عن أنفاس نت
إن ما يميز الفلسفة عن باقي التخصصات المعرفية هو كونها لا تكتفي بالبحث في أهم الإشكالات التي درجت على مناقشتها عبر تاريخها، بل على العكس من ذلك، تجعل من ذاتها موضوعا للتساؤل المستمر، وهي السمة الأساسية المحايثة للتفكير الفلسفي منذ نشأته إلى حدود الفترة المعاصرة، حيث استقلت مختلف المباحث العلمية ما جعل سؤال ما الفلسفة يطرح ذاته بقوة أكثر. في هذا الصدد يتبلور الإشكال الآتي:
كيف عالجت الفلسفة مسألة تعريفها لذاتها عبر التاريخ؟ وما الإشكالات التي يطرحها هذا التعريف؟
لا شك أن للفلسفة موضوعات ومباحث كبرى تبلورت منذ الفلسفة اليونانية، وهو ما يعرف بالمباحث الفلسفية الكبرى (الوجود، المعرفة، الأخلاق والسياسة، الجمال). غير أن ظهور الفلسفة لم ينفصل عن البحث عن ماهيتها، لدرجة يمكن القول أن كل فلسفة قدمت تعريفا وتصورا خاصا للفلسفة ذاتها. ذلك ما سيتضح من خلال هذا العرض الفلسفي، مع الإشارة إلى أن سؤال "ما الفلسفة؟" سيطرح بقوة في الفلسفة المعاصرة بشكل خاص.
كيف عالجت الفلسفة مسألة تعريفها لذاتها عبر التاريخ؟ وما الإشكالات التي يطرحها هذا التعريف؟
لا شك أن للفلسفة موضوعات ومباحث كبرى تبلورت منذ الفلسفة اليونانية، وهو ما يعرف بالمباحث الفلسفية الكبرى (الوجود، المعرفة، الأخلاق والسياسة، الجمال). غير أن ظهور الفلسفة لم ينفصل عن البحث عن ماهيتها، لدرجة يمكن القول أن كل فلسفة قدمت تعريفا وتصورا خاصا للفلسفة ذاتها. ذلك ما سيتضح من خلال هذا العرض الفلسفي، مع الإشارة إلى أن سؤال "ما الفلسفة؟" سيطرح بقوة في الفلسفة المعاصرة بشكل خاص.
إن نشأة الفلسفة اتسم بتميز هذا الخطاب عن خطابات أخرى كالأسطورة، حيث اعتبِر التفكير الفلسفي تفكيرا عقلانيا ومكتوبا ويخضع للمحاججة. غير أن أرسطو قام بتصنيف للمباحث الفلسفية، والتي كان من ضمنها العلوم، وفق سلم تراتبي، واعتبر أشرف فلسفة هي الأبعد من المادة ومن مجال الممارسة العملية. وبذلك احتلت الميتافيزيقا أعلى السلم بما هي بحث عن الوجود بما هو موجود. وقد استمر هذا التصور للفلسفة لدى المسلمين، حيث وضعوا الإلهيات في أعلى مرتبة. وعليه انضافت للفلسفة الإسلامية إشكالية جديدة، وهي النظر إلى الوجود بما هو "دال على الموجِد" في إطار التوفيق بين الدين والفلسفة والبرهان على وجود الله. بينما كانت إشكالية الله في الفلسفة اليونانية مهملة إلى حد ما، إذ لجأ إليها أرسطو مثلا كضرورة فرضها تصوره للحركة التي لا بد أن تتوقف عند محرك أول لا يتحرك.
غير أن الفلسفة الحديثة وضعت الفلسفة اليونانية موضع سؤال، خاصة فلسفة أرسطو الذي مثل ذروة الفلسفة اليونانية، وذلك في سياق ظهور حقائق علمية جديدة فندت التصور الأرسطي للكون. وهكذا سيضع ديكارت وبيكون تصورا جديدا للفلسفة. وقد اهتما بإشكالية المنهج الذي يصلح للعلم الحديث بشكل خاص.. لقد فرضت المنظومة الميكانيكية الفصل بين المادة والنفس، بينما كانت النفس في المنظور الأرسطي توجد عند النباتات والحيوانات أيضا بدرجات مختلفة. في هذا الصدد أسس أرسطو لفلسفة الذات، كما تناول المسائل الميتافيزيقية القديمة (الله، النفس..) وبرهن عليها بأدلة عقلية (الدليل الأنطولوجي، الدليل الإنساني التجريبي...الخ)، وهو الشيء الذي جعل كانط ينتقد ديكارت وكل الفلاسفة الذين تناولوا الموضوعات الميتافيزيقية، باعتبار أن العقل ليس بمقدوره الحسم في هذه الموضوعات التي سماها كانط نقائض العقل. وعليه وضع حدودا للعقل لا ينبغي تجازوها.
ونجد في نهاية المرحلة الحديثة نقدا آخر لموضوع الفلسفة في ظل سيادة النزعة الوضعية، حيث اعتبر اوغست كونت أن هناك ثلاث مراحل تطورية للفكر البشري، وأن المرحلة الفلسفية أصبحت متجاوزة مع سيادة العلوم الدقيقة، وهو ما جعل هوسرل يعتبر ذلك بمثابة ضربة لعنق الفلسفة. وفي الفلسفة المعاصرة، ستصبح تلك الإشكالية أكثر جدية، حيث نادى هيدغر باكتمال الميتافيزيقا كما تعالت الخطابات المنادية بموت الإنسان (فوكو) ونهاية التاريخ (فوكوياما)، وذلك في سياق بروز فلسفات تفكيكية ونقدية. غير أن جاك دريدا اعتبر أنه رغم موت الفلسفة فإنها هي التي تقود جنازتها، بما مفاده أن كل نقد للفلسفة يحتاج لإقامة فلسفة بديلة.
من خلال هذه العتبات التاريخية لتطور الخطاب الفلسفي وتجدد موضوع الفلسفة اتضح فعلا أن كل نسق فلسفي يعبر عن تصور ما للفلسفة وماهيتها. وقد ربط جون دييوي بين الفلسفة وسياقها الاجتماعي والتاريخي معتبرا أن الفلسفة ما هي إلا انعكاس للإشكالات التي يفرضها الواقع الاجتماعي والحقائق العلمية الجديدة في فترة تاريخية معينة. ومن هذا المنظور حتى لو نظرنا لإجابة دولوز عن سؤال ما الفلسفة؟ حيث خصها بإبداع المفاهيم مقابل العلم الذي يشتغل بالوظائف؛ فإننا نجده نفسه يبدع مفاهيما مجسدة تعريفه للفلسفة. وذلك من قبيل: الشخصيات المفهومية، الآلات الراغبة، ثم جسد بدون أعضاء (كتاب ألف سطح) ....الخ.
بهذا المعنى فتعريف الفلسفة يفترض إقامة فلسفة، فضلا عن تقديم تصور خاص للإشكالات الفلسفية الكبرى. لكن السؤال الذي يبقى موضع جدال بين الفلاسفة هو: لماذا تم تعريف الفلسفة بهذا المفهوم دون غيره؟
هنا سننفتح على إشكالية اختلاف الأولويات والمثل التي تنشدها كل فلسفة، فأفلاطون مثلا كان يهمه الحقائق المتعالية والمثل الخالدة ما جعله يحتقر الحس والجسد، وهذا ما جعل نيتشه ينتقده بقلب ذلك التصور وتأكيد إرادة القوة ومنح الجسد والحياة مكانة متميزة مقابل تحقيره للمثل الأخلاقية التي لا تعبر إلا عن أخلاق العبيد مقابل أخلاق السادة. غير أن فلسفات الاختلاف جذرت تصور نيتشه وجعلت الفلسفة عمل نقدي وتفكيكي يكشف عن علاقات السلطة (فوكو) ويعيد الاعتبار للهامش (دريدا)...الخ.
ومجمل القول، إن مسألة تعريف الفلسفة تبقى موضع نقاش مستمر بين الفلاسفة. لكن هذا التعريف ينبني على تصور ما للإنسان والوجود، وهو أمر لم يكن محسوما بين مختلف المذاهب والتوجهات الفلسفية. وبهذا المعنى، فكل تعريف للفلسفة يبقى تعريفا نسبيا ولا ينفصل عن سياقات معينة. بعبارة أخرى، فهذا السؤال يضعنا في قلب الممارسة الفلسفية بقدر ما هو سؤال أركيولوجي يعبر عن الإبستيمي السائد، أي النظام المعرفي الموجه لمرحلة ما من التاريخ.
غير أن الفلسفة الحديثة وضعت الفلسفة اليونانية موضع سؤال، خاصة فلسفة أرسطو الذي مثل ذروة الفلسفة اليونانية، وذلك في سياق ظهور حقائق علمية جديدة فندت التصور الأرسطي للكون. وهكذا سيضع ديكارت وبيكون تصورا جديدا للفلسفة. وقد اهتما بإشكالية المنهج الذي يصلح للعلم الحديث بشكل خاص.. لقد فرضت المنظومة الميكانيكية الفصل بين المادة والنفس، بينما كانت النفس في المنظور الأرسطي توجد عند النباتات والحيوانات أيضا بدرجات مختلفة. في هذا الصدد أسس أرسطو لفلسفة الذات، كما تناول المسائل الميتافيزيقية القديمة (الله، النفس..) وبرهن عليها بأدلة عقلية (الدليل الأنطولوجي، الدليل الإنساني التجريبي...الخ)، وهو الشيء الذي جعل كانط ينتقد ديكارت وكل الفلاسفة الذين تناولوا الموضوعات الميتافيزيقية، باعتبار أن العقل ليس بمقدوره الحسم في هذه الموضوعات التي سماها كانط نقائض العقل. وعليه وضع حدودا للعقل لا ينبغي تجازوها.
ونجد في نهاية المرحلة الحديثة نقدا آخر لموضوع الفلسفة في ظل سيادة النزعة الوضعية، حيث اعتبر اوغست كونت أن هناك ثلاث مراحل تطورية للفكر البشري، وأن المرحلة الفلسفية أصبحت متجاوزة مع سيادة العلوم الدقيقة، وهو ما جعل هوسرل يعتبر ذلك بمثابة ضربة لعنق الفلسفة. وفي الفلسفة المعاصرة، ستصبح تلك الإشكالية أكثر جدية، حيث نادى هيدغر باكتمال الميتافيزيقا كما تعالت الخطابات المنادية بموت الإنسان (فوكو) ونهاية التاريخ (فوكوياما)، وذلك في سياق بروز فلسفات تفكيكية ونقدية. غير أن جاك دريدا اعتبر أنه رغم موت الفلسفة فإنها هي التي تقود جنازتها، بما مفاده أن كل نقد للفلسفة يحتاج لإقامة فلسفة بديلة.
من خلال هذه العتبات التاريخية لتطور الخطاب الفلسفي وتجدد موضوع الفلسفة اتضح فعلا أن كل نسق فلسفي يعبر عن تصور ما للفلسفة وماهيتها. وقد ربط جون دييوي بين الفلسفة وسياقها الاجتماعي والتاريخي معتبرا أن الفلسفة ما هي إلا انعكاس للإشكالات التي يفرضها الواقع الاجتماعي والحقائق العلمية الجديدة في فترة تاريخية معينة. ومن هذا المنظور حتى لو نظرنا لإجابة دولوز عن سؤال ما الفلسفة؟ حيث خصها بإبداع المفاهيم مقابل العلم الذي يشتغل بالوظائف؛ فإننا نجده نفسه يبدع مفاهيما مجسدة تعريفه للفلسفة. وذلك من قبيل: الشخصيات المفهومية، الآلات الراغبة، ثم جسد بدون أعضاء (كتاب ألف سطح) ....الخ.
بهذا المعنى فتعريف الفلسفة يفترض إقامة فلسفة، فضلا عن تقديم تصور خاص للإشكالات الفلسفية الكبرى. لكن السؤال الذي يبقى موضع جدال بين الفلاسفة هو: لماذا تم تعريف الفلسفة بهذا المفهوم دون غيره؟
هنا سننفتح على إشكالية اختلاف الأولويات والمثل التي تنشدها كل فلسفة، فأفلاطون مثلا كان يهمه الحقائق المتعالية والمثل الخالدة ما جعله يحتقر الحس والجسد، وهذا ما جعل نيتشه ينتقده بقلب ذلك التصور وتأكيد إرادة القوة ومنح الجسد والحياة مكانة متميزة مقابل تحقيره للمثل الأخلاقية التي لا تعبر إلا عن أخلاق العبيد مقابل أخلاق السادة. غير أن فلسفات الاختلاف جذرت تصور نيتشه وجعلت الفلسفة عمل نقدي وتفكيكي يكشف عن علاقات السلطة (فوكو) ويعيد الاعتبار للهامش (دريدا)...الخ.
ومجمل القول، إن مسألة تعريف الفلسفة تبقى موضع نقاش مستمر بين الفلاسفة. لكن هذا التعريف ينبني على تصور ما للإنسان والوجود، وهو أمر لم يكن محسوما بين مختلف المذاهب والتوجهات الفلسفية. وبهذا المعنى، فكل تعريف للفلسفة يبقى تعريفا نسبيا ولا ينفصل عن سياقات معينة. بعبارة أخرى، فهذا السؤال يضعنا في قلب الممارسة الفلسفية بقدر ما هو سؤال أركيولوجي يعبر عن الإبستيمي السائد، أي النظام المعرفي الموجه لمرحلة ما من التاريخ.