الثلاثاء، 17 أكتوبر 2017

أزمة العزوف عن التعلم ـ عبد اللطيف الركيك

عن أنفاس نت


يلاحظ المدرس أحيانا بين أفراد جماعة الفصل الدراسي وجود فئة مهملة ومعرضة عن بناء التعلمات والمشاركة، فيها فيصدر عليها أحكاما قيمية نهائية، وقد يتشكل لديه تمثل سلبي عن مثل هؤلاء الافراد طيلة حياته المهنية، وقد يعمد إلى إقصاء هؤلاء الأفراد او الدخول معهم في مشاحنات تزيد الأمر تعقيدا.
في الواقع مثل هذه الحالات تحتاج إلى تفهم ومعاملة خاصة مهما كان مستوى خروجها عن تعاقدات الجماعة وتأثيرها على اتجاهاتها. قد يحتاج الأمر إلى بحث نفسي واجتماعي يمكن أن يميط اللثام عن ما هو مخفي بما قد يغير نظرة المدرس تماما. العزوف والإعراض العمدي أحيانا والإمعان في ذلك والحرص على إظهاره للمدرس ولجماعة القسم قد تقف خلفه عوامل ذاتية نفسية أو اجتماعية مرتبطة بالمحيط العائلي أو نتيجة هيمنة تمثلات على ذهنية المتعلم، تمثلات سلبية قد تكون خاطئة وقد تكون مبررة ومعقولة. فقبل أن يلج المتعلم حجرة الدرس يجد نفسه محاصرا بجميع هذه العوامل المعرقلة: نظرة متشائمة للمستقبل، مواقف سياسية واجتماعية غير مؤطرة، تمثل سلبي عن المدرسة كفضاء مغلق رسمي وقانوني، عن الإدارة، عن المدرس، عن الجماعة الفصلية، عن المادة...الخ
 فهذه اشتراطات قد تغيب عن المدرس، وقد يكون مدركا لها إلا أنه يعتبرها خارجة عن نطاق عمله. وهنا تتعقد مشكلة العزوف أكثر بحيث يمكن أن تعيق السير العادي للدراسة.
في مدارسنا يتم القفز على كل هذا المعطيات، والاتجاه نحو التنميط السلوكي للمتعلم على أساس وجود مواصفات مرجعية للمتعلم يتوجب أن تنسحب قصرا على الجميع. فنكتفي في من منطلق هذه النظرات الشمولية بحشر المتعلمين في فضاءات مغلقة وضيقة وإجبارهم على الانخراط في نفس التعلمات وبنفس الوسائل والمعينات والطرق الديداكتيكية والأساليب التواصلية على أساس أن جماعة الفصل منسجمة وتمثل كلا متماثلا متشابها له نفس الاستعدادات النفسية والذهنية والعقلية...والحال أن ثمة تفاوتات على هذه المستويات، ولا يوجد أفضل مكان للتعبير عنها سوى في المدرسة، وتحديدا داخل فضاء القسم كتعبير عن ''انتفاضة'' و''تمرد'' عن كل ما هو رسمي وشكلي وتنميطي يتجاهل واقع اختلاف الاستعدادات والقدرات والحمولات الثقافية الذاتية والموضوعية.
قدرات المتعلمين مختلفة، لذلك تنقسم جماعة القسم منذ البداية إلى جماعات متناقضة تسعى كل واحدة لفرض توجه معين. قد يكون المدرس واهما إن اعتقد بأن تشتت الجماعة الفصلية يعد أمرا في صالحه لجهة مساعدته على قيادتها. ولذلك فإن بحث المدرس في الجوانب الاجتماعية والنفسية قد يكشف الكثير من أسباب العزوف، وقد يساعد على حل الكثير من الإشكاليات. فعلى مستوى القدرات، سنجد تفاوتا كبيرا بين أفراد جماعة القسم على مستوى الملكات والذكاءات، بينما نحن نحشر ذوي الملكات الفكرية والأدبية جنبا إلى جنب مع ذوي القدرات الحسية أو الحركية أو الجمالية أو الابداعية أو الفنية، ونجبر الجميع، مع اختلافاتهم تلك، على الانخراط القسري في نسق تعلمي واحد، قد يكون مملا ورتيبا بالنسبة للبعض، وفاقدا للجدوى بالنسبة للبعض الآخر، وبعيدا عن الواقع بالنسبة لآخرين، أو بعيدا عن ميولات واهتمامات البعض الآخر.
مراعاة هذه الاختلافات أمر هام، ولكنه مكلف، ويحتاج إلى تغيير جذري في منهاجنا الدراسية، ومراجعة الأقطاب، والبرامج، وتوفير إمكانيات مالية ولوجيستيكية وبشرية مهمة، قد لا تكون متاحة في بلد لا يراهن على التعليم، ويقتصد في الإنفاق على قطاع استراتيجي بهذه الأهمية، ويتحين الفرصة للتخلص من الأوجاع التي يسببها في أوضاعه الحالية، فبالأحرى الانخراط في مسلسل الاصلاح الجذري.
وأمام هذا الانحباس المقلق في استعدادات المتعلمين وفشل المنظومة التعليمية في استيعاب تعدد قدرات ومهارات المتعلمين، يبقى الضمير المهني لرجال ونساء التعليم هو الملاذ الأخير لإنقاذ مدرسة عمومية تحتضر، من خلال القيام بالأدوار المتعبة والمكلفة التي يتطلبها إشراك الجميع وفق استعداداتهم المختلفة.

أضف تعليقا

السبت، 6 مايو 2017

ديمقراطية المواطنة وشرعية الحقوق ـ د.زهير الخويلدي

عن أنفاس نت



" إن الإنسان يكون قيما على نفسه بقدر ما يكون عيشه على مقتضى العقل وبالتالي لأن المدينة تكون أشد بأسا وأكثر استقلالية بقدر ما تقوم على أساس العقل وتحتكم به"[1]
تمهيد:
لا يكسب الإنسان صفة المواطنة إلا ضمن إطار الدولة والانتقال من وضعية الفوضى الطبيعية إلى الحالة المدنية ولا يصير فردا يمتلك جملة من الحقوق ويحترم قيم العدالة إلا في إطار سيادة الدولة. وكأن الفرد دون مواطنة هو كائن بلا إنسانية ودولة دون سيادة هي كيان بلا وظيفة ودون نجاعة، ولذلك استوجبت النظم الديمقراطية احترام العدالة الاجتماعية وتوفير الحقوق الأساسية للمواطنين.
لكن هل يكفي إيجاد نظام ديمقراطي في دولة ذات سيادة لكي يتمتع معظم الأفراد بصفة المواطنة؟ ماهي شروط قيام الديمقراطية في الدولة؟ هل هي توفير المواطنة بالحق أم حماية السيادة بالقوة؟ ألا يعود تفشي الاستبداد والظلم وإنتاج الفوارق الاجتماعية إلى الحوكمة السيئة للموارد والثروات؟ والى أي مدى يتطلب إعطاء الحقوق للأفراد إيجاد آلية تسهر على توفير مطلب العدالة الاجتماعية؟ 
 الرّهان الذي يمكن استهدافه من خلال دراسة هذه الإشكاليات يتمثل في تفادي كراهية الديمقراطية والتخلص من العوائق التي تحول دون تجسيدها على أرض الواقع ( الطغيان، الاستبداد، الشمولية، العنصرية) والسعي لتحقيق الموازنة بين حقوق الأغلبية وحقوق الأقلية وإعطاء الفرد منزلة لائقة.
المهارة البيداغوجية التي تبقى موضوع اشتغال في الساحة الحقوقية راهنا هي تنمية الشعور الوطني  وتعزيز قيم التعاون والتكافل والارتقاء بالروح التشاركية والمنزع البنائي وتثمين العقل الجمهوري والذكاء الاجتماعي وربط الهوية الفردية بالذاكرة الجمعية والتراث القومي والرأسمال الرمزي.
1- الفرد بين المجتمع والدولة
إذا كانت الدولة تعرف من جهة اللغة بأفعال الاستيلاء والغلبة ومؤسسة يمكن تداولها بين الأفراد والأحزاب والاتجاهات وتفيد من جهة الاصطلاح "جمعا من الناس مستقرون على أرض معينة ومستقلون وفق نظام قانوني خاص بهم ويكونون مجتمعا منظما له حكومة مستقلة وشخصية معنوية تميزه عن غيره من المجتمعات" فإن الدلالة الفلسفية التي تشكلها تربطها بالجسم السياسي والحقوقي الذي ينظم العلاقات بين مجموعة من الأفراد ويمنحها وظيفة تنظيم حياة الناس وفق وظائف اجتماعية وخدمات عامة تؤمنها مجموعة من الهيئات والمؤسسات والأجهزة في إطار نظام عقلاني.
ما المقصود بالفرد؟ وعلى ماذا تتأسس الدولة؟ وماهي العلاقة القائمة والممكنة بين الفرد والدولة؟
الإشكالية المركزية:  تتأسس الدولة من أجل خدمة الفرد أم أن الفرد يضحي بنفسه في سبيل الدولة؟
الموقف الفلسفي التعاقدي: غاية الدولة هي حماية الفرد من جهة توفير حرياته وضمان حقوقه.
الموقف الفلسفي الهيجلي: الدولة فوق الجميع وغاية في حد ذاتها والفرد مجرد جزء في حياة الكل.
الموقف النقدي الماركسي: الدولة جهاز أوجدته الطبقة الحاكمة للدفاع عن مصالحها الخاصة.
يقود مصطلح الفرد إلى ثلاثة أنماط من المشاكل الفلسفية البالغة التعقيد:
-         الأول فيزيائي ويتعلق بطبيعة مبدأ التفرد والتفريد والفردنة والفردانية والفردية وتتمثل في انقسام الطبيعة إلى عدد من الأوليات وهي العناصر الأولى التي يتكون منها الواقع المادي (الذرات).
-         الثاني أنطولوجي ويرواح بين اعتبار الوجود واحد متكون من تمازج بين وقائع فردية وبين التعامل مع الوقائع الصائرة على أنها حقائق وتصورات وأفكار لا تقبل القسمة إلى ما لانهاية.
-         الثالث ابستيمولوجي ويتأرجح بين المعرفة والتفسير وذلك بتعميمه واختزاله الى المطابق والواحد وجعله حدا للمعروف والنظر اليه على أنه النقطة الأخيرة التي تتوقف عندها المعرفة.
فماهي المنزلة التي يحتلها الفرد على مستوى سياسي ضمن العلاقة التلازمية بين المجتمع والدولة؟
يمكن استخراج العديد من الدلالات التي تتعلق بمفهوم الفرد individu ،
-         في المعنى الفلسفي العام كل موضوع فكري معين يفيد التشخص وتؤلف أجزاؤه كلا واحدا.
-         يقال الفرد في علم المنطق على شخص واحد لا ينقسم بخلاف الجنس الذي ينقسم عدة أنواع.
-         الفرد في البيولوجيا هو كل كائن حي تتعاون أجزاؤه على حفظ بقائه بصورة دائمة ووثيقة.
-         يرادف الفرد في علم النفس الشخص الطبيعي من جهة تميزه عن الآخرين بالهوية والوحدة.
-         يعتبر الفرد في علم الاجتماع عنصرا من العناصر الأولية التي تشكل وحدة الجسم الاجتماعي.
-         يمثل الفرد في علم السياسة النواة الرئيسية التي تعتمد عليها الدولة في تأسيس حرية المواطن ضمن نظام ديمقراطي يضمن للحياة الاجتماعية الاستقرار والتطور من خلال دولة ذات سيادة.
-         النزعة الفردية هي مذهب يرى في الأفراد الجزئية وليست الكليات العامة هي الوجود الحقيقي ويقر بأن الفرد أساس كل حقيقة وجودية يفسر بها تشكل الظواهر الاجتماعية واستقرار العوامل النفسية ويعول عليه في تدبير شؤونه بنفسه وتغيير حركة التاريخ ومراكمة الثروات الاقتصادية.
خلاصة القول أن السياسة المدنية تنظر إلى أن قيمة الفرد أعلى من قيمة المؤسسات المحيطة به. لأن الفرد هو الغاية التي وجدت من أجلها الدولة وليس العكس. كما أن المثل الأعلى للسياسة العادلة هو تحرير الفرد من كل الضغوطات والاكراهات وتحقيق استقلاليته وانعتاقه من كل أشكال الاغتراب وتنمية نشاطه الذاتي وقدراته على الإبداع والخلق وتحميله مسؤولية وجوده ومراهنة على ضميره الجمعي. لكن كيف يظل الفرد يتحرك على الصعيد القيمي بين قطبي الجزئيparticulier   والفريد  singulier ؟
2- السيادة بين الحكومة والشعب:
إذا كان السيد يعني ماهو تام وأولي ومطلق في نوعه ولا يقبل بالتالي ان يكون محدودا من أي جهة كانت ولا أن يتم استنقاصه وتجزئته وتنسيبه وإذا كانت السلطة الحاكمة هي السيدة على الهيئات والتي تتحكم في كل الأجهزة والتي تمسك بيدها كل القرارات وتقوم بالتنفيذ بنفسها فإن فكرة السيادة تدل على التحكم التام والسلطة المطلقة وتشير إلى القرار النهائي الذي تختص به الدولة دون غيرها.
ماذا تكون السيادة في الدولة؟ هل هي من نصيب الشعب أم من اختصاص الحكومة؟ وما المقصود بالشعب؟ وماهي العناصر التكوينية للحكومة؟ ولماذا يتم التفريق بين سيادة شعبية وحكم مركزي؟
ينحدر لفظ السيادةsouveraineté  من المصدر السيدsouverain  الذي يعني الأعلى وتشير إلى مبدأ النفوذ التام  autorité suprême ، وتعني السيادة في المجال السياسي الحق المطلق الذي تمتلكه الدولة في ممارسة النفوذ التشريعي والقضائي والتنفيذي على جهة معينة أو على دولة محددة أو على شعب متميز بمقومات ورموز بواسطة مجموعة من المؤسسات والهياكل والهيئات الدستورية.
ما الفرق بين السيادة الوطنية والسيادة الشعبية؟ وكيف يختلف وجهها الداخلي عن وجهها الخارجي؟
السيادة الوطنية هي المبدأ الذي تنتمي من خلاله السيادة إلى الوطن الذي يمثل عنصرا جماعيا موحدا وغير قبل للقسمة، وهذه السيادة الوطنية لا تمارس الحكم بطريقة مباشرة وإنما بواسطة نظام تمثيلي. وتسمى أيضا سيادة مطلقة souveraineté absolue  وسيادة الدولةsouveraineté etatique  .
السيادة الشعبية هي المبدأ الذي تنتمي من خلاله السيادة إلى الشعب و يحوز به كل مواطن على قسم. وتفترض هذه النظرية أن الشعب يمسك مباشرة بالسلطة ويعبر عن ذلك من خلال الإرادة العامة. ويتكون الشعب من مجموع السكان والحاصل من كل الأفراد ويبقى القرار النهائي في شكل الحكم له.
من المنطقي أن تكون السيادة جهازا حكوميا يمتلك سلطة مطلقة تمارس هيمنتها على المساحة الداخلية التي ترسمها حدودها وعلى المساحة الخارجية التي تنظم علاقاتها مع الدول الأخرى. لقد بين جون بودان بأن السيادة هي ماهية الجمهورية وشكل الدولة ، واعتبرها جون جاك روسو النقطة التي يلتقي فيها الخضوع مع الحرية وتمثل فيها الإرادة العامة ماهية الجسم السياسي واللحظة التي يكون فيها المواطنون الوعي بضرورة الدولة وواجب المواطنة وحاجتهم إلى سلطة تمنحهم حقوقهم.
الشعب هو الجماعة العرقية واللّغوية التي حافظت على خصوصيتها الوجودية وعلى روحها الخاصة بها بالرغم من انقلابات التاريخ (جوليان فروند). إن هذه الجماعة ليست بالضرورة جماعة سياسية وذلك لكون شعب واحد يمكن أن ينتمي إلى دول متعددة ودولة واحدة يمكن أن تضم شعوب متعددة.
من هذا المنطلق يصبح الشعب من منظور نفسي اجتماعي كتلة من الأفراد تحركهم جملة من الدوافع الذهنية المشتركة والعوامل النفسية الجماعية وتجلعهم في تعارض تام مع النخبة التي تحكمهم تغلبا. لقد قسم ماكيفللي بين الشعب الأرقى والشعب الأدنى والشعب العظيم نافيا وجد انسيابية بين الأقسام، وذكر مونتسكيو أن طبيعة الشعوب التصرف وفق الأهواء والسير بالعاطفة وليس بالعقل والحكمة. لقد احتقر فولتير الشعب ونعته بأبشع النعوت لحالة الجهل التي يتخبط فيها ومجد النخبة المستنيرة وجاءت الثورة الفرنسية ليقول الشعب كلمته ويصبح المثقف صديقا للشعب وتتجلى إرادة الشعب.
لقد وصف هوبز الشعب بأن جسد الدولة مهما كان النظام السياسي الذي يحكمه ومهما كانت وضعية الأفراد مواطنين من وجهة نظر دولة القانون أو ذوات خاضعة من وجهة نظر قوة السلطة المطلقة.
لقد ذهب هيجل إلى حد القول بأن الشعب هو الوحدة العضوية التي يتجلى فيها الكوني المتعين بل انه يرى بأن الروح يتجسد في التاريخ عبر الشعوب المتعينة الخاصة التي تعد ضرورية للحياة الروحية.
بعد ذلك تم التركيز على وظيفة الحكومة في المحافظة على مبدأ السيادة وفي مستوى احترام حق المواطنة ووقع التفكير في مطلب الكفاءة والأداء والإتقان والنجاعة إلى جانب التحلي بقيم العدالة والنزاهة والمسؤولية والضمير والحرص على حماية ممتلكات الأفراد وصيانة المصلحة العامة.
في هذا السياق ظهرت آلية الحوكمةgouvernance   لتهتم دقة القرار والمتابعة عند التنفيذ والاستكمال ولتفيد مجموع من القياسات والقواعد والأجهزة التي تصدر قرارات وتتكفل بالإعلام والمراقبة وتسمح بضمان اشتغال مؤسسات الدولة بصورة وظيفية واستمرارها في تنظيم الفضاء العمومي والمرفق الخاص والسلطة الجهوية والحكم المحلي والعلاقات الدولية والشأن الوطني.
 جملة القول أن الشعب يشير إلى مجموع المحكومين الذين يتسنى للحاكمين أن يخادعوهم أو يقومون  بالسيطرة عليهم، بيد أن النظام الديمقراطي يمنح الشعب الشكل التمثلي للتعبير وحكم أنفسهم بأنفسهم.
لكن كيف يمكن تفادي الوقوع في نمط سيء من الحوكمة ؟ وما العمل من أجل بلوغ حوكمة جيدة؟
3- الحق بين القانونية والشرعية
ينتمي مصطلح الحق إلى عائلة المفردات القانونية ويشير إلى نمط وجود واستعمال العدالة ومسار للفعل يقترن بالذنب والجريمة وينشد الصفح والاستحقاق ويقترب من الفضيلة وكل أمر مستقيم.
غير أن الفلسفة فرقت بين الحق والقانون على غرار التفريق بين القيمة والمعيار وميزت بين المعنى القديم للحق والمعنى الحديث وبين الحق الإلهي والحق الطبيعي والحق الوضعي ، كما ظهرت أنساق تتحدث عن الحق الذاتي والحق الموضوعي والحق في العقاب والحق الخاص والحق العام والحق المطلق والحق الأخلاقي والحق الشرعي والحق المدني وكذلك حقوق الشعوب والحق في الحقوق.
  القانونية légitimité هي خاصية ما تم تأسيسه من جهة الحق ومن منظور العدالة أو وقع تطبيق عليه قيمة الإنصاف. كما ترتكز القانونية على النفوذ الذي تأسس على أسس حقوقية أو إيتيقية وتكون محل رضا تام من طرف جل أفراد المجتمع. تعرف القانونية ما يتم اشتقاقه من مجال القانون وكان قرره المشرع. أما القانونيlégitime  فهو المطابق للحق أو للقانون من جهة الشكل.
  الشرعية légalité  هي خاصية ماهو شرعي أي فعل يكون مطابقا للحق من جهة المعنى والمضمون والممارسة وليس من جهة الإعلان والصورة والشكل. كما أن الشرعية هي الوضعية الشرعية التي تتم فيها الأعمال التي يقوم بها الأفراد والمجموعات وفق ما ينص عليه القانون ولا تقوم باختراقه. يمكن أن تفهم الشرعية على أنها المطابق للحق,
المشروعية loyalité هي صدق الولاء الى الحق العام وشديد الوفاء للمدونة القانونية والأخلاقية عن دراية وعن اقتناع والاستقامة عند التطبيق والالتزام الذاتي بها مهما كانت الظروف واحترام كل ما ينص عليه القانون ويمليه الواجب من توجه وكل ما يتطلبه الضمير وتحمل المسؤولية في كل شرط.
  إذا كان الحق الطبيعي هو مجموع الحقوق التي يفترض أن يحوز عليها الناس بحكم اشتراكهم في الطبيعة وبشكل مجرد عن كل مؤسسة اصطناعية وإذا كان الحق الإلهي هو المبدأ التي يخول لكل سلطة الحكم بمقتضى تفويض الهي فإن الحق الوضعي هو الحق الشرعي الذي تحدده مجموعة من القواعد يضبطها الدستور ضمن مجموعة من القوانين التفصيلية والتدابير والإجراءات الردعية. 
خاتمة:
" إن الدولة المثلى هي تلك التي يحيا أفرادها في وئام، فإن ما أعنيه بالحياة هي الحياة الإنسانية الحقيقية، أي أنها ليست الحياة المتمثلة في مجرد الحركة الدموية وفي الوظائف الأخرى المشتركة بين جميع الحيوانات، وإنما هي أساسا حياة العقل وفضيلة النفس والحياة الحق" [2]
يقتضي قيام الدولة الديمقراطية احترام السيادة وضمان المواطنة والجمع بين القانونية والمشروعية.
لكن الديمقراطية هي ذهنية وثقافة تتشكل من خلال التداول السلمي على السلطة وإجراء الاقتراع بشكل دوري قصد تمثيل المواطنين والجماعات والجهات في البرلمان والمشاركة في الحياة السياسية.
فكيف تمثل آليات المراقبة والمحاسبة والنقد العلني وحرية التعبير وحق الاختلاف والمعارضة السلمية والتعايش ضمن التعددية وحل النزاعات بالحوار ضمانات للدفاع على الحياة الديمقراطية؟
المصدر:
1-    سبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب، صفاقس، تونس، طبعة أولى، 1999،صص57-58.
2-    سبينوزا، كتاب السياسة، مصدر مذكور، ص59.
كاتب فلسفي

الأربعاء، 12 أبريل 2017

العنف الرقمي سعيد يقطين



أفتح بين الفينة والأخرى بعض مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة ما يجري فيها من نقاشات، للتعرف على الجديد، أو الاطلاع على ما يصلني من رسائل. تبين لي، من خلال المتابعة، أن ما أسميته «الإحماض» سائد في العديد من الرسائل المتوصل بها. فأضحك وأشارك. ولما كان نادرا ما تصلني معلومات جديدة ومفيدة، استنتجت أن ذلك الإحماض لا يوازيه، كما ونوعا، سوى العنف وخطابه.
وفي بعض الفترات التي يهيمن فيها حدث طارئ يثير تناقض التصورات وتعددها لا أجد نفسي إلا مكرها على عدم متابعة ما يجري. فما كان ضحكا مستحبا، مع الإحماض، يصبح حزنا وتقززا مع العنف.
بين الضحك الذي يولده الإحماض، والحزن الناجم عن العنف مسافة ضيقة، فهما دالان لمدلول واحد: رد فعل تجاه حدث، يعكس ذهنية اجتماعية ونفسية مشتركة. فعندما يكون حدث سياسي أو اجتماعي ما مثيرا لردود أفعال أجدني أمام صور وتعليقات، أو فيديوهات تعرض خطابات «غرائبية» لسياسيين أو وعاظ؟ لا يمكن سوى أن تدفع إلى الابتسام الذي يخفي سخرية، أو الضحك الذي يوصل إلى الانفجار. وبإزاء حدث آخر، أراني أتابع تعليقات طويلة هدفها الإقناع والإفحام، ويكون الصوت والصدى، فلا تشتم من وراء الخطاب إلا القذف والشتم والتحقير والتشهير.
إن نشر خطاب أو صورة من أجل إثارة «الضحك» أو السخرية، أو التعليق على حدث أو خطاب من خلال «القذف» لا يعنيان سوى شيء واحد: تفريغ شحنات مكبوتة، ننفجر عبرها في وجه ما يزدحم به واقعنا الذي نعجز عن الفعل فيه. إننا بذلك نمارس نوعا من الانتقام الذي نبحث فيه عن نوع «العزاء» مما نعاني منه من احتقار وسوء اعتبار في حياتنا المزرية، وليس السباب والشتم سوى وجه آخر للضحك والسخرية. فكما نتحدث مع إنسان، قد نتحدث عليه. وكما نضحك مع إنسان قد نضحك عليه. فإذا كانت «مع» تعني «التواصل» على قدر المساواة، ولكل بيانه في التبيين عن مواقفه؛ فإن «على» لا تدل إلا على «التنافر» الذي نسعى من خلاله التقليل من الآخر، وممارسة العنف عليه، عبر تسفيه خطابه والدعوة إلى محوه.
فعل التواصل دال على الحوار، أما التنافر فقائم على الإلغاء. وما دامت علاقاتنا غير مبنية على التواصل والحوار، فإن التنافر والإلغاء يصبحان قاعدة تعاملنا مع أنفسنا ومع الأشياء من حولنا. فلا نكون إلا أمام العنف والعنف المضاد اللذين يتخذان صورا وأشكالا لا حصر لها. وهذا العنف نمارسه في الحياة الواقعية والافتراضية أيضا، مع تأكيد أن الواقع الافتراضي يتيح مساحة أكبر مما يحتمله الواقع الآخر، الذي يفترض المواجهة المباشرة والحضور العيني، مما يجعلنا أمام بروز ظاهرة العنف الرقمي.
قبل ظهور الوسائط الجديدة، كانت النكت تُسرَد في المجالس السرية، وكان العنف اللفظي يتم في غياب المتحدث عنه، لكن الوسائط الجديدة، أتاحت للجميع إمكانية تقديم أي خطاب، على مسافة، وبكيفية غير مرئية، فأفسحت المجال على مصراعيه أمام المكبوتات لتنفجر بالأشكال التي يضيق عنها الوصف، فكان العنف الرقمي واحدا من أهم ما تحقق في الفضاء الشبكي من خلال هذه المجالس الافتراضية.
تطالعني، أمثلة كثيرة من هذا العنف الذي تستفرغ فيه، من خلال اللغة، كل ما تختزنه الذوات من احتقان يفرضه الواقع الذي نعيش فيه، وبدل التواصل مع واقعنا بالكيفية التي تمكننا من فهمه والمشاركة في تغييره، نعبر عن رفضنا له بطرق ملتوية: ممارسة الإحماض والعنف. ومن خلالهما قد نتوهم أننا نحقق نوعا من الانتقام لأنفسنا مما يجري، لكننا في واقع الأمر لا نعمل إلا على تكرسيه بصورة أشد، ونعمل على إدامته بطريقة لا تُحد.
ما أكثر الأمثلة التي تطالعنا بخصوص هذا العنف الرقمي، وهو يتسع لخطابات متعددة تتعلق بمختلف نواحي الحياة، من الرياضة إلى السياسة، مرورا بالاجتماع والثقافة والاقتصاد، حدثت ضجة إعلامية في بعض وسائل الإعلام المصرية بسبب زيارة الشيخة موزة القطرية إلى أهرام البجراوية في السودان. يبدو الحدث بسيطا. أميرة قطرية تزور أهراما في السودان. واكب الإعلام المصري الحدث بتأويلاته الخاصة، ينتقل الخبر من الإعلام السمعي البصري إلى المجالس الافتراضية محملا بالاحتقان، فينتقل الاختلاف بين نظامين إلى الخلاف بين شعبين. صارت الاختلافات بين البلدين المتجاورين في وطننا العربي مناسبات لتهريب المشاكل الداخلية إلى الخارج، ويلعب الإعلام الرسمي دورا كبيرا في تغذية هذه الخلافات. وما دمنا لا نستوعب جيدا هذه القاعدة، يجرنا «الحماس» القطري إلى تفجير مكبوتاتنا التي يفرضها علينا واقعنا في المجالس الافتراضية، فنوسع دائرة الحديث «على»، والضحك «على» الآخر، وقد صار الشعب، فنستعمل كل ما تختزنه لغتنا وذاكرتنا وتاريخنا من عنف فنقذف به، معبرين ليس على ما يدور حولنا، ولكن حول ما يقال «علينا».
من خلال متابعتي لما كتب، انتابني حزن شديد بسبب ما صار يقال «على» الشعبين المصري والسوداني من لدن السودانيين والمصريين معا. واستخلصت أن العنف ضد الآخر لا يقل عنفا عما يمارس على الشعوب.

___
*القدس العربي

الدوافع الأربعة الأساسية المحركة لسلوك البشر – برتراند راسل





خطاب جائزة نوبل العظيم لبرتنارد راسل: عن الدوافع الأربع الأساسية المُحرّكة لسلوك البشر.

ماريا بوبوفا

ترجمة: لولوة الشدوخي

 ” لا يوجد في العالم ما هو أكثر إثارة من لحظة اكتشاف مفاجئ أو لحظة ابتكار، العديد من الناس قادرون على تجربة مثل هذه اللحظات أكثر مما نظن أحيانا “

يعد برتنارد راسل (18 مايو 1872_ 2 فبراير 1970) من أكثر العقول البشرية اللامعة المشرقة. إنه المبشر للحكمة الخالدة في كل المجالات. له مؤلفات عدة في الرياضيات والفلسفة والمنطق والهندسة والتاريخ والعلوم الانسانية. في عام 1950 تم منحه جائزة نوبل للآداب نظير كتاباته المتنوعة والجليلة والتي دافع فيها عن المثل الانسانية وحرية الفكر.

في الحادي عشر من ديسمبر من ذلك العام، اعتلى راسل المنصة في الثامنة والسبعين من عمره لتلقّي الجائزة الكبرى، وليلقي خطابا هو من أحسن الرسائل الي تم إلقاؤها في الفكر الانساني على الاطلاق.

يستهل بذكر الدافع الرئيسي المحرك للسلوك البشري فيقول راسل: “جل النشاط البشري مدفوع بالرغبة. هناك نظرية زائفة كلّيا يطرحها بعض الأخلاقيون المخلصون مفادها أن من الممكن مقاومة الرغبات عن طريق تنمية الإحساس بالواجب والمبادئ الاخلاقية، وأنا اقول أن هذه مغالطة. ليس لأنه لم يتصرف أحد قط من منطلق احساسه بالواجب بل لأنه لم يكن للواجب عليه أي سلطة سوى أنه “رغب” بأن يكون كذلك. إذا أردت أن تعرف كيف سيتصرف البشر، يجب أن تنظر ليس فقط إلى ظروفهم المادية، بل إلى منظومة رغباتهم برمتها، إلى جانب قواهم النسبية.

[….]

  ” يختلف الانسان عن الحيوانات الأخرى من ناحية مهمة جدا، وهي أن الانسان لديه رغبات-  لنقل أنها غير محدودة – ولا يمكن إشباعها بالكامل، إنها تبقيه قلقا حتى لو تواجد في الجنة. إن الأفعى العاصرة على سبيل المثال تخلد إلى النوم عندما يتوفر لها الغذاء الكافي ولا تستيقظ حتى تكون بحاجة إليه مرة أخرى، بينما البشر في أغلب الأحيان ليسوا كذلك!! “

  يحدد راسل أربعا من تلك الرغبات اللامحدودة وهي حب التملك، التنافس، حب الظهور وحب السلطة، ويفصلها بالترتيب:

 ” حب التملك؛ وهي الرغبة في أن يمتلك الإنسان أكثر ما يمكن من المتاع أو طلب الحق في التملك. هذه الرغبة كما أفترض أصلها نابع من الخوف، إلى جانب الحاجة إلى الضروريات. ذات مرة، قمت برعاية فتاتين من إستونيا. هربتا من الموت بأعجوبة بسبب المجاعة. عاشت الفتاتان مع عائلتي، وبالطبع كان هناك الكثير ليأكلانه. إلا انهما كانتا تقضيان وقت فراغهما بزيارة مزارع الجيران وسرقة محصولهم من البطاطس. روك فيلر والذي عانى في طفولته من فقر مدقع، قضى حياته في كِبره بطريقة مشابهة!!  “

” بغض النظر عن كثرة ما تمتلك، ستكون متطلعا دائما لامتلاك المزيد. الاكتفاء هو حلم سيستعصي عليك دائما “.

تكلم عن هذا الدافع الاساسي بوضوح هنري ميلر 1938 في تأملاته الرائعة عن المال وكيف أنه قد يتحول الى هوس بشري. وهذا ما اصطلح عليه علماء النفس المتأخرين بعد عقود عدة تحت مسمى (الحلقة المفرغة للسعادة). بالنسبة لراسل يتلاشى هذا المحرك الاساسي (حب التملك) بدافع اقوى منه ألا وهو ميلنا للمنافسة:

سيصبح العالم هذا أكثر سعادة لو أن الرغبة في التملك كانت أقوى من المنافسة. لكن الواقع أن كثيرا من الناس سيواجهون الافتقار بسرور لو أنهم استطاعوا بالمقابل تأمين دمار شامل لمنافسيهم؛ ما يفسر المستوى الحالي من الضرائب.

هذا التنافس كما يزعم راسل مدفوع بالنرجسية البشرية. وفي إحساس عميق منه بما يحدث اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي، لاحظ:

إن حب الظهور دافع ذو قوة هائلة. أي أحد تعامل مع الاطفال كثيرا سيلاحظ أنهم دائما ما يمارسون تصرفات غريبة ليقولوا “انظر إلي”.

 “انظر إلي ” هي واحدة من أكثر الرغبات الجوهرية للقلب البشري، والتي تأخذ أشكالا لا حصر لها، ابتداء من تعمد التهريج إلى السعي وراء الشهرة بعد الموت.

” من الممكن المبالغة في تأثير حب الظهور على جميع مراحل حياة الإنسان. من الطفل ذي السنوات الثلاث وحتى الزعيم الذي يرتجف العالم لغضبه”

  لكن الباعث الاقوى من هذه الأربع كما يزعم راسل هو حب القوة: “قد يكون حب القوة والرغبة في السيطرة قريبا أو  مشابها لحب الظهور، لكنهما ليسا الشيء نفسه على الإطلاق. ما يحتاجه حب الظهور ليتحقق هو المجد.  ويمكن تحقيق المجد من دون قوة. يفضّل كثير من الناس المجد على القوة، إلا أن هؤلاء الناس هم في الغالب أقل تأثيرا على مسرح الأحداث من أولئك اللذين يفضلون القوة على المجد. إن القوة مثل الغرور؛ لا يمكن اشباعها. قليل من النفوذ التام لا يرضيها بالكامل. ولأنها رذيلة الرجال النشطاء، فان الفاعلية المسببة لحب السلطة تتعدى بكثير تأثير تداولها. إنها بالفعل أقوى الدوافع في حياة الرجال المهمين.”

حب السلطة يزداد بممارستها. وينطبق هذا على القوى البسيطة كما ينطبق على قوى الملوك.”

ويضيف قائلا: “في أي نظام استبدادي، يتحول أصحاب السلطة بازدياد إلى طغاة بفضل الشعور بالمتعة التي تمنحهم  إياها ممارسة السلطة. ولأن السلطة على البشر تجعلهم يفعلون مالا يرغبون بفعله، يصبح الرجل المولع بحب القوة أكثر عرضة لإلحاق الألم بالناس من أن يسمح بالمتعة.”

لكن راسل- وهو المفكر ذو الحساسية الاستثنائية للفروق الدقيقة والازدواجية التي حُبكت منها الحياة- يحذر من اعتبار حب القوة دافعا سلبيا كلّيا.  ويشير إلى أنه من ذلك الدافع للسيطرة على المجهول، تزهر تلك المحبوبات، كالسعي نحو المعرفة والتقدم العلمي. يستعرض بعض هذه المظاهر المثمرة فيقول:” سيكون خطأ فادحا أن ندين كلّيًا حب السلطة كدافع.

“عندما يقودك هذا الدافع لأفعال خيّرة أو أفعال ضارة، ن هذا يعتمد على الوضع الاجتماعي وعلى مؤهلاتك. فلو كانت مؤهلاتك نظرية أو تقنية، فإنك ستساهم في المعرفة أو التقنية. بناء على هذا ستكون أفعالك نافعة. أما لو كنت سياسيا فلربما كنت مدفوعا بحبك للسلطة، غير أن هذا الدافع سيتمخض عادة عن رغبة في تحقيق بعض الشؤون- أنت ولبعض الأسباب- تفضلها على الوضع الراهن. “

يتحول راسل بعدها الى مجموعة ثانوية من الدوافع البشرية، ويبدأ بفكرة حب الإثارة:

” يُظهر البشر تفوقهم على سائر الحيوانات بقدرتهم على الملل. غير أنّي اعتقدت أحيانا- عن طريق ملاحظتي لبعض الثدييات في حدائق الحيوان – أنها قد تبدي ربما مقدمات لهذا الشعور بالضجر. إلا إنه بالتجربة؛ يتضح أن الهرب من الملل يعتبر واحد من أقوى الرغبات عند جميع البشر تقريبا.”

ويزعم راسل أن هذا الهوس بحب الأثارة قد تعاظم بسبب الطبيعة الخاملة للحياة المعاصرة، والتي مزقت الرابطة الطبيعية بين العقل والبدن. ويقول: ” إن تركيبة عقولنا تتناسب مع حياة شديدة العمل البدني. اعتدت في صغري على أن  أقضي وقت فراغي بالمشي، كنت أقطع ما يقارب الخمس وعشرين ميلا كل يوم، وفي المساء لم أكن بحاجة لما يبعدني عن الملل، كانت بهجتي بالجلوس تغنيني بشدة. لكن لا يمكن لهذه الحياة الحديثة أن تسير وفق هذه المبادئ الجسمية النشطة. جزء كبير من الأعمال هي أعمال ساكنة، ومعظم الأعمال المكتبية تمرّن عضلات قليلة ومحدودة. عندما اجتمعت الحشود في ساحة الطرف الأغر مبتهجين بقرار الحكومة بالحرب، لم يكونوا ليفعلوا ذلك لو أنهم مشوا خمسا وعشرين ميلا في ذلك اليوم. إنه وقبل كل شيء حب الأثارة الذي يجعل من الحشود تصفق لاندلاع الحرب، إنه بالضبط نفس الحماس أثناء متابعة كرة القدم. إلا إن هذا العلاج للعدوانية غير قابل للتطبيق، وإن أراد البشر البقاء على قيد الحياة، فلابد من تأمين منافذ بريئة لتلك الطاقة الجسدية المُعطّلة التي تنتج هذا الحماس. لم أسمع يوما بحرب سبقها رقصٌ في الصالات.”

 “صارت الحياة المتحضّرة وديعة جدا. وإن كان لها أن تستقر، فلابد من توفير متنّفس غير ضار لتلك الدوافع التي كان أسلافنا يروّضونها بالصيد… أعتقد أنه يجب أن تحتوي كل مدينة كبرى على شلالات اصطناعية يستطيع الناس النزول اليها عبر قوارب صغيرة، ويجب أن تحتوي أيضا على أحواض سباحة مليئة بأسماك القرش الميكانيكية. وأي شخص يؤيد حربا احترازية، فيجب إدانته بأن يبقى مع هذه الوحوش الاصطناعية لمدة ساعتين في اليوم. وأكثر جدية من ذلك، يجب إضافة عنصر الألم لنوفر متنفسا هادفا لحب الإثارة هذا، لا يوجد في العالم ما هو أكثر اثارة من لحظة اكتشاف مفاجئ أو لحظة ابتكار، العديد من الناس قادرون على تجربة مثل هذه اللحظات أكثر مما نظن أحيانا. “

المصدر: موقع حكمة

لماذا أدرّس الطلبة المسلمين نظرية التطوّر د. رنا الدجاني


 عن الاسلام و العلم 



إن تشجيع الطلبة على تحدي الأفكار أمر حاسم في محاولة إخراج جيل من العلماء المسلمين الذين يتمتّعون بحرية في الفكر
إن بعض المواقف الإشكالية التي تتّسم بها المجتمعات الإسلامية اليوم تجاه العلم الحديث قد تم تبنّيها من جراء عمليّتي العولمة والتحديث السريعين، ومن ذلك ما يتمثّل في رفض نظرية التطوّر. ولكنّ الأمر ذاته ينطوي على فرصة يمكن استثمارها.
أنا أدرّس نظرية التطوّر لطلاب الجامعات في الأردن. وأجد جميعهم تقريبا رافضين للفكرة في البداية. ففي الغالب يكون معلموهم في المدارس قد تجاهلوا النظرية أو تجاوزوا عنها. ومع ذلك، فإن لدى معظم الطلاب استعداداً لمناقشة نظرية التطور، ومع نهاية الفصل الدراسي، تكون الغالبية قد تقبّلت الفكرة.
وإذا كان بإمكان الطلاب المسلمين تحدي الأفكار التي تلقّوها حول مثل هذا الموضوع الأكاديمي المثير للجدل، فإنه يمكنهم أيضا مقاربة جوانب أخرى من حياتهم من خلال التفكير والتساؤل – وليس فقط القبول الأعمى للوضع الراهن. وهذه الأدوات والاتجاهات التفكيرية ذات أهمية حاسمة لتطوير شخصياتهم ولجعلهم مواطنين مسؤولين.
عودة الى تدريسي، يشعرالطلاب في صفوفي بالصدمة في كثير من الأحيان! أنا أرتدي الحجاب، ما يعني أنني ملتزمة دينياً، ولكنهم يسمعونني أؤيد نظرية التطور باعتبارها آلية تشرح تنوّع وتطوّر الأنواع، وأشير إلى تشارلز داروين بصفته عالماً ساهم في فهمنا لظهور الحياة وتنوّعها على الأرض. وأنا في أغلب الأحيان أول شخص مسلم التقوه يقول مثل هذه الأشياء.
وقد اشتكى بعض الطلاب لمسؤولي الجامعة أنني أدعو بما يعارض الإسلام، ولكنّ المسؤولين أبدوا رضاهم تجاهي عندما كنت أثبتت لهم أن نظرية التطوّر هي في الكتب الدراسية المعتمدة في الجامعة، وأن ما أدرّسه في محاضرتي يأتي مباشرة من هذه النصوص. أنا أثني على الطلاب الذين اشتكوا، وذلك لشجاعتهم في الدفاع عما يعتقدون، وقد دعوتهم للجلوس ومناقشة ما يجول في خواطرهم.
وفي تدريسي، أقدم شرحا مفصلا للتطوّر الطبيعي للنبات والاستنبات الاصطناعي. وفي وقت لاحق، نناقش المقاومة التي تكتسبها بعض البكتيريا للمضادات الحيوية، ولقاحات الأنفلونزا وتطوير عقاقير فيروس نقص المناعة البشرية. بعد هذه المناقشات، فإنّ معظم الطلاب يكونون على استعداد لقبول التطوّر باعتباره آلية لظهور جميع الأنواع باستثناء البشر. فهنا يستشهد كثير منهم بآيات قرآنية يتم تفسيرها على أنّ آدم – وبالتالي كل البشر – قد تم خلقهم بشكل فوري. فتبقى مسألة التطوّر البشري من التابوهات، لأن الطلاب ليسوا على استعداد للتخلّي عن فكرة خلق البشر بشكل مختلف. ولكنني أذكّرهم أنّ المسلمين يجب أن يحذُروا من أن يكونوا متغطرسين، وأنّ البشر في الواقع هم فقط جزء من الخلق.
لقد قدّم علماء دين مسلمون، مثل حسين الجسر وأحمد مدحت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كتابات تدعم التطوّر. بل وحتى قبل داروين، كان الجاحظ وغيره قد اقترحوا نظريات تطوّرية بدائية في القرن التاسع. وأشير لطلبتي أنّ هذا التناقض الظاهري ما بين قبول نظرية التطوّر والالتزام بالإسلام لم ينشأ إلا في القرن العشرين، عندما أصبحت أفكار داروين مرتبطة في الأذهان بحقبة
الاستعمار والإمبريالية، والغرب، والإلحاد، والمادية، والعنصرية. وقد اتخذ علماء الدين المسلمون تدريجيا موقفا ضد نظرية التطوّر، وبالتالي تبنّى الجمهور موقفهم. بل وقد اعتمد علماء الدين المسلمون حجج المسيحيين الداعين بالخلق المباشر، ناقلين بذلك الحرب الغربية بين العلم والدين إلى ساحة الإسلام.
ويجادل بعض من طلابي بأن قبول نظرية التطوّر يعني إنكار وجود الله. ولكن ما أقوله هو أنّ نظرية التطوّر لا تناقش أصول الكون. لا أحد يفهم بعد هذه البداية. بالنسبة لي، الله هو البداية. بعد ذلك، فإنّ قواعد المنطق والعلم وما أودع من سنن كونية هي ما قادت تطوّر الكون وما تزال.
ومن خلال تجربتي، أجد أن كثيراً من المسلمين سعداء بهذا الطرح. ولقد التقيت العديد من العلماء المسلمين المتّفقين مع رؤيتي، ولكن لا يصرّحون بذلك علنا خشية أن يتّهموا بإثارة المشاكل. وبعض علماء الدين يبدون تأييدا أيضا، ولكنهم يرغبون بالتدرّج في تغيير الآراء، حتى لا يتّخذ الجمهور مواقف دفاعية وبالتالي يكون التقدم بطيئاً.
وكعالمة مسلمة، فإنّ رؤيتي هي أنّ القرآن الكريم يدعو البشر للنظر والتدبّر في العالم وطلب المعرفة. لكنّ دور القرآن ليس إثبات المكتشفات والنتائج العلمية. فالعلم هو الذي يسمح لنا بالبحث والكشف عن الطرق التي يعمل بها العالم، بينما يوفر القرآن الكريم المبادئ التوجيهية الأخلاقية للقيام بذلك. وفي حالة حدوث تناقض ظاهري بين الحقائق العلمية وتفسيرنا للقرآن الكريم، فعلينا بالعودة إلى كلّ من العلم نفسه (الذي يتطور) وتفسيرنا للقرآن الكريم (وهو عملية ليست محايدة، إذ هي ممارسة إنسانية) للفصل في هذا التناقض. إن هذا النهج لهو عملية مستمرة وانسيابية، ويشكل جزءا لا يتجزأ من منهج الحياة لدى المسلمين.
وسواء قبل الطالب نظرية التطوّر البشري أم رفضها، فإنّ ذلك لا يشكّل فارقاً لدي في كيفية التعامل مع ورقة امتحانه من حيث الدرجات التقييمية. فنحن كمدرسين، هدفنا هو دفع الطلاب ليصبحوا مفكرين مستقلين. فأنا لا أريد لطلابي أن يكتبوا أنهم يتقبّلون نظرية التطوّر فقط لاجتياز الامتحان. بل إنّ ما أريده هو إظهارهم الحجة التي استخدموها للوصول إلى نتيجتهم، حتى لو كان هذا الاستنتاج يؤدي الى رفض التطوّر البشري. أما إذا فعلت خلاف ذلك، فأكون كالذين ينتقدون التطوّر: يفرضون رأيا معيّنا على الآخرين.
إنّ هدفي هو تعليم الطلاب كيفية تطوير منهجية عقلانية لتقييم العالم الطبيعي وللتوصل إلى آرائهم وفرضياتهم ونظرياتهم الخاصة، وليس النقل والنسخ عن الآخرين. إنها دعوة لطرق جديدة للتفكير: رحلة إلى السعي وراء المعرفة، والتي تعدّ واحدا من مبادئ الإسلام الأساسية. وإذا نجحنا في هذا المسعى، فإننا سوف نساهم في خلق جيل من العلماء المسلمين الذين يتمتّعون بحرية التفكير.

الثلاثاء، 28 مارس 2017

نعوم تشومسكي .. من الذي يحكم العالم؟ – عبد الرحمن طه

عن المكتبة العامة


من يحكُم العالم؟ يطرح «نعوم تشومسكي» ذلك السؤال في مقالٍ مقتبسٍ عن كتابه الجديد، الذي يحمل العنوان ذاته.

يقول «تشومسكي» إنّ عقولنا في محاولتها للإجابة على هذا السؤال، تقع أسيرةً لتصوّر مُسبقٍ يقضي بأن اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية هم بطبيعة الحال الدول الكُبرى، وأنّ أكبر العوامل المؤثرة في المشهد السياسي هي قرارات تلك الدول، وعلاقاتها.

على الرغم من أنّ هذا ليس تصورًا خاطئًا بالكلية، إلا أنّه يحمل في طيّاته اختصارًا مخلًا ومضللًا للمشهد، لأنّه يُهمل التأثير الساحق لـ«أسياد البشرية»، كما سمّاهم «آدم سميث»، الفيلسوف ومؤلف كتاب «ثروة الأمم». ربّما يختلف المشهد الحالي قليلًا عما كان عليه في حياة «سميث»، لكن ما أشبه تُجّار إنجلترا في زمانه، بالشركات العملاقة متعددة الجنسية، والمؤسسات المالية الضخمة، في زماننا؛ خيثُ ما زال المبدأ واحدًا: «كل شيءٍ لنا، ولا شيء للآخرين».

تتمتّع هذه المؤسسات بنفوذٍ هائل، سواءً في موطنها الأم، الذي ترتكز عليه فيما يتعلّق بحماية قوّتها وتوفير الدعم الاقتصادي لها، أو على المستوى الدولي. يذكر «تشومسكي»، كمِثالٍ على ذلك، اتفاقية الشراكة العابرة للأطلنطي؛ واحدة من تلك الاتفاقيات التي «سُمّيت زورًا باتفاقيات التجارة الحرّة»، على حدّ تعبيره، في حين أنها تُناقَش في الغُرف المغلقة، ويكتب تفاصيلها الدقيقة مئات من مُحامي الشركات الكُبرى، بهدف تمريرها سريعًا بلا مناقشة حقيقية، أو مشاركة من الشعب، الذي عادةً ما يتم تهميشه.

العدوان على سلطة الشعوب

يشير «تشومسكي» إلى هذا التهميش المتأصل في السياسات النيوليبرالية، التي ركّزت السُلطة في حفنة من الأيدي متجاهلة الديمقراطية الفاعلة. لكن الشعب غالبًا ما يرفض دور المشاهد، الذي تفرضه عليه السياسة الديمقراطية الليبرالية. تخسر الأحزاب الرئيسية في أوروبا مزيدًا من الأعضاء كل يوم لحساب حركات أكثر يمينية أو يسارية، فيما يراه المدير التنفيذي لمجموعة «أوروبا نوفا» EuropaNova البحثية «حالة من الغضب العاجز، نتيجةً لتركّز القوة الحقيقية في يدِ السوق، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، والشركات الكبرى، بدلًا من القادة السياسيين الوطنيين». يترنّح الاتحاد الأوروبي بسبب سياسات التقشّف التي تلقى احتجاجاتٍ وانتقادات واسعة حتى من اقتصاديي صندوق النقد الدولي.

أمّا الدول التي تختار الرضوخ للرأي العام المحلي، فينصب عليها كثير من الغضب. لعل المثال الأبرز هو رفض الحكومة التركية طلب إدارة «بوش» بمشاركة تركيا في غزو العراق، استجابةً لرفض 95% من الأتراك للانضمام للتحالف الأمريكي البريطاني، ليثير ذلك غضب الحكومة الأمريكية بشدّة، ويوبّخ نائب وزير الدفاع آنذاك «بول وولفويتز» الجيش التركي على «سماحه» للحكومة التركية بمثل هذا الفعل الشائن، مطالبًا بالاعتذار. لكن الشعب التركي لم يكن وحده في معارضة العدوان، بل اندلعت احتجاجات ومظاهرات عالمية، وداخل الولايات المتحدة نفسها. ونادرًا ما تخطت نسبة الموافقة على خطة واشنطن 10% في أي من استطلاعات الرأي في العالم كله. لكن النظام الأمريكي مضى في طريقه متجاهلًا الانتقادات المتعالية لسعيه تجاه «نشر الديمقراطية»، وظنّه أن قوّة خارجية يمكنها فعل ذلك.

على الرغم من ذلك، لا يتفّق «تشومسكي» مع القائلين بأن الرفض الشعبي واسع النطاق لم يكن له تأثير على الإطلاق، ويتتبّع تاريخ رفض الرأي العام للحروب الأمريكية، بدءًا من حرب فييتنام، التي نجحت فيها الحركة المناهضة للحرب في هدفها لولا أن ذلك حدث في وقتٍ متأخر للغاية، ومرورًا بعدوان «رونالد ريجان» البشع على أمريكا الوسطى، والذي اضطر إلى التراجع عنه نظرًا للاحتجاج الشعبي الواسع، وانتهاءً بحرب العراق، التي يرى «تشومكسي» أنّ عواقبها شديدة البشاعة، لكن ربّما كانت لتصبح أسوأ بكثير.

لطالما أثار ذلك الرفض الشعبي قلق الطبقات المتسيّدة. في كتابه، «السياسة العنيفة»، يرى «ويليام بولك» أنّ الجنرال «جورج واشنطن» كان شديد الحرص على تهميش العامّة من أفراد الميليشيات الذين قاتلوا تحت إمرته، حتى كاد ذلك يكلّفه ثورته، لولا التدخّل الفرنسي. هذه المليشيات كانت تُحرز الانتصارات الأكبر في الثورة، على العكس من الجيش النظامي الذي تلقّى الهزيمة تلو الأخرى. على الرغم من ذلك، كان «واشنطن» يراهم «أناسًا كريهين، شديدي القذارة»، ويؤمن بتأصل الغباء في الطبقات الدُنيا، وربّما سمّاهم اليوم «إرهابيين»، على حدّ قول «تشومسكي».

يُسجّل «بولك» سمة تُميز الثورات الناجحة، وهي تهميش هؤلاء «الكريهين، شديدي القذارة»، الذين تسببوا في نجاح الثورة، بمجرد أن تنتهي الثورة وينفض عنهم الدعم الشعبي، خشية من تحدّيهم للطبقات العُليا. هذا الازدراء النخبوي عبّر عن نفسه بعدّة صور على مرّ السنين، أحدها كان في دعوة الليبراليين إلى «الاعتدال في الديمقراطية»، إثر انتشار الحركات الشعبية في الستينيات.

السيطرة الغربية في مواجهة القوى الأخرى

ينتقل «تشومسكي» إلى التحدّيات التي تواجهها القوى الغربية الكُبرى، في سعيها لبسط نفوذها على مزيدٍ من بقاع الأرض، مُستشهدًا بـ«جدعون راتشمان»، الكاتب بجريدة «لندن فاينانشيال تايمز». يستعرض «راتشمان» التصور الغربي للنظام العالمي، حيث القوة العسكرية الغاشمة للولايات المتّحدة هي الحقيقة المركزية في هيكل السياسة الدولية. ولهذا أهميته البالغة في 3 مناطق: شرق آسيا، حيث تمرح البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ؛ وأوروبا حيث قوات الناتو، التي تتحمّل الولايات المتّحدة ثلاثة أرباع إنفاقها العسكري؛ والشرق الأوسط، حيث القواعد العسكرية الجوية والبحرية.

الآن، في 2016، تقف قوىً دولية أخرى في مواجهة الولايات المتّحدة في كل منطقة من هذه المناطق، مهددة النظام العالمي كما تخيله الغرب، حيث تنازع الصين الولايات المتّحدة على المحيط الهادئ، وتتدخل روسيا عسكريًا في أوكرانيا، وسوريا. يرى «راتشمان» أن الولايات المتّحدة، لأسباب تتعلّق بتوزيع القوة الاقتصادية في أنحاء العالم، وبشيءٍ من المنطق البسيط، عليها الرضوخ لحقيقة أنّ هناك قوىً أخرى يجب أن تحظى بنطاقٍ من النفوذ الخاص بها.

العالم الإسلامي: كيف «قضى» التدّخل الأمريكي على الإرهاب

بدأت «الحرب العالمية على الإرهاب»، في الواقع، قبل إعلان الرئيس «جورج بوش» في 2001، عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية. يرى «تشومسكي» أنّ إدارة «ريجان» هي التي بدأت فعليًا الحرب على الإرهاب، لتطهير العالم من «وباءٍ ينشره أعداء الحضارة نفسها»، كما صرّح. تحولّت تلك الحرب إلى «حربٍ مدمّرة دموية على وسط أمريكا، وغرب إفريقيا، والشرق الأوسط، استمرت تداعياتها إلى يومنا هذا»، على حد قول «تشومسكي»، وأزيلت من التاريخ في هدوء.

ينتقل تشومسكي إلى 2001، حين بدأت الولايات المتّحدة قصف أفغانستان في أكتوبر (تشرين الثاني)، لرفض الأفغان تسليم «أسامة بن لادن» والمشتبه في تخطيطهم لهجمات 11 سبتمبر. لم يفهم الأمريكان رفض هؤلاء الفلاحين الفقراء للجائزة التي عرضتها لحكومة الأمريكية: 25 مليون دولار، لكن الأمر كان متعلّقًا بقانون حسن الضيافة عند القبائل الأفغانية، على الرغم من كراهيتهم لجماعة «بن لادن».

لكن هل كان التدخّل العسكري ضروريًا؟ يورد «تشومسكي» رأي القائد الأفغاني المُعارض لطالبان، «عبد الحق». يرى «عبد الحق»، ومع العديد من المعارضين، أن الهجوم الأمريكي أضاع مجهوداتهم لإسقاط طالبان من الداخل الأفغاني. اختارت الولايات المتّحدة العنف واسع النطاق، بدلًا من العمل الشُرطي من الداخل، أو حتى المفاوضات الدبلوماسية الجادة مع طالبان، والتي كان من الممكن أن تنجح. يرى «عبد الحق» أن الولايات المتّحدة ربما كانت «تحاول فقط إظهار عضلاتها، وتسجيل انتصارٍ يخيف الجميع في أنحاء العالم.، بلا اكتراث لمعاناة الأفغان، وكم منهم سيموت».

يؤكد وجهة نظر «عبد الحق» ما قاله «ريتشارد كلارك»، رئيس المجموعة الأمنية المناهضة للإرهاب بالبيت الأبيض، أثناء حكم «بوش»، عن الاجتماع الذي وضعت فيه خطط الهجوم على أفغانستان. عندما أخبر أحدهم الرئيس بأن مثل هذا الهجوم يعد انتهاكًا للقوانين الدولية، صرخ الرئيس قائلًا: «لا أكترث لما يقوله المحامون الدوليون؛ نحن سنركل بعض المؤخرات!». ولا حاجة بالطبع – يقول «تشومسكي» – إلى ذكر تبعات التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان المسكينة.

ثم جاء الدور على العراق. يعتبر «تشومسكي» الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق «جريمة القرن الواحد والعشرين الكبرى». كانت العراق تعاني بالفعل قبل الاحتلال من العقوبات الاقتصادية شديدة الوطأة، التي وُصفت بأنها «حملة إبادة» ضد الشعب العراقي، دمرت المجتمع وألحقت به الكثير من الخسائر. ثم جاء الاحتلال في 2003 ليقتل مئات الآلاف، ويشرد الملايين، ويبدأ صراعًا طائفيًا ما زال مشتعلًا حتى يومنا هذا في المنطقة. طبقًا لاستطلاعات الرأي التي أجراها البنتاجون ووزارة الدفاع البريطانية، لم يؤمن الشعب العراقي بشرعية التدخل العسكري في بلاده، ولا أراد بقاء قوات التحالف، بل وأيد الهجمات ضدها. وفي النهاية انسحبت القوات الأمريكية من العراق لتترك، على حد قول «تشومسكي»، فائزًا واحدًا: إيران.

ينتقل «تشومسكي» إلى ليبيا، التي قطعت فيها بريطانيا، فرنسا وأمريكا الأمل في احتمالية التسوية بين الثوار والحكومة، حين تدخّلت بقواتها الجوية إلى جانب الثوار، عام 2011، لترفع الخسائر البشرية إلى 10 أضعاف، وتنتهك قرار مجلس الأمن رقم 1973 بإنشاء منطقة حظر جويّ فوق ليبيا. لم يترك ذلك التدخّل ليبيا أنقاضًا وفقط، وإنما وفّر البيئة الممتازة لتنظيم الدول الإسلامية لتوسيع دائرة عملياته وانتشارها في المنطقة. تجاهلت القوى الكبرى مجددًا العروض الدبلوماسية المقدمة من الاتحاد الإفريقي، وتدفّق السلاح والجهاديون إلى الشام، وأُخرِج المزيد والمزيد من اللاجئين، انتصارٌ آخر لـ«التدخل الإنساني»، على حد تعبير «تشومسكي» الساخر.

ما يُريده الإرهاب

اليوم، بفضل السياسات العسكرية، انتشر الإرهاب الجهادي من أفغانستان إلى أنحاءٍ شتى، من إفريقيا إلى الشام إلى جنوب وجنوب شرق آسيا، إلى هجمات متفرقة على أوروبا والولايات المتّحدة. يقدّر خبراء أنّ حرب العراق تسببت في ارتفاع المعدلات السنوية للهجمات الجهادية إلى سبعة أضعاف. وفي دراسات أخرى أجراها معهد أوسلو لأبحاث السلام، نرى أنّ ثلثى نزاعات المنطقة نشأت عن خلافاتٍ داخلية حاولت جهات خارجية فرض حلول إجبارية لها، وأنّ 98% من الخسائر الناتجة عن هذه النزاعات حدثت بعد التدخل العسكري الخارجي.

يرى «بولك» في كتابه، «السياسة العنيفة»، أن التدخل الخارجي دائمًا ما يتبع نمطًا معيّنًا: يأتي الغزاة، ربّما بنوايا حسنة؛ يكرههم الشعب؛ يعصيهم، في البداية بطرق بسيطة؛ يستخدم المحتلّ القوة؛ تزداد المقاومة ويزداد داعموها؛ تدور دائرة العنف حتى يحدث أمر من اثنين: انسحاب المحتل، أو نجاحه في إخضاع الشعب بوسائل تقترب من الإبادة.

يستشهد «تشومسكي» بدراسات تؤكد أن هذا بالضبط ما تريده القاعدة، والدولة الإسلامية، وأن الولايات المتحدة وحلفاءها يقدمونه لهم بكفاءة. تدريجيًا تنغمس هذه القوى في مستنقع الشرق الأوسط، استجابة لاستفزاز الجماعات، لتشتعل الحروب وتصبح المجتمعات بالشرق الأوسط ضعيفة بشدة، وهو ما يسمح للجهاديين بالتوسع والسيطرة على مزيد من الموارد، ورفع مستوى العنف، لتدور الدائرة التي تحدث عنها «بولك» في كتابه. يقول «سكوت آتران»، أحد أهم باحثي الحركات الجهادية، أن هجمات 11 سبتمبر، بمقياس التكلفة والعائد، حققت «نجاحًا ساحقًا يفوق حتى تصور بن لادن الأصلي لها».

أيضًا هناك اعتقاد خاطئ بأن هذه الجماعات المتمردة ستنهزم بمقتل زعمائها. توجد العديد من الأمثلة التي توضح خطأ مثل هذا الاعتقاد، يُستبدل فيها الزعيم المقتول بآخر أقل سنًا، وأكثر إصرارًا، وكفاءة، ووحشية. وفي الوضع الحالي، فإن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، الخليفة «أبو بكر البغدادي»، على خلاف مع زعيم تنظيم القاعدة، «أيمن الظواهري». وعليه، فإن مقتل «البغدادي» سيمهّد الطريق أمام تقارب المنظمتين، لتنشأ قوة إرهابية جبارة، تمتلك موارد غير مسبوقة.

أيضًا هناك «سايكس بيكو». لكثير من سكّان المنطقة، تمثّل «سايكس بيكو» مهزلة الإمبريالية الغربية، ووحشيّتها. ينقل «تشومسكي» عن «روبرت فيسك»، أن أحد أوائل المقاطع المصورة التي أنتجها تنظيم الدولة، تُظهر جرافة تزيل الحاجز الترابي الحدودي بين العراق وسوريا، ثم تتحول الكاميرا إلى لافتة ملقاة على الرمال، مكتوبٌ عليها بخط اليد: «نهاية سايكس بيكو». تلك الاتفاقية التي قسّمت المنطقة إلى عدة دولٍ مصطنعة بهدف تأمين المكاسب الاستعمارية للغرب، متجاهلةً اهتمامات سكان المنطقة أنفسهم، لتحوّل «مقاطعات الإمبراطورية العثمانية، الهادئة نسبيًا، إلى بعض من أقل الدول استقرارًا وأكثرها انفجارًا في العالم»، على حدّ قول «فيسك»، وهو ما يخدم تمامًا أغراض الإرهاب.

بعد اتفاقية «سايكس بيكو»، والتدخلات العسكرية الغربية المتكررة في المنطقة، والتي نشأت عنها أزمة اللاجئين حاليًا، يستقبل الغرب «البريء» الآن، على حد وصف «تشومسكي»، اللاجئين على مضضٍ، ويستوعبهم تفضلًا. قرّرت «ألمانيا» – البالغ عدد سكانها 80 مليونًا – في بادئ الأمر استقبال مليون لاجئ، بينما استقبلت لبنان مليونًا ونصف من اللاجئين السوريين، هم ربع سكانها الآن، بالإضافة إلى نصف مليون لاجئ فلسطيني مُسجّل بوكالة «أونروا».

المصدر: ساسة بوست



التربية على الديمقراطية والتعايش زمن الكراهية والاعتداءات : نموذج بيداغوجي من أجل الديمقراطية – فيليب ميريوه(2016) ـ ترجمة : ت.محمد أبرقي

عن أنفاس نت




يَأسُ المُربّين انتصارٌ للإرهابيين.
بهذه العبارة ينهي فيليب ميريوه توطئة مؤلفه الجديد الذي وسمه بعنوان مثير"التربية بعد الاعتداءات" فنحن-يضيف-نعلم أن الحياة كانت دوما هشة،والإنسان كما الديمقراطية خلال لحظات يصيران تحت تهديد القوى التقليدية التي لا تزال تقطن عالمنا،ونعرف أن كل ما يشدنا في العمق قاتل،والحلكة يمكنها ذات يوم سحب الأمل في قدوم النور...                
فما الذي يمكننا القيام به بهدف إسماع المنطق وصوت العقل لمن اختار سبيل اللاَعقل؟     

مشاعر ديمقراطية:   
واجب جَرد المكاشفة وواجب الابتكار.
يلزمنا،فعلا،القيام بجرد بيًنٍ للطريقة التي بها تركنا مؤسساتنا تنحرف لدرجة صارت تفقد معها جزءا كبيرا من الثقة.لقد عبَر كل من"فرانسوا جُورو" كما "إيريك فافي"الكاتب العام المساعد لعصبة المدرسين حول ذلك الموضوع ومنبر"المقهى البيداغوجي"،وذكروا بأن المدرسة لا تفِي حقا بوعودها،وأن الحق في تربية ذات جودة من أجل الجميع يظل وبشكل عريض مجرد أمنية...
ينبغي الإنصات لهم،دون الميل نحو الاتهام المثير للدموع بعبارات مثل"كان علينا أن..."ولكن،وهو ما يفرض نفسه الآن،وبتحمَل النظر إلى الأمام،بالقول:"يجب علينا أن...". كيف يمكن تَحمُل زحزحة القارات المدرسية التي ظهرت في بلدنا؟كيف يمكن تبرير الطابع المشين الشكلي للتربية المدنية والفنية؟كيف يمكن تقبل حرمان عدد من الشباب (في الثانويات المهنية ومراكز التكوين)من التكوين الفلسفي بينما-حسب دراسات ميدانية-هم يرغبون في ذلك؟كيف يمكن التساهل مع فقدان الطابع المؤسساتي للمرافق المدرسية حيث نوع من العَملقة-باسم اقتصاديات السُلم الشهيرة-يزرع اللامبالاة،ويترك الضغط والعنف يتطوران؟ كيف نبرر هذا التخلي الطوعي والمرغوب عن "مستقبل مشترك" يفرض نفسه اليوم أكثر،وحيث الاختلافات(عدم الاعتراف بها) تُهدِّد،إن لم يتم حصرها ضمن مشروع جماعي،بتفجير هياكلنا الاجتماعية؟                                                         
ينبغي التأكيد،طالما محاولات التفكير السهل والمزدوج كبيرة،أن هذا لا يبرئ في شيء الإرهابيين،والحركات المتطرفة،والدول النذلة التي تدعمها من مسؤوليتهم الجسيمة.         غير أنه من اللازم توجيه النظر دون مواربة صوب أولئك الذين دفعناهم نحو صنف من"الصناعة"،أو لم نعرف كيف نهديهم اختيارات أخرى تمنح المعنى لحياتهم من دون القتل الهمجي.    
 الجرد مطلوب بشدة،ويمكنه أن يقودنا نحو نوع من التأنيب الداخلي العميق ،أو أسوأ من ذلك،نحو التخلي المتناغم عن نبوءة شرٍَ لها دوما ضمانة ثبوت: إنها تسمح،بالفعل،بادعاء القدرة على توقع الكارثة حين قدومها،والعمل على تحاشيها إن لم تأت.كل ذلك باختيار الإقامة،بانجذاب،ضمن اللاَأمل والذي يوفر داخل حلقات موضة عناصر الإعجاب النرجسي. لأجل ذلك،وفيما وراء الجَرد،فإن المربين،الذين يقومون بمهنة المستقبل مدعوون إلى الابتكار.ابتكار سياسي واجتماعي عليهم طبعا أخذ نصيبهم منه.                            
هو أيضا ابتكار بيداغوجي يرتبط بخصوصية انخراطهم المهني.إنها الفرصة،إذن، لتغذية تفكيرنا بالعودة لإنتاجات الكبار في البيداغوجيا: "بيستالوزي" وهو يواجه البؤس والعدائية تجاه يتامى "سانطاس" وقد قرر،مع وضد الجميع،تربيتهم،و"فرناند دوليني" وهو في مواجهة "الطائفة المحتقرة" "للحزمة الكبيرة" قبل أن يتحمل،وفي مواجهة مباشرة متألقة، الاهتمام بالأطفال المصابين بالانطوائية،وله كتاب(بذور الرعاع) يظل مؤلفا متميزا يجب أن يكون موضوع دراسة ممنهجة في كل المدارس العليا لتكوين الأساتذة .                          
إنها أيضا فرصة لإعادة قراءة واستكشاف كتاب الفيلسوفة الأمريكية"مارتانوسبوم" بعنوان"المشاعر الديمقراطية" وهو عمل له أهمية كبيرة بالنسبة للبيداغوجيين كتبته متخصصة في الأدب وتتجه لتطوير،إلى جانب"أمارتيا سِن"،مقاربة بيداغوجية تحت اسم"capabilitésأي قدرات  جوهرية ذات وجود فعلي لا قدرات مجردة وشكلية.
مقاربة علينا منحها للأفراد حتى يتمكنوا من ممارسة حريتهم في إطار وضعيات ملموسة.
تبدأ"مارتانوسبوم"كتابها بتحديد ما تراه غاية نهائية رئيسية للتربية:تكوين التلاميذ للقدرة الفعلية على المشاركة في الحياة الديمقراطية،وتبرز، بعد ذلك،بدقة الأهداف البيداغوجية التي ينبغي علينا الاهتمام بها قصد بلوغ تلك الغايات:أن نعلم تلاميذنا الدخول في علاقة مهادِنة مع الآخرين والتفاعل جماعيا ضمن احترام متبادل بهدف الوصول إلى الخير المشترك،بعد ذلك،ولوضع مقترحات ملموسة تتساءل الكاتبة عن العملية الفكرية(الذهنية) التي يجب القيام بها لبلوغ تلك الغاية وتعرفها كالتالي:"ينبغي أن يتعلم الطفل كيف يتحدد في علاقة بمصير الآخرين،والنظر إلى العالم من خلال أعينهم والإحساس بآلامهم واستعمال الخيال لأجل ذلك.وبهذه الطريقة،فقط،يصير الأفراد(الآخرون)البعيدون حقيقيين ومساوين له "
بهذا تلتحق المؤلفة بالملاحظات الثمينة ل"أدورنو" الذي تساءل في "التربية بعد أوشفيتز"عن كيفية بناء عالم يصير تكرار الرعب فيه ومعاودته مستحيلا.يشير "أدورنو"إلى أنه،لأجل ذلك،من الضروري النضال ضد ما يسميه ب"الفتور":اللامبالاة المطلقة تجاه ما يحدث للآخرين باستثناء بعض الأقرباء الذين نختارهم.آخرون يعتبرون فقط بمثابة"مواضيع" ووعي مُتَشَيءٍ بتعبير "أدورنو"حيث أمكن لأفراد وبوعي مهني مثير "تخيل نظام نقل يقود الضحايا بسرعة أكبر وبسهولة قصوى نحو "أوشفيتز"،كل ذلك عبر نسيان ما سيحدث لهم هنالك".يعرف الجلادون المتلاعبون ذلك:لقد فهموا إلى أي درجة يمكن أن يصير أفراد صانعين بارعين للهمجية،مبَرمجين على طاعة الأوامر الأكثر  رعبا،بمجرد ما أن يجدوا مُتعتهم في الشعور بميزة خدمة عمل جماعي،ولهم اليقين في عطف موعود من لدن القائد أو الإله، والسعادة بالحصول على تقدير أقرانهم ومكافأتهم مقابل العمل المنجز بعناية"(...)
التربية بعد "أوشفتز" كما التربية بعد الاعتداءات هي إذن نوع من إعادة السياسة،وإعادة القدرة للبشر من أجل تشييد مدينة على الأرض وإن كانت رديئة،ومساعدتهم على الابتعاد عن محاولة رفع،والسلاح باليد،مُطْلَقٍ غير قابلٍ للسؤال.
تدريس الشك يجب أن يكون دون التأرجح نحو النزعة المتشائمة(فلسفة كلبيةcynisme)،وتحُمل اللاّيقين دون الترخيص بأي شيء.الترخيص لكل واحدة وواحد بمقاومة الخضوع للضغوط الهدامة التي تمارسها جماعة،والسماح بالتعبير عن الأسى والارتِياع النابع من نتائج الأفعال الخاصة،ثم إثارة،ولدى الجميع،التفكير النقدي حول الذات".
هل ينبغي لأجل هذا،يتساءل "أدورنو" أن نحرص على"الوعظ للحب"،هذا لا يفيد في شيء،حينما نطلب من كائنات بأن ينصتوا لشيء لا ينتمي لتكوينهم الفكري"ويفترض لدى الذين نتوجه إليهم بنية أخرى مميزة غير تلك التي نرغب في تعديلها"
نحن لا نُقنع،ولا يمكننا أن نرغم أحدا على أن يُحب.لكن هل من الضروري على الرغم هن هذا اللجوء إلى ذلك "الفتور" وآثاره المرعبة؟ أبدا.
إذا كان العجز عن التَحدَد(تعرف الذات)بالنسبة للآخرين هو،وفي جزء منه على الأقل،المسؤول عن المرور نحو الهمجية،فعلى التربية أن تسمح بالوعي بذلك "الفتور" وبأسباب وجوده،لذا يلزم تَحيين مساراتها المُضمَنة،والتي يسمح لنا التاريخ النقدي برصدها،وتَحملُها في العادة أعمال الثقافة.
إن الولوج إلى تلك المنطلقات يمكنه أن يفتح بعض التصدعات داخل كتلة اللامبالاة الغرانيتية.
وأبدا لا تكون العملية بطريقة ميكانيكية لان اللقاء بين التاريخ المفرد للذات وبين "كلمة"/وعد حول العالم لا يُبرمَج بشكل عابر وسريع وأن التكوين النفسي الدفاعي يستعيد بسرعة تفوقه،وفي سريّة، لأنه من الصعوبة الإفصاح عن ذلك لأي كان،وبشكل خاص للأستاذ الوسيط الذي يلزم إذن الاعتراف له بنوع من المسؤولية(التزام ودَين خاص) كما أن المربّي لا يمكنه أن يصير سوى مزودا عنيدا للفرص،ومن دون إيحاءات حول صعوبة الدور،وأيضا دون التخلي بالمقابل عن أهمية الرهانات.
عليه ان يتواجد في "مكامن" النصوص والمؤلفات التي يمكنها إثارة بعض انتقالات وجهات النظر،وبعض إضاءات التعاطفية،وبعض الانبثاقات المبهرة للذكاء، ثم القطع بالتالي مع التقوقع داخل اللامبالاة.
إن منح تلك المزايا دون انتظار أقل إشارة حول صلاحيتها الفورية،ولا فرض أدنى اعتراف، ثم إرفاقها بممارسات بيداغوجية،يمكنه السماح لكل واحد بالوعي، وبالدخول في تفكير لا يغلقه بسرعة هاجس الفعل الفوري،وفي النهاية الولوج بتدرج نحو الاستقلالية بالمعنى الكانطي: فلتكن لديك الجرأة على التفكير الذاتي !
التربية على الديمقراطية،ممكنة !
هو ما تقوم به،فعلا،"مارتا نوسبوم" وتقترح علينا في مؤلفها ثلاث حلقات ملموسة مقرونة بعدة أمثلة :ممارسة النقاش ،وهاجس تكوين "مواطني العالم" ثم عرض التخيَل من خلال الأدب والفنون.
وهكذا،تجاه مؤسسات-أو مرجعيات-تضع جنبا إلى جنب،غالبا،غايات طموحة وممارسات روتينية بأقل تكلفة،تعيد"مارتانوسبوم" للانخراط التربوي استمراريتَه الضرورية بين غايات ومتغيرات.إنها تسمح لنا بالخروج من حالة سكيزوفرينيا بين النظرية والممارسات،سكيزوفرينيا تنزع الشرعية بقسوة عن كل فعل تربوي.إنها تدعونا،حسب تعبير ومقاربة "دانييل هاملين" للسير دون كلل في اتجاهي السلسلة التي تربط بين ما نريده وما نقوم به،غير أنها لا تقوم به بطريقة ميكانيكية أو تطبيقاتية، بل وهي تعي بأن الابتكارية البيداغوجية،ووحدها التي يمكنها،بعيدا عن أنظمة الرقابة التكنوقراطية،أن تربط بأصالة بين المبادئ والأفعال بقصد ملء دائرة الوعد باقتدار.
تنطلق"مارتانوسبوم" في  عرض استدلالها بالتمييز بين نظامين من أنواع التطور دون أن يكون لهما وجود "في حالة خام" بالمعنى الفعلي،ولكنهما يمثلان نماذج مرجعية تسمح بالنظر إلى كيفية تموقع كل بلد وكل مؤسسة في العلاقة معهما.صدام الحضارات الذي تتحدث عنه يختلف عما نتداوله غالبا حوله ويجري داخل كل مجتمع. إنه يضع التعارض بين نموذج يتمركز حول النمو الاقتصادي أيَا كان الثمن،ونموذج يتمركز حول التنمية البشرية.
في النموذج الأول،يكون الأساسي بداية هو خلق تنافس بين الأفراد باعتباره المحفز على الثروات المادية،وتوزيعها يكون بناء على الاستحقاق.
في النموذج الثاني،الأساسي هو مبدأ المساواة في الحقوق الحيوية للأفراد: الحق في الصحة،وفي التربية،وفي ممارسة نشاط معترف به داخل جماعة متضامنة،والمشاركة فعليا في النقاش الديمقراطي.
تبرز"نوسبوم" من خلال تحليل،وبشكل خاص،أمثلة من الصين والهند بأن الولوج إلى الحرية والمساواة بين الأفراد لا يرتبط أبدا بالنمو الاقتصادي،بل على العكس،إن النمو اليوم-حينما يوجد أو يكون مطلوبا بأي ثمن-يخلق حالة تنافس،وينمي الفوارق ويثير كافة أشكال الانحراف...
وحتى التربية التي تقترحها البلدان التي تنظر للنمو الاقتصادي باعتباره هدفا أوليا فهي تتأسس على "مزيج"من التطوير التكنولوجي وإذعانا لفكر"إنها تستند على شعور قلق معرض للجرح من أجل نشأة مشاعر لا شيء فيها ديمقراطي": النفور والنظر بإحجام إلى الآخرين باعتبارهم تهديدا،والانطواء العشائري والهوياتي تجاه دسيسة أولئك الذين ينقصهم النضج(موضوع بذاءة) والعدوانية ثم العنف المدمر.
يسمح النموذج الديمقراطي،ضدا على هذا النوع من الشعور،لكل طفل ومراهق طيلة فترة تربيته بالاعتراف بالآخرين-كل الآخرين-باعتبارهم أفرادا يستحقون الولوج إلى نفس الحقوق لأنهم يتقاسمون معه نفس الشرط.(الانتماء الإنساني).
حينما تصف التربية المؤسسة على الربح والسلطة العالم بطريقة،ودوما آلية، مَانَويّة،واضعة التعارض بين "الأخيار" وبين"غيرالطيبين"،بين "المنتخَبين" و"المقصيين" يجب على التربية القائمة على الديمقراطية أن تفضي إلى قراءة الواقع المعقد للوضعيات والتناقضات التي تَعبُر كل واحد بيننا والطريقة الممكن بواسطتها تجاوز تلك المحاولات التراجعية لأجل المساهمة في "الخير المشترك".إنه ما يستحق كل تقدير الآداب إذ تسمح بذلك الاكتشاف،وتقدم فرص الولوج إلى تعقيد الكائنات،وتساعد على فهم إمكانية تجاوزه،وأكثر من ذلك فالتربية على الديمقراطية تزرع "الآمال الديمقراطية"التي تؤسس إمكانية،والرغبة في، العيش معا.
ثلاث ممارسات بيداغوجية من أجل مواقف و"مشاعر ديمقراطية" :
طوّرت لأجل هذا"مارتا نوسبوم"ثلاثة محاور قوية تكشف ضرورة محوريتها ضمن هيكلة أنظمتنا المدرسية:
ممارسة النقاش الحجاجي المبني على الاستدلال والعمل على إرساء الارتباطات المتفاعلة داخل المواد وفيما بينها،ثم أخيرا السير نحو حقل الفنون والانفتاح عليها.
إن ممارسة النقاش،هي بالفعل،ضرورية ومنذ البدايات الأولى ،غير أنه هنا لا مجال للمزج بين النقاش القائم على التبادل الودّي للآراء والمناقشة ب"العصي المنكسرة" حيث يمكن لفئة قليلة من التلاميذ الجيدين أو من ذوي الزعامات الكاريزماتية فرض وجهات نظرهم،لهذا في رأيي ينبغي ممارسة فعل المناقشة عبر وضع قاعدة بيداغوجية أساسية : العمل على تبادل-وبتناوبٍ- الأدوار،حتى يمكن لكل واحد التحوّل للدفاع عن وجهة نظر الغير بعدما كان في وضعية الدفاع عن رأيه الخاص .
هذا الاقتراح،والذي نجده لدى كثير من البيداغوجيين يبدو لي،بالفعل،أنه حاسم لأن المدرسة ليست أبدا مجالا ديمقراطيا،بل هي مجال للتكوين على الديمقراطية،والنقاش يلزم أن يكون فيها شيئا آخر لا مجرد جدال لفظي سطحي أو مواجهة عنيدة مُتَعنِّتَة. ينبغي أن يساهم النقاش في تكوين المتعلم ودفعه نحو هيكلة تفكيره،ومن الضروري إذن أن تسهم قواعد دقيقة وتجنّب كل واحد من التقوقع حول آرائه،وتسمح له بإعادة فحص ما يعتقد المعرفةَ به قصد الارتقاء والتقدم نحو الأفضل.
ينبغي عليه،بمعنى مّا،الدخول في لعبة الأدوار مع الغير والمحاججة ثم البرهنة حتى يصير اقتراحه نفسه غَيرِيّاً( ينتقل إلى حقل الآخر) ويستطيع تحمّل تطوره من غير جحود وإنكار.
لقد كشف "جيرارد دو فيشي" حديثا أن تلك الممارسة بعيدة عن أن تكون محصورة عند مواد دراسية معيّنة مثل التربية المَدَنيَّة،اللغة الفرنسية،أوالفلسفة، بل يمكنها أن تشمل كافة المواد،وهذا منذ طور المدرسة الابتدائية. طبعا ينبغي فحص الوسائط الملائمة ووضع عدّة تدابير مناسبة ثم إنجاز عمل وثائقي قبلي،وإن كان النقاش الجيد تحضيرا وتسييرا،بعيدا عن يفضي إلى نوع من النسبَويّة المعمّمة حيث تتساوى فيها وتتناسب كل الآراء، يسمح بتسجيل ضرورة الدقة والضبط في خضم الممارسات داخل القسم .
يمكننا لذلك الاستناد على تساؤلات التلاميذ،أو الانطلاق من التعارضات العلمية التاريخية،أو القيام بتحليل نقدي لنصوص تعميمية تبسيطية أو حتى فحص "أسئلة حيّة"(راهنة). يسمح، بالتالي، الطابع السطحي الذي يفرضه أسلوب تناوب الأدوار،في حلقة دائرية،للمدرسة بالقطع مع الممارسات الاجتماعية المألوفة للمناقشة،ويفضي إلى تقعيد المعارف،والتي تفقد في أعين التلاميذ خاصيتها الاعتباطية . تشكل المناقشة في القسم، إذن، مناسبة للبحث عن الحقيقة وفرصة لتفاعل وتبادلات ديمقراطية ،كما أنها تُوحِّد،ومن الوجهين معا، وبهدف نفس الضرورة المؤسِّسَة للمدرسة : تكوين المواطن .
الاقتراح الثاني ل"مارتا نوسبوم" يقود إلى نوع من الالتزام داخل كل مادة وفي كل الأعمال حيث تتقاطع المواد،ثم التصرف عبر تمديد الحقل بوتيرة نسقية من أجل السماح باكتشاف التبادلات(التفاعل  داخل الفصل) وأشكال التضامن. يتعلق الأمر هنا بتكوين "مواطن العالم" ليس فقط عبر تعليمات وصيغ جزئية،ولكن أيضا عبر اكتشاف الارتباطات المعقدة التي يقيمها الأفراد (تبعية متبادلة) فيما بينهم ومع العالم. إن التفاعل يعتبر فعلاً قائما قبل أن يكون قيمة بتعبير "ألبير جكارد".
نحن بعيدون هنا عن مجرد تثاقف بيني نسبَوي يقوم على الطابع الفلكلوري للاختلافات، ومزج كل مرجعية إيتيقية وجمالية. يتعلق الأمر بشيء آخر تماما : اكتشاف متدرج للصور، ومعنى ما يحيط بنا بغاية فهم كيف أن كل ذلك "يصنع نظاما"،وبالتالي نماذج من مفهومية حول الذات وحول العالم فيها،وبفضل جسارة الفهم والإقدام إليه، نُؤسِِن الغيريّة والغرابة.
تلح،أخيرا "نوسبوم"على اللقاء الضروري بالأدب والفنون:إنها تعتبر ذلك ضروريا بالنسبة لتكوين الحس والمشاعر الديمقراطية بما تسمح به من الولوج إلى "الخيال السّردي" .
أعني بهذا،كما تشرح ذلك،القدرة على تخيّل الأثر الذي يحدثه التموقع مكان الآخر،وتأويل،بذكاء،تاريخ ذلك الشخص،وفهم المشاعر والأماني والرغبات التي يمكن أن تكون لديه لأن تعلّم رؤية كائن إنساني آخر ليس بمثابة شيء بل باعتباره شخصا،لا يأتي تلقائيا :إنه تعلّم وبناء ،والفن،لأجل هذا،ضروري إذ أنه يفضي،وفي نفس الآن، إلى رؤية
الهويّة والغيرية. إنه يسمح بالتعرف على الذات،و"التعرف على الذات كآخر" حسب العبارة المثيرة ل"بول ريكور".
نجد هنا الاقتراحات التي وضعتها حديثا الأستاذة الجامعية "هيلين ميرلان كاجمان"في كتابها  " Lire dans la gueule du loup "حيث تقول أن" تدريس الأدب تحوّل مع حلول مواد مليئة بدراسة النصوص في العلوم الإنسانية والاجتماعية.لقد كان الربح لافتا في المجال الإبستيمولوجي،إلا أن النصوص الأدبية ينظر إليها،بعد الآن، كما لو أن لها وجودا خارج الروابط الانتقالية التي تحيكها لأجلنا" والنتيجة هي أن "التقاسم الانتقالي" الذي ينشأ عبر الآداب في الأقسام قد تراجع فاسحا المكان لمقاربة تركز على الموضوع وأكثر تقنوية .لم يعد الأدب ينتج "التقبُّل العاطفي" بين الأطفال أوالمراهقين والراشدين.إن التقاسم الأدبي الذي يسهم في بناء هذا العالم المشترك،والذي نطمح إليه،صار محلّ تراضٍ (واتفاق).ينبغي إذن الاشتغال على نصوص،بعيدا عن خلق حالة اللامبالاة،تخاطب مستويات ومناطق الفرد الإنساني،والتي هي أساس وجودنا،وليس العودة إلى الممارسات الديداكتيكية الشكلانية القديمة كما الحديثة .
تقاسم الحسّ الأدبي"عاطفة أدبية" يمكنه أن يتم دون انتهاك حميمية الذات ،وبالحرص على تخفيف حالة الإضطراب/الصدمة التي يمكن أن يحدثها:"القارئ لا ينبغي أن يكون مرغما لا بالكشف عن حميميته ولا بكبتها،ولكن أن تكون له القدرة على تحويلها وتغيير مكانها"بتعبير "هيلين ميرلان".
تسمح له ،فعلا،القوة الرمزية للنص بالتعرف فيها على ذاته ورسم مسافة معه،حيث الخطاب الأدبي يقحمه في ذاتيته،ويبعده في نفس الوقت من نرجسيته.الشخصيات تجسد ما يعيشه دون أن تشابهه،تعلن فَرادَته وهي تربطه آناً مع الآخرين،فيمكنه بالتالي تكوين هويته وهو منخرط ضمن ما يصنع المجتمع .
حتى تشيّد التعاطفية مجتمعا .
إن تلك المقترحات تؤكد أطروحة"نوسبوم" حيث الممارسات البيداغوجية يمكنها تغذية المشاعر الديمقراطية،وتبدو لي هذه النقطة مهمة اليوم،وبشكل مطلق.
على الرغم من ذلك ،أعتقد أنه يلزم إتمام هذا التحليل. إن التعاطفية بالفعل حيوية تفاديا للمعاملة غير الطيبة،ولأجل بلوغ لقاء مميز بالآخر،ولكن هل ينبغي،مرة أخرى،بتعبير "أندري بِّيريتي"، أن ندخل في مرجعية الآخر..دون أن نتيه فيها"؟."دون تيه" يعني التوفر على وسائل الرجوع إلى الخلف،والخروج من التَحَدُّدِ، وبناء تبادل بفضل التحكم في اللغة،وعبر تعلم يومي ل"ما معنى أن نتكلم". هنا ضرورة الدقة والعدالة والحقيقة .إن الانفلات من التداخل المنهجي بين المعرفة والاعتقاد مطلوب دوما،وبذل الجهد لأجل ذلك،حتى لا نطلب من أي كان "الاعتقاد بشخص بناء على قول" ولكن عبر فحص المصادر وإعادة البرهنة والذهاب للنظر عن قرب أكثر،كل هذا ضروري .
ويبدو لي أنه من الأساسي التأكيد على بناء الجمعي،والإمكانية الممنوحة لكل فرد في الحصول على مكان ضمن ذاك الجمعي هي مسؤوليته،والقيام بنوع من التجريب للسلطة المشروعة،تلك التي تمارَس بنفس القدر الذي نضع فيه سلطة تصرف في خدمة مسؤولية ضمن المصلحة المشتركة .أخيرا،أؤكد على ضرورةٍ-وهي بشكل خاص مهمةُ اليوم بالنسبة لي-أن نمنح للتلاميذ دلالة وقواعد الاكتشافات المنجَزَة وتسجيلها ضمن إطار مؤسساتي،لهذا أتساءل منذ زمن طويل حول إمكانية والحاجة لإدراج القانون باعتباره مادة للتمرين في منهاج التكوين،وهذا يكون من طور الابتدائي إلى مستوى الثانوي. بعد كل هذا،وفي مجتمعنا الحالي،لم تعد التعاليم هي ما "يمسك الأفراد معا" بل إنه القانون،وينبغي أن يفهم التلاميذ بأي معنى يحميهم القانون،وما الذي تعنيه مبادئ مثل "لا أحد يمكنه أن يطبق عدالته بنفسه" "و"لا أحد يمكنه أن يكون في نفس الوقت قاضيا وطرفا في القضية" من حيث أنها (المبادئ) عناصر مُحَرَِّرَة .
ألسنا نحن هنا ضمن مفارقة قصوى؟ نحن الذين نعلن أن "لا أحد له الحق في الجهل بالقانون" ونرفض في نفس الآن تدريس القانون .
إن البيداغوجيا بعيدة عن أن تكون عاجزة في مواجهة الهمجية .مؤكد أنها ليست قوية بما يكفي،ونجاحها لم يكن أبدا مضمونا : إن تكوين إنسان هو ليس صناعة موضوع،وليس لدينا اليقين أبدا بما يمكن أن يصيره. البيداغوجيا لا تشتغل هكذا بوثوق!
من حسن الحظ أن الديمقراطية هي كذلك! وهو ما يصنع  في آن واحد تألقها وهشاشتها،وهذه الهشاشة(بالمعنى الإيجابي وهو ما يقصده المؤلف)هي ما ينبغي علينا الدفاع عنه ضد قوة الدوغمائيات وعنف التوتاليتارية لأن هشاشتنا هي بهذا المعنى خَيرُنا الأكثر قيمة وثمنا.