الاثنين، 16 مايو 2016

أطفالنا و الرعاية النفسية ـ ذ.حميد بن خيبش

عن أنفاس نت


إذا كان انتظار مولود  حدثا تُجمع الإنسانية على روعته , فإن مراسيم استقباله تعكس إلى حد بعيد طبيعة الوعي الذي يحكم بيئته التربوية ونوعية السلوك و الاتجاهات التي ستحدد شخصيته !
ولعل ما يميز الأسرة العربية هو العناية المفرطة بالترتيبات المادية من تغذية و تطبيب مع تقصيرملحوظ في الترتيبات المعنوية التي تحقق للطفل تكيفا نفسيا سليما مع محيطه.
فالحاجة إلى الحب , و الأمن,  والشعور بالانتماء هي حاجات فطرية لدى الطفل , و الاستجابة لها من لدن الأسرة و المدرسة ضرورة حيوية لاكتمال شخصيته والوصول بها إلى حالة من الثبات الانفعالي و السلوكي.غير أن شيوع المفاهيم الخاطئة حول الصحة النفسية ,وغياب استراتيجية واضحة لإدماج مباديء الرعاية النفسية في خطط التنمية الاجتماعية أسهم بشكل واضح في ازدياد الاضطرابات النفسية , وتراجع أدوار الأسرة و المدرسة في تحقيق تنشئة سليمة .
ينص إعلان " ألما آتا" الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية سنة 1978 على أن الصحة النفسية هي "حالة من العافية تسمح للفرد باستخدام كافة طاقاته وقدراته ,و التكيف مع ضغوط الحياة و العمل المنتج و المثمر, و المساهمة البناءة في مجتمعه " وهذا التعريف ينطوي على تصور مغاير يتجاوز المقاربة العلاجية صوب الاهتمام باللياقة النفسية للفرد و تحسين نوعية الحياة . كما يُثبت أن المبرر الذي تسوقه السلطات التربوية و الصحية في بلداننا حول قلة عدد الأخصائيين النفسيين , وانصراف جهودهم للعناية بالحالات النفسية الحادة هو مبرر يُمكن تجاوزه باعتماد مقاربة تشاركية فاعلة ,تؤهل كلا من الأسرة  و المدرسة و المؤسسة الإعلامية للإسهام الجاد في توفير بيئة تربوية سليمة.
*             *             *
يُهيمن داخل الأسرة العربية نمط التربية التقليدية الذي يُنظر من خلاله للطفل على أنه "رجل صغير" يتوجب عليه أن يستوعب تعاليم الكبار و توجيهاتهم , ويتقيد بها دون الالتفات إلى الحاجات النفسية التي ينبغي توفيرها له .
فالطفل قبل أن يتشرب القيم و العادات السلوكية و الاجتماعية , لا بد أن يشعر بالأمن العاطفي أي بكونه محبوبا ومرغوبا فيه داخل الأسرة . كما يحتاج إلى الإحساس بالثقة و الاطمئنان , و الانتماء للأسرة و المجتمع .فطبيعة التفاعلات الأسرية يكون لها دور كبير في تشكيل حياته , أما المباديء التي يجري تلقينها له , فيُلاحظ أنها في الغالب مزيج من القيم الأخلاقية و الدينية , و العادات السلوكية تتخللها رواسب من التفكير الخرافي الذي يزعزع ثقة الطفل بنفسه ,ويُربك تفكيره مثل تخويفه بالأشباح و العفاريت حتى ينام أو يُقلع عن سلوك غير مهذب ! فينشأ الطفل داخل إطار حياتي يتسم بالإذعان , والأوهام المقيدة للإبداع و التساؤل الحر .
لذا فتوفير شروط الرعاية النفسية السليمة يقتضي أولا تغيير الثقافة السائدة داخل الأسرة , و حملها على التعامل مع الطفل باعتباره "كائنا منطقيا يستجيب إذا لقي الاحترام و عومل على مستوى إنسانيته " (1)
وهذا ما تضطلع "التربية الوالدية" بتحقيقه في الآونة الأخيرة من خلال اعتماد برامج تكوين للوالدين , وترسيخ علاقة أسرية أكثر انضباطا و احتكاما للمرجعية السيكولوجية و التربوية .
*             *             *
ومع انتقال الطفل من الأسرة إلى فضاء المدرسة تبدأ علاقاته الاجتماعية بالتوسع من خلال تفاعله اليومي مع زملائه و مدرسيه . وتنضاف خبرات وقيم جديدة إلى رصيده الفكري و الوجداني .و بالتالي فالمناخ المدرسي العام له دور كبير في تحقيق التوازن النفسي للطفل , وتحرير طاقته للإبداع و التطوير شريطة أن يحكم هذا المناخ تصور تربوي متكامل يعزز الاتجاهات و القيم التي بذرتها الأسرة ,ويُخلصها من رواسب الأوهام و المعيش الخرافي .
وحتى يكون للفضاء المدرسي دوره الفاعل في التربية النفسية , فإنه مدعو لتأهيل مكوناته , وتجديد منطلقاته و تصوراته بما يتلاءم وما توصلت إليه الدراسات النفسية و التربوية من حقائق و معطيات هامة .ونقصد هنا بالمكونات : المناهج الدراسي , و نمط الإدارة المدرسية , و طبيعة العلاقات المهنية و الإنسانية في البيئة المدرسية , وشخصية المدرس ومؤهلاته التربوية .
ومن المؤلم حقا أن واقعنا التعليمي لا زال يرواح مكانه رغم الحراك التربوي الهائل الذي شهده المجتمع المعاصر منذ مطلع القرن الماضي . و لازال الطفل مجرد "آنية فارغة يصب فيه المعلم كلماته , وكلما كان المعلم قادرا على القيام بهذه المهمة كان ذلك دليلا على كفاءته , وكلما كانت الأواني قادرة على الامتلاء كان ذلك دليلا على امتياز الطلاب "(2) .
وفي ظل هيمنة المفهوم "البنكي" للتعليم و الذي تحكمه رؤية سلبية لدور الطفل لا يمكننا بالتأكيد أن نتوقع من المدرسة ميلا لتوفير شروط التربية النفسية ! إذ يستلزم الأمر " ثورة " تربوية تحرر المدرسة من أبوية النظام التعليمي , وتمكن المدرس من إعداد مهني متكامل يؤهله لإجادة التعامل التربوي مع الطفل , كما تُحدث تطويرا نوعيا للمنهاج الدراسي يُنمي خبرات الطفل و حسه النقدي , و يمنحه الإحساس بالأمن و تقدير الذات .
*             *             *
هل يُمكن الحديث عن دور للإعلام في الرعاية النفسية للطفل في غياب استراتيجية واضحة لدى الوزارة الوصية ؟
إن ما كشفت عنه المذكرة التي وجهتها منظمة الصحة العالمية إلى وسائل الإعلام في السابع من أكتوبر 2011 يُسلط الضوء على فشل السياسة الصحية في توفير أدنى متطلبات الرعاية النفسية للأفراد . فمن مجموع موارد القطاع الصحي , لا يُخصص لخدمات الصحة النفسية سوى %2 , أما متوسط الإنفاق فلا يتجاوز 0.25 دولار لفرد سنويا ! (3)
بالرغم من ذلك فإن الرهان على دور وسائل الإعلام في تكوين مواقف وسلوكيات اجتماعية إيجابية , وترسيخ القناعة بضرورة العناية بالصحة النفسية للطفل يظل قائما , خصوصا في ظل الثورة المعلوماتية التي تشهدها المجتمعات المعاصرة , و الانتشار الواسع لوسائل الاتصال .
و إذ نُثمن الاهتمام الذي تحظى به قضايا الاسرة و الطفولة , و تخصيص حيز من البث الإعلامي لتدارس سبل مواجهة الاضطرابات النفسية الشائعة , إلا أن الضغوط التي تواجهها الأسرة العربية في الوقت الراهن جراء تآكل البنى الاجتماعية و الشعور بالقلق المتزايد حيال المستقبل يفرض مزيدا من العناية بضرورة رفع مستوى الوعي النفسي , و تثبيت القيم و المعايير الدينية و الاجتماعية التي يستمد منها المجتمع مُثله العليا . وذلك من خلال الاهتمام بالإرشاد النفسي و تنظيم حملات إعلامية لإحداث تغيير في العوامل الاقتصادية و الاجتماعية المولدة لأشكال الانحراف النفسي .
و بالنظر لتزايد أعداد مستخدمي الانترنيت فإن توفير المعلومات الخاصة بالصحة النفسية , وتيسير الحصول على الاستشارات البسيطة سيؤدي حتما إلى تغيير المواقف و الاعتقادات الخاطئة بشأن الرعاية النفسية .
إن السنوات الأولى من حياة الطفل تتسم بقابلية شديدة للتأثر بالخبرات المؤلمة و التجارب الصادمة . وفي عالم تعصف متغيراته بالتوازن النفسي للفرد فإن بلورة برنامج تكاملي لزيادة الموارد البشرية و المعرفية العربية حول الصحة النفسية أصبح مطلبا أساسيا لتمكين أجيال المستقبل من التكيف الإيجابي مع ضغوط الحياة , وكسب رهان العيش فوق ..صفيح ساخن !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : كلير فهمي . الحب و الصحة النفسية لأبنائنا .دارالمعارف /القاهرة 1975. ص: 151
(2) : سعيد اسماعيل علي .فلسفات تربوية معاصرة .سلسلة عالم المعرفة .عدد 198. ص: 174 
(3) : موقع منظمة الصحة العالمية.مذكرة إلى وسائل الإعلام بتاريخ 2011/10
/

الحاجة الى تثوير فلسفة التربية والتعليم ـ زهير الخويلدي

عن أنفاس نت



" الثورة السياسية نفسها محكوم عليها بالفشل اذا لم يصاحبها الغاء الأخلاقيات القمعية"[1]
الجدير بالملاحظة أن قطاع التعليم والتربية في الدائرة الوطنية يعاني من أزمة بنيوية مست العمق المادي والرمزي الذي يرتكز عليه وأثرت سلبيا و بشكل أساسي على الرأسمال البشري ومنتوجه المعرفي والقيمي. ولعل الأمر لا يتطلب القيام بإصلاحات شكلية وجراحات تجميلية تركز على المظهر وتحرص على الترقيع وسد الثغرات بقدر ما يستلزم القيام بمراجعات جذرية وإحداث قطائع فعلية مع الطرق البيداغوجية القديمة والمستنفذة والبرامج التعليمية المفرغة والمملاة من الدوائر الرأسمالية المعولمة والتخلي عن ذهنية التسيير الاداري الفوقي  وتفكيك العلاقة التي كانت قائمة بين الممارسات البيروقراطية والسياسة الشمولية والتي سعت الى تأبيد الوضع وتبرير السائد، ويجب كذلك التوجه على التو نحو محاربة ظاهرة الفساد والكف عن الهدر للطاقات وإضاعة الوقت ومقاومة العنف المستفحل ومعالجة مظاهر الانفلات والتسيب والقمع المُمَنهج للإبداع والحريات والتصدي لظواهر الوأد المبرمج للنقد والتفكير المختلف وتعميم الجهل والتشجيع على الكسل، والشروع في ترسيخ تقاليد مؤسساتية داخل الفضاء التربوي تقوم على صقل المواهب وتنمية روح الخلق والارتقاء. 
رأس الأمر أن قطاع التربية والتعليم يحتاج بشكل عاجل وجذري الى عملية تثوير تقوض الأسس القديمة الخاوية وتعمل على بناء منظومة تعليمة متطورة ترتكز على دعائم مابعد حديثة قادرة على مواكبة التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع في هذا الزمن الاستثنائي وتسدد المؤسسة التربوية نحو تنمية موهبة العقل وحفظ كرامة الانسان.
لب القول أن مقصد التربية والتعليم يجب أن يتوجه نحو تطوير الذكاء وشحذ الارادة بغية التأثير في الانسان ودفعه الى السير في طريق التطور والارتقاء وتهذيب ملكاته وطبعه وتحويل الطبيعة وعالم الأشياء المادية نحو انتاج منافع صناعية وقيم معنوية تسدد سلوكه نحو تحصيل الخير العام وتؤهله للسكن في الكون والعناية بالحياة.
غاية التربية هي توجيه الانسان من أجل أن يكرس نفسه في حياته للقيام بمهمة خاصة ووظيفة محددة في مجتمعه وفي الدائرة الانسانية تعود بالنفع عليه وتحقق المصلحة المشتركة دون أن تسبب ضررا للغير والسوء للنوع البشري. غاية المراد من التربية ليس بلوغ كمال الطبيعة البشرية ولا دفع الانسان الى السير في اتجاه واحد وبشكل مبرمج وإنما دفعه الى الثورة على النمطية والقولبة وتوسيع فضاءات التجربة وفتح الآفاق وإطلاق حركة تنوير عميقة تؤهله للتفكير وتضع كل ما يفعله بنفسه من صلاح وتدبير على ذمة الآخرين ومن أجل صلاحهم وتطورهم. ربما في نهاية المطاف يكون الهدف الجوهري للتربية والتعليم البحث عن المعنى للحياة وإعادة تأهيل الانسان للإقامة في العالم وبلوغ الانسجام المقبول بين الفرد والمجتمع والإنسانية والتوازن النسبي بين الرغبة والمعرفة والقدرة.
 على كل حال تظل المدرسة المكان الذي يتكثف فيه المخيال الجماعي والوسط الرمزي الذي ينشط فيه اللاشعور السياسي للناس وكذلك الحاضنة التي تتأسس فيها الحياة المشتركة أين يتقاسم التلاميذ همومهم ويرسمون آفاقا لطموحاتهم ويتعاون فاعلو المجتمع المدني على تشخيص متطلبات المرحلة ويحلمون بحياة مستقبلية أفضل. والحجة على ذلك أن اليوتوبيات والمثل العليا والقيم المطلقة والحكايات الكبرى التي رفضها الواقعي الاجتماعي وطردها الناس من مساحات وعيهم تجد في المدرسة مرتعا لها ومكانا للانتشار وتتسرب الى أذهان المتعلمين. 
من المعلوم أن المدرسة تتأثر كثيرا بالمناخ الاجتماعي والتحولات التاريخية وأن حدوث ثورات أو اصلاحات في مجال الدين والسياسة ينتج عنه بالضرورة رجات ارتدادية وانفلاتات داخل الوسط التربوي ولكن مساهمة المدرسة في الارتقاء بالمجتمع وتأثيرها في حركة التاريخ وتطوير السياسات وتثقيف الناس وتكوين العقول وإنضاج الأفكار وتدعيم القيم التقدمية والسلوك المتحضر في الحياة اليومية أمر لا يمكن الاختلاف حوله.
في هذا السياق تواجه المدرسة العمومية اليوم تحديات كبيرة مما يعوقها عن أداء رسالتها التربوية على أحسن وجه وأهمها:
 - هيمنة ثقافة الميوعة وعقلية الاستهلاك وتفضيل معايير البسيط والسهل والراحة التي استبدت بالشارع واخترقت أروقة المؤسسات التعليمية.
- تنافس غير متكافىء مع التعليم الخاص الذي يبحث عن النجاح على حساب الاستحقاق وبروز مفاجىء للتعليم الموازي الذي يركز على اللغات والمواد الدينية.
- اكتساح موجة من الأفكار الحزبية المغشوشة وآراء الايديولوجيات الضيقة وانتشار للدعاوي الدينية والمعتقدات الماضوية.
بيد أن التربية تحتاج الى العلوم والفنون والآداب لكي تخفف الألم عن الانسان وترفع عنه الجهل المقدس وتحارب الأمية الجديدة وتعمل على تنمية البشر من الناحية الفيزيائية والأخلاقية وتوجه المجموعات نحو قيم المواطنة والديمقراطية وتدفعهم الى احترام بعضهم البعض وحسن تدبير الكون وتحملهم مسؤولية الوجود على الأرض.
" تشكل التربية المنهج الأكثر تطابقا مع المثال الديمقراطي، ليس فقط لتوجيه الناس نحو مصيرهم وإنما أيضا لاحترامهم مطلب الحرية"[2]. علاوة على ذلك تساعد المدرسة التلاميذ على ثقافة النقد الذاتي وحسن استعمال العقل وتغرس الفكر المدني وتضمن تطورا دائما للمجتمعات وحماية واعية للسكان وتجنبهم مهالك النزاع والتباغض.
بناء على ذلك يقوم برنامج المدرسة الأول على اعداد مواطن صالح للمستقبل وعلى نشر ثقافة الارتقاء بالبشر وصيانة العائلة من آفات التفكك وتقوية أواصر القربى بين الأفراد وزرع مشاعر المحبة وقيم التوادد بين الأشخاص. لذلك عمدت فلسفة التربية منذ نشأتها الى طرح الأسئلة الكبرى التي تهم الطبيعة البشرية وتوفير شروط ترقيها وتنميتها وحرصت على تخليص المسألة التربوية من الخلفية الميتافيزيقية والأخلاقوية ومقاربتها وفق منهجية علمية وذلك من خلال تكوين جملة من المعلومات والإحصائيات والرسوم البيانية والمعدلات حول نسب النجاح وأشكال الهدر ودرجات الذكاء ورصد تجارب وملاحظة ممارسات وخلق وضعيات وإخضاع عالم التربية الى محك التجريب.
في كل الأحوال تتحدد مقاصد التربية من خلال مراكمة المعارف الموضوعية وإعداد الكفاءات وبلورة البرامج الجادة وتهيئة الظروف السياسية وخلق مناخ عام من الحريات والحقوق وتتجه نحو تعصير البنى التحتية وترفع الأفكار التربوية الى مستوى النظريات الفلسفية وتجمع بين التربية والتنوير وتجدل الصلة بين العقلنة والأنسنة وبين الدمقرطة والشرعنة. 
بيد أن مهمة فلسفة التربية اليوم هي التصدي الواعي والمتبصر لمظاهر التعصب واللاتسامح والدغمائية والابتعاد عن السقوط في النسبوية والبراغماتية والعدمية وتدبير خيار ثالث يركز بالأساس على التعقل والتوازن والتفاهم. من جهة أخرى حري بفلسفة التربية ألا تكف عن اعطاء الأطفال الوسائل اللازمة والوصفات السحرية التي يصيرون بها كهولا وإنما أن تدفعهم مهما كان سنهم وجنسهم الى التعلم مدى الحياة وحب العلم وإجلال أهله.
هكذا تسعى فلسفة التربية الى تغيير رؤية الانسان الى الكون وزرع الأمل والحلم بميلاد يوم جديد يطل على الانسانية تختفي فيه الحرب والعنف والظلم ويظهر فيه العدل والسلم والمحبة وتتغلب الفضائل على الرذائل وينتصر التعارف العالم على التدافع الجاهل وتتحول المدرسة الى الجبهة الأمامية لمقاومة القمع والتخلف والفساد.
زد على ذلك تساهم التربية في تخطي أزمة الانتقال من حقبة تاريخية ثورية الى حقبة أخرى حينما تعتبر الماضي منبعا أصيلا وتأسيسيا للقيم والمعايير وتتعامل مع الحاضر بوصفه فضاء التجربة الممكنة وتنظر الى المستقبل على أنه المدخل الذي يحمل المجتمع امكانات التجاوز والانتصار على ذاته وتقوم بتثوير الذهنيات والتغيير الجذري.
غاية المراد أن فلسفة التربية تعمل على تنمية استقلالية النظر والعمل والاعتزاز بالهوية الوطنية للمجتمع وتكوين الفرد وبناء المواطن والحفاظ على المؤسسات المدنية للدولة والخروج بالناس من الوصاية والقصور الى الرشد والنباهة والاستنارة والتعويل على الذات وتفعيل الاندماج بين الأنساق الاجتماعية وتهيئة الظروف الملائمة للخلق والإبداع وتقوية عزيمة الشخص في مواجهة تسلط الدولة واستبداد الحشد وسطوة الصورة والدفاع عن السيادة وإزالة كل أشكال القمع وتفكيك البنى النفسية التي تعيد انتاج الكبت وجعل التحرر النفسي طريقا نحو المبادأة.
من الضروري أن تتحول المؤسسة التربوية الى وسيط رمزي بين القيم الخصوصية التي تحرص العائلات على التمسك بها والقيم الكونية التي تقوم وسائل الاتصال المتطورة على الدعاية لها واشهارها تحت عنوان العولمة. مجمل القول أن الدرس المستفاد من أزمة التعليم هو ضرورة التعجيل بالتثوير البيداغوجي واتمام الثورة التربوية بغية ايجاد برامج تعليمية تستكمل أهداف الثورة وتحرص على تعزيز قيم الشجاعة والفداء والتضحية والايثار في وجدان الناشئة وتضع الانتصار الى الكرامة الانسانية كبوصلة لها وتجعل من الانحياز الى الفطرة البشرية السليمة وانقاذ الطفولة من المنحدر الخطر الذي تبشر به السلعنة والعولمة المتوحشة مشروعا حضاريا لها.
ألا يجب على فلسفة التربية أن تعثر على منوالها ومقاصدها في الانسان في حد ذاته؟ وكيف تسمح للإنسان بأن ينمي في ذاته ملكة الحرية بوصفها الماهية التي تخصه والوضعية الجذرية التي يوجد بها وعليها في العالم؟
المراجع:
ب.أ. روبنسون ، اليسار الفرويدي، ترجمة عبده الريس، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى،2004.
Le dictionnaire des sciences humaines, sous la direction de Sylvie Mesure et Patrick Savidan, edition PUF, Paris, 2006.
كاتب فلسفي
 
  
 
[1]  ب.أ. روبنسون ، اليسار الفرويدي، ترجمة عبده الريس، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى،2004، ص59.
[2] Le dictionnaire des sciences humaines, sous la direction de Sylvie Mesure et Patrick Savidan, edition PUF, Paris, 2006.p.358.

الخيال الإبداعي والمخيال الاجتماعي ـ د.زهير الخويلدي

عن أنفاس نت


استهلال:
" الخيال أهم من المعرفة، فهو رؤية مسبقة لجاذبية الحياة المستقبلية" - ألبرت أينشتاين-
لقد درجت الفلسفة منذ القديم على تهميش الخيال والنظر إليه بازدراء وتحقير على مستوى المعرفة وعلى مستوى الوجود. فقد وضع جنب إلى جنب مع الحس والظن واعتبرت المدركات الخيالية خالية من كل معنى ودلالة وقريبة من الوهم واللاّحقيقة والدرجة الصفر من المعرفة. كما وقع التعامل مع الوجود الخيالي بوصفه اللاّوجود وبصورة أخرى الوجود الشبهي وذلك لتضاده مع الوجود الحقيقي والواقعي.
هذه النظرة الميتافيزيقية للخيال ساهم في تشكلها تنزيل العقل منزلة السيد المطلق وتفضيل لغة المفهوم ومنزع التجريد على  الإنصات إلى دروس التجارب والرجوع إلى الوقائع الخام والاحتكام إلى لغة الحياة. كما نظر الحس المشترك إلى الإنسان المتخيل نظرة سلبية واعتبره غارقا في أوهامه تقوده تمثلاته وتهيئاته وخواطره ولا يقودها ويوجد دائما خارج ذاته وبعيدا عن الواقع ومبحرا في عوالم وبحار غريبة.
لئن أنهت الفلسفة النقدية عند عمونيال كانط رحلة العذاب الذي عاشتها ملكة الخيال طوال تاريخ الأنساق الأنطولوجية التقليدية وميزيت بين الخيال التكراري والخيال المبدع وأسندت إلى الخيال المتعالي مهمة التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة الحسية تحت توجيه أفكار العقل فإن المقاربة الفنومينولوجية قد أعادت الاعتبار لهذه التجربة الإدراكية وسلكت هذا السبيل  للإطلالة على الزمان والوجود في العالم.
لقد انطلقت الفنومينولوجيا أثناء تتبعها طرق اشتغال ملكة الخيال من سجلات المعرفة واللغة والدين والفن والأحلام والوعي والذاكرة والانفعالات والأهواء وميزت بين فعل التخيل وملكة الخيال وتجربة المخيال.
من هذا المنطلق فإن الإشكاليات التي تطرح ههنا يمكن إثارتها من خلال التساؤلات التالية: ماهو الحقل الايتيمولوجي الذي تتحرك ضمنه مفردات خيال وتخيل ومخيال ومخيلة؟  ما علاقة الخيال بالواقع؟ ماهو دور العاطفة في اشتغال ملكة التخيل؟ هل الخيال ملكة الخطأ دوما؟ ألا يمكن أن نتحدث عن الحقيقة بالنسبة إلى الخيال؟ وهل ثمة اتفاق بين الفلاسفة حول الخيال؟  ولماذا تعودت الميتافيزيقا الغربية على كبت طاقة الخيال؟ وبأي معنى ارتبط قدر الخيال بالحواس والوهم؟ وكيف أمكن للخيال التحرر من قبضة العقل؟ وما المقصود بالخيال المبدع؟ وأي معنى يمكن إسناده إلى مفهوم المخيال؟ وماهي التجربة الفنومينولوجية التي ينطبق عليها فعل التخيل؟ كيف تم الانتقال مع فنومينولوجيا المخيال من الاعتناء بالمفاهيم إلى معالجة الصور والرموز والحقول والأشكال والعلامات؟ وهل يمثل المخيال جهاز تحكم أم تجربة تحرر وانعتاق؟  ثم ما الفرق بين الإدراك الحسي والتمثل الخيالي وبين الوعي الانعكاسي التأملي والصورة المتخيلة ؟ ألا يوجد تناقض بين الخيال الشعري والخيال العلمي؟ ماهي العناصر المكونة للخيال المبدع؟ ألم يؤسس الخيال طبيعة ثانية في الإنسان بعدما أسس العقل طبيعة أولى؟ هل يعني الخيال الغياب أم الحضور؟ ألا يعد الخيال ذاكرة لا يمكن التحكم فيها ؟ والى أي حد يكون من الضروري ممارسة التخيل لبلوغ المعرفة؟
إذا كان الغرض هو التحليل الفلسفي للمسلمات الضمنية لهذه الاستشكالات واستخراج التبعات الإيتيقية فإنه من الحري بنا أن نقوم بتقسيم هذا المبحث الذي نعتزم الخوض فيه إلى جملة من اللحظات المنطقية التالية:
-         الخيال بين التصور والوعي
-         تجربة التخيل والإبداع الفني
-         المخيال بين التفكير والافتراض
من المفيد المراهنة على التأسيس الفنومينولوجي للخيال وتخليصه من النظرة التقليدية المزدرية وإعادة الاعتبار إلى هذه الملكة من زاوية دورها العرفاني والعلمي وتأثيرها السياسي والاجتماعي.
1-    ملكة الخيال ونظرية المعرفة:
" الخيال هو إمكانية إبرام كل الأنواع غير الشرعية من الزواج والطلاق بين الأشياء"
                                                                        - فرانسيس بيكون-
لقد دأب التناول الفلسفي التقليدي على إدراج مفهوم الخيال ضمن دائرة المعرفة المشتركة ووضعه في إطار الفانتازيا والوهم وتم الحط من قيمته وتحميله مسؤولية وقوع الإنسان في الغلط وعلامة إصابته بالجنون ولكن في الأثناء تم الرفع قليلا لهذا الاستخفاف وتعامل مع الخيال باعتباره ملكة الصور ويلعب دورا تكوينيا للفهم في إنتاج المعرفة ويساعد المرء على اكتساب درجة من الذكاء والانتباه إلى الواقع.   لقد طرحت الفلسفة منذ بداياتها الأولى مشكل الخيال أو الفانتازيا ضمن إطار الموقف الأول الذي يعمل على بلورة ظرفية متعينة ترتبط بالنشاط العرفاني للإنسان ومن ناحية ثانية في سياق الموقف الذي يعتبر الخيال من الأمور غير مجدية وغير نافعة أي من الأشياء الضارة والمعرقلة في مستوى معرفة الحقيقة.
والحق أن التخيل في المعنى العام هو القوة التي تستعيد بها النفس نماذج أو صور الإحساسات الماضية والأشياء الغائبة. كما يفيد التخيل في المفهوم الضيق تركيب صور في الذهن أو صور ذهنية. ولقد درج الخيال على تحويل الصورة إلى شيء. في الواقع عندما نحتفظ في ذهننا بصورة لشيء. فإننا نرى صورة ذلك الشيء كما أننا نرى الشيء نفسه. وبالتالي فإن الصورة هي عبارة عن فضاء يمكن أن نهتم به معرفيا.
من المعلوم أن أفلاطون نصص على ضرورة التمييز بين الخيال والإحساس بالرغم من تصنيفه لهما ضمن الدرجات الدنيا من سلم المعرفة واعتبر اعتقاد معرفة الصورeikasia مجرد خطأ يقع فيه الإنسان لا يوجد إلا في ذاته وفسر ذلك في نهاية الكتاب السادس من الجمهورية وفي محاورة الثياتات بأن صورة التمثال المنحوت تخدع العيون وتبتعد عن الحقيقة الواقعية مرتين تحت تأثير الممارسة المشوهة للمحاكاة. لقد وضع أفلاطون مركز الخيال في الكبد من حيث هو عضو لامع يقدر على قبول الصور وإظهارها وإنتاج مظاهر تمنحها الحواس ولكنها تبقى محددة بشكل تام من فوق على غرار تحديد الآلهة للألوهية1[1].
هكذا استقرت منذ أفلاطون نظرية في الخيال تعتبره مستقلا كليا عن التجربة الحسية، لكن أرسطو سيعيد الارتباط بين الخيال والإحساس وسيعثر على الصلة الضامنة لهذا الترابط بينهما في وظيفتها العرفانية بتأكيده على حقيقة أن :" إن الخيال هو حركة معينة تنتج بواسطة الإحساس حينما يكون متحركا"2[2].
 والحق أن الخيال حسب أرسطو يتدخل بشكل بارز في مسار المعرفة حينما يساهم في صناعة الصور الموحدة للموضوع المدروس وذلك بالانطلاق من محسوسات خاصة مثل الطعوم بالنسبة إلى حاسة الذوق والروائح بالنسبة إلى حاسة الشم والأصوات بالنسبة إلى حاسة السمع والألوان والأشكال بالنسبة إلى حاسة النظر ومن محسوسات مشتركة على غرار الكتلة والشكل والحركة ومن محسوسات عرضية3[3]. لقد أعاد أن أرسطو في كتاب النفس دمج الإحساس بالخيال وحدد فعل التخيل بأنه تمثيل شيء وهو غائب. بعد ذلك تعامل الرواقيون مع الخيال باعتباره ملكة رأي وحددوه بأنه مجرد إحساس عفوي ومباشر يدخل الاضطراب على استعمال التمثلات ويسبب للنفس الأمراض والتوتر ويلقي بها في بيداء الوهم والفانتازيا. بناء على ذلك لقد أرجع أرسطو أصل كلمة فانتازيا  phantasiaإلى لفظ phaos النور في كتابه النفس4[4].
إذا كان الإحساس يظل متحركا وفي حالة نشاط دائم فإن الخيال يمكن أن يتعرض للسحق والكبت ولكنه ينبعث مجددا إلى النشاط حينما يخمل الإحساس تماما مثل اليقظة التي تفسر الرؤى التي تظهر في الحلم. على كل حال ترسخ رأي أرسطو القائل بأن "الخيال امتداد لنشاط الأحاسيس حتى عند غياب الموضوع".
كما منح الرواقيون إلى الخيال وظيفة إيتيقية وذلك حينما ربطوا سبب ترك الفضائل والإقبال على الرذائل بانشداد النفس إلى المتخيلات وغفلتها عن الجليّات وعجزها عن الفعل وفق قواعد الإرادة وتحت هداية العقل. ولهذا السبب دعا الرواقيون إلى مواجهة الخيال بغية إنقاذ العقل وتحرير الإرادة من غلبة الأهواء.
لقد اهتمت المدرسة التجريبية كثيرا بالصورة الذهنية وربطت بين الإدراك الحسي والخيال وفسرت كلية الحياة النفسية بالاعتماد على هذه الصورة المتخيلة. كما تسعى الوظيفة التخيلية إلى المحافظة على الشيء في الصورة الذهنية وتتعامل مع الصورة بوصفها ما يتبقى من الإدراك الحسي بعد انعكاس الانطباع في الفكر واستمراره داخل الوعي. وبالتالي تستوعب الصورة عملية إعادة إنتاج للموضوع المدرك وتودعه في الفكر مثل تودع نسخة مطابقة للأصل في دفتر متكون من قوائم عن الانطباعات الحسية والتمثلات الخيالية. بناء على ذلك تمثل الصورة الذهنية سندا ماديا للإدراكات الحسية والانطباعات المرتسمة في الخلايا العصبية. لقد تعاملت السيكولوجيا التجريبية مع الفكر بوصفه وعاء مليء بالصور وتحدثت عن الخيال التجريبي الذي يُعبّر عن موضوع غائب بواسطة صور ذهنية ولقد فرق ديفيد هيوم بين الانطباعات (إدراكات العالم الخارجي) والأفكار (إدراكات العالم الباطني) ويعرف الأفكار بوصفها الصور الضعيفة عن الإنطباعات في التفكير والإستدلال وأشكال محرفة من إعادة إنتاج الإحساسات بعد غياب الأشياء.
" بعد أن يكون الموضوع قد أزيل، أو تكون العين قد أغمضت، ونظل محتفظين بصورة الشيء الذي رأيناه، ولو بوضوح أقل مما كانت عليه حينما نراه. هذا ما يسميه اللاّتينيين الخيال نسبة إلى الصورة التي تتكون في الرؤية ويطبقون الشيء نفسه ولو على نحو غير ملائم على كل الحواس الأخرى."5[5]
لقد حمل هوبز الفانتازيا القدرة على التمييز الذهني بين الأفكار التي يوفرها الحس السليم الاجتماعي6[6].كما أن الربط بين الخيال والإحساس لم يوفر للفلسفة التجريبية فضاء إشكاليا حتى تتمكن من تغيير النظرة السلبية وإنما  اقتصر الأمر عندها على النظر إلى الإحساس بوصفه مصدر الفكر وجعل كل ذهن مقيدا بملكة الصور وتم إسناد مهمة الوصل إلى ملكة الخيال بين التمثلات المستقلة عن نظام الأشياء.
غير أن الثورة الكوبرنيكية التي أحدثها ديكارت وكانط في الفلسفة الحديثة تجسدت في إعطاء الخيال مكانة بارزة في المنهج الفلسفي وتعاملت معه بوصفه أهم المواضيع لكل فلسفة عقلانية نقدية تُثمّن حرية الذات وتنطلق من تلقائية الذهن وتعطي قيمة للتجربة الحسية وتلتزم بالوقائع المادية وتمتحن مسلماتها الضمنية.
لقد منح ديكارت في التأمل الثاني للخيال منزلة ايجابية وقام بالتمييز بين العقل بوصفه حس سليم يضطلع بوظيفة تصور الطبائع اللاّجسمانية والخيال باعتباره من يتأمل شكل أو صورة الشيء المادي وتعامل مع الخيال بوصفه ملكة جسمية للروح تؤشر على خصوصية الفرد في وجوده الحسي ووحدة النفس والجسم.
غير أن ديكارت ينفي في التأمل السادس أن يكون الخيال ملكة جسمانية بكامله وقادر في جميع الأحول على بناء معارف صحيحة ويبين أنه يمكن أن يقع في الخلط ويعجز عن تصور العلاقات المعقدة للواقع، ويضيف إليه القدرة على بناء الأشكال وبلوغ الحقيقة الحسية حينما يستند على قوة الفكر ويقف عند الحد الأوسط ويبلور أحجاما مشابهة للأشياء وبالتالي لا يجب اعتبار الخيال مغاير للفكر بل الوسيلة التي من خلالها يحل الفكر في الجسم ويقدر الجسم بدوره على أن يحتل مكانا في الفكر, لقد عزز ديكارت هذا التطور بتأكيده في كتاب الانفعالات على الدور البيداغوجي والأخلاقي الذي يقوم به الخيال للحد من القوى المنفلتة للعواطف الجياشة والأحاسيس الجارفة وجعل الخيال ملكة عاقلة موجهة ضد بعدها اللاّمعقول.
لقد واصلت الفلسفة الحديثة نفس التصور حول أهمية الربط بين الإحساس والخيال وحددت هذا الأخير بكونه القدرة التي تمتلكه النفس لكي تتمكن من تشكيل صور عن الأشياء  وحرصت على التمييز بين الخيال الانفعالي الذي يتأتي من الجسم والخيال الفاعل الذي يتأتى من النفس ويقدر على التحكم في الخطأ والغلط. في هذا السياق ربط سبينوزا الخيال بالتخمينات الخرافية التي يقع فيها المرء وتصوره في وجود الخرافة نتيجة التأثر بالخوف والابتلاء بالاعتقاد الضعيف بقوله:" كل ما نتخيل أنه يقود إلى الفرح فإنا نجد في الحصول عليه، وكل ما نتخيل أنه مناقض له أو يقود إلى الحزن فإنا نجد في إقصائه أو تحطيمه"7[7].
الغريب في هذا الوضع الحديث للفلسفة هو موقف مالبرانش في كتابه البحث عن الحقيقة الذي اعتبر فيه الخيال مجرد تجربة جنون تنتج مجانين ويمثل خطرا أخلاقيا ومعرفيا وذلك لتعارضه التام مع العقل وعدم قدرته على الخضوع للقواعد وبالتالي يجرف الإنسان بعيدا عن سبيل الحق ويقربه من الأهواء الهائجة.
جملة القول أن الخيال في الفلسفة الحديثة هو ملكة تمثل الأشياء التي لم يقع تسلمها في اللحظة من المحسوسات. من المعلوم أن الفكر التجريبي أكد على الفكرة المركزية التي ترى بأن الخيال هو الخاصية الأساسية التي تمنح القدرة على بلورة علاقات بين الأشياء ذاتها الأكثر تباعدا عن بعضها البعض. فماهو الدور الذي يؤديه الخيال الإبداعي في نظرية الفن في الزمن الذي تشكلت فيه الحداثة الجمالية؟
-         2- فعل التخيل والخلق الفني :
"الأعمال الفنية هي إشباع خيالي لرغبات لاشعورية وشأنها شأن الأحلام ، وهي مثلها محاولات توفيق، حيث إنها بدورها تجهد كي تتفادى أي صراع مكشوف مع قوى الكبت"8[8]
لا يستعيد الخيال صور عن الإحساسات الماضية ولا يقتصر على التكرار السالب والتفريق والاستحضار وإنما يجمع عناصر متباينة من إحساسات مختلفة ويؤلف مجموعات جديدة ويبتكر عن طريق استكشاف الفروض والأفكار من وراء الظواهر وتجاوز حدود الواقع والقفز في ميدان الحرية وممارسة الابتكار.
لقد تفطن أفلوطين في "التاسوعيات" بأن الخيال يمكنه أن يجري تشكيلا لصور عامة تساعد العقل على الصعود من مرتبة الإحساسات الكثيرة إلى المفاهيم الموحدة وتتيح اشتقاق الأشياء الحسية من الواحد.
لم يعد الخيال ملكة إنسانية فحسب وإنما أصبح لحظة من الوجود تماما مثل العقلnous والنفسpsyché. يحتاج الواحد إلى وجود عدد معلوم من الوسائط لكي تساعد على ولادة عالم الكثرة الذي يتكون من الموجودات الحسية. اللافت للنظر أن الخيال تماما مثل النفس يمثل المرتبة الوجودية الأقل بالمقارنة مع الوسائط الأخرى وفي هذا السياق يصرح أفلوطين:" من خلال الخيال تشكل النفس المادة وتمنحها حياة"9[9]. بهذا المعنى إذا كانت عقلانية القرن 17 عملت على إقصاء الخيال من ميدان المعرفة فإن تحالف آخر قد انعقد بصفة نهائية وحصرية بين الفن من جهة والخيال من جهة أخرى وقد أعاد هذا التحالف ما كان قائما في العصر الهيلينستي من اعتراف نظري بما تشير إليه الفانتزايا من صور تمنح الخطيب أو الشاعر القدرة على الإقناع والتأثير في السامعين. لقد ترتب عن ذلك ارتبط الخيال بالملكة التي تقول الشعر ولكنها تعاني من نقص في التشريع الذوقي وتحتاج إلى خصائص معيارية للتمييز بين الجيد والرديء وبين الجميل والقبيح. لقد ألف كانط في مذهبه الجمالي بين الأطروحة الأرسطية التي تثبت الوظيفة العرفانية للخيال والأطروحة الأفلاطونية المحدثة التي تعول على الخيال في عملية الربط بين الأشياء والمواضيع بوصفه أداة عميقة. لقد ميز كانط بين الخيال التكراري الذي يمتلك قدرة على استحضار مواضيع في الفكر كان الحدس قد انتبه إليها في مرحلة سابقة والخيال الإبداعي10[10] الذي يحوز على ملكة من الحدوسات الخالصة على غرار المكان والزمان11[11]. بعد ذلك وضع كانط الخيال في "نقد ملكة الذوق" إلى جانب الذهن والعقل في قلب نظرية الحكم واعتبره واحد من الملكات التي تتيح تجربة استيطيقية للجميل والرائع بواسطة اللعب الحر12[12]. 
اللافت للنظر أن الفلسفة النقدية مع كانط في نقد العقل الخالص قد تمكنت بشكل مبهر من إعادة الاعتبار لملكة الخيال ونظرت إلى الخيال المتعالي على أنه شرط إمكان التأليف بين الحدوسات الحسية والمقولات الذهنية عن طريق التخطيطاتSchèmes  . على هذا النحو لا تمثل التخطيطات صور-نسخ للوقائع المادية ولا تعيد إنتاج المعطى الحسي بل تعد شرطا صوريا خالصا للحساسية وتقوم بتمثل منهجي وتقوم ببناء الموضوعات والتركيب بين الأشكال والمضامين وبين الحدوسات والأطر وبين التمثلات والبني.
لقد ربط كانط قوة الخيال الخلاق بمجموعة من الأفكار الجمالية على غرار العبقرية والإلهام واللعب والحرية ومنحه دورا بارزا في التجربة الاستيطيقية وأكد على أن الجميل هو رمز للأخلاقيةmoralité .
لقد ساهم تشكل المفاهيم الكانطية الجمالية في ميلاد النزعة الرومانطيقية وقيام الفلسفة المثالية الألمانية مع فيخته وشيلنغ وهيجل. في هذا الصدد يمكن ذكر المحاولة التي قام بها فيكو Vico حينما قام بثمين للوظيفة العرفانية للخيال وكشف عن وجود كليات خيالية universaux fantastiques  تصل بين الشعر وتطور أشكال المعرفة الاجتماعية. من جهة ثانية لقد أكد شيلينغ على الوظيفة العرفانية للتخيّل وتعامل مع الخيال بوصفه المكان الذي يتوحد فيه المثالي والواقعي ، والطبيعة والروح بصورة أصلية واعتبره المنبع الذي ينبثق منه الفن من حيث أداة الفلسفة. في نفس الاتجاه جاءت محاولة هيجل في جعل الفانتازيا تقوم الوظيفة الإبداعية بتمييزها عن ملكة الخيال الذي ظل السابقون يتعاملون معها بوصفه ملكة إبداعية خالصة13[13].
لقد طور فريدريك شليجل ضمن إطار الفكر الرومانطيقي مذهب الخيال الفني حينما أطلق عليه تسمية "تنفس الروح"، وجعل مفهوم الخيال يلخص كل النشاط الذي بواسطته يقدر الإنسان على إدراك العالم وإنتاج آثاره، ولذلك نصص على إمكانية التطابق بين تاريخ الوعي وتاريخ الخيال وإنتاجاته الشعرية14[14]. لقد فتحت هذه إشارة شليجل الطريق إلى الفكر للخروج من الأزمة التي تعرضت لها المثالية الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر نحو تأسيس نظرية في الخيال تدرس النشاطات المختلفة والعميقة التي ترتبط بالإنتاجات الثقافية التي تتشكل على مستوى الوعي والتمظهرات المادية التي تتجلى على مسرح التاريخ.
 بيد أنه يمكن التمييز بين خيال خلاق يقتصر على إنشاء أشكال جديدة بالجمع بين الصور والأشكال وخيال تجديدي تختص مهمته في الاستشراف والاستباق والافتراض وإعادة بناء واقع جديد مغاير للواقع السائد.
 كما تعامل فرويد مع الخيال بوصفه مصدر الإلهام وخزان الإبداع وكشف عن تأثير الميولات اللاشعورية في السلوكات المنحرفة التي يقترفها الناس وعن ضرورة باطنية تتعلق بالحياة النفسية للإبداعات الفنية. " لقد اتضح أن مملكة الخيال ملجأ يتأسس خلال الانتقال المرير من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع، كي يقوم محل إشباع الغرائز التي ينبغي الإقلاع عليها في الحياة الواقعية. ينسحب الفنان كالعصابي من واقع غير يرضي إلى دنيا الخيال، لكن بخلاف العصابي، يعرف كيف يعود منه لكي يجد مقاما راسخا في الواقع"15[15]
ما يجب الانتباه اليه هو انتقال البحوث النفسية من دراسة اللاوعي عن الأفراد إلى الاهتمام به عند المجموعات ومن ربطه بالجانب الفزيولوجي العضوي الى تقصي دلالات أبعاده الرمزية والثقافية. لكن كيف ساهم ظهور اللاشعور الجمعي في نحت الفكر المعاصر لمفهوم جديد هو المخيال الاجتماعي؟ وماهي الوظائف الابستيمولوجية التي أصبح يقوم بها هذا التوقيع المستحدث في ميدان العلوم الانسانية؟
3- وظيفة المخيال في الفلسفة المعاصرة:
" لا نستطيع تملك السلطة الخلاقة للخيال إلا ضمن علاقة نقدية مع هذين الشكلين من أشكال الوعي الخاطئ ( الإيديولوجيا واليوتوبيا)"16[16]
 لقد قام جان بول سارتر بنقدcritique  وإعادة بناءreconstruction  جملة البحوث التي تتمحور حول الخيال17[17] وظلت تتحرك ضمن دائرة الفكر الوضعيpositivisme  وطرح نظرية نادرة عن المخيال18[18] قام باستلهامها من فنومينولوجيا هوسرل19[19] مثنيا على قوة مداهمة للواقع التي يمارسها الخيال على الأشياء والتي تمكن الوعي البشري من القدرة على التعالي على العالم كما هو معطى وتمنحه الحرية والتجاوز.
لا تفرق الفنومينولوجيا عند سارتر بين التخيل والإدراك الحسي إلا بالدرجة وليس بالنوع . في الواقع ليست الصورة شيئا يمكن أن يكون موضوعا للوعي بل تعني بالأساس علاقة تربط الوعي بشيء معين أو بعبارة أخرى هي الطريقة التي يظهر بها شيء معين للوعي. وبالتالي" لا يتميز كل من الخيال والذهن مطلقا بما أن المرور من الواحد الى الآخر ممكن بواسطة تطور الماهيات المحتوية في الصور."20[20]
في كلتا الحالتين التخيل أو الإدراك الحسي يبقى الشيء الذي أتخيله أو أدركه خارج الوعي فلا يمكن للإنسان القول بأن الشيء يوجد في إدراكه أو في مخيلته ويملك صورة مصغرة عنه. بناء على ذلك يساهم الخيال الخلاق في الإبداع الفني ويرتبط ميدان الجمال بوظيفة التخيل . علاوة على أن التأمل الفني يبتعد عن العالم الواقعي المادي ويعانق عالم الجمال الخيالي بل يخلق عالما جديدا.  كما أن صفة  الجمال لا تنطبق على  الرغبة في الواقع السائد ولا يتوقف على إعطاء صور وفية عنه بل تستوجب نفي العالم في بنيته الأساسية وتعدم وجوده المادي وترتمي في تجارب من الخيال حيث تعتبره النبع الذي يتدفق منه الإلهام والحدس ومصدر الهام قريحة الفنان وابتكار رموزه وأشكاله. من هذا المنطلق ،الذي يتحرك فيه سارتر على أرضية فنومينولوجية هوسرلية  تعود إلى الأشياء كما هي، يصرح " أن الواقع ليس جميلا البتة- فالجمال صفة لا يمكن أن تنطبق إلا على ماهو خيالي وتستوجب نفي العالم في بنيته الأساسية..."21[21]
والحق أن مفهوم المخيال يتعلق بالأفراد والجماعات ويتمثل في مجموع التمثلات والتصورات التي تترسب بالتنشئة ويتم تناقلها عبر الأجيال عبر المثاقفة التي يتم تعميمها عن طريق الدين والأدب والفنون والأساطير واللغة المتداولة والخطاب السياسي ووسائل الاتصال الحديثة وأنظمة الدعاية والإشهار.
من موقع مغاير في الفلسفة المعاصرة يحاول أرنست بلوخ أن يؤسس مفهوم المخيال ضمن استعادة تأويلية للفلسفة الهيجيلية والجدلية الماركسية بغية تطوير نظرية لليوتوبيا تتسلح بمفهوم معاضد لها هو مبدأ الأمل.
علاوة على ذلك عرف القرن العشرين ظهور نظريات جديدة حول المخيال خارج إطار اللقاء الذي تم بين بالديالكتيك والفنومينولوجيا تتقاطع فوق أرضية نفسية تحليلية مع كارل يونغ وأنثروبولوجية بنيوية مع غاستون باشلار والتي استعادها جاك لاكان بإعادة تأويل المدونة التحليلية النفسية التي تركها فرويد.
لقد تم وضع مفهوم المخيالimaginaire  مكان مفهوم الخيالimagination  ولقد ترتب عن هذا التغيير الدلالي فقدانهما لقسم كبير من الخصائص التي حملها عليهما الفكر الغربي طوال تاريخه الطويل ووقع إعادة تعريف المفهومين بحيث لم يعد الخيال يعني ملكة من بين ملكات أخرى وإنما الذخيرة الكبيرة للأساطير والرموز والإبداعات الشعرية وبالتالي هي ملكة قادرة على تحليل إنتاجاتها بالكف عن الصعود إلى مصادرها الأولى وأصولها الخفية وذلك بالعمل على إدراك دلالتها بواسطة بناها الداخلية الفارقية.
كما تعامل فرويد مع الخيال بوصفه مصدر الإلهام وخزان الإبداع وكشف عن تأثير الميولات اللاشعورية في السلوكات المنحرفة التي يقترفها الناس وعن ضرورة باطنية تتعلق بالحياة النفسية للإبداعات الفنية.
" لقد اتضح أن مملكة الخيال ملجأ يتأسس خلال الانتقال المرير من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع، كي يقوم محل إشباع الغرائز التي ينبغي الإقلاع عليها في الحياة الواقعية. ينسحب الفنان كالعصابي من واقع غير يرضي إلى دنيا الخيال، لكن بخلاف العصابي، يعرف كيف يعود منه لكي يجد مقاما راسخا في الواقع"22[22]
إذا كان باشلار قد اعترف للخيال بوظيفة تكاملية مقارنة بالفكر العلمي لمساعدته على التجريد والافتراض وبناء الأحلام وبناء التجارب واستنتاج القوانين لكونه يمثل عاملا محركا للتقدم والتطور فإن لاكان يحمل موقفا جذريا تجاه المقولات التقليدية ويتعامل مع المخيال بوصفه المكان الذي توضع فيه الصور الخاطئة والمشوهة التي يشكلها الأنا عن ذاته منذ المرحلة التي يبدأ فيها بالنظر إلى ذاته عن طريق المرآة والتي يبدأ فيها الأنا تثبيت كل طاقاته الليبيدية حول رغبات محددة تخص علاقة العالم الفردي بالمحيط الخارجي.
لقد تم تأشير تجارب المخيال في ثبت الهوية بواسطة طبائع خاطئة لا يمكن العلاج منها والتي توقع المرء في جملة من الإخفاقات المتواصلة وتراكم الفشل والإحباط وتسقطها في تجارب متعاقبة من خيبات الأمل. على خلاف ذلك يبقى التاريخ الحقيقي للأنا يجري في مستوى الرمزي الذي يختص بالحركية والبنية الفارقية التي تسعى جاهدة إلى الربط بين النسق الداخلي الذي تتكون منه اللغة وطابع الاتفاق الاجتماعي.
هكذا يكون لكل مجتمع متخليه المشترك بين الأفراد الذين يتكون منهم ولكن شخص المخيال الاجتماعي الذي يخصه ويحدد نمط سلوكه وطبيعة فعله وحدود اجتهاداته وطريقة رد فعله عند الشعور بالمخاطر. لكن هل يساهم المخيال في تجييش الناس وتضخيم الأحداث أم يعمل على تلطيف الواقع وتجميل العالم؟
خاتمة:
" هكذا تتشابك روابط متعددة بين الاجتماعي والنفسي عبر وساطة المخيال"23[23]
بقيت الفلسفة لفترة طويلة تعتبر الخيال ملكة تشكيل الصور في مستوى ثان وتقرنه بالفانتازيا وتجعل منه ملكة للجمع بين الصور في لوحات وفق التتابع الذي يحاكي وقائع الطبيعة لكن دون أن يمثل أي شيء في الواقع ودون أن يعكس الموجود وبهذا المعنى توزع بين خيال تصويري وخيال تكراري وخيال إبداعي.
إذا كان الخيال التكراري يلعب بطريقة انفعالية وبإتباع المجرى الطبيعي للترابطات والاقترانات فإن الخيال التجديدي يستمد تمرده على الواقع من قدرة الفانتازيا على تشكيل تجميعات رهيبة ووحشية وينتج جملة من المواد العجائبية التي تدهش العقول وتحير القلوب وتشوش بداهة النظر في العيون وتعبر عن حرية الفكر وقدرته على خلق صور غير متوقعة وغير منتظرة ومتناقضة مع مقولات المنطق المعتاد.
أما المتخيل الاجتماعي فقد ربطه علماء الأنثربولوجيا في الحقبة المعاصرة بالزمن الآتي والقدرة الاستشرافية بالمستقبل وذلك من أجل الانعتاق من الحاضر البائس والتخلص من سيطرة الواقع وإنشاء مملكة الخلاص الجماعي وذلك بإعادة توليد العالم وذلك بانتظار ظهور المخلص والخروج عن المألوف والانفلات من التاريخ بالانجذاب الجماعي إلى  سلوكات انفعالية وإنشاء نظام اجتماعي أشبه باليوتوبيا.
لقد سبق لفرويد أن ربط بين الحالات الوجدانية للشعوب والتمثلات السياسية وبين الدوافع اللاشعورية الجماعية والمضامين المتخيلة أثناء الصراعات بين القوى الاجتماعية وأقر بوجود استثمارات وجدانية للمتخيلات أثناء حالات الشدة وعند التعرض للخطر من اجل تكثيف نقاط المقاومة والمحافظة على الذات.
كما يؤكد فرويد على أن عمليات إنتاج الحلم هي عمليات إنتاج خيالي تعبر عن عمليات لاشعورية دفينة وان رجوع الإنسان إلى التخيلي في السخرية والنكتة هو بمثابة بحث اقتصادي عن مصدر اللذة والتخلي المؤقت عن بذل الجهد في عملية الكبت والمقاومة وما يرافق ذلك من تخلص من الإرهاق وتفادي الألم.
لقد كانت وظيفة الخيال متمحورة حول الابتعاد والتجاوز والإثارة والانزياح والتكثيف والتدمير وتم استعماله في عمليات التدمير والهدم والإغارة على الواقع قد إعادة تشكيل العالم وإعادة البناء لواقع جديد. كما ظل المخيال يساهم في إقامة الروابط بين غرائز الأفراد والمؤسسات الاجتماعية تفاديا للضغوط الخارجية والكبت الباطني ويدعم الشكل السائد من الحياة أو يعمل على إضعافها واستبدالها بأغيارها.
في هذا السياق تحدث جيلبر دوران عن المخيال الرمزي24[24] وبحث عن البنى الأنثربولوجية للمخيال ضمن مشروعه الناقد للأنطولوجيا النفسية والتائق نحو بناء تأويلية رمزية تقوم بوصف فنومينولوجيا لمحتويات المخيال وتتجاوز التمييز الذي تجريه الخطابة الكلاسيكية بين معنى حقيقي ومعنى مجازي وتشتغل على الترسيمات الذهنية الأصلية والنماذج الأساسية لكل مخيال إنساني وتقر بقابلية البنيات الأنثربولوجية للتغير والتحول وضرورة تجميع الموارد اللغوية الأولية التي يستعملها المخيال الرمزي في الإبداع وقصد بناء المخيال الرمزي العام وتستنتج عدم إمكانية ترجمة النموذج الأصلي إلى لغات مغايرة عن رحمه الأول[25]. لكن إلى أي مدى يساعد نقد المخيال على استخراج النواة الأساسية التي سيكون عليها المجتمع البشري في المستقبل؟ وبأي معنى يحمل في رحمه الردود الممكنة على تحديات يمكن أن تواجهها الحضارة الراهنة؟وما الفرق بين الوظائف الاجتماعية للمتخيل الفردي والوظائف النفسية للمخيال الاجتماعي؟
الهوامش والإحالات:
[1] Platon, Timée, 71a, sq
[2] Aristote, de l’âme, III, 3, 429a 1
[3] Aristote, de l’âme, III, 3, 429b 18-30
[4] Aristote, de l’âme, II, 3, 429a 2
[5]  هوبز (توماس) ، اللوياثان،الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب حرب/ بشرى صعب، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011. القسم الأول، في الإنسان، 2 في الخيال، ص.27.
[6] Hobbes Thomas , Léviathan, 1651 , I,8
[7]  سبينوزا (باروخ)، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، الجزء الثالث: في أصل الانفعالات وطبيعتها، القضية 28، دار الجنوب، تونس، طبعة أولى، 1991، ص193.
[8]  فرويد (سغموند)، حياتي والتحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، طبعة 1981، ص75.
[9] Plotin, Ennéades, IV, 4, 13.
[10] Kant (Emmanuel), critique de la raison pure, §24
[11] Kant (Emmanuel), Anthropologie de point de vue pragmatique, I,
[12] Kant (Emmanuel), critique de la faculté de juger, taduit par A. Philonenko, Librairie Philosophique, J. Vrin, Paris, 1982.
[13] Hegel, Encyclopédie, §455-457
[14] Schlegel Friedrich, le développement de la philosophie, V
[15]  فرويد (سغموند)، حياتي والتحليل النفسي، مرجع مكور، ص75.
[16] Ricœur (Paul),  De Texte à l’action, essais herméneutiques, II, édition du Seuil, Paris,1986, p391.
[17] Sartre (Jean Paul), l’imagination,  édition PUF, Paris, 1936
[18] Sartre (Jean Paul), l’imaginaire: psychologie phénoménologique de l’imagination, édition Gallimard, Paris, 1940, IV,
[19] Sartre (Jean Paul), l’imaginaire, op.cit, IV,
[20] Sartre (Jean Paul), l’imagination, op.cit, p13.
[21] Sartre (Jean Paul), l’imaginaire, op.cit, IV,
 [22]  فرويد (سغموند)، حياتي والتحليل النفسي، مرجع مذكور، ص75.
[23] Ansart (Pierre), l’imaginaire social,  Encyclopédia Universalis, lien : http://www.universalis.fr/encyclopedie/imaginaire-social/
[24] Durand Gilbert, l’imaginaire symbolique, édition PUF, Paris, 1964, 1998.

الأحد، 15 مايو 2016

المرأة بين ليليث وحواء ـ هادي معزوز

عن أنفاس نت 



تحكي الكتب القديمة خاصة التلمود وكتاب القبّال اليهودي، أن حواء لم تكن الزوجة الأولى لآدم، وإنما كان على علاقة زواج قبلئذ بسيدة، مخلوقة هي الأخرى على طريقة آدم والتي ليست إلا ليليث Lilith، شيطانة الفجور والفسق كما يلقبها البعض، أو المرأة المتمردة كما يحلو تسميتها بالنسبة للبعض الآخر، لكن حدث أن تم إخراجها من الجنة وذلك بسبب رفض خضوعها المطلق لآدم، ودعوتها إلى الحرية الجنسية بدل الانصياع باسم الزواج، بيد أنها وكرد فعل على هذا الإجحاف الذي لحق بها، أخذت على عاتقها مهمة امتصاص الطاقة الجنسية للرجل خلال فترة النوم وذلك انتقاما منه، وانتصارا للقدرة الأنثوية على فعل الانتقام.
    عندما نتعمق في الأمر أكثر، نعثر بين ثنايا ملحمة جلجامش أن ليليث أو نَعْمَة Naama ، كانت دوما ضد الخضوع الجنسي للرجل، وهو الأمر الذي كان سائدا قبل هاته الحقبة بكثير خاصة في القصص اليهودية القديمة، لقد كانت لآدم امرأة قبل حواء اسمها ليليث، بيد أنها رفضت دوما أن تكون خاضعة لسلطة الرجل خلال الممارسة الجنسية، بل إنها أن يكون الرجل دوما أسفل المرأة خلال لحظات الجماع، محاولة بذلك تجاوز الهيمنة الذكورية إن رمزيا أو ماديا والتي شكلت دوما عنوان العلاقة بين الرجل والمرأة، لكن السماء غضبت من هذا التمرد اللامتوقع فحدث أن تم إنزال اللعنة على ليليث، بحيث حوكم أن يموت أبناؤها عند لحظة الولادة، ليتزوج آدم بعد ذلك سيدة أخرى والتي ليست إلا حواء بطبيعة الحال.
عندما نعود إلى الدلالة الإيثيمولوجية نجد أن كلمة ليليث تعني روح الرياح، التي تحضر دوما في كل صراع ثنائي بين الرجل والمرأة، بقد عملت ليليث انطلاقا من ذلك على إبقاء وجودها كقوة تثأر من هاته العلاقة اللامتكافئة بين الرجل والمرأة، بيد أن آدم لم يستسغ هذا الأمر فأرسل في طلبها ثلاث ملائكة وهم على التوالي: سنوي، سنسوي، سمنج، إذ عثروا عليها في البحر الأحمر حيث خيروها بين العودة إلى آدم أو معاقبتها وذلك بقتل مائة ابن لها خلال اليوم الواحد، على العموم رفضت ليليث أن تعود إلى آدم متوعدة الجميع برد فعل أقوى من هذا الذي هددت به، فحدث أن تدخلت بداية في الصراع الذي كان دائرا بين الإخوة الأعداء قابيل وهابيل، وبقية القصة يعرفها الجميع طبعا.
هذا ونظرا لقوة حضور ليليث في التاريخ، فإنها لم تحضر فقط في الديانة اليهودية، وإنما كان لها أيضا حضورا قويا عند جل حضارات الشرق، فليليث اليهودية هي الغولة التي تأكل الصغار في المتخيل العربي، وهو ما يبرز تكريس انتقامها بقتل الأطفال كرد فعل على قتل أطفالها، كما أن ليليث هي اللات عند عرب قبل الإسلام، بل إنها تضرب بجذورها في الحضارة السومرية حيث نجدها تأخذ اسم ليل ـ إيتي أي إلهة رياح الجنوب وزوجة الإله أونليل، في مقابل ذلك وعندما نعود إلى ليليث أو اللات عند عرب ما قبل الإسلام، نجدها تجسيد لمؤنث الله، فنقول اللات في مقابل الله، إنها رمز متمرد على كل سلطة ذكورية، وموقف من كل هيمنة باسم التفوق الجنسي.
عرفت اللات بتلك الإلهة التي تحمل يدا "خميسة" وهو الأمر الذي جعل العديد من العرب يسيرون على نفس المنوال، حيث لازالوا لحد الساعة يتبركون بهذا الرمز معتبرين إياه فأل خير، سواء عند اليهود باسم ليليث، أو المسلمين باسم اللات، حيث تسمى عند العرب بيد فاطمة، وفاطمة هو الاسم الثاني لليث، لهذا قد لا نتعجب عندما نرى النبي قد أطلق هذا الاسم على إحدى بناته، وذلك نظرا لتأثير تقاليد وثقافة العرب القديمة على النبي الجديد، في حين أن  اليهود يطلقون عليها يد مريم، والتي يضعونها طردا للعين الشريرة التي تعود على صاحبها بعد ذلك.
المرأة انطلاقا من كل هذا امرأتان، امرأة خاضعة للهيمنة الذكورية دون نقاش للأمر، وأخرى رافضة ومتمردة على كل استبداد باسم الذكورية، والحال أن الحديث عن ليليث وحواء، إنما له من الرمزية ما يجعلنا نثير وضعية المرأة كامتداد لحواء التابعة والخاضعة دوما، في مقابل ليليث المتمردة والساعية إلى حرية من خلالها تتخلص من سلطة الذكر، على العموم كلنا نعرف كيف تنظر مجتمعاتنا إلى المرأة، حاصرة إياها في المطبخ وغرفة النوم، بقدر ما نعرف أن الانصياع أيضا بات من طبائع ومن شيم النساء، وهو الخطر الذي طالما هددنا ولازال يهددنا بمرض مزمن اسمه الانغلاق والهيمنة الفارغة التي لا أساس لها سوى التوهم بأشياء نجهل طبيعتها، ومنه فهل يا ترى ستبقى المرأة العربية حواء في انصياعها، أم ليليثًا في تمردها على كل قوة مهيمنة؟   

ارحموا أطفالنا ......... كفانا واجبات منزلية محمدأبوولي



قضت الإنسانية مئات السنين للتثقيف و تعلم أشياء جديدة من أجل تعايش أفضل بين الأمم و تسهيل بأكبر قدر ممكن حياة الفرد و تحقيق سعادته . رغم ذلك ، مازالت هنا قضايا و إشكالات تطرح و تحتاج إلى أجوبة حقيقية في طرق تدبير التعلم . إلى حد كتابة هذه السطور لا يوجد سبب يبرر ، في نظري، فرض واجبات منزلية يومية للتلميذ. فبعد معاقبة ملايين التلاميذ على عدم إنجازهم للتمارين المنزلية بشتى أنواع العقاب ما هي النتيجة ؟ و هل فعلا يتحقق المراد من ذلك؟
صرح هاري كوبر Harris Cooper أستاذ بجامعة دوك بكارولينا الشمالية مؤخرا لم نحصل بعد على دليل أن الواجبات المنزلية تمكن من جعل الأطفال أحسن التلاميذ ‟ . انطلقت مجموعة من الدراسات منذ 1989 و أتبث أن التلاميذ يستوعبون أكثر من خلال الدروس المنجزة بالفصل، بالإضافة إلى أن الواجبات و التمارين التي يطالبون بها بالمنزل تحرمهم من أوقات مهمة يمكن استغلالها في أنشطة لا تقل أهمية لنموهم و تكوين شخصيتهم .
كما أكد الاستاذ إتا كرالوفيك من جامعة أريزونا نتائج هذه الدراسات : « الواجبات التي يطالب بها الاستاذ تلامذته لا تجدي نفعا ...».   كما تؤكد مجموعة من التجارب أن التلميذ الذي يخصص ساعة للدراسة يوميا يحصلون عل نتائج أفضل من الذين يخصصون أكثر من ساعتين ، يعني أن ساعة على الأقل تذهب هباء و يمكن استغلالها في أنشطة موازية نراها تافهة قد تكون حلا ناجعا لمعالجة إشكالات نفسية و حسحركية ...
أخصائيون آخرون يؤكدون أن تلك الواجبات المنزلية تؤثر سلبا على مزاج التلاميذ و خاصة ما دون سن الثانية عشرة  لأن التعلم يجب أن ينظر له كنشاط ممتع و تعلم أشياء جديدة يجب أن يثير اهتمام الطفل . أما الواجبات المنزلية فهي تعنيف للأطفال و تجعلهم ينفرون المدرسة . بالإضافة إلى ذلك كله فهي تشجع الاتكالية : فمن العادة أن الآباء يساعدون أولادهم و الكثيرون منهم ينجزون بأنفسهم تلك الواجبات و يفقد بذلك التلميذ معنى المسؤولية و يعتبر تلك الفروض نوع من العقاب اليومي : إذا لم تنجز تمارينك لا يمكنك اللعب مع أصدقائك . جملة تتكرر باستمرار
في المقابل ، لو اختفت تلك الواجبات المنزلية لأقبل التلميذ على التعلم بحماسة و يجد في الذهاب إلى المدرسة متعة ليتعلم الجديد. و أكدت الدراسة أن التلاميذ الذين لا يطالبون بتلك الواجبات يسترجعون شغفهم للدراسة و متعة الحياة
لم تكف المنظمة العامية للصحة  OMSعبر ممثليها بالأمم المتحدة  من مراسلة الجهات المعنية من أجل المطالبة بحذف الواجبات المنزلية من الأنظمة التربوية في العالم 

الثلاثاء، 10 مايو 2016

حياة خطاب.. بئيس : بواسطة محمد طاروس

www.alaoual.com


قبل الولادة
يأتي الربيع عاصفا. يدمر أركان الخطاب القديم، يدك حصونه البلاغية والمعجمية.. تتساقط نماذجه تباعا.. ينبعث خطاب جديد. يركب أجسادا محتشدة في الساحات والميادين، يتجسد دما، نارا، حرائق جسدية، مسيرات احتجاجية، اعتصامات، لافتات، شعارات، جملة صغيرة جدا “ارحل”. تقوض الأنظمة. ينهار الخطاب.. يأخذ خطاب جديد في التشكل.
الولادة
في حكايتنا.. يختلف السيناريو .. يختلف الإخراج.. يختلف الإيقاع.. تجري الحكاية في حبكة فريدة.. حكاية خطابية محضة..يحمي الخطاب الأركان القديمة..يرمم صروحها.. تترمَّم ذاتُه. يستعيد قوته وتوهجه.. تتحرك الآلة الجديدة القديمة.. تركب على قارب الاستثناء.. تجعل الاستثناء حقيقة خطابية، واقعا بلاغيا، نواة تلتقي حولها الخطابات والذوات. تطمئن الذوات على مواقعها. تزحف خارج خنادقها.. تتهادن، تبحث عن موقع في البناء الجديد. تلتف حول النواة. تغذي الخطاب .. تتغذى من الخطاب. يسود منطق التوافق، منطق المقايضات، التنازلات، إرجاء ال يتولد المشروع .. يصاغ الناموس الأسمى. تباركه الأجساد الخائفة .. المرهبة.. الضالة. تتلاقح الخطابات.. تتناسل.. تنهض خطابا وحيدا سويا.
الترهل
تنحرك الآلة..يستوي الخطاب. تصاغ حكومة جديدة، بألفاظ مجددة. تسوي خطابها على عجل، تستمد روحه من خطاب التوافق.. المشترك. يحمي الصروح.. يحتمي بالحصن الجماعي. يظل يدور.. يطوف حول الهيكل.. يلوك مقولات جوفاء: [ الاستثناء، السلم، الاستقرار، المصلحة العامة، النموذج المغربي,,.] يتعب من الطواف.. يسأم.. بمل .. يتعب من اجترار الذات..يجمد.. يفقد التوافق قوته الدافعة.. يتبدى زيف التوافق.. يدب الزيف إلى نواة الخطاب.. تفقد عباراته الجوفاء طنينها.. يتحول صراخا، زعاقا، قصائد رومنسية .. رسائل غرامية.. يائسة.. هراوات..عنفا ودما..تفقد الحكومة بلاغة الولادة..تبتلع المعارضة لسانها، صوتها المبحوح..يحلق الخطاب الأسمى في عليائه.. يتتبع المشهد البئيس..
الانهيار
تضيق بنية التوافق… تقاوم التمزق بخيوط وهمية.. يستنفذ الخطاب أدواره، يفقد قدرته على التجدد، على التكريس.. يفقد انسجامه الداخلي. يسوده الاضطراب، يعتريه التهافت. يختفي وراء عالم وكائنات غرائبية. يناور. يهدد. يهادن. يطمئن.. يهاجم أعداء الماضي. يرهب.. يتباهى.. ينسحب.
ينفجر التوافق. يتبارى الخطباء الجدد في لمِّ أشلاء الخطاب. يجَمّعون بقايا فلول التعابير الهاربة. يلتقطون عبارات شاردة، تراكيب متروكة، أساليب مطروقة. يزرعون بلادة. يحصدون سخرية. ينبعث الماضي من رماده. تسخر الأركان من الريح الناعمة. ينفجر الخطاب، تتدمر آلته الحجاجية. يبكي. يتباكى. يتظاهر باللامبالاة. يسود الصمت. يعود العداد إلى نقطة الصفر. يطفو الخطاب الجسدي من جديد. ينبعث في الميادين والساحات المحروسة. يتسلطن العنف.. يتمزق البساط الحكومي المزركش، تتباعد ألوانه.. تعاد صباغة البساط من جديد. بساط أخرس.. تتوارى خلف العبث الصبياني البذرة الحبلى، النواة الصلبة في انتظار خطاب جديد، طموح، مختلف، يتغذى بالمواجهة، ينتعش بالصراع، يستشرف الآفاق البعيدة.
الموت
يطفو على الشاشة مشهد ما قبل الولادة..ليل بهيم. ريح صاخبة. أمواج عاتية عابثة..محيط ممتد بدون حدود.. يضيع المركب الصغير في الامتداد.. تتمزق الأشرعة.. تتآكل الحبال.. تتفكك الأجزاء.. ينفجر المركب اشلاء.. تستحيل اللوحة الربيعية الرومنسية مسخا بشعا، فظيعا. تتمرد الألوان. تعصى الخطوط، تتشتت الأشكال نقطا متناثرة. يتبخر الخطاب.

هندسة “الرأي العام” عبد العزيز سلامي

www.alaoual.com




 في مجتمعاتنا التقليدية التي اصطدمت بالتقنية ، صدفة، أصبح من الممكن أن شخصا يحمل ثقافة محدودة و مستوى دراسي متدني أن يصير صحفيا و مستشارا و مدافعا عن قضية و طنية في حكومة، و صانعا للرأي العام. سلوك كهذا، هو نوع من ضرب لقيم المدرسة و الجامعة و المبادىء التي يتكون بها الحس السليم و الحس المشترك. لنطرح الأسئلة الجادة، فلقد أصبح الفيسبوك و المواقع الاجتماعية و القنوات الإذاعية و المسارح، والسينما، يصنعها شباب لا ثقافة لهم، غير اتباع الموضة. فالخطر قادم من هذه الوسائل التواصلية التي اقتحمها الجهل و الأمية و الوصاية والمناورة و المال. وإن لم يتصد لها المثقف، الأستاذ و الفيلسوف و المسرحي الملتزم و الممثل الذي يحمل رسالة، فإننا سنجد كل هؤلاء يتجاوزهم هذا الطوفان الحامل للجهل والتجهيل. ليس الأمر من تدبير شخص بعينه، يريد أن يحقق هذه الغايات، و إنما العصر، قد فتح له آفاقا رحبة و مساحة كبيرة للتعبير و التعبئة الجماعية، ودائما بوسائل التسلية و الصورة. لنستيقظ و ننظر للحقيقة المرة. من منا لم تبدأ حياته الشخصية تُقتحم بدون استئذان، و تٌساءل بوسائل الجهل، على شاشة التلفزيون وعبر الراديو وعلى الأنترنيت ؟ من منا لم يَحن للماضي، لعله يرى عملا فنيا مُتقنا، و سماع أغنية تطرب؟ الرأي العام لا يُشكل فحسب من خلال ما تقدمه الدولة أو تُدافع عنه، بل أصبح المجتمع المدني يشارك في صنع هذا الرأي العام. وإن ، في سنوات مضت ، كان يشكل (الحزب) اليساري أو اليميني هذا البديل للرأي العام، فاليوم هو كذلك، خاضع لتأثيرات الحس المٌشترك الذي لا يفقه، ولكنه بالمقابل أصبح يشكل أغلبية، فالأمية و الجهل بالأخلاق، وانعدام الإحساس بالمسؤولية، يشكلون أغلبية عددية، وذلك راجع لأسباب نُلخصها في العوامل التالية : ـ استقلالية المدرسة، و خضوعها لمبدأ النجاح العددي على حساب الجودة، ـ انعزالية المُثقف قبل الأوان، لأنه في المجتمعات المتقدمة ( الشاعر و السينمائي و الكاتب) لهم أدوار فنية و ليس سياسية، و لكنهم يؤثرون بذلك في الرأي العام بأعمالهم. في حين أن بلداننا لا وسائل لها لمسائلة العمل الفني أو قراءته، وكأنه بعد مُفارق للمجتمع، ـ أصبحت القيم الغربية الرأسمالية تؤثر على البنيات التقليدية للمجتمعات و تُفككها من دون أن تُبدلها، أو تُعوضها بشيء، فمثلا أصبحت قيمة ( الشباب) عملة سائدة و مُؤثرة في الاقتصاد الثقافي و السياسي لهذه المُجتمعات، لهذا تجد الشباب هم من يؤثرون في المجتمع بشكل مُباشر، من خلال قيم “ساقطة” و غايتها مادية محضة، و شعبوية، عن وعي أو بدون وعي.