: يوسف هريمة

عن مؤمنون بلا حدود



"معضلة النّصوص الدّينية لكافّة الأديان أنّها كُتبت في مرحلة كان المجتمع بلا مؤسّسات، والسّلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللّغة بلا قواعد. وبالتالي طبيعيّ أنْ تبدو تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أيّ نظام قيَمي أو معرفيّ فعّال، بقدْر ما تبدو للبعض أنّها قابلة لكلّ التأويلات والتفسيرات مهْما بدتْ متناقضة". القرآن والحداثة ص25.
شكّل النصّ القرآني منذ لحظة النّزول الأولى مثار اهتمام الرّعيل الأوّل، ومنْ عاصر الرّسالة، وكذلك كان التّابعون ومن سار على درب تشكُّل بنية الإسلام في شكْله المعاصر. لقد كان نقطة التقاء الباحثين والدّارسين والمفسّرين والفقهاء والكلاميين، باختلاف مداركهم، ومستويات تفكيرهم، وتنوّع مشاربهم الدينية والفلسفية. ولم يكن هناك ما يؤشّر على هامشية النصّ إلا ما اصطلح عليه بالتفسير بالمأثور. فبالرغم من المكانة الهامّة التي أولاها المفسّرون الأوائل للنصّ القرآني، ومركزيته داخل المنظومة الفكرية الإسلامية في أبعادها المختلفة، إلا أنّ القواعد والتّأصيلات التي وضعها المفسّرون لتفسير هذا النصّ ضيّقت من مركزية القرآن، وبدل أنْ يكون محور الاهتمام، ونقطة التجمّع الأولى، صار محورًا للاختلاف، والتوظيف الإيديولوجي الذي تستند إليه المؤسستان الكهنوتية والسياسية.
لم يدرك البعض خطورة الوحييْن، وأنْ تصير ما سمّي بالسنّة قاضية على القرآن، مع أنّ لفظ السنّة ملتبس إلى حدّ كبير عند هؤلاء. فكلّ المرويات التي تمّ تصحيحها بآليات منقوصة - تركِّز على السّند دون الانتباه إلى متْنها- صارت نصوصًا موازيةً للنصّ الأصلي مع أنّ هناك روايات كثيرة يمنع فيها النبيّ محمّد كتابة أيّ شيء عنه غير القرآن. ومع ذلك فالرّوايات والأحاديث صارت توازي النصّ الأصلي، بل أخذتْ مكانه في الكثير من الأحيان، حينما وطَّنت نفسها وحياً ثانيًا. وهنا اختفت ملامح النصّ القرآني، وانمحتْ بشرية الرّسول محمد، وصار التوظيف وقراءة النصوص في سياقات مصلحية هي الثقافة المهيمنة على الفكر الإسلامي منذ ذلك الحين. وبدل أنْ يكون النصّ الدّيني هادياً، أو آيات وإشارات وعلامات تهدي للتي هي أقوم توقّف الاجتهاد، وصار النص مانعاً من التغيير، كلّ يدركه بالقدْر الذي يمنحه إيّاه من المصلحة.
لم يتوقّف الأمر عند ذلك الزمان، ولا عند من أسّس لأصول التّفسير وقواعده. بل تعدّاه ليصل إلينا النص الديني أيضاً مثار جدل وخلاف بين قراءات معاصرة تستلهم كلّها من النص القرآني، ولكنّها في مجملها غير منسجمة، إلى الحدّ الذي يصعب فيه تجميعها، أو إيجاد المشترك فيما بينها. هذا يحيلنا إلى قول الجبران: "إنّ الإسلام التاريخي دين الفقه وليس دين الإسلام، وبالتأكيد هو دين الساسة والسلاطين والأعراف والمذاهب والمدرسة والقومية وليس دين النبي"[1]. وهو ما أشرنا إليه سابقًا، من أنّ استمرارية هذا النّهج والتّعامل مع النصّ الديني الأوّل كان بدافع من المؤسّسة السّياسية التي وطَّدت دعائم هذا التوجّه، لتصل إلينا بإشكالياتها وتناقضاتها، خاصّة أنّ كلّ هذه المعارف كانت تنهل من عصر ما قبل دولة المؤسّسات، وظهور عصر الحداثة وما بعدها.
يأتي كتاب "القرآن والحداثة" في هذا السّياق الإشكالي لقضية تؤرّق العقل الإسلامي، وتضعه على المحكّ. فالعنوان يجمع بين مفهومين متناقضين، ويحدّد معالم الأزمة قبل أنْ نخوض غمار فصوله وأحداثه، وأهمّ خلاصاته ونتائجه. ويحيلنا هذا التناقض إلى ما أشار إليه داريوش شايغان وهو يتناول بالبحث كلمتي "الثورة الإسلامية"، حيث أكّد "أنّ هذين المصطلحين يتحرّكان في مدارات مختلفة، وليس لهما نقاط الارتكاز نفسها، ولا المحور المركزي نفسه الذي تنتظم حوله الأفكار المرتبطة بهما. إذ تحيل نقاط الارتكاز هذه على مضامين مختلفة ومتناقضة."[2].
وإذا ما أردنا أنْ نطبّق الشّيء نفسه مع عنوان الكتاب قيد الدراسة فسنجد أنّ كلمتيْه تدوران أيضًا في أفلاك مختلفة. فالقرآن نصٌّ مقدّس ينتمي لعوالم الروح والسماء والألوهية والرسالة. أمّا الحداثة فتشير إلى التصنيع. كما يمكن فهمها إلى حدّ كبير بوصفها تمجيدًا وإقرارًا بالوعي باعتباره قوّة في حدّ ذاتها. وإنّ قول بودلير بأنّ الحداثة هي العابر والزّائل والطارئ يمكن فهمه بهذا المعنى[3]فالكتاب يجمع بين متقابلات يصعب الجمع بينها، وإنْ كان واضع العنوان يدرك جيّدًا أنّ عمق الإشكالية التي يريد الإجابة عنها بنوع من التّقابل هي: إلى متى يبقى النصّ الدّيني حتى لو كان قرآنًا عائقاً أمام انخراطنا في مسلسل الحداثة؟. وهنا تنبع أهمية الكتاب وخطورته في آنٍ واحد. فأهمّيته نابعة من محاولته تحرير الوعي الإسلامي، وفسْح المجال للسّؤال لمناقشة المقدّس. وخطورته هو أنّه جاء ليلامس جانبًا من جوانب اللامفكر فيه داخل تراثنا الفكري والإسلامي.
صدر كتاب القرآن والحداثة في طبعته الأولى سنة 2015، عن دار التنوير للطّباعة والنّشر، في 248 صفحة. وكما أكّد الباحث نفسه فالعثور على ناشرٍ لهذا الكتاب في بيئة منغلقة على ذاتها يعدّ خرْقاً لهذا الواقع في مستوى من مستوياته الفكرية. خاصة إذا كان الكتاب يحمل في طيّاته قضايا وأفكارًا يعتبرها الجمهور القارئ جرأةً في حدودها القصوى على النصّ القرآني المقدّس. وهذا لا يعني أنّ الكاتب يدّعي بأنّ مقاربته لهذا الموضوع بدْع من القول لم يسبقه إليه أحد. ففي تقديمه للكتاب يشير بأنّ نظرته قد استلهمتْ مجموعة من المقاربات التي جاء بها الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا، وكذلك من بعض المصلحين الإيرانيين كعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري والكاتب العراقي أحمد القبانجي.
يبتدئ سعيد ناشيد كتابه بسؤال يبدو للوهلة الأولى بديهياً: ما القرآن؟ والغاية من ذلك هي مساءلة المسلَّمة التي تقول: كلٌّ من عند الله. فهل المقصود بهذه العبارة أنّ المصحف الذي بين أيدينا اليوم بترتيبه وتبويبه وقواعد كتابته ورسمه وخطّه وتنقيطه وتنوينه هو أيضًا من عند الله؟. للجواب عن هذا السّؤال يحكي سعيد ناشيد قصّته مع أستاذ للتربية الإسلامية كان يدرِّسه في مرحلة الإعدادي، حين سأله يومًا: هل يمكن أنْ نضع الهمزة فوق آية: "سال سائل"برواية ورش التي يقرأ بها المغاربة لتصير: "سأل سائل"، فما كان جواب أستاذه إلا أنْ قال له لا يجوز ذلك. فكان الرد من التلميذ: ومن أدرانا أنّ الله لم يمْلها بالهمزة. فكان جواب الأستاذ الصفع والطرد من القسم.
إنّ ما تؤشّر إليه هذه الحادثة بحسب الكاتب هو أنّ الله لا علاقة له بالكثير من التفاصيل الإملائية والكلامية والنصّية، وما لم نستطع أنْ نتجاوز هذه الأساطير السّلفية فليس هناك أملٌ في التّجديد.
إنّ القرآن الكريم يشير إلى ثلاث ظواهر متباينة لا يجوز الخلط بينها:
1- الوحي الرباني: وهو يحيل إلى الصور الوحيانية التي استشعرها الرسول وتمثّلها، إمّا عبر قوّته التّخييلية كما يقول الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا عن تجارب النّبوة، أو عن طريق القلب كما يقول أحمد القبانجي.
2- القرآن المحمدي: وهو ثمرة جهد الرسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى عبارات بشرية، انطلاقًا من وعيه وثقافته وشخصيته وقدرته التأويلية. وهذا الرأي قد أشار إليه كلّ من عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري.
3- المصحف العثماني: وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحف متعدّدة، ثمّ من مصاحف متعدّدة إلى مصحف واحد جامع.
هذه هي تمظهرات القرآن كما يؤكد على ذلك الكاتب، غير أنّ التعامل مع القرآن لم يعد ممكنًا إلا من خلال تمظهره الأخير أيْ المصحف العثماني. بل حتى هذا المستوى لا ندركه إلا تجاوزًا طالما أنّ النسخ الأصلية لمصحف عثمان كانت ولا تزال في حكم المفقود، ولسنا نملك اليوم من أمرها سوى النّسخ المتأخرة، وهي نسخ تمّت إعادة كتابتها عقب تقعيد اللغة والكتابة والخط، وعلى الأرجح في زمن خلافة عبد الملك بن مروان(ص19/20(ومفاد هذا الكلام بأنّنا لا نملك من كلام الله إلا كلام رسول الله.
لتأكيد هذه الفرضية احتاج سعيد ناشيد أنْ يضرب مثلاً لتسهيل الفهم وتيسيره، وهو على الشّكل التّالي: لولا القمح لما كان هناك خبز. لكنْ هل هذا يكفي لنقول بأنّ المزارع هو من صنع الخبز؟. ليس ثمة شكّ في أنّ صانع الخبز هو الخبّاز، ولكنْ لولا المزارع ومادة القمح لما استطاع الخباز أنْ يصنع الخبز. فإذا قلبنا الصورة نحو القرآن كما يؤكّد الكاتب، فإنّ القرآن ليس كلام الله، كما أنّ الخبز ليس صنيعة المزارع، لأنّ الله: "هو منتج المادة الخام التي هي الوحي، مثلما أنّ المزارع هو منتج المادة الخام التي هي القمح. وكما أنّ الخباز هو الذي حوّل القمح إلى خبز وفق رؤيته الخاصّة ومهاراته الفنية وقدراته الإبداعية، كذلك فإنّ الرسول هو من قام بتأويل الوحي وتحويله إلى عبارات وكلمات وفق رؤيته الخاصة" ص21.
إنّ هذه النتيجة تطرح أمامنا تساؤلاً آخر وهو: هل القرآن نصٌّ مقدّس؟. وهنا يبيّن الكاتب بأنّ الأديان كانت لها وظيفة أساسية وهي الارتقاء بالإنسان، لذلك جاءت موسومة بسمة القدامة، والانتماء إلى عالم ما قبل الحداثة، وعالم ما قبل الدّولة. وهذا يضع المستمسكين بالنصّ القرآني وصلاحيته لكلّ زمان ومكان أمام معضلة يصعب حلّها. فالتردّد في الدخول إلى عصر الحداثة رهين بالانعتاق من هذه القداسة، التي حوّلتْ النصّ إلى شيءٍ متعالٍ في الزّمان والمكان، يرافق الإنسانية في مختلف مراحل تكوينها. وهي إشكالية تمنع من تحقيق هذا الانخراط بسبب الإيمان بنصوص تنتمي إلى عالم القدامة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، نصوص تشلّ العقل، وتقتل الإبداع، ثمّ نقول عنها إنّها نصوص الله بتعبير الكاتب.
إنّ التّأكيد على عدم قدسية القرآن كما يؤكّد الكاتب ليس هدفه الانتقاص من الكتاب ولكنّه تأكيد على حقيقة أنّ الكمال للخالق وليس المخلوق. وهنا نستحضر الأزمة التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي وعرفت باسم محنة القرآن. فالقرآن مخلوق حسب توصيف الكاتب، وبما أنّه مخلوق، فكلّ النواقص يمكنها أنْ تعتوره شأنه شأن باقي المخلوقات. فهو نصّ كتب بلغة بشرية كما سبق وأنْ أكّد الباحث، وكذلك هو خطاب يعكس في مضمونه مضامين القدامة، وقيَم العالم ما قبل ظهور المؤسسات.
لكي يتأكّد الإنسان من خطورة تقديس النصّ، يكفي أنْ ينظر إلى واقعنا، حيث انغلاق الإنسان على تحيّزاته، وتسلّطه على البشرية باسم الدين، واستشراء داء الأصولية، التي صارت بفعل هذا العقل المنغلق خطرًا وجوديًّا، تنذر بمعركة يكون الصّدام الحضاري والديني والثقافي مسرحاً لها. فكلّ القيم اندثرت، ولم يعد من الدين شيءٌ بعد أنْ حوّلته العقيدة إلى ساحة حرب. إنّ أهمّ ما جاء به الدين هو فكرة التوحيد الربوبي، ولو أنّه تحوّل بفعل التطرف إلى إيديولوجية لا تسمح للآخر أن يمارس طقوسه أو فكره في سياق اللاإكراه، واللاعنف: "فما معنى عبارة الله أكبر إن لم تكن تعني أنّ الله أكبر من كلّ الكلمات والأشياء، وأكبر من التراث والأصحاح والمصاحف، وأكبر من مكتسبات السلف خيرها وشرها" ص32.
يطرح سعيد ناشيد سؤال ما الوحي؟، ويؤكد من جديد أنّ النص الديني مهما حاول بعضهم أنْ يصوّر قداسته، فهو ينتمي إلى عالم القدامة بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وبالرغم من محاولات فتح هذا النص على تأويلات عقلانية مثلتها بعض القراءات المعاصرة كالتي قام بها محمد عابد الجابري ومحمد شحرور، وغيرهما، إلا أنّ هذه المقاربات لا تعدو أنْ تكون التفافًا على عمق الإشكالية. ومن ينظر في قضية الإرث والمساواة بين الأنثى والذكر يجدها خير دليل على ذلك، إذ هي تعبير عن الواقع الفعلي زمن الرسول.
ما مصير النص الديني بعد أنْ ننزع عنه القداسة؟
سؤال يمكن أنْ يتبادر لأيّ قارئ لمسار هذا الكتاب، وهنا يؤكّد ناشيد أنّ وظيفة القرآن الأساسية تعبّدية، نتلوه، ونرتّله، ونتعبّد به. وعندما نخرج به عن هذه الخاصية فإنّنا نربط واقعنا بواقع ينتمي إلى زمن القدامة، وبمفاهيم وتصورات لم يعد لها أثر في واقع اليوم. إذ لم نعد نعيش في زمن السّبي والفيء والجزية، والنفث في العقد، لهذا يشعر الإنسان كما يؤكّد الكاتب بأنّه أمام غربة النص الديني عن واقعه.
هنا يقترح ناشيد فرضيات في النص الديني على الشكل التالي:
إنّ القرآن صادِرٌ عن نور إلهي، لكنّه ليس كلامًا لله في الأخير. وبالتّالي هو وحي نابع من وجدان الرّسول. هذه الفرضية سبق أنْ أشار إليها الكثيرون خاصة عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، وأحمد القبانجي. وليزيد الأمر توضيحًا يضرب مثالاً على ذلك. ليس الله تعالى مثلاً هو الذي قال حرفيًّا: "ويل لكل همزة لمزة" كما وردت في القرآن المحمدي، لكنْ مثل هذا الأسلوب يظلّ الصياغة اللغوية التي اختارها الرّسول للتعبير عن إشارات الوحي كما تمثلها الرسول.
ترغب هذه الأطروحة في تحرير الوعي الإسلامي من سحرية العالم، واعتبار أنّ الوحي كما تلقّاه محمّد جاء شاملاً لكلّ ذلك التنوّع في الخيال والمشاعر والانفعالات، وذلك بسبب شخصية النبيّ محمد الحسّاسة التي جعلته سريع التّفاعل مع مختلف الظواهر الاجتماعية التي كان يعاينها. وبالتالي فالنصّ القرآني حسب هذا الطرح ليس نصًّا مكتوبًا في لوحٍ محفوظ، بل هو خطاب لغويّ وبشريّ للوحي الرباني، عبّر به النّبيّ عن واقعه ومجتمعه.
وفي ذلك يلاحظ الكاتب وجود أربع سمات طبعتْ آيات القرآن:
1-  أنّها لم تكن على المرتبة نفسها من القوّة والإيمان. وهذا ما يفسّر وجود المُحكم والمتشابه.
2- أنّها ليست دوماً على مستوى واحد من الأفضلية والقيمة. بحسب ما تعبّر عنه الآية: "وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" البقرة 106.
3- إنّها ليست معصومة من الخطأ، سواء بسبب الصّراع النّفسي للرّسول، أو جرّاء ظروف إملاء المصاحف وكتابتها قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية.
4- أنّ الرسول قد اكتفى أحيانًا لدى صياغة بعض الآيات بما بلغ إلى مسامعه من عبارات قالها آخرون من الصحابة في ما اصطلح عليه: "ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة".
في مبحث آخر ينتقل بنا سعيد ناشيد إلى منطقة أخرى، لا تخلو أيضًا من استنتاجات لها وقعُها في المخيال الجمعي الإسلامي، حين يعتبر بأنّ القرآن ليس هو الوحي. فيؤكّد أنّ كل الآراء في هذا الموضوع قديمًا وحديثًا انبنت على عالم القدامة بكلّ مستوياته، إلا إذا استثنينا اجتهادات المفكرين الإيرانيين سروش وشبستري كما أشرنا سابقًا. وهي نظرة لم تخرج عن سحرية العالم، وأسطرة الدين، وربّما هذا هو الدّافع الذي منَح بعض المعاصرين الجرأة في تصنيف القرآن خارج التراث، كمحمد عابد الجابري من خلال كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"، ومحمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن".
إنّ ما يعاب على المفكرين السابقين، والذين تميزت نظرتهم للقرآن بالقدامة كما يؤكّد الكاتب، هو البناء النّظري الذي بنوا عليه تأصيلاتهم واستنتاجاتهم. لأنّ القرآن الكريم هو ثمرة قدرة النّفس على الصّعود والارتقاء لغاية تحقيق الاتصال. إلا أنّ الصّعود هنا بخلاف الفلسفة لا يكون برهانيًّا، بل حدسيًّا مستندًا إلى ملكة الخيال(ص54).
ينتقل بنا ناشيد إلى مستوى آخر من السّؤال: هل المصحف هو القرآن. الجواب يؤكّده الكاتب بالنفي وبالخط العريض للأسباب التالية:
1-   أنّ قرار جمع القرآن وتبويبه وترتيبه اتّخذه المسلمون في عصر خلافة أبي بكر. وتمّ إنجازه في خلافة عثمان بن عفان. ثمّ خضع النصّ العثماني بعد ذلك لتقلّبات كتابية وخطّية كثيرة على مر العصور.
2-   أنّ حجم المصحف الذي وصلنا أصغر بكثير من حجم القرآن المحمدي، أيْ أقلّ من مجموع الآيات التي نزلت على الرسول. حيث تؤكّد الدراسات القرآنية أنّ بعض الآيات والسور قد ضاعت.
إنّ كل ما سبق ذكره حسب ناشيد سيفضي بالضّرورة إلى أنّ القرآن هو تأويل نبويّ للوحي الإلهي، لهذا جاء موسوماً بشخصية النّبي، ومعبّرًا عن واقعه بكلّ معانيه، واقع اليتم والتجارة والقتال.
-   يُتْم النّبي: انعكست حياة النّبي اليتيمة على وصاياه وأخلاقه وأوامره. والتي فيها يقدم اليتيم على المسكين كما تؤكّد الكثير من الآيات.
-       النبي التاجر: ويتّضح الأمر من خلال القاموس المستعمل، والذي تغلب عليه لغة التجارة.
-       عقيدة القتال: ويؤكّد عليها الخطاب القرآني.
وانطلاقًا من هذه المقدّمات فإنّ القرآن ليس دستوراً بحسب ناشيد، فهو كلام تعبديّ خالص. وأيّ علاقة يمكنها أنْ تجمع بين المرء والقرآن على هذا الأساس فهي علاقة ملتبسة، مغرضة، لها هدف واضح وهو التّوظيف الإيديولوجي، والسّيطرة والتسلّط على النّاس باسم المقدّس. كما أنّه ليس كتاباً علميًّا يحوي بين طيّاته نظريات علمية كما يزعم بعضهم تحت مسمّى الإعجاز العلمي، لأنّ خطابه ينتمي إلى العالم الوسيط، ومفاهيم ما قبل الثّورة الكوبرنيكية. وحين العودة إلى القرآن يمكن استنتاج ثلاث خصائص:
-       الأرض ليست كوكبًا في السماء.
-       الشمس تجري والأرض مستقرة
-       الكون امتداد عمودي
إنّ المقابل الطّبيعي لعالم القدامة الذي استفاض فيه ناشيد، هو عالم الحداثة وهو أحد الأوجه التي يشير إليها عنوان الكتاب. ومن الطّبيعي وكما تأكّد في البداية أنّ القرآن والحداثة عالَمان منفصلان، يدوران في فلَكيْن متناقضيْن. ففي الوقت الذي تكون فيه الحداثة ذلك الأفق الإنساني الذي ينشد التّغيير والتنوير والعقلنة، فإنّ عالم القدامة هو عالم الرؤية السحرية، وعالم الثبات والأصوليات والدوران اللانهائي على قدسية الذات. لهذا كان يقول هابرماس: الحداثة مشروع لم يكتمل بعد. فالأخلاق من المنظورين السابقين تختلف بالكلية.
ففي الوقت الذي تعتبر فيه أخلاق القدامة الطّاعة المطلقة فضيلة أخلاقية، فإنّ الحداثة تعتبرها مجرّد بؤس وضعف. وفي الوقت الذي تعبّر فيه أخلاق القدامة على مِلك اليمين، فإنّ الحداثة تعتبرها تلاشيًا لذاتية المرأة في سياق العبودية المتاحة أو المباحة. كما أنّ تزويج طفلة في سن الرابعة عشرة، كان يُعدّ، في المجتمعات القديمة، بطولة، مثلما كان يُعدّ القتل والاغتصاب فضيلة، وتنفيذ الإعدام أمام النّاس نوعاً من الإنصاف. لكن كلّ هذه العناصر تلاشت في عالم صارت فيه كلّ هذه المظاهر نوعاً من اللامعقول، وتعبيرًا تاريخيًّا لم يعد صالحًا للتّطبيق أو التّنفيذ.
ختامًا
فالكتاب هو دعوة لتحرير الوعي الإسلامي كما يراه صاحبه من سحرية العالم، والتخلّص من تراكمات التخلّف والجهل الذي أصابت هذا الوعي. ولا يمكن أنْ يتمّ هذا الوعي إلا من خلال تحرير السّؤال نفسه، ومنْح هامش أكبر لمن يرغب في النّقد والنّقد المضاد، في تدافعٍ هدفه خلق توتّرات معرفية، تنتهي في الأخير إلى الاعتراف بحق الآخر المختلف عنّا في التّفكير والثّقافة والرّؤية.
غير أنّ النّظرة السّطحية للواقع الإسلامي في شقّه الأصولي، وفي تعبيراته الحركية، لم يكن يوماً مستوعباً للحقّ في الاختلاف، بل كان دوماً يصادر هذا الحقّ بتبريرات مختلفة، هدفها دوماً إسكات صوت الآخر، وتسييج النصّ بكلّ السّياجات المعرفية الممكنة. وبدل أنْ يتلمس الإنسان حيوية دينه في هذه الانطلاقة نحو المتعالي، ينحسر في حركة دائبة نحو المنحدر الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.
إنّه الواقع الملتبس الذي ساهمت في تشكيله عوامل كثيرة، أهمّها المؤسّسة الكهنوتية في شقّها الأصولي. فالقرآن والدين والرسالة والنبوة في أسُسها هي ثورات دينية وفكرية على الواقع كما أشار إلى ذلك غوستاف لوبون[4]. ومن معاني الثّورة هي هذا الأفق الذي ينطلق منه الإنسان في مساءلة ذلك اللاّمفكر فيه كما تمثله العقيدة الصمّاء. وهذا هو الأساس الذي أنبت لوثة الأصولية والدوغمائيات الدينية والسياسية، ولم نعد نرى من الدّين إلا ذلك الأفق الذي تعبّر فيه بعض الحركات المتطرّفة عن نفسها، مستفيدة من واقع عربي إسلامي مهترئ.

[1]- الجبران، عبد الرزاق. جمهورية النبي: عودة وجودية. ص 8
[2]- شايغان، درايوش. ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة. ترجمة محمد الرحموني. مراجعة مروان الداية. المؤسسة العربية للتحديث الفكري، دار الساقي. ص 243
[3]- ليشته، جون. خمسون مفكرًا أساسيًّا معاصرًا من البنيوية إلى عالم ما بعد الحداثة. ترجمة فاتن البستاني. مراجعة محمد بدوي. المنظمة العربية للترجمة. ص 405
[4]- انظر ما كتبه غوستاف لوبون حول محمد وثورته الدينية. لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر. ص 37