السبت، 27 فبراير 2016

الغير مألوف في المألوف، أو نقد الحياة اليومية ـ عبد السلام ديرار

عن أنفاس نت

I - تحديد مفهوم "اليومي":
يعتبر لفظ "يومي" من الألفاظ العربية الفصحى، وهو مشتق من اسم "يوم"، وفي معظم المعاجم العربية، نجد هذا اللفظ يرتبط بما يتم تكراره كل يوم دون انقطاع، فتم التمييز بناء على ذلك بين "اليومي" و"الأسبوعي" و"الشهري"…الخ. وهو نفس المعنى الذي يشير إليه لفظ "quotidien" في الفرنسية في كل المعاجم الكلاسيكية (quotidien : de tous les jours). كما أنه نفس المعنى تماما الذي يحمله اللفظ في الإنجليزية (quotidian : recuring every day). 
أما كلمة "اليومي" في بعدها العلمي، فلا تكتسب المفهومية إلا ضمن فرع محدد من فروع السوسيولوجيا جد حديث هو سوسيولوجيا الحياة اليومية، لأن الاهتمام بالحياة اليومية كموضوع للسوسيولوجيا حديث النشأة بالمقارنة مع جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى كون السوسيولوجيا نفسها كعلم، حديثة بالمقارنة مع فروع أخرى من المعرفة الإنسانية. يقول إرفينغ غوفمان Erving Goffman الذي يعتبر اليوم من أبرز الوجوه الأمريكية المهتمة بالحياة اليومية "يوجد مجال حيوي لم يكن بعد موضوعا للدراسة العلمية بالشكل الكافي، وهو المجال الذي توجده التفاعلات وجها لوجه في الحياة اليومية، هذه التفاعلات التي تبنيها معايير للاجتماع والتواصل"(1). ومعلوم أن بحوث إرفينغ غوفمان شملت جوانب متعددة من الحياة اليومية بالمجتمع الأمريكي، كالعلاقات الطقوسية (اليومية) بين نساء الحانات والزبناء المدمنين، وما يطبعها من إشارات ورموز وحركات إغراء… وكل ما هو مألوف بين جدران الحانة ويلزم تحليله وتفكيكه حسب غوفمان، وكالتفاعلات الحاصلة في محطات انتظار الحافلة أو الميترو وما يحدث من استفزازات (عنصرية) بين الرجل الأسود مثلا والنساء الشقراوات أو العكس. ثم أشكال الحركات والإشارات التي تعتمدها التعبيرات الجسدية (سواء عند الرجل أو المرأة)…، وغير ذلك من جوانب الحياة اليومية المتداخلة في المدن الأمريكية الصاخبة، هذه الحياة اليومية التي يرى غوفمان أنها العلاقات التي تكونها مجموعة من الأشخاص والأشياء، هذه العلاقات التي تحكمها قواعد مقيدة (restrictives) أحيانا وغير مقيدة أحيانا أخرى، يمكن الوصول إليها(2).
يبدو "اليومي" في دلالته العلمية المبنية كمفهوم يشير إلى مجال هو مجال الحياة اليومية، هذا المجال الذي لا يمكن اختصاره في تعاقب زمني للحظات مختلفة (صبح، ظهيرة، عشية، مساء)، ولا في مجرد انتقال الإنسان من العمل إلى تلبية الحاجات الحيوية، إلى "راحة" واستكانة". كما لا يمكن رده إلى ما يتم تكراره يوميا أو أسبوعيا، أو شهريا…الخ، ذلك أن مجال الحياة اليومية مجال جد شاسع لأنه يشمل كل جوانب المعاش يوميا في كل أبعاده الإنتاجية والسياسية والنقابية والثقافية والترفيهية… ويمتد ليشمل التافه والعادي… في السلوك اليومي والذي قد تكون له قيمة أساسية في تفسير وفهم العديد من الظواهر.
والخوض في الحياة اليومية ليس جديدا كل الجدة، كما لا يرتبط بنشأة سوسيلوجيا الحياة اليومية، بل اتخذ مكانة بارزة -ومنذ أمد بعيد- ضمن اهتمامات المؤرخين والفلاسفة والصحفيين، والأدباء والفنانين على الخصوص، إلا أن الجديد في اهتمام سوسيولوجيا الحياة اليومية هو السعي إلى بناء "اليومي" علميا.
II - اليومي والمعرفة العلمية:
يتضح من خلال تحديد مفهوم "اليومي" أنه مفهوم يشير إلى مجال جد شاسع، وبالضبط إلى ميدان متعدد الجوانب، تتداخل فيه كل أشكال النشاط الإنساني، خصوصا وأن الأمر لا يقف عند حدود الإنتاجي والسياسي والنقابي والثقافي… المباشر، لأن الحياة اليومية الخاصة لبنية اجتماعية-مجالية ما "لا تعبر عن نفسها بطريقة جد مستقيمة وواضحة. إنها مكونة من نكث وأفعال بسيطة جد متعددة. إنها مرتجة ومنفجرة. إن لها غموض الظلمة القاتمة"(3). وقد سبق لهنري لوفيفر Henri Lefebvre صاحب الدراسات الكلاسيكية حول الحياة اليومية(4) أن اعترف بالقول: "بلغة واضحة وصريحة، فالغموض خاصية من خاصيات الحياة اليومية، ويمكن أن تكون خاصية أساسية"(5). بمعنى أن اليومي ليس مكشوفا وعاريا على الدوام، بل هو مجال للإخفاء والتظاهر والنفاق والزيف والاستلاب والتعبير الغير مباشر عن المواقف والحاجات… يتضح ذلك حين نأخذ في الحسبان المكانة التي تحتلها اللغة في اليومي، واللغة محددة كل التحديد، ليصبح اللسان لا مجرد شرط للحياة الاجتماعية، بل نمطا لهذه الحياة(6) بما يعنيه ذلك من إكراهات خاصة بكل نمط تساهم في تحديد الملامح الأساسية للحياة اليومية بهذا المجتمع أو ذاك.
يزداد -إذن- اتساع مجال اليومي كلما تجاوزنا المعطى المباشر إلى نقده وتفكيكه. وإذا كان تفكيك الأفكار/النصوص يفضي إلى مشاريع فكرية/فلسفية، فإن ممارسة التفكيك هنا بصدد مكونات الحياة اليومية، أي ممارسة تفكيك الوقائع من شأنها بناء نظرة علمية عن اليومي والجوانب المكونة له والفاعلة والمنفعلة فيه. بل لا يقتصر الأمر على إعادة إنتاج اليومي نظريا ونقديا فقط، وإنما (وهذا جد أساسي) إرساء قواعد وأسس للحياة اليومية الصحيحة والخلاقة على دعائم علمية وموضوعية. ومن شأن ممارسة التفكيك على اليومي أن تكشف العجيب (l 'extraordinaire) في المألوف، إذ "من أجل الهروب من القلق والتوتر، يشكل القناع والحيلة والنفاق عناصر مهمة في سيرورة الطقسنة. فإذا كان كل واحد يتقدم مقنعا، وإذا كان الملبس والمسرح لهما أهمية كبرى في بناء اليومي، فلأن ذلك يعني أن الحياة اليومية تلتقي مع المسرح إلى حد بعيد، وتلتقي مع ألعاب الطفولة بشكل أكبر"(7). وهنا تزداد أهمية النقد القادر على إزاحة الأقنعة وكشف الحجب حتى تتسنى معرفة وقائع الحياة اليومية وبنائها علميا، هذه المعرفة المرتبطة بمعرفة المجتمع ككل، إذ لا معرفة بالحياة اليومية بدون معرفة للمجتمع ككل، ولا معرفة بالحياة اليومية، ولا بالمجتمع، ولا بوضعية الأولى في الثاني، ولا للتفاعل الحاصل بينهما دون نقد جذري لهما معا(8). إن جوانب الحياة اليومية متشابكة ومتكاملة، وعلى هذا الأساس تفهم الصعوبات الإضافية التي يتحدث عنها السوسيولوجيون المختصون في دراسة اليومي، لأنه لا مجال لشيء اسمه "ثانوي" أو "هامشي" في الحياة اليومية لبنية اجتماعية-مجالية ما أو لشريحة اجتماعية ما، بل إن "الثانوي" في مجال اليومي قد يكون فاعلا ومحددا. و"إنه لمعروف جدا في قرية أو في حي أن إغلاق مقهى أو دكان لأبوابه [والذي قد يبدو ثانويا] يعني شيئا من الحياة وقد توقف"(9).
وليس هذا التقدير لـ"الهامشي" و"الجزئي" و"الثانوي" حكرا على سوسيولوجيا الحياة اليومية، بل إن كارل ماركس كان قد أقام مشروعه العلمي بناء على دراسة أشكال الحياة اليومية في المجتمع البورجوازي. يقول لنين في هذا الصدد:" إن ماركس في كتابه رأس المال يحلل أولا كل ما هو بسيط، وكل ما هو مألوف، وأصلي، وكل ما هو متواتر عند جميع الناس في الحياة اليومية، وكل ما نلاقيه في كل حين… وإن تحليله يكشف في هذه الظواهر الأولية كل تناقضات (أو بذور تناقضات) المجتمع الحديث"(10).
إن اليومي يشكل -إذن- كلا متكاملا يطلب من الباحث السوسيولوجي أن يبنيه دون إغفال أو تجاهل لأي مكون من مكوناته قد يكون محددا. ففي دراسة مشهورة لجلبير إتيان Gilbert Etienne حول التحولات التي شهدتها الحياة اليومية للفلاحين بالريف الصيني في الستينات والسبعينات بفعل تزويد البادية بالماء/مفتاح الاقتصاد القروي، يتضح بشكل جلي الترابط العضوي بين كل جوانب الحياة اليومية، إذ بدل الفراغ الذي كان سائدا قبل مجيء الماء، وما ينتج عنه من تضخم للنقاشات السياسية العقيمة، والحضور المكثف للرجل بالبيت وآثاره على العلاقة بين الرجل والمرأة…، تحولت الحياة اليومية بعد تزويد البادية بالماء إلى نشاط دائم بات معه وقت الفراغ مطلبا في العديد من الحالات، فالوقت أصبح موزعا بين تصريف مياه السقي وتقديم الأعلاف للمواشي، ثم تنظيف الإسطبلات (علما بأن تربية الماشية مرتبطة بقدوم الماء)، ثم جمع المحاصيل، فالحرث، فزراعة النباتات العلفية… وهكذا. مما كان له كبير الأثر على جدية وواقعية النقاشات بخلايا الحزب الشيوعي، وعلى علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقتهما معا بالأطفال، وعلى العادات المنزلية، وعلى كل جوانب الحياة اليومية بالريف الصيني(11). وإن ذلك ما يفسر كون اليومي هو موضوع رهانات متضاربة.
III - الرهانات حول "اليومي" ونقده:
يقول هنري لوفيفر في معرض تحليله للحياة اليومية التي تعمل الطبقات السائدة من أجل تكريسها وإعادة إنتاجها، وتلك التي يعمل من أجل تأسيسها وتجديرها كل من اكتسب وعيا بزيف الأولى ولا إنسانيتها: "إن الصراع بين الحياة اليومية كما تريدها البورجوازية وتلك التي يطالب بها ويسعى الإنسان المعاصر بكل قواه إلى تحقيقها، إن هذا الصراع هو الذي مزق كيركغارد (Soren Kierkegard). وصورين كيركغارد حل هذا الصراع بطريقته الخاصة أو بطريقة جد سيئة. إن هذا الحل المأساوي لصراع داخلي يحمل في علم النفس -دون أن يصل علماء النفس دائما إلى الجذور التاريخية، الاجتماعية والإنسانية للصراعات الفردية- اسم "عصاب القلق"(12). ومهما اختلفنا مع لوفيفر حول تفسير "كلية اليأس وشموله وكونه أعدل الأشياء قسمة بين الناس" و"كلية القلق وشموله" عند كيركغارد، وموقع ذلك ضمن فلسفته الوجودية الخاصة المرتبطة أشد ما يكون الارتباط بمزاجه السوداوي الذي يرجع إلى صحته السقيمة وتكوينه الجسدي الشائه من جهة، وبخياله العجيب وعبقريته الفذة ومزاجه الساخر من جهة أخرى، فإن ذلك لا يلغي قيمة اتخاذه كمثال للكشف عن أشكال الإحباط والاكتئاب، بل والضياع التي يحياها الإنسان ضمن المجتمع البورجوازي. وكثيرة هي الدراسات المعاصرة في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع التي تؤكد العلاقات الثابتة بين الرأسمالية وتدمير العلاقات العاطفية/ الإنسانية والإحباط والعنف والاكتئاب ومحاولات الانتحار. 
فاليأس الكامل والشك والعذاب والألم والخوف الذي سقط فيه كيركغارد، رائد المذهب الوجودي يجد تفسيره بالنسبة لـ: لوفيفر في الرهانات حول اليومي، لأن الطبقات السائدة تهدف إلى جعله مجرد انتقال الإنسان من العمل (إن توفر) إلى تلبية الحاجيات الحيوية، ثم إلى "الراحة" و"الاستكانة" بطريقة محددة. ويتم تقديم هذا النمط على أساس أنه النموذج الأمثل، علما بأن "الراحة" و"الاستكانة" يتم التحكم فيهما وتوجيههما ضمن فضاءات محددة تضمن "التكييف"(13). إلا أن الحياة اليومية يمكن أن تكون مسارا واعيا للإنسان، أي أنها يمكن أن تكون معرفة بالواقع حتى يمكن اتخاذ ذلك المسار الواعي فيه، وبالتالي تغييره أو العمل والسلوك في اتجاه ذلك التغير. هنا تصبح الحياة اليومية فعلا وليست مجرد انفعال، وهنا أيضا، تبرز الأهمية القصوى للحياة اليومية لشرائح اجتماعية محددة كالمثقفين أو المالكين للرأسمال الرمزي، لا لوصايتهم على باقي الطبقات كما أعتقد البعض، ولكن نتيجة مسؤوليتهم في "تلقيح" اليومي بالفكر النقدي والمساهمة في إزاحة الستائر عن الواقع وتركيز مظالمه في شعور الطبقات المستضعفة بشكل يجعلها تحيا هذه المظالم باستمرار ويجعل هذا الشعور من محاور حياتها اليومية. ومن جهة أخرى، نتيجة كون المثقفين يشكلون نخبة في علاقة مع فئات اجتماعية جد حساسة (طلبة، متعلمون…)، وهنا تطرح قيمة نموذجية (قدوة) النخبة التي ترتكز على الجاذبية والإغراء الذي تمارسه بعض القيم التي تقدمها أو تعبر عنها بمجموعة من الرموز، وقد يتعلق الأمر بقيم معروفة ومنتشرة في المجتمع، أو بالعكس، بقيم جديدة أو في إطار التشكل(14). وهنا بالضبط، تتحدد النقطة البؤرية في الرهانات المناقضة للأولى حول اليومي. 
والحديث عن اليومي كمسار واع لا يعني أبدا أن للإنسان إرادة حرة بدرجة المطلق وأن سلوكاته قد تكون كلها محسوبة/مبرمجة بالعقل، بل إن العقل لا ينفصل عن اللاعقل، ويدان العقل اليوم لا من حيث كونه مفرطا في العقلانية، بل يدان كذلك على أنه غير معقول(15). والحديث هنا عن العقل في أرقى مستوياته، أي العقل وهو ينتج المعرفة العلمية بالخصوص. أما مجال الحياة اليومية فيعرف حضور الرومانسي والخيالي والوهمي والوجداني والعاطفي والعدواني والطقوسي…، ولا يستقيم إلا باللعب. وهذا ما دفع الباحثين في الحياة اليومية إلى التأكيد على أن لا استقامة ولا نضج ولا إيجابية للعمل دون استقامة البعد الترفيهي لأنهما يشكلان وحدة لا انفصام فيها على اعتبار أنهما يكملان أحدهما الآخر. يقول لوفيفر في هذا السياق: "إن الترفيه لا ينفصل عن العمل. إن نفس الإنسان يستريح أو يتسلى أو يتصرف على طريقته بعد العمل. وكل يوم، في نفس الساعة يخرج العامل من المعمل، والموظف من المكتب…الخ، وكل أسبوع يكون السبت والأحد للترفيه في نفس انتظام العمل اليومي. يجب -إذن- إدراك وحدة "عمل-ترفيه" لأن هذه الوحدة موجودة. وعموما، كل واحد يحاول برمجة قسطه من الوقت بعلاقة مع ما هو عمله وما ليس إياه"(16). فالعلاقة بين الترفيه والحياة اليومية لا يمكن اختصارها في علاقة بسيطة في الزمان بين "الأحد" وكل الأيام الأخرى من الأسبوع، ممثلين كخارجيين ومختلفين لأن "الراحة" لا يمكن أن ترد إلى مجرد التوقف عن العمل إلا ضمن حياة مشتتة ومستلبة، وضمن تصور لا جدلي للحياة.
وللإشارة، فحديث لوفيفر هنا هو حديث عن مجتمع محدد هو المجتمع المهيكل أو المجتمع الحديث الذي أفرز آليات لتنظيم وقت الفراغ، بل للتحكم فيه وتوجيهه. فالمسارح والنوادي والمركبات الرياضية والملاهي الليلية ودور السينما وجمعيات ونوادي الصيد والقنص، والسيرك والحدائق العمومية والنزه المنظمة والمعارض بكل أصنافها، ونوادي تعليم الرقص الكلاسيكي والعصري وفضاءات السهرات الغنائية…الخ، كلها آليات للمجتمع الحديث (المهيكل) للتحكم في وقت فراغ الجماهير وتوجيهه. إذ كل فرد يجد ضالته في واحدة منها. وإذا كان العديد منها يبدو بريئا وفي خدمة العموم، بل منها ما لا يمكن تجاهل أهميته الاجتماعية (المسارح، المعارض الفنية…)، فإنها تلتقي كلها في كونها توجه للتحكم في وقت فراغ العامل والموظف والتاجر والطالب…، وتقلص من وقت فراغ "حر" قد يكون فرصة للنكتة أو لما هو غير نمطي(17). "فالمدينة تمثل أكبر حلقة في الجحيم البشري" كما وصفها جان جاك روسو(18)، باعتبار أن الإنسان في المدينة يعيش تمزقات وصراعات (الوقت، تشابك العلاقات الاجتماعية وتشابك المهام، الإغراءات والإحباطات…)، ومن شأن هذه الوضعية أن تكون لها ردود أفعال يتم امتصاصها من خلال التحكم في جوانب الحياة اليومية وتنميطها.
أما في المجتمعات غير المهيكلة، يلجأ السلطان المركزي (Le pouvoir Central) إلى آليات للتكييف شبه مباشرة. ففي المجتمعات العربية مثلا، حيث الضعف المهول للتجهيزات الأساسية الحديثة المختصة في تنظيم وقت الفراغ، تعتبر ظاهرة "المقهى" الفاعل الأساسي في هذا الإطار إلى جانب منصات الملاعب الرياضية، علما بأن هذه الأخيرة محدودة على مستويين: على مستوى الفئات الاجتماعية التي تلجها وعلى مستوى الزمن، إلا أن هذا لا ينقص من أهميتها لأنها تغطي يوما مركزيا من أيام الأسبوع، بل حساسا إلى أقصى الحدود هو يوم "الأحد".
وإذا كانت الملاحظة العادية وحدها كفيلة بتأكيد أن "المقهى" بهذه المجتمعات العربية ما يزال حكرا على الرجل رغم بداية تكسير هذه القاعدة بشكل خجول، نتيجة التمييز بين الرجل والمرأة، فإننا لن نجازف إذا افترضنا أن البحث العلمي في جوانب الحياة اليومية للمرأة بهذه المجتمعات سيفضي لا إلى كشف الغرابة في المألوف فقط، بل إلى تطوير المعرفة العلمية نفسها ما دام الباحث سيجد نفسه هنا أمام ظواهر تخص نصف المجتمع تتشكل بين الأسوار وبكر بكل معنى الكلمة من حيث الدراسات العلمية.
وتعتبر ظاهرة "المقهى" بالنسبة للرجل في المجتمعات العربية شبه إجبارية كمجال لقضاء وقت الفراغ، ما دام العامل والموظف البسيط والطالب والعاطل… الخ قد لا يجد بديلا عنه في الغالب. والملاحظة العادية وحدها أيضا كفيلة بالكشف على أنه بالمقهى ينقسم الزبناء إلى فئات متعددة (عمرية، مهنية…) تسقط كل منها في تكرار أفعال محددة تسمح -من خلال الشكل الذي تجري به والمساحات الزمنية التي تغطيها- بافتراض أنها تحول أصحابها إلى جماعات مرضية أو شبه مرضية على الأقل، خصوصا حين نأخذ في الاعتبار ما يصاحب ذلك من إقبال جنوني على التدخين في العديد من الحالات: هناك مقاهي "متخصصة" في لعب الورق بكل ألوانه، تلجها شرائح محددة، وتشتهر أخرى بألهوة الكلمات المتقاطعة، وأخرى بمن يلهثون وراء الثروة بدون مقدمات! من خلال الرهان على الخيول أو الفرق الرياضية أو حتى الأرقام الرابحة! وأخرى بمن يكرس حميمية علاقة روادها الإدمان المشترك على المخدر، كما تعرف أخرى بمجموعات خاصة تخوض في نقاشات ذات طابع نقابي و/أو سياسي إلا أنه نتيجة تكرارها، قد تتخذ طابعا طقوسيا…الخ. وقد تختلط الأفعال بنفس المقهى في العديد من الحالات، إلا أن الذي يظل مشتركا هو صفة التكرار. والتكرار مرادف لليأس والتمزق والضياع، بل إن "كرر" تحيل إلى "أنكر" الزمان، إنها علامة اللازمان(19). ذلك ما قد يؤكد البحث العلمي في الحياة اليومية أن أغلب الشرائح الاجتماعية بالمجتمعات العربية تحياه في غياب هياكل حديثة لاستقطاب الإنسان خارج وقت العمل. وعموما فإن العديد من مظاهر الجنون واستفحال الجريمة وتعاطي المخدرات والخمر بشكل جنوني، وغيرها من مظاهر الهروب من الواقع التي أصبحت تطفو على السطح بالعديد من هذه المجتمعات قد تجد تفسيرها في جزء مهم منها في كونها أشكالا مرضية/ انهزامية لحل الصراع بين أنماط الحياة اليومية كما تريدها الفئات السائدة، وتلك التي يسعى إليها الإنسان في هذه المجتمعات. هذا الإنسان الذي لم يتردد في بناء آمال وأحلام (مشروعية) على حياة ما بعد الاستعمار المباشر ظلت في الغالب دون تحقيق.
استنتاجات:
من جهة أولى، نعود للقول إن الخوض في اليومي ليس حكرا على السوسيولوجيا، لأن الروائي مثلا قد يصيغه بلغته الخاصة ونمطه الثقافي المتميز في شكل أكثر جاذبية. ونفس الشيء بالنسبة لرجل المسرح/المبدع. وإن قارئ الأعمال المشهورة لإميل زولا أو ماكسيم غوركي يلاحظ كون اليومي يشكل موضوعا خصبا للعمل الروائي. وفي الأدب المكتوب بالعربية، يمكن للقارئ أن يكتشف في رواية مثل "كوابيس بيروت" لغادة السمان قدرة الرواية على نقد الحياة اليومية (وللإشارة فرواية "كوابيس بيروت" رصدت جوانب الحياة اليومية لشرائح اجتماعية مختلفة ببيروت خلال الحصار الإسرائيلي المشهور عليها). ونفس الشيء بالنسبة لرواية "مدن الملح" لعبد الرحمان منيف في تعاملها مع جوانب الحياة اليومية المتناقضة لمجتمع الجزيرة العربية في المرحلة الراهنة.
أما سوسيولوجيا الحياة اليومية، فتعمل من أجل بناء اليومي علميا من خلال الصغير جدا (le minuscule) في الحياة اليومية، ومن خلال التافه والعادي جدا الذي قد لا يثير اهتمام فروع أخرى من المعرفة، انطلاقا من كون السوسيولوجيا عموما قد تخلت نهائيا عن "دراسة المجتمع" لصالح دراسة الوقائع. والتافه والعادي والبسيط هي الوقائع الفعلية للحياة اليومية التي يلزم أن ينصب عليها التحليل لفهم البنية الخفية للواقع(20). كما أنه لا معرفة بالمجتمع بدون معرفة نقدية لمظاهر الحياة اليومية كما تتموقع داخل تنظيمها وكبتها، داخل ممارستها للقمع والكبت في المجتمع عبر تاريخه، والمألوف والتافه هو مجال هذا القمع وهذا الكبت، إلا أنه ينجح على الدوام في إخفاء طابعه لألفته. فالعديد من العلاقات داخل البيت مثلا (وهي موضوع غني لسوسيولوجيا الحياة اليومية) قد يطبعها عامل اللاعقلانية، وتسودها الامتثالية والعنف والسلطة، إلا أنه نتيجة لألفتها، فهي تخفي طبيعتها/حقيقتها، وهنا تكمن أهمية البحث السوسيولوجي في الكشف عن العجيب/الغير مألوف في المألوف.
ومن جهة ثانية، إذا كانت نشأة سوسيولوجيا الحياة اليومية قد ارتبطت بدراسة جوانب الحياة اليومية الصاخبة بالمدن الأمريكية على الخصوص، فإن تفكيك المألوف في الحياة اليومية التي تبدو رتيبة قد يكشف عن ظواهر أكثر غرابة.
ومن جهة ثالثة، هناك ملاحظة نعتبرها أساسية بالنسبة للباحث في ميدان الحياة اليومية، وتتمثل فيما أصبح يلعبه الإعلام (المرئي على الخصوص) من دور بارز في توجيه اليومي والتحكم فيه، إلى حد أن بعض الدراسات المعاصرة في علم النفس تربط بين أشكال من الإحباط والاكتئاب والقلق التي تميز الحياة اليومية لفئات اجتماعية معينة، وبين أثر الصور الإعلامية.
وأخيرا نختم بملاحظة منهجية تفرضها طبيعة ظواهر الحياة اليومية المتشعبة والمتداخلة، والتي لا يمكن لتقنية من تقنيات البحث السوسيولوجي أن تدعي رصدها منفردة، فالمنهجية في العلوم الإنسانية بشكل عام ما تزال تعاني من النقص إلى حد يدفع البعض إلى الحديث عن علمية هشة فيها مقابل علمية صرفة في العلوم التجريبية، وبالتالي فالباحث السوسيولوجي في مجال الحياة اليومية مطالب بفتح حوار بين التقنيات والمناهج لاعتبارات متعددة: أولا لأن كل تقنية وكل منهج في حاجة إلى الآخر لتجاوز ضعفه وتقوية ذاته، وثانيا لتنوع جوانب الحياة اليومية التي منها ما يفترض الملاحظة المباشرة، ومنها ما يقبل المقابلة، ومنها ما يمكن ملامسته من خلال السير الذاتية، وأخرى تكون صعبة المنال بدون الاستناد إلى الملاحظة بالمشاركة…الخ. وثالثا، لكون التقنيات وإن تعددت، فإن ذلك ليس مرادفا للتشرد المنهجي، خصوصا حين يتعلق الأمر بظواهر متداخلة الجوانب أو الأبعاد يفترض كل منها تقنية خاصة لمقاربته كما هو الحال بالنسبة لظواهر الحياة اليومية.
 
الهوامش:

1 - Erving Goffman : La mise en scène de la vie quotidienne - Tome2 - les relations en public, les éditions de minuit collection: "le sens commun", traduit de l'anglais par: Alain Kihm, Paris 1973, p.11.
2 - Erving Goffman: op. cit., p.12
3 - Michel Maffesolli: la conquête du présent, pour une sociologie de la vie quotidienne, PUF, Paris 1979, p.14.
4 - انظر على الخصوص:
- La vie quotidienne dans le monde moderne, collection idées, Gallimard, Paris 1968.
- Critique de la vie quotidienne, Tome I, Introduction Tome II, Fondements d'uen sociologie de la quotidienneté, Larche editeur, Paris 1961.
5 - Henri Lefebre: Critique de la vie quotidienne, Tome Iin op.cit., p.17
6 - Oswald Ducrot: Dire et ne pas dire, Herman 1972, p.4.
7 - Michel Maffesolli: op.cit., p.182
8 - Henri Lefebvre: Critique de la vie quotidienne, Tome II, op.cit., p.19
9 - Michel Maffesolli: op.cit., p.73.
10 - V.I. Lenine: Cahiers philosophiques, éditions socials 1955, p.280
11 - Gilbert Etienne: l'eau facteur clé de l'économie rurale en Chine . In: Etudes rurales, Laboratoire de l'anthropologie sociale avec le concour de : CNRS, Janvier-Juin 1984, n° 93-94, Edition de l'école des Hautes études en sciences sociales, Paris, pp.61-80.
12 - Henri Lefebvre: Critique de la vie quotidienne, Tome II, op.cit., p.153.
13 - Serge Moscovici: L'âge des foules, un traité historique de psychologie des masses, éditions complexes, Belgique (scorpion) 1985, p.37.
14 - Guy Rocher: Introduction à la sociologie générale, Tome 3, le changement social, édition: HMH, Ltée 1968, p.144.
15 - إدغار موران: من أجل عقل منفتح، ترجمة محمد سبيلا ضمن: تساؤلات الفكر المعاصر، دار الأمان، الرباط 1987، ص 11.
16 - Henri Lefebvre: Critique de la vie quotidienne, Tome II, op.cit., p.38
17 - Serge Moscovici: Psychologie des minorités actives, PUF, Paris 1979, p.78.
18 - Jean Jacques Rousseau: in Reymond Ledrut: Sociologie urbaine, collection: SUP, Paris 1973, p.51.
19 - Michel Maffesolli: La conquête du présent, op.cit, p.96.
20 - Jean Claude Hauffman: la vie ordianire, voyage au coeur du quotidien, édition : Greco, Paris 1988, p.19.

الجمعة، 26 فبراير 2016

قصة تطور اللغة مصطفى عابدين

 موقع علومي 


هل اللّغة ميّزةٌ حصريَّةٌ للجنس البشري؟ أم أنها خاصيّةٌ منتشرةٌ بين الأحياء؟ ما هي اللغة وكيف تطوّرت وما هي فوائدها؟ هذه بعض النقاط التي سأجيب عليها ضمن هذا المقال المتعلّق بخاصيّة اللّغة من منظورٍ تطوريّ.
الإنسان وتطوّر اللّغة
نتج عن التغيّر المناخي -الذي حصل بعد العصر الجليدي الأخير- انخفاضٌ في الموارد اللّازمة لاستمرار وبقاء الكائنات الحيّة ومنها أسلاف الرئيسيّات (القرود العليا). هذا يعني أن الكائنات التي لم تمتلك القدرة في البحث عن الموارد الغذائيّة والمأوى من البرد تعرضَت لضغوطاتٍ تطوريّة أدّت إلى انقراضها. استفاد بعض الرئيسيات من طفراتٍ جينيةٍ ساعدتها على التأقلم مع هذه الظروف المناخيّة الصعبة. من هذه الطفرات كانت القدرة على استخدام الأطراف الأماميّة. ولم تكن هذه الخاصيّة الجديدة مهمّة فقط من ناحية استعمال الأيدي لإمساك الأشياء وتحريكها، وإنما كانت فائدتها غير مباشرة، تتمثل بتحرير الضغط على الجهاز التنفّسي لهذه الرئيسيّات مما أطلق موجةً من الصفات التطوريّة الجديدة. 
يتعرض الجهاز التنفّسي لدى الكائنات التي تمشي على أربعٍ لضغطٍ كبيرٍ من عضلات الصدر بشكلٍ مستمر؛ مما يجعل عمليّة التحكّم بالزفيرعمليّةٍ مستحيلة، فإصدار الاصوات متعلّقٌ بشكلٍ مباشرٍ بأليّات عمل الجهاز التنفّسي والقدرة على التلاعب بالفتحات الهوائية التي سيخرج منها الزفير لكي يشكّل الأصوت، لهذا كان تحرير الأطراف الأماميّة ذو أبعادٍ تطوريّةٍ كبيرةٍ جدًا، وهذا هو مدخل بحثنا اليوم.
سأقوم في هذا المقال بسردٍ ملخّصٍ للعوامل البيولوجيّة التي أدّت إلى تطوّر اللّغة لدى الإنسان، وأيضًا معاينة العوامل التاريخيّة والثقافيّة لتطوّر التكنولوجيّات اللّغوية، مثل القراءة والكتابة وغيرها من نتائج هذه الصفة الحصريّة لدى الإنسان. وأود أن أنوّه إلى أنّ الوقوف على قدمين Bipedalism، يعتبر العامل الأساسي في تطور الجنس البشري (2)، لكنّي لن أدخل في تفاصيله هنا.
لا تتطوّر الكائنات الحيّة فيزيولوجيًّا فقط، وإنما تُطوّر تصرّفاتها وعلاقاتها الإجتماعيّة بناءًا على الضغوط المحيطة بها. مثلًا يوجد نوعٌ من أنواع الأسماك اسمه السمك القبطان Pilot fish، هذا النوع طوّرعلاقةً مع سمك القرش، حيث يدخل هذا السمك إلى داخل فم سمكة القرش ويأكل البقايا الموجودة على أسنانها. ورغم أن القرش قادرٌ على التهام هذه الأسماك بسهولة، إلا أنه لا يقوم بذلك لأن الفائدة التي يقدّمها السمك الصغير بالتهام الفضلات تفوق الفائدة من التهامه. هذا يعني أن كلا الكائنين (السمك القبطان وسمك القرش) طوّرا علاقة منفعة متبادلة (15).
nature_partners
المثال الآخر هو البكتيريا المتعايشة في معدة وأمعاء الإنسان، إذ عدد الخلايا الحية في جسمنا يتألف من 10% خلايا و90% بكتيريا. وهذا يعني أن تعداد البكتيريا الموجودة داخل الجسم تفوق عدد خلايا الجسم بتسعة أضعافٍ تقريبًا. ولا يحارب جهاز المناعة هذه البكتريا مع أنّها جسمٌ غريبٌ، والبكتريا في المقابل غير ضارة غالبًا، بل تقوم بأعمالٍ مفيدةٍ للإنسان. إذًا كلا النوعين أوجد علاقة منفعةٍ متبادلة، تنسجم مع حاجة الكائن الآخر وتستفيد منها (16).
الاقتصاد التطورّي
يُعد البحث عن الموارد الغذائية والتكاثر من أهم الأعمال التي يتوجب على الكائن القيام بها لضمان استمرار نوعه. دون الحصول على الطاقة بشكلٍ يوميٍّ لن يستطيع الكائن البقاء. الآن، لنحرّض مخيلتنا قليلًا ونتخيل وجود أسلافٍ بشريةٍ من الرئيسيّات تعيش في بيئةٍ أفريقيّةٍ شُحّة الموارد. كانت هذه المجموعات البشرية معرضة لخطر الافتراس طوال الوقت ولديها نافذةٌ زمنيةٌ صغيرةٌ تبحث من خلالها على الطعام كل يومٍ. هذه الأسلاف البشريّة غير ناطقةٍ بعد، وقد اكتشفت أنّ التعاون والعمل الجماعي ضامنٌ أساسيٌّ لبقائها، تمامًا كما هو مثال القرش والسمك القبطان أو علاقة البكتريا وجهاز المناعة لدى الأحياء. التعاون البشري هو نتيجة تأقلم تطورّي نتج عن الضغوط المحيطة والشح في الموارد. التعاون ليس حكرًا على الإنسان، إلا أن الإنسان طورّه بشكلٍ معقدٍ أكثر بكثيرٍ من بقيّة الكائنات الآخرى. ونستطيع استحضار مئات الأمثلة من استراتجيّات البقاء Evolution stable strategy، والتي تعتمد على تعاون أفراد القطيع، لكن ماذا يعني تعاون؟
التعاون بالمعنى المبسّط هو الاتّفاق الضمني على تنقيذ عملٍ ما بحيث يكون الناتج من هذا العمل مفيدًا لكافة الأطراف، إما بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.
تملك جميع الكائنات في الطبيعة إستراتجيّات تنظّم علاقتها وتحدّد أليّات التعامل فيما بينها. هذه الاستراتيجيّات تم الوصول إليها عبر ملايين السنين من الضغوطات التطورّية والانقراضات وهي لا تنتُج كنتيجةٍ اختياريةٍ وإنما غريزيّة. وهي مبرمجةٌ لدينا كنيتجةٍ تطوريةٍ منذ ملايين السنين. مثلًا في السابق كان الطرد خارج المجموعة البشريّة التي يعيش فيها الفرد يشكّل خطرٌ مميتٌ على هذا الفرد ولهذا تطوّرت لدى الإنسان استراتجيّاتٌ تجعله يكترث لما يظنّه أفراد المجموعة به ويتجنب الأعمال التي قد تتسبب بإبعاده عن هذه المجموعة. هذا هو سبب اهتمامنا بما يظنّه الآخرون بِنَا ولهذا السبب نحن نشعر بخوفٍ شديدٍ وقلقٍ قبل القيام بأي عملٍ يتم تقييمه من قبل مجموعاتٍ كبيرةٍ من البشر. لهذا، فالتعاون والعمل الجماعي يّعتبر من أهم استراتجيات البقاء لدى الإنسان، فالإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ لا يستطيع العيش بمفرده ويحتاج أن يكون ضمن مجموعاتٍ صغيرةٍ تتقاسم مسؤوليّات العمل. واللّغة هي من أهم دعائم استراتجيّات التعاون البشريّة (18).
على فرض أنّ أحد أنواع الطيور أُصيب بنوعٍ من أنواع الطفيليات التي تمتص الدماء والتي ستؤدّي إلى موته. على فرض أن هذا الطفيلي وكجزء من استراتجيّته للبقاء يتواجد في مكان محدّد خلف رقبة الطائر بحيث لايتمكن الطائر من اقتلاعه بمفرده ويحتاج مساعدة الآخرين. وعلى فرض أن أحد الطيور اكتشف طريقةً يتواصل فيها مع بقية أفراد السرب ويطلب مساعدتهم باقتلاع هذا الطفيلي، فهذا يعني أن الافراد القادرة على التواصل والتعاون فيما بينها ستستطيع تجاوز خطر الموت. كلما كان خطر الموت من هذا الطفيلي أشدّ كلّما ماتت الطيور التي لا تتعاون وانتشرت جينات الطيور المتعاونة(17).
هذه العلاقة نسمّيها إستراتجيّةٌ بقاء تطورية ESS، فهي تتطوّر مع تطوّر الكائنات. بدأ التواصل عند الإنسان كجزءٍ من إستراتجيةٍ التعاون بين البشر تمامًا، كمثال الطيور، وثم تطوّر هذا التواصل بسبب تطورّاتٍ عضويّةٍ متوازيةٍ تمثلت بتطوّر الجهاز العصبي والتنفّسي وغيرها من العوامل العضويّة التي أدّت إلى تطوّر اللّغة كما نعرفها اليوم (14).
يتوجّب النظر إلى اللّغة من هذا المنظور، الأسُود والشمبانزي والضباع والكلاب البريّة والفيلة جميعها كائناتٌ تتواصل بشكلٍ كبيرٍ من أجل بقائها ولو أنها توقفت عن التواصل فاحتمال موتها كبيرٌ جدًا، إذ أن أليّات عملها للحصول على الموارد هي أليات عملٍ جماعيّة. فتبادل المعلومات بشكلٍ مجّاني عن طريق التواصل يعود بالفائدة على الكائنات التي تمارس هذا التواصل. الآن تخيل إن كان هذا التواصل أساسي في عمليّة البحث عن الموارد. هذا يعني أن اصدار الاصوات لم يعد مجرّد خاصيةٍ مفيدةٍ أو جيّدةٍ وإنما خاصيّةٌ أساسيّةٌ في البقاء.
ولو نظرنا إلى الجنس البشري، نجد أن تطوّر جسم الإنسان قد طرأت عليه العديد من عمليات المقايضة trade-off حيث تم تحويل الموارد من القوة العضليّة نحو تطوّر الدماغ. طبعًا أنا أتحدث من منطلقٍ تطوّريٍّ بحت، وأقصد أن تطور الدماغ لدى الإنسان كان لابد له من تكلفةٍ بديلةٍ من أعضاء آخرى إذ أن كمّية الطاقة التي يستطيع الإنسان الحصول عليها هي كمّيةٌ محدّدة. الضعف العضلي تمت الإستعاضة عنه بجهازٍ عصبيٍّ يساعد الإنسان في الحصول على مواردٍ بشكلٍ فعّالٍ أكثر وذو جودةٍ حراريّة أكبر. على سبيل المثال، عوضًا عن استثمار الإنسان عشر ساعاتٍ يوميًّا في البحث عن الطعام أصبح بإمكان الإنسان استثمار عدد ساعات أقل وذلك لأنه تطوّر بطريقةٍ أعطته قدراتً إدراكيّة أكبر. أيضًا تحرير الجهاز التنفسي وتطور الحنجرة لإصدار الأصوات مكّنت هذه الرئيسيّات من تطوير وسيلةٍ جديدةٍ ألا وهي اللّغة.
التواصل لا يعني اللّغة لكن يعني نقل معلومةٍ بين نقطتين، وكلما زادت المعلومات التي يتوجب نقلها كلما زادت عملية التواصل تعقيدًا. اللّغة هي نتيجةٌ تطوّريّةٌ للعديد من الطفرات الجينيّة التي مكّنت مجموعةً من الرئيسيات على التواصل بشكلٍ يخدم احتياجاتها بشكلٍ أكبر. الحاجة البقائيّة الماسّة للتعاون بين البشر هي الدافع الأساسي والضاغط على الأجناس البشريّة التي لم تستطع التواصل بنفس الفعاليّة. جميع الكائنات تتواصل ضمن درجاتٍ متفاوتةٍ، لكن الإنسان يتميّز بتطوير خاصيةٍ للبقاء لا مثيل لها في الطبيعة وهي اللّغة.
ما هي اللّغة؟ 
اللّغة هي عبارةٌ عن وسيلة تواصل تنقل المعلومات بين نقطتين. التواصل اللّغوي يعتمد على نقل الصور الذهنيّة عن طريق إرسال رموزٍ متّفقٍ عليها بين الأطراف التي تمارس عملية التواصل. لنتخيل أن مجموعةً بشريّةً قديمةً تعيش في بيئةٍ أفريقيّةٍ تبحث عن الطعام. لنفترض أن أحد أفراد هذه المجموعة قد وجد مصدرٌغذائيٌّ مهمٌّ وأن الطعام بشكلٍ عامٍّ يُرمز له بصوت «هم هم». ولنفترض أيضًا أن الخطر له رمز «بع بع». قدرة الكائن البشري بالتواصل مع بقيّة أفراد مجموعته بأنه وجد مصدر طعامٍ وأنه يحتاج مساعدتهم في تأمينه، قد تكون معلومةً تحدّد مصير المجموعة بأكملها وخصوصًا ضمن بيئةٍ محدودة الموارد. الفائدة هنا تعود على الفرد الذي قام بالتواصل دون أي تكلفةٍ في الموارد بالنسبة له. على العكس ه
7367713010_97659a9fa8
و سيجني فوائد إقتصادية بسبب هذا التواصل لأن أفراد قبيلته سيعملون جميعًا في الحصول على الطعام أو الحماية من الخطر.

«هم هم» و«بع بع»، هذين الصوتين كافيين لنقل معلوماتٍ مهمّةٍ بين أفراد المجموعة. مع ازدياد التفاصيل البقائيّة المهمّة للمجموعة تزداد الحاجة لابتكار أصواتٍ أكثر. هذه العلاقة بين أفراد المجموعة ليست جديدةً بين الأحياء ونجد أنواعٌ عديدةٌ شبيهةٌ لها، فمثلًا نجد أن طائر الغراب لديه نوعٌ من التواصل بين أفراد السرب بحيث يستطيع إخبارهم عن خطرٍ محدقٍ أو مورد غذائي أو زعقات تواصل مع كائنات آخرى مثل الدببة (للمزيد من المعلومات اقرأ مقال ذكاء الغراب). أيضًا نجد أن الدلفين يستخدم نوعًا من أنواع التواصل السوناري بحيث يطلق موجاتً صوتيّةً تحت الماء؛ تردّدات هذه الموجات تحمل معاني مختلفة، وتوجد أبحاثٌ جديدةٌ تشير إلى وجود تردّد صوتي يرمز لكل دلفين مما يدل على إستخدام الأسماء فيما بين هذه الدلافين. أيضًا إن دخلنا في مجال بحث الخداع عند الأحياء فهو نوعٌ من أنواع التواصل الكاذب لفائدةٍ اقتصاديّة أو بقائيّة سيجنيها الكائن من هذا التواصل. مثلًا عندما يمثل بعض أنواع الثدييات أنه ميت تحسبًا لانقضاض النسر عليه فهو نوعٌ من أنواع التواصل المخادع. العصافير تقوم باصدار زقزقة خاصة للتكاثر أو للتنبيه من خطر أو العثور على طعام والأسُود تطلق زئيرًا في حال الخطر أو اقتراب أسُودٍ منافسةٍ من مكان تواجد قطيعها، والنمل يتواصل عن طريق إصدار افرازاتٍ كميائيةٍ (فيرمونات) لكل منها رسالةٍ معيّنة.
الفكرة إذًا أن التواصل ليس حكرًا على الإنسان وإنما التواصل اللّغوي الصوتي المركّب الصادر عن الحنجرة هو ما يميز الإنسان. أنت عندما تتكلم تصدر اهتززات صوتيّةٍ في الهواء ترصدها الأذن وترسلها إلى الدماغ ليتم تحليلها على أساس أصوات. هذه الاصوات تحمل صورًا ذهنيةً محدّدةً بالنسبة للمرسل والمتلقي.
اللّغة من الناحية الدماغية
أدّت اللّغة إلى تطوير معارف الإنسان وبدأت المعرفة التراكميّة بحصد النتائج عن طريق إبتكار التكنولوجيا، والأدوات التي أدّت إلى اكتشافات أخرى مثل اكتشاف النار إنطلاقًا إلى الثورة الزراعيّة وترويض الكائنات مما أدّى إلى انتقال الإنسان من كائنٍ يعيش ضمن قطعان تعتمد على الصيد وقطف الثمار إلى فلّاحٍ يزرع ويطوّر الأدوات ويروّض الطبيعة. ولم يكن ليحدث هذا التطوّر الحضاري لولا قدرة الإنسان على تبادل المعلومات بشكلٍ سريعٍ وبسيطٍ ومن هنا ندخل إلى باب اللّغة من الناحية العصبيّة.
«أخطبوطٌ أحمرٌ مرّ فوق رأسك!»، هذه الجملة تحمل صورةً ذهنيّةً ماكنت لتتصوّرها في دماغك قبل أن ترصد الرموز التي قرأتها، لكن يتوجب التمييز بين اللّغة والكتابة. فالكتابة تكنولوجيا حديثةً جدًا طوّرها الجنس البشري لكي يحفظ المحتوى اللّغوي الذي يتم التواصل به، لكن أنت بحاجةٍ لأن تتعلم على هذه التكنولوجيا تمامًا كما تتعلم على استخدام الكومبيوتر. بينما اللّغة هي نتيجةٌ غريزيةٌ تطوريّةّ لها وصلاتها الدماغية الخاصة بها.
مع تطّور الأحياء وحاجتها لرسم قالبٍ فيزيائيٍّ لما حولها من ظواهر طبيعيّة بدأت قصّة تطوّر الدماغ. الدماغ ليس عضوًا واحدًا وإنما مجموعةٌ كبيرةٌ من الأعضاء العصبية التي تعمل بانسجام مع بعضها. دور هذه الأعضاء هو استقبال الرسائل الفيزيائيّة القادمة من خارج الجسم وتحليلها في سبيل رسم قالب افتراضي داخل الدماغ يكون أقرب ما يكون للعالم الخارجي.
تنتج اللغة عن قسمين في الدماغ قسم إرسال وقسم استقبال. القسم الأول اسمه باحة بروكا Broca area، وهو المسؤول عن صياغة اللّغة والنطق، ويقع في نصف الكرة المخيّة الأيسر، والقسم الثاني اسمه باحة فيرنيكة Wernicke area، وهو المسؤول عن فهم اللّغة، عن تحليل الإشارات اللّغوية وتحويلها إلى صورٍ ذهنيّة، وهو يقع أيضًا في نصف الكرة المخيّة الأيسر قريبًا من من الفص الصدغي (4)(13).
Brocasarea1
كيف عرفنا وظيفة هذه الباحات؟
اكتشفنا باحات اللّغة في الدماغ عندما أُصيبَ بعض البشر في مكان الرأس وفقدوا القدرة على النطق دون أن يفقدوا القدرة على الفهم أو العكس، وعند معاينة أدمغتهم تم تحديد قسمي اللّغة الأساسين.
يجدر بالذكر أن عملية اللّغة من الناحية العصبيّة لا يمكن اختزالها في هاتين الباحتين، إذ توجد أقسامٌ أخرى تربطها مع بعضها، وأقسام تقوم بتحليل سياق اللّغة العام، ولغة الجسد، ووتيرة الصوت، وغيرها من المحفّزات التي تؤثر في تحليل الرسائل اللغويّة القادمة.
هل نحن نفكّر باستخدام اللّغة أم أننا نستخدم اللّغة أثناء التفكير؟ 
من الصعب الإجابة على هذا السؤال بشكلٍ واضحٍ بسبب صعوبة إجراء تجاربٍ على البشر بحيث نحرمهم من تعلم اللّغة، وخصوصًا أن تعلّم اللّغة له نافذةٌ زمنيّةٌ محدّدةٌ لكي يتم تفعيله في الدماغ (من سنتين إلى ثمان سنوات). ولكن العلماء قاموا ببعض الأبحاث التي أيدت فرضيّة أن اللّغة ليست أساسيةٌ لعملية التفكير، مما يعني أننا قادرون على التفكير حتى وإن لم نستحوذ على خاصيّة التواصل اللّغوي.
الأطفال على سبيل المثال يستطيعون التفكير وبناء منطقٍ مبنيّ على السبب والمسبب وغيرها من القوالب المنطقيّة دون وجود العامل اللّغوي بعد. هذا يعني أن القواعد النحويّة اللغويّة مثل الفعل والفاعل والمفعول به وغيرها من المعايير اللغويّة موجودةٌ لدى الإنسان بغضّ النظرعمّا إذا كان قد تعلم أي من اللغات المتداولة أم لا.
نعرف أيضًا أن الإنسان يستطيع التفكير عن طريق الصور الذهنيّة (الصوريّة)، مثلًا إن نظرت إلى مجسمين مختلفين وسألت نفسك هل هما نفس الشكل فأنت لا تستخدم اللّغة في التفكير لحلّ هذه المشكلة وإنما تستخدم الحاسّة البصريّة مباشرةً وتصل إلى النتيجة دون الحاجة لاستخدام اللّغة.
thinking
مثال آخر، عندما يرسل الدماغ أي معلومةٍ إلى قسم الذاكرة البعيدة الأمد فهو لا يرسل هذه المعلومة على شكل كلماتٍ لغويّةٍ وإنما معنى لهذه الكلمات بغضّ النظر كيف يأتي ترتيبها أو نوعها. مثلًا أنت قضيت بضعة دقائق تقرأ هذا المقال ولكن إن سألتك عن ما فهمته منه حتى الآن فأنت لن تكرّر المحتوى الفكري تمامًا كما قرأته، وإنما ستسرد الأفكار العامّة بطريقةٍ مختلفةٍ قد تعطي نفس النتيجة. هذا يدلّ على أن الفكرة بشكلها الاساسي ليست لغويةً وأن اللغة عبارةٌ عن وسليةٍ لاستقدام هذه الفكرة. فالأفكار التي وصلتك خلال قراءة المقال أصبحت موجودةً في دماغك على شكلٍ مبسّطٍ أكثر من اللّغة. أصبحت محتوىً معرفيًا بغضّ النظر عن القالب اللّغوي المستخدم. هي وصلتك عن طريق اللّغة، لكنها لم تُخزّن على شكل كلماتٍ وإنما على شكل خلاصاتٍ فكريّة (9)(8).
يحفظ الإنسان حوالي 35 ألف كلمةٍ وسطيًا لكن هذه الكلمات تحتاج علاقاتٌ منطقيّةٌ تربطها مع بعضها، فنجد أن هذه الألاف من الكلمات تستطيع التعبير عن ملايين الأفكار حسب طريقة ربطها المنطقي. ومن هنا نذهب إلى محور تطور اللّغة من الناحية (القواعديّة).
اللغة وتطورها الحضاري
تتألف اللغة الصوتيّة من ثلاثة أقسامٍ رئيسيّة:
1- أصواتٌ مختلفةّ عن بعضها نسمّيها الحروف.
2- تشكيلاتٌ من هذه الأصوات بحيث ترمز هذه المجموعات الصوتيّة لأشياءٍ وأفكارٍ من المحيط الفيزيائي.
3- علاقاتٌ تربط المجموعات الصوتيّة (الكلمات) ضمن منطق ينتج عنه معاني زمنيّة ومكانيّة نسميها قواعد لغويّة. مثلًا الفعل يستوجب وجود فاعل في زمكان ما.
إذًا الآليات الدماغيّة التي تسمح بوجود اللغة هي ألياتٌ غريزيةٌ لكن كيف تطوّرت اللّغة ككلماتٍ وقواعد؟ لماذا يوجد اليوم أكثر من 6500 لغة؟(12)
عملية التطوّر اللّغوي أشبه بعملية التطوّر الحيوي وهي أيضًا تخضع لضغوطاتٍ إنتقائيةٍ وينقرض منها الكثير. فنحن نعتبر أنّ لدينا ألاف اللّغات على الكرة الأرضية، لكن في الواقع هذا التوصيف غير صحيحٍ، وهو توصيفٌ تصنيفي بحت. فلايوجد لدينا أي معيارٍ حقيقيٍّ نقول من خلاله أن هذه اللّغة تبدأ من هذه النقطة وتنتهي عند هذه النقطة. مثلًا، ليس واضحًا أين تبدأ وأين تنتهي اللغة الإنكليزية، وهذا يعود لحقيقةٍ أساسيةٍ وهي أن جميع اللغات الموجودة على الكرة الأرضية هي فروعٌ من لغةٍ بشريةٍ واحدة.
انطلقت الحضارة الإنسانيّة من القارّة الإفريقيّة ومعها انطلقت اللّغات وبدأت بالإنتشار. الانتشار والفواصل الجغرافيّة جعلا من تطوّر اللّغات عاملًا يميزها عن بعضها بعضًا، لكن في الواقع إن تعمَّقنا في جذور اللّغات سنجد تقاطعاتٌ كثيرةٌ جدًا بين مفرداتها وقواعدها مع تغيّراتٍ متأثرةٍ بعوامل ثقافيّةٍ وجغرافيّةٍ تتعلق بمكان تطوّر اللّغة.
يوجد عدة فروعٍ لغويةٍ عالميةٍ ومنها الهنديّة أوروبيّة Indo-European والإفريقيّة الآسيويّة Afro-Asiatic ، وهذان الفرعان هما اللذان يتضمنان اللّغات مثل الإنكليزيّة والعربيّة والصينيّة وغيرها من اللّغات المنتشرة اليوم. مثلًا، اللّغة العربيّة هي نتاج تطوّر لغاتٍ إفريقيّةٍ آسيويّةٍ ضمن فرع اللّغة الساميّة الأم (*).
_______________________________
(*) إنّ استخدام اسم «لغةٍ ساميّةٍ» من باب أن هذا هو الاسم المتعارف عليه للغات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولكن التسمية لا تعني انها حقيقةً لغة قوم أبناء سام، لأن شخصية سام التوراتيّة مشتّقةٌ من الأساطير السومريّة حول الطوفان. وهو أحد أبناء شخصية نوحٍ الاسطورية، ولا وجودٌ واقعيٌّ له. 
يُعتقد أن اللّغة الساميّة الأم انقرضت منذ حوالي 4000 سنة قبل التاريخ الحديث (BCE). يوجد عدّة فروعٍ انبثقت عن اللّغة الساميّة الأم ومنها العبريّة والعربيّة والأمهريّة والتغرينيّة التي تستخدم في إثيوبيا والأراميّة التي اُستخدِمت في كتابة الوثائق الدينيّة المرتبطة بالديانة اليهوديّة (التلموديّة) والمسيحيّة.
في جميع الأحوال بحثُ اللغات هو بحثٌ مختلفٌ وأعمق من أن أستطيع تغطيته هنا ضمن هذا المقال، لكن الجدير بالذكر أن اللغات الساميّة تتميّز بخاصيّة جذور الكلمات، مثلًا في اللّغة العربيّة يوجد جذورٌ للكلمات تتألف عادة من ثلاثة أحرف. تجميع هذه الأحرف بطرقٍ مختلفةٍ وأصواتٍ مختلفةٍ يعطي الكثير من المعاني. مثل الجذر (كتب)، يُشتق منه كلماتٌ عدّة: كتَبَ، كتاب، كاتِب، مكتوب، مكتبة، كاتِبة، كُتيّب، مكتب، كتابة، إلخ.. وهذه الخاصيّة اللّغوية مميزة للّغات المشتقّة من الساميّة الأم(6)(11).
لماذا تنقرض اللّغات؟ 
تنقرض اللّغات لأسبابٍ عديدةٍ ولكن في الأغلب هي تنقرض بتطوّرها إلى لغاتٍ جديدةٍ وتصبح اللّغة الأصليّة غير متداولة. من أهم أسباب انقراض اللّغات هو عدم وجود محتوىً معرفيٍّ تستطيع هذه اللغة التعبير عنه يواكب الاحتياجات الحضاريّة، مثلًا لو أن اللّغة العربيّة لم تكن مرتبطةً مع لغة الديانة الإسلاميّة لوجدنا نشوء لهجاتٍ مشتقةٍ من العربيّة- هذا ما يحصل اليوم- وهذه اللّهجات مع الوقت ستصبح لغاتً مستقلّة، إلا أن لغة القرآن وبسبب المحتوى المعرفيّ 
المرتبط معها ستبقى كما هي «نسميها اللّغة العربيّة اليوم»، لكنها في الواقع لغةٌ كانت متداولةً قبل 1400 سنةٍ وبقيت كما هي بسبب القرآن. لغة القرآن غير قادرةٍ على مواكبة التطوّر الحضاري لهذا يجد أبناء أجيال اليوم صعوبةٌ في فهمها لأنها لغةٌ جامدةٌ غير قابلةٍ للتطوير، وقد تطوّرت اللّغة المتداولة في ذاك الوقت إلى اللهجات العربيّة المتعارف عليها اليوم. فاللّهجة المصريّة واللّهجة السوريّة واللّهجة العراقيّة واللّهجة السعوديّة واللّهجة المغربيّة وغيرها من اللّهجات العربية هي في الواقع لغاتٌ مشتّقةٌ من اللّغة العربيّة القرآنيّة ومتلاقحةٌ مع لغاتٍ أخرى من محيطها الجغرافي ونستطيع التعامل معها على أساس لغاتٍ مستقلة.

endangered-language-watch
 القواعد اللّغوية قواعٌد غريزيّةٌ تختلف عن القواعد النحويّة المرتبطة مع اللّغة بشكلها الأكاديمي. في الكثير من الأحيان نجد أن القواعد النحويّة ليست منطقيّةً أصلًا لكن قوانينها تتطوّر لأسبابٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وليس بالضرورة بناءً على منطقٍ محدّد (11).
دماغ الإنسان مجهّز غريزيًّا لتعلم أي لغةٍ، وعملية تعلّم اللّغة في مرحلة الطفولة هي أشبه بأن تكون عمليّة تنصيب برنامج كمبيوتر. مثلًا تعلّم لغةٍ مثل اللّغة العربيّة هو عبارةٌ عن قالبٍ لغويّ يبني على القالب الغريزيّ الموجود في الدماغ. لكن هذا لا يمنع الطفل من التواصل بشكلٍ فعّالٍ قبل أن يتعلم جميع الأصول النحويّة، مما يدل على أن القواعد اللغويّة هي قواعدٌ غريزيةٌ يتم البناء عليها فيما بعد وتطويرها ضمن قالب النحو التابع لكل لغة.
عندما يتحدث الأطفال، يستطيعون أن يتواصلوا دون تعلّم القواعد النحويّة الصحيحة. من الممكن أن يقول الطفل: «مصطفى بدّي مي Mustafa Want Water»، هذا قالبٌ منطقيّ غريزيّ بغض النظر عن اللّغة المستخدمة. اللّغة تأتي وتبني على هذا القالب وتستخدمه بناءً على قواعدها. مثلًا من القواعد اللغوية الغريزية، إن بدأنا جملة بـ «إما» فيجب أن نجد «أو» في مكان ما في الجملة، وذلك لأننا نقوم بعملية مقارنةٍ بين شيئين، وهذه القاعدة هي قاعدةٌ غريزيّةٌ يقوم الإنسان بوضع رموزٍ لغويّةٍ للتعبير عنها (13).
عند الحديث عن فعل ما يتوجب علينا وضع زمنٍ ومكانٍ للفعل حتى وإن كان التعبير ضمنيّ أي أنه حدث سابقًا أو سيحدث مستقبلًا أو أنه يحدث الآن، ولكن القاعدة هي قاعدةٌ غريزيّةٌ بعيدةٌ عن نوع اللّغة المستخدمة، وذلك لأن القاعدة تعكس قالب فيزيائيّ مرتبط بما يرصده البشر، إذ أن المكان والزمان عنصران أساسيّان في توصيف أي حركة.
أيضًا قد نجد اختلافاتٌ نحويّةٌ فيما يتعلق بالضمائر أو ترتيب الفعل والفاعل والمفعول به الـ object subject verb ، لكن لا توجد طريقةٌ للتعبير دون هذه العناصر، ويختلف ترتيبهم بين اللّغات دون التأثير على الغريزة اللغويّة المنطقيّة، إذ أنه بإمكان الإنسان أن يتعلّم لغاتٌ تحمل قواعدَ نحويّةٍ مختلفةٍ بالنسبة لترتيب هذه العناصر دون أن يجد صعوبة في الانتقال بين هذه اللّغات.
بعض الأمثلة: سنرمز للفعل Verb بالرمز V، وللفاعل Subject بالرمز S، وللمفعول به Object بالرمز O. ولنأخذ أمثلة من عدّة لغات:
في العربيّة:
كتب مصطفى مقالًا.
 V +  S  + O  = OSV
في الانجليزيّة:
Mustafa Wrote an Article
مصطفى كتب مقالًا.
  S  + V + O  = OVS
في اليابانيّة:
ムスタファは記事を書きました。 (مصطفى وا كيجي وو كاكيماشِتا).
 (مصطفى مقالًا كتب).
   S  + O + V = VOS
إذا نظرنا إلى القواعدَ النحويّة في كل اللّغات سنجد أنها قواعدٌ غير منطقيّةٍ لكنها تطوّرت لأسبابٍ اجتماعيةٍ وليس لأسبابٍ غريزيّة. مثلًا في اللّغة الإنكليزية توجد كلماتٌ لا تستطيع جمعها مثل Fish، لماذا لا نستطيع جمعها، ليس لأنه لا توجد أسماك في الطبيعة، ولكن لأن هذه القاعدة تطوّرت لأسبابٍ معيّنةٍ بهذه الطريقة، لكن هذه الأسباب ليست أسبابًا غريزيةً وإنما أسبابٌ اجتماعيةٌ مرتبطةٌ بقصّة تطوّر هذه اللّغة (11) . إنّ قصّة تطوّر اللّغات على الكرة الأرضيّة قصّةٌ غنيّةٌ جدًا، تحكي الكثير عن تاريخ تطوّر الحضارة البشريّة. إذ يوجد اليوم أكثر من 6500 لغةٍ وهذه اللّغات دائمة التلاقح فتنشأ عنها لغاتٌ جديدةٌ وتنقرض لغاتٌ قديمة (14).
تعلّم اللّغة في الدماغ 
توجد نافذةٌ زمنيةٌ محدّدة لتعلّم اللّغة وذلك بسبب أليّات تطور الدماغ. الحدّ الأقصى لاكتساب وفهم اللّغة هو حوالي سن الثامنة حيث تصبح العمليّة صعبةً جدًا بعد مرور هذه النافذة الزمنيّة، وتطور الدماغ دون الاستحواذ على خاصّية اللّغة. يوجد مثالان لأطفال لم يتعلّموا أي لغةٍ ضمن النافذة الزمنيّة للاستحواذ اللّغوي، وهما لطفلٍ من فرنسا عاش في القرن الثامن عشر اسمه فيكتور، فهذا الطفل كان يظهر لبعض المزارعين في فرنسا ليأخذ بعض الطعام ويهرب في الليل إلى أن تم القبض عليه، ثم تمّت محاولة تعليمه اللّغة الفرنسيّة لكنه لم يستطع التعلّم، وكان من الواضح انحدار قدراته العقليّة. القصّة الثانية هي لطفلةٍ عاشت في غرفةٍ لدى والديها في كاليفورنيا في تسعينيات القرن الماضي دون أن تتعلم أي لغةٍ، وعند اكتشاف حالتها حاول العلماء فحصها وتعليمها اللّغة إلا أن محاولتهم باءت بالفشل، ولم تستطع الفتاة من تطوير خاصيّة اللّغة لديها. كان من الواضح أيضًا انحدار مستواها العقلي، والذي لم يكن واضحًا أنه مرتبطٌ بفقدان خاصّية اللّغة، أم أنه نتيجة عدم تفاعلها بالشكل الصحيح في مرحلة الطفولة. لأسبابٍ أخلاقيةٍ لا يمكننا القيام بتجاربٍ على بشرٍ لم يتعلموا اللّغة؛ لكن يوجد لدينا بعض الحوادث المأساويّة التي حصلت والتي استطعنا من خلالها استخلاص بعض هذه النتائج الهامّة (8).
التواصل عند الأحياء
يوجد عدّة أفلامٍ وثائقيةٍ عن تعلم الشمبانزي والغوريلّا لخاصيّة اللّغة واستحواذهم على عشرات الكلمات، وقدرتهم على وضعها ضمن سياقٍ منطقيٍّ ينقل المعلومات التي لديهم للآخرين. المشكلة لدى هذه الكائنات هو عدم تطوّر حنجرتها بشكلٍ يسمح لها بإطلاق زفيرٍ متقطّعٍ وبالتالي ليس لديها مرونةٌ في النطق مثل الإنسان.
توجد تجربة لبونوبو «أقرب القردة العليا للإنسان» اسمه «كانزي Kanzi»، استطاع هذا البونوبو تعلّم أكثر من 300 كلمةٍ والقدرة على ربطها بشكلٍ منطقيّ (5). وإذا اعتبرنا أن اللّغة هي آليات التواصل ونقل الأفكار بين دماغين بشكلٍ عام، عندها تصبح اللّغة خاصيّةً منتشرةً لدى العديد من الكائنات وبأشكالٍ متنوّعةٍ أكثر، نذكر فيما يلي بعض الأمثلة:
الغراب: يستطيع نقل المعرفة المتراكمة بين الأجيال ولديه أكثر من نوعٍ من النعقات، لكلّ نعقة منها رسالةٌ محدّدةٌ مختلفة. مثلًا لديه نعقة للتنبيه على وجود قطّة، ونعقةٌ مخصّصة لوجود إنسان، وواحدة أخرى للتنبيه عن وجود نسرٍ أو أحد الطيور الجارحة. هذه النعقات لها نوعان، فمنها العام والذي عادة ما نسمعه »عاق عاق عاق»، ومنها الخاص والذي أشبه بصوت الحمام. يستخدم الغراب الصوت الثاني في التواصل ضمن المجموعة، ويستطيع نقل العديد من المعلومات من خلال وسائله في التواصل. هذا يعني أنه قادرٌ على نقل المعلومات بين الأجيال وهذه من أولى علامات تطوّر الثقافة والأدوات(19)(20).
الدلفين: لكل دلفينٍ اسم يميّزه عن غيره ويستطيع تمييز نفسه وقادر على التواصل المركّب. وهو قادرٌ أيضًا على تعلم لغة الإشارة والتميزالمنطقي اللغوي، مثل: أحضر س إلى ع أو أحضر ع إلى س. على فرض لدينا كرة مائية ولدينا لعبة مائية. الدلفين قادر على التمييز اللغوي إذا ما طلبنا منه احضار الكرة إلى اللعبة المائية أو العكس.
الببغاء الإفريقي الرمادي: لديه القدرة على ربط ثلاث كلماتٍ ضمن سياقٍ منطقيٍّ ومجموعةٌ لابأس بها من المفردات التي يستخدمها للحصول على محفّزات إيجابيّة (1).
الفيل: ذكاء الفيل وقدرته على إدراك ذاته يجعله كائنًا مرشّحًا لتطوير وسائل تواصلٍ، خصوصًا أنه يعيش ضمن قطعان، ولدينا دلائلٌ تشير إلى أن المعرفة التراكمية لدى الفيل تنتقل عبر الأجيال.
بما يتعلق بالتواصل، فإن التواصل ببساطةٍ هو عمليّة نقل المعلومات بين طرفين، وبهذه الصورة العامّة فإن التواصل عمليّةٌ منتشرةٌ بين جميع الكائنات لكن تختلف درجة تعقيدها وقدرة صاحبها على استثمارها. مثلًا عندما ينفخ الضفدع جسده فهذه عمليّة تواصلٍ مع أعدائه بأن حجمه أكبر من الواقع، وعندما تُطلق النباتات مركّباتٌ كيميائيةٌ في الهواء فهي ترسل رسائل مختلفةٍ لكائنات مختلفةٍ بناءً على الاستراتيجية الحاصلة، وعندما يغير الأخطبوط من لونه فهذه عملية تواصل يموه من خلالها الأخطبوط ويشوّه المعلومات المتعّلقة بمكان تواجده.
أخيرًا أود أن أتطرّق لموضوع التواصل المخادع أو الكذب لما له من أهمّيةٍ تطوريّةٍ لدى جميع الأحياء. الكذب هو عمليّة تواصلٍ تهدف إلى نقل معلوماتٍ مغلوطةٍ بشكلٍ إراديٍّ من طرف إلى آخر بهدف مردودٍ إيجابيٍّ أو تذليل مردودٍ سلبيّ. ويعتبر الخداع من أهم استراتيجيات البقاء في الطبيعة. مثلًا صغار الحيوانات عليها بالبكاء والإيحاء بأنها بحاجةٍ للطعام بشكلٍ مبالغٍ فيه لكي تحصل على أكبر كمّيةٍ ممكنةٍ منه. طفل الإنسان يبكي غريزيًا في حال كان جائعًا، وهو يبالغ في البكاء لكي تستجيب والدته له بشكلٍ أسرع. إذا الطفل القادر على خداع أمه أكثر سيحصل على موارد أكثر والأم التي تستطيع رصد خداع أبنائها أكثر ستستطيع توزيع مواردها عليهم بشكلٍ أفضلٍ مما يزيد فرص انتشار جيناتها عبر الأجيال.
الخداع جزءٌ أساسيٌّ من عملية التواصل بين الحيوانات، والحيوانات التي تجيد التواصل المخادع تستطيع أن تؤمّن موارد أكثر وتحمي أنفسها من الإفتراس.
الملخص:
إنّ اللّغة البشريّة من أعقد وسائل التواصل التي يعرفها العلم، و ذلك لما تتضمنه من قدرةٍ على إرسال صورٍ ذهنيّةٍ بين الكائنات. فنحن نشاهد في أفلام الخيال العلمي قدراتٍ مثل التخاطر (التواصل الدماغي)، و نتسائل حول تطوّر مثل هذه الخاصيّة لدى البشر مستقبلًا. ولكن في الواقع، نحن نمارس التخاطر طوال الوقت عندما نزفر ببعض الموجات الصوتيّة، التي تُترجم إلى صورٍ ذهنيّة. فالتخاطر لابد أن يُبنى على وسيلة نقلٍ فيزيائيّة، كموجاتٍ صوتيّةٍ أو كهرومغناطيسيّة. وفي النهاية، نعيش حياتنا في نظامٍ كونيٍّ زاخرٍ بالمعلومات، وكلُّ كائنٍ قادرٍ على تبادل هذه المعلومات يزيد من فرص بقائه، ويقترب أكثر من فهم مكانه ضمن هذا الوجود.
المراجع:
  1. The Editors of AAA Science NetLinks, Parrot Learning, 2015.
  2. Erin Wayman, Becoming Human: The Evolution of Walking Upright, smithsonian.com, August 6, 2012.
  3. The Editors of Encyclopedia Britannica, anterior speech area; convolution of Broca July 31, 2015.
  4. The Editors of Encyclopedia Britannica, posterior speech area; Wernicke area, July 31, 2015.
  5. Paul Raffaele, Speaking Bonobo, Smithsonian Magazine, November, 2006.
  6. Brian Bishop, A History of the Arabic Language, Department of Linguistics at Brigham Young University, April 24, 1998.
  7. John Huehnergard, Proto-Semitic Language & Culture; Semitic Roots, The University of Texas at Austin, 2011.
  8. Sasha Alsanian, Researchers Still Learning from Romania’s Orphans, NPR (National Public Radio), 16 September 2006.
  9. Gretchen McCulloch, What Happens if a Child Is Never Exposed to Language? slate.com, July 16, 2014.
  10. Rebecca Saxe, The Forbidden Experiment What can we learn from the wild child?, Boston Review, July 05, 2006.
  11. John McWhorter, Ph.D. Story of Human Language, the great Courses 2015.
  12. Stephen R. Anderson, How many languages are there in the world? , Linguistic Society of America, 2015.
  13. The University of Maryland’s Langscape project, available free online, provides interactive maps and linguistic data for 7,000 languages around the world.
  14. Steven Pinker. The Language Instinct: How the Mind Creates Language. Publisher: William Morrow & Company; 1st edition, 1 February 1994.
  15. Brockman, H. J., A. Grafen & R. Dawkins 1979 Evolutionary stable nesting strategy in a digger wasp. J. Theor. Biol. 77: 473-496.
  16. Douglas, Angela E. Symbiotic Interactions. New York: Oxford University Press, 1994.
  17. Sarkis K. Mazmanian & Dennis L. Kasper, The love-hate relationship between bacterial polysaccharides and the host immune system. Nature Reviews Immunology 6, 849-858 (November 2006).
  18. Richard Dawkins 1978, The selfish gene Oxford Unversity Press.
  19. Steven Pinker, The Blank Slate: The Modern Denial of Human Nature. Penguin. p 257.
  20. SUSAN MILIUS, When Birds Go to Town, Science News, August 12, 2011.
  21. Garrison Frost, Things you may or may not know about crows, National Audubon Society, July 02, 201

L'école est une usine à normaliser, à légitimer les différences sociales

   VIF.BE


Il a été professeur dans des quartiers sensibles, adepte des arts martiaux et se mue à l'occasion en pianiste et compositeur. Vincent Cespedes aime l'éclectisme et plus encore peut-être la proximité. Ce philosophe français qui tranche avec ses pairs s'intéresse dans son dernier ouvrage, Oser la jeunesse, aux "nouveaux jeunes" dans une société qui, assure-t-il, ne rate jamais une occasion de les déconsidérer. Pour les sauver du suivisme consumériste ou du manichéisme des islamistes, Vincent Cespedes exhorte à leur réinsuffler l'élan de la passion alors que l'école, "usine à normaliser", n'est plus, selon lui, en mesure de remplir cette mission.


Le Vif/L'Express : Vous écrivez que "la résignation est un plat qui se mange tôt". Comment expliquez-vous cette résignation d'une partie de la jeunesse ?
Vincent Cespedes : On la résigne. On ne lui laisse aucun débouché qui pourrait conjuguer l'avenir et la passion. On lui dessine un avenir gris, triste, dépassionné, normalisé. Au lieu d'être emplie de désir, de passion, d'envie, d'héroïsme et d'ambition, la jeunesse est en attente de normalisation, désactivée, dévitalisée, complexée qu'elle est de tout ce qu'elle a appris à l'école.
L'école aurait donc une grande responsabilité dans ce constat ?
Les jeunes entrent à l'école passionnés et gourmands de connaissances et ils en sortent complètement dévitalisés, sans plus aucune envie de lire ni d'écrire. Personne ne peut supporter de rester sur une chaise huit heures par jour. Même en milieu carcéral, on ne fait pas subir cela aux détenus. Il est hallucinant que cette jeunesse-là, reflet de la massification de l'enseignement qui n'est plus réservé à une petite élite, subisse encore les méthodes archaïques d'enseignement des années 1950 - 1960.
Vous parlez de "l'insuffisance de l'éducation quand elle se prive d'insuffler aux jeunes le plaisir d'être curieux, libres et solidaires, afin qu'ils puissent donner une forme généreuse à leur révolte". L'école forme-t-elle ou des suiveurs ou des réactionnaires ?
Elle forme des consommateurs. Il n'y a aucune ouverture concrète et passionnée sur le débat. Les jeunes au sortir de l'école ne savent pas prendre la parole en public ou lire un livre en anglais. L'école crée une jeunesse peureuse et pleutre qui préfère la haine à des passions plus nobles. Elle ne pratique aucun exercice démocratique alors qu'elle devrait être une matrice démocratique. Il faudrait un budget par classe dont les élèves décident l'affectation et des créations collectives. Les seuls professeurs que l'on garde en mémoire une fois adulte sont des professeurs passionnés qui étaient, du coup, passionnants. L'école est une usine à normaliser, à légitimer les différences sociales. Elle permet de dire au fils d'ouvrier que s'il en est réduit à faire le boulot de son père, ce n'est pas de la faute du système injuste mais de la sienne parce qu'il n'a pas assez travaillé. L'école n'a que des codes bourgeois. Seuls les fils de bourgeois peuvent s'en sortir, au besoin avec des heures de cours particuliers. Regardez la crispation en France autour de la suppression du cours de latin. A quoi le latin peut-il encore servir ? Si on veut l'étymologie d'un mot, il y a Wikipédia. Si on veut l'apprendre, on peut commencer à 18 ans et être très bon en l'espace de deux ans. Les maths ? Sinus et cosinus ne m'ont jamais servi dans la vie. On nous dit que cela sert à former le jugement. Que dalle ! C'est une école de papa pour faire de bons fils à papa. Cela ne marche pas en banlieue. En France, 150 000 élèves sortent tous les ans du système sans aucun diplôme.
Comment expliquer ce conservatisme ?
Parce que la France est un pays où les vieux gouvernent et font l'opinion. On ne peut plus aller à la télé dire ce que l'on pense si on n'a pas plus de 40 ans. C'est un hold-up démocratique d'une classe âgée sur les jeunes. On veut les jeunes sous contrôle.
Vous affirmez que le succès de la téléréalité a éloigné un peu plus encore les jeunes des espaces de débat...
Lors de la première émission de téléréalité, le présentateur a fini dans la piscine ; un jeune parlait de la relation qu'il avait eue en cachette la nuit précédente avec une concurrente et un autre s'adressait directement au public à travers la caméra. C'est normal. Cela s'appelle la jeunesse. Révolte, sexe, connivence et utilisation du système. Tous ces "problèmes" ont été gommés dès la deuxième émission de téléréalité. Les contrats ont prévu des clauses pour que cela ne se répète pas. C'est l'image que cette société antijeunes veut avoir de la jeunesse : passive, obéissante et surtout "qui ferme sa gueule". La moindre occasion de se moquer de la jeunesse est exploitée. Tout est cadré pour que cela soit un spectacle acceptable pour la catégorie de téléspectateurs, plus âgés, qui regardent ce genre d'émissions. Les jeunes, eux, sont sur Internet.
L'Europe est confrontée à des départs de jeunes vers le conflit en Syrie. Vous écrivez que "l'islamisme prend en charge la totalité de l'existence, c'est ce qui le rend sécurisant et hypnotisant". On est loin, là, de la soif de liberté de la jeunesse ?
La soif des jeunes n'est pas celle de la liberté. La soif de liberté, elle s'exprime à 40 ans quand on a une nana et des marmots, qu'on en a ras-le-bol et qu'on a envie de se casser. Le jeune veut de la passion. C'est pour cela qu'il s'engage à l'armée, dans le trotskysme, auprès des extrêmes. On veut jouir d'être un héros. Mais le héros n'est pas libre. Il a une mission et des médailles. L'islamisme radical propose cela. Les jeunes veulent être reconnus par la communauté, être applaudis par leurs pairs et être des héros. Ceux qui proclament "jeune, j'ai besoin de toi" sont soit des vendeurs, soit des islamistes, soit le Front national. Ce ne sont ni l'Etat, ni les politiques, ni les citoyens.
Cela explique-t-il aussi que le Front national attire un tiers du vote jeune ?
Quand tout nous interdit la passion, on la cherche à tout prix et on la trouve dans la haine. Il ne faut pas sous-estimer la jouissance de haïr. Le Front national propose des ennemis clairs, identifiés, donne de la valeur à tout militant et dit : "Tu as le droit de haïr. Nous, on n'est pas l'establishment." La société refuse de s'adresser aux jeunes par la passion quand il s'agit de vouloir vivre ensemble, de démocratie, d'éducation et de transmission du savoir. C'est une erreur fondamentale. La jeunesse européenne traverse une crise de la passion.
Les réseaux sociaux n'instaurent-ils pas une relation en vase clos chez les jeunes ?
Les réseaux sociaux ne valent que par la passion. C'est problématique parce que seuls les jeunes véritablement passionnés vont utiliser les réseaux sociaux et Internet pour enrichir leur savoir. Les autres réagissent plutôt en consommateurs. Les réseaux sociaux permettent aussi de se moquer de soi et de partager. C'est un réflexe nouveau. Le plus grand "bouton" d'Internet, ce n'est pas le "like", c'est le "partager". Il y a l'idée d'un bonheur collectif et de quelque chose qui ne vaut que parce que l'on peut le partager. On n'a jamais autant écrit dans l'histoire de l'humanité, à l'exception de la période de guerre avec les lettres du et vers le front, 4 millions par jour.
Est-ce une machine à nombrilisme, les réseaux sociaux ?
Les jeunes font attention à l'image qu'ils donnent aux autres. Il y a une construction de l'identité. C'est anecdotique. Plus intéressante est l'intelligence connective que les réseaux sociaux développent. Elle n'est pas ni l'intelligence individuelle d'érudition ni l'intelligence collective des manifestations et du syndicalisme... Des jeunes deviennent superintelligents parce qu'ils sont connectés et qu'ils échangent. Il y a une augmentation générale de l'intelligence humaine.
Récemment, vous avez été au centre d'une polémique avec le rappeur Médine qui, dans le morceau Don't Laïk de son nouvel album, a appelé à "(crucifier) les laïcards" après l'attentat de Charlie Hebdo. Est-il important pour vous que le philosophe se confronte à la réalité ?
Je vais même plus loin. Il est important qu'il utilise le même langage et qu'il ne s'abrite pas derrière le paravent des mots et de l'érudition. J'adore le rap. Médine est un peu adepte des coups bas. Et c'est aussi le respecter que de dire : "Je ne suis pas d'accord. Ce que tu fais, c'est de la merde. Et je t'explique pourquoi.". Médine a des idées proches de l'islamo-gauchisme : c'est du Tariq Ramadan mélangé avec du Edwy Plenel dans sa dérive actuelle. La plupart des philosophes en France sont les premiers de la classe. Ils sont bourgeois et vivent entre bourgeois. Moi, volontairement, j'ai été professeur en zone sensible.
Dans votre précédent livre, vous analysiez le phénomène de l'ambition. Et vous rapportiez le constat du philosophe Peter Sloterdijk selon lequel la plupart des humains se satisfont de leur état et n'ont pas d'autre ambition qu'un peu plus de confort. Est-ce inquiétant ?
Il y a 10 % d'ambitieux. Mais beaucoup de gens sont passionnés. Et on peut avoir une très belle vie en étant passionné. Je plaide pour la passion parce que c'est démocratique. L'ambition n'est pas démocratique. Dans l'ambition, il y a un parcours de vie. On hérite de la faille du père ou de la mère.
Comment les failles des parents, ce que vous appelez les "hélas", constituent-elles les étincelles de l'ambition ?
La théorie des "hélas" montre que l'ambition est une résilience par procuration. Quand un de vos modèles vous dit avoir été nul et ne pas avoir réussi, vous vous dites : "Moi, je vais réussir". J'ai analysé 800 biographies de personnalités célèbres. Dans chacune, on trouve un "hélas" fondateur. Un pacte avec soi-même : moi, je réussirai où mon modèle a échoué. En outre, lorsque le "hélas" est transmis, votre modèle "se démodélise". Du coup, vous cherchez des modèles alternatifs. Tout ambitieux a été ouvert à des mentors hors du cercle familial.
Plaidez-vous pour que les parents soient sincères et qu'ils reconnaissent leurs "hélas" à leurs enfants ?
Non, parce que je n'ai pas tranché la question de savoir si le but d'une éducation réussie était de rendre l'enfant ambitieux. Il faut le rendre passionné. Je ne suis pas sûr que l'ambition soit une norme à viser pour l'éducation des enfants. Parce qu'il y a beaucoup trop d'ambitieux et parce que l'ambition est une forme de folie pathologique.
Vous qui avez souvent travaillé au service des entreprises, vous dites que le fléau du XXIe siècle, c'est le stress normalisé. Pourquoi ?
Le grand défi de l'entreprise est de motiver des employés dépourvus de passion. On a inventé le stress. Le stress est une motivation extrinsèque à coup de récompenses, de pressions et de punitions pour motiver les gens qui ne sont pas passionnés. Ce n'est plus "j'ai envie" ; c'est "je dois survivre", "je dois avoir un diplôme"... On a fait une translation entre la motivation intrinsèque, la passion, et la motivation extrinsèque, la pression. L'origine de la perte de sens de notre société vient de là. On ne sait même plus pourquoi on bosse et pourquoi on vit, alors on se suicide sur son lieu de travail.
Est-ce un phénomène neuf ?
Il a toujours existé. La nouveauté est que la promesse démocratique a augmenté. Donc il y a une sorte de hiatus scandaleux entre une méritocratie de façade et, fondamentalement, une pression généralisée.
Dans L'ambition ou l'épopée de soi, vous rendez hommage à Jacques Brel. Qu'est-ce qu'il vous a apporté ?
Quand ma professeure de maternelle a annoncé sa mort, j'ai été frappé par son malheur. Jacques Brel a été parmi les trois auteurs qui, petit, ont formé ma pensée. Il m'a apporté l'idée que la passion est vitale. Une poésie très forte, accessible à tout le monde, démocratique et exigeante. Un jonglage d'émotions. Une intransigeance artistique absolue. Une façon philosophique de prendre la parole. Un amour des autres jusqu'à l'empathie extrême. Un maître. C'est vers ce mélange d'émotions et de raisonnements que j'essaie de tendre dans mes livres.
Oser la jeunesse, Flammarion, 138 p. L'ambition ou l'épopée de soi, Flammarion, 310 p.