السبت، 4 مارس 2017

من الفلسفة إلى السياسة عند حنّه آرندت – منصف الداودي

عن موقع حكمة



ملخص البحث باللغة العربية:

إنّ قلب الأفلاطونية لايعني الخروج منها، فهو جزء من نفس الإطار. لِهذا كانت التصورات الفلسفية المناهضة للأفلاطونية جزء منها، وهو حال التيار الحيوي. فإذا كانت الأفلاطونية قد شكّلت التقليد الفلسفي الغربي، أي الإطار العام للتفكير الفلسفي الغربي، فإنّ مجاوزتها لا تكون بِقلبِها بل بالخروج النهائي منها. وهذا ما سعَت إليه حنّه آرندت باقتراحها التصور السياسي الذي ينظر إلى الوجود والإجتماع الإنساني خارج كلّ تأطير فلسفي؛ أي ينظر إليهما نظرة سياسية، بالمعنى الخاص الذي تسنده آرندت إلى السياسة. فكيف تشكّل إطار التقليد الفلسفي مع أفلاطون؟ وكيف ظلّت التيارات الفلسفية حبيسة هذا الإطار رغم محاولتها تجاوزه؟ وأخيراً ما هي طبيعة التصور السياسي الذي تُقدّمه أرندت قصد التجاوز فعلي لهذا التصور الفلسفي؟


من الفلسفة إلى السياسة عند حنّه آرندت

تفترض قراءة أيّ متن فلسفي استحضار جملة مُحدّدات يكون فَهمُه على ضوئها إمّا أقرب أو أبعد من نيّة الكاتب. ونحن أمام نصوص حنّه آرندت، علينا استحضار أنّنا أمام مَتْن مُفكّرة تريد أن تنظُر إلى السياسة بأعيُنٍ مُجرّدةٍ من الفلسفة،[1] أي تريد أن تَفْهَم ماهو سياسي خارج كلّ ‘وهْمٍ’ ميتافيزيقي.[2] ولا يتأتّى أمرٌ كهذا إلاّ بفهم موقِفَها من ’التقليد‘(Tradition;traditionn) الفلسفي.

تقصد أرندت بالتقليد، بصفة عامّة، الإطار المفهومي للفلسفة الغربية؛ أي الإطار الذي يُفكّر بِهِ و داخله العقل الغربي في تجارب الماضي (وتَخُصّ بالذكر تجارب الإغريق). فهي تُميّز ’التقليد‘ عن الماضي؛ حيث يُشكّل هذا التقليد «الخيط الرّابط» الذي يربطنا بِ«مجالات الماضي».[3] فهو إذن المِنظار الذي يحكُم نظرنتا، والذي نُفكّر عبره في هذا الماضي ونحاول فَلسَفتهُ (أي ممارسة فعل التفلسف عليه). لِذا كان فعل التحرّر من الفلسفة والميتايزيقا والتخلّص منهما، فعلا يُمكّنُنا من «رُؤية الماضي بعَيْنٍ جديدة، مُتحرّرة من هيْمَنة و ثِقل التقليد […]».[4] لكن في مقابل ذلك، «لا تعني نهاية التقليد، بالضرورة، أنّ المفاهيم التقليدية قد فَقَدَتْ تأثيرها […]».[5] فكُلّ المحاولات التي قام بها كُلّ من كيركِكارد ونيتشه وماركس، لم تقُم إلاّ بِ ’قلب‘ هذا الإطار، لكنّها ظلّت داخله؛ حيث حاولت القيام بذلك بواسطة «اقتباس أدواته المفهوميّة»[6] نفسها، فكان أنْ «ظَلَّ الإطار المفهومي دون تَغيُّر».[7]

وجَبَ، بهذا المعنى، فهمُ موقف أرندت من الفلسفة والدلالة التي تُسنِدُها إيّاها من جهة (أي باعتبارها الإطار الذي يحكم نظرتنا عامّةً)، و،من جهة أخرى، تركيزها الدّائم على تجارب المعيش اليومي الإغريقيّ قبل أن يتمّ مَفهَمته (Conceptualisation) بالأساس مع أفلاطون -أي قبل أن يصير تقليداً. فما قامت به أرندت هو مجاوزة حقيقية للميتافيزيقا وللفلسفة بصفة عامّة؛ وذلك بخلاف المحاولة التي قام بها هايدغر، والتي «ظلّت [فيها] مجاوزةُ الميتافيزيقا، كما وردت في ‘ما الميتافيزيقا؟’، سجينة هذه الأخيرة».[8]

يمكن، تبعاً لهذا، أن نفهم المقصود الحقيقي من قول أرندت إنّها تريد أن تنظر إلى السياسة خارج كلّ فلسفة؛ فهي تحاول أن تُعيد التساؤل حول معظم الإشكالات بِ’مقولات‘ غير فلسفية.  وكذلك فعلت مع مفهوم العالم كما سَنَرى. فكيف تشكّلَ التقليد الفلسفي مع أفلاطون وصار إطار العام للتفكير؟ ثم كيف ظلّت بعض التيارات الفلسفية حبيسة هذا الإطار رغم محاولتها انتقاده نقضه؟ وأخيرا، ما هو التصور السياسي الذي خرج بشكل فعلي من هذا الإطار؟

1- الأفلاطونية كإطار فلسفي

لا تخرج إقرارات الفلاسفة بخصوص مفهوم العالم عن السّقفَيْن اللذيْن أطّرَ بِهِما أفلاطون التقليد الفلسفي الغربي، وذلك في التساؤل الذي أعْلَنَه تيماوس: «على ماذا يرْتَكِز ما يوجد دائما، دون أن تكون له بداية؟ [و]على ماذا يرْتَكِز ما يصير دائما والذي لا وجود له إطلاقاً؟».[9] يُجيب دارِس ومُترجم أفلاطون إيميل شامبري في ‘ملاحظات حول تيماوس’ بأنَّ «الذي يوجد دائماً هو المُثُل، المُدرَكَة بالعقل، والذي يصير دائماً هو الكون[…]».[10] بهذا التساؤل وضع أفلاطون حدود التقليد الفلسفي؛ حدودٌ مُنْتهاها، من جهة، وجودٌ أبديٌ و ثابت، وَ من جهة  أخرى صيرورةٌ دائمةٌ ومتحوّلة.

يبسُطُ أفلاطون، في محاورة تيماوس، القول في «كيفيّة تشكّل الكون»، أي يُقدّم «تفسيراً عاماً للعالم»[11] ولتركيبه المادي؛ حيث «يدخل كلّ واحدٍ من هذه العناصر الأربعة في تركيب العالم، لأنّ صانعه قد ركّبه انطلاقاً من كل النار، كل الماء، كل الهواء وكل التراب الموجود دون أن يترك خارجه أيّ جزءٍ أو قوّةٍ من هذه العناصر».[12] ما يهمُّنا هَهُنا ليس مضمون التركيبات، بل كوْن «الإله […] أخذ مجموع الأشياء المرئيّة، والتي لم تكُن في سكون بل تتحرّك بدون ضابطٍ ولا نظام، فأخْرَجَها من اللانظام هذا إلى حالة النظام […]».[13] والسبب في إدخال النظام على العالم المتغيّر باستمرار هو كوْن هذه العناصر تَنْفَلِت ولا تترك لنا فرصة وصفها ولا التعبير عنها يأيّ تعبيرٍ ثابت.[14]

باختصار، حدّد أفلاطون، انطلاقاً من هذا التقسيم، الثنائيات الفلسفيّة المعروفة: اللانظام/النظام (الكوسموس/الكاووس)، الثبات/التغيّر… أي مُعضم المفاهيم ومقلوباتُها التي انْبَنَتْ عليها فيما بعد جلّ التيارات الفلسفيّة الكبرى: الحسيّة/المثالية، الماديّة/الروحانية، المتعالية/المحايثة…[15] فَكَانَ أنْ صارت الواحدة منَ التصوّرات الفلسفية مقلوبَ الأخرى دونَمَا أيّ مجاوزة أو خروج. ولعلّ أبرز شاهد على ذلك هو «قلبُ الأفلاطونية» النيتشوي الذي «لم ينجح [عند أرندت] إلاّ في قلبها»،[16] أي أنه ظل داخلها ولم يُجاوِزها.

فبَعدَ أنْ أنشأ أفلاطون عالمه المعقول -في مقابل المحسوس، وترتّب عن ذلك ميلاد العدميّة،[17] ثم جعل عالم المُثُل هذا أحقّ من عالم الظواهر، صارت «الأرض غير ذات قيمة»،أي تمّ نفيُها على حساب السماء،[18] وما كانت محاولة نيتشه، محاولةُ أنْ يتصالح مع الأرض دون أن ينفيها[19] (sans l’anéantirr)، إلاّ نفياً لهذا النفي كما أحلنا سابقاً؛ أي ارتماءً في هذه  الأرض دون فَرْزٍ في مجالاتها بين الصيرورة العمياء للطبيعة، وبين العالم الإنسابي القابل للعيش.

فَكَيْف نُظِرَ إلى مفهوم العالم داخل الفلسفة كما تحدّد إطارُها مع أفلاطون؟

1.1- التصورات الفلسفية: الأفلاطونية ومقلوبها

يُعلِّق إيميل شامبري، عن حق، في الهامش 105، في سياق حديث أفلاطون عن الزمان (ص 416 من المحاورة وما بعدها) بالقول: «يستعمل أفلاطون كُلاّ من الكلمات ’سماء‘، ’كوْن‘ و ’الكُلّ‘ بمعنى واحد قصد الدّلالة على مجموع العالم».[20] فانطلاقاً من لحظة أفلاطون، أصبح يُنعَتُ كلّ ما لا ليس مُثُلا(Idées) بأيّ اسمٍ، وتُسنَد إليه أيّة خصائص كانت دون أدنى تمييز. «بخصوص السماء كلّها، أو العالم، أو أيّ اسم آخر مناسب نعطيها إيّاه […]».[21] هكذا يتحدّث أفلاطون عن هذا الذي لا يُهِمه بأيّ اسم نَنْعَتُه، بقدرِ ما يُهِمُّه أكثر التساؤل حول «ما إذا كان موجوداً دائماً، دون أن تكون له بدايةُ كَوْنٍ، أو هل بدأَ، فكانت له بداية؟».[22] فحَصَلَ أنْ أَلْغى كلّ التمايزات والخصائص التي يتميّز بها الوجود على الأرض، مُختزِلا إيّاه في هذه الثنائيّة المعروفة. فكَانَ أنْ قامت جلّ التصوّرات الفلسفية المنتقِدة للأفلاطونية بأنْ أعادت الإعتبار فقط إلى وجهٍ من أوجه الوجود[23] (عالم الصيرورة) وكَسْرِ قيدِ الأفلاطونية، إلى درجةٍ صار معها «قلب الأفلاطونيّة» –مثلاً عند نيتشه- «مهمّة الفلسفة».[24] لكنّ هذا القلب، الذي ظلّ سجين الأفلاطونيّة نفسها كما بيّنّا، والذي ’يُعيد‘ للصيرورة مَكَانَتها بعد أنْ جعل أفلاطون «ما هو مرئي ٌ وخاضعٌ للصيروة» مُجرّدَ «نسخةٍ عن نموذجٍ» مضادٍ له في الخصائص، أي «معقولٍ و دائم التباث»،[25] هذا القلب قد سقَط في أحد حدود الأفلاطونيّة (عالم  الصيرورة) دون أنْ يمّيز داخل موجوداته عن المكانةَ الخاصّة التي يحتلّها أحدها: الإنسان وعالمه.

هكذا، وبُغيةَ التخلّص من الأفلاطونيّة –أي قلبها، لم تُفرّق التصورات الفلسفيّة التي حملَت على عاتقها هذه المهمّة (=مهمّة القلب) بين الموجودات؛ حيث جعلتها كلّها –بما في ذلك الإنسان- تسبح في صيرورة العود الأبدي للطبيعة. وانطلاقاً من ” أيّ اسم” الذي لم يُعِرْهُ أفلاطون أهمّية كما تقدّم، سار حتّى منتقدوه في المسارعيْنه، وأصبحوا ينعتون هذا ”الكلّ” الذي يوجد –بعد أنْ قَلَبوه- بأي اسم؛ ومن هنا الخلط، على وجه التخصيص، بين ’العالم‘ و ’الطبيعة‘.

تكادُ تُجمِع التصورات الفلسفيّة، منذ قديمِها، على أنّ معنى «العالم إنّما هو إشارة إلى جميع الأجسام الموجودة […] وهو عالم واحد كمدينة واحدة أو حيوان واحد»؛[26] أي «ذاك الكونالحيوان الواحد، الذي يحتوي داخله على كلّ المخلوقات الحيّة غير الفانية.»[27] (التسويد مُضاف في النصيّن). من المُثير للانتباه العثور على مِثل هذا التطابق في سياقيْن مختلفين، الذي معه يكون العالم كائناً حيّاً؛ حيث إنْ دلّ على شيء –ولهذا القصد أوردناه- إنّما  يدلّ على استمرارِ نفس التصوّر حول مفهوم العالم رغم ما يظهر من تغيّرات في أشكال التدليل عليه.  وهذا الاستمرار ظل حتى حدود القرن العشرين، خصوصاً مع التيار الحَيَوي.

منذ أنْ كانت الطبيعة عند الإغريق القدامى «تحوي كلّ الأشياء التي تنشأ وتتطوّر من تلقاء ذاتها»[28] دون أيّ تدخّل خارجي عنها، وصولاً إلى اعتبارها عند دولوز –مؤوّلا سبينوزا- «[…] لاتكُفّ عن التحوّل والتشكّل وإعادة التشكّل في تركيبات كما في تفرّدات»؛[29] لم تخرج التصورات الفلسفية –مع ضرورة التنسيب- عن كونها تعتبر الطبيعة ذلك المُعطى الأوّلي الذي يوجد فيه كلّ شيء ويتشكّل من تلقاء ذاته. والمثير للإنتباه أيضاً، والذي يُهِمّ سياقنا، هو مُماهات مفهومها مع مفهوم العالم؛ «[…] فكُلّ شيء في الطبيعة أو العالم هو جزءٌ من بساط المحايثة العام […]»[30] الذي يحتوي كلّ شيء.

فبَعد أن ’نزلت‘ الفلسفات المُناقضة للأفلاطونية إلى ”العالمها الحقيقي”، عالم الصيرورة، بعد بَيانِها زيْفَ ”العالم الحقيقي” الأفلاطوني، عالم المُثُل، لم تُفرّق –داخل هذا العالم على الأرض – بين ما يصير دائما ودون توقّف، وما يتمتّع بدرجة من الديمومة  وقابل للمعيش الإنساني. حيث لم تسمح لها مهمّتها (قلب الأفلاطونية) أنْ تتبيّن الفروقات والتمايزات الموجودة داخل هذا العالم الأرضي نفسه.

يُعتبر سبينوزا –مُؤوَّلاً دولوزيّا- أبرز مثالٍ على ذلك التصوّر الفلسفي الذي يُماهي بين ’العالم‘ و ’الطبيعة‘، دون أيّ تمييزٍ –في الخصائص- لأحدهما عن الآخر؛ والذي يترتّب عنه، تصوّر مغاير عن الانسان كما سيتبيّن.

فَفي مقامٍ أوّل، «تطمَحُ نظريّة سبينوزا، من حيث هي إيتولوجيا تنظر في كيفية انتماء الموجودات إلى الطبيعة، إلى أنْ تقدّم تصوّراً مُحايثاً عن العالم […]»،[31] وتعني «المحايثة في التعريف، […] فعلَ النظر إلى العالم كطبيعة في ذاتها وبذاتها […]».[32] بالإضافة إلى ذلك، «وعندما ننظر إلى العالم من زاوية الإيتولوجيا […] كلُّ شيء يصير حينها هنا، فيالطبيعة، […]»،[33] و تعني الإيتولوجيا «دراسة علاقات السرعة والبطء والقدرة على الفعل والانفعال التي تميّز كلّ شيء. […] وهذه العلاقات والقدرات تقوم باختيار ما يناسب هذا الشيء في العالم أو الطبيعة».[34] يُلاحظ في هذه المُماهات -التي سيتبيّن القصد من وراء إبرازها بهذا الشكل لاحقاً- استنادها إلى التصوّر العام حول كوْن العالم هوَ هذا الكُل الذي يحوي جميع الأجسام الموجودة، وذلك مند أفلاطون؛ هذا الكُل هو ما يُعرَف عند سبينوزا بالجوهر، حيث «[…] الجوهر في عُرفه يُقصد به العالم من حيث هو المجال الذي يحتوي كلّ شيء […]».[35]

اتّضحت لنا إذن، بهذا العرض المُقتضب، الصورة التي ترسمها هذه الفلسفة عن العالم. وما يهمّ في سياقنا، فضلاً عن قولها بتواطؤ العالم والطبيعة في المعنى و وَسْمُهُما بأنّهما ”كلّ ما يوجد”، هو عدم التمييز بين خصائص كلّ منهما. فانتصارهذه النزعة الحيويّة للحياة ولقِيَم الأرض،[36] ضداً على القيم الأفلاطونيّة النّافية للحياة،[37] وإيمانُها بالعالم كما هو في دَفَقِه و حيويته[38] دونَما أيّ تمييزٍ للعالم القابل للعيش إنسانيّاً من باقي مجالات هذه الأرض، جعلها –مدفوعةً بِ ‘انتقامها’ من الأفلاطونيّة- تتغافل عن التميُّز الذي للعالم الإنساني عن سائر  مجالات الأرض، وخصوصاً عن الطبيعة.

والطبيعة عند هذا التصور الحيوي بصفة عامّة، وعند سبينوزا (من منظور دولوز) بصفة خاصّة، تُحَدَّد باعتبارها ما يشمل في الآن نفسه كلّ شيء؛[39] أي هذا الكلّ المادّي الشامل المحايث الذي تعود إليه كل الكائنات.[40] «وكون سبينوزا قد سعى إلى بناء مذهب مادّي صرف […]»،[41] وأنّ فلسفته فلسفةٌ «مادّية في العمق»،[42] فإنّ الطبيعة عنده محضُ جُزَيئات لانهائيّة لاتكفّ عن التشكّل وإعادة التشكّل في تركيبات وتفرّدات[43] تحكمها ترابُطات تنحَلّ وتتركّب بشكل أبدي.[44] ولمّا كانت خصائص العالم عنده هي نفسها خصائص الطبيعة –كما تقدّم معنا، بل هُما الشيء ذاته، فإنّ العالم أيضاً يُنظر إليه، وفقط، من هذا المنظور المادّي، أي من حيث هو جملة مواد وعلاقات تتحقّق من خلالها الموجودات في مستوى واحد دون تراتب.[45]

نَخلُص إذن، إلى أنّ التصورات الفلسفيّة، سواء الأفلاطونيّة أو مقلوبُها، تقدّم المنظور ذاته، والذي يكون معه العالم محضَ تركيبٍ شامل يحوي كلّ شيء ويصير دائما دون توقّف رغم الإختلاف الظاهر بينهما؛ حيث ينفي التصور الأول هذا العالم على حساب آخرَ متعالٍ، بينما يُثبت التصور الثاني هذا الأخير (التعالِ) على حساب الأول (الصيرورة)؛ لكنهما يُجمعان حول خصائصه التي يُماهونَها بتلك التي للطبيعة.

يترتّب عن هذا التصوّر بخصوص العالم، تصوّر عن الإنسان يكون معه محضَ تركيبٍ مادّي؛ أي لا يتعدّى النظرُ إليه حدود كونه تأليفاً من تأليفات الطبيعة. فسبينوزا مثلا يعتبر الإنسان ’’جسماً‘‘ كباقي الأجسام الأخرى؛ حيث «إنّه الفيلسوف الذي قدّم النظرة الأكثر ‘فيزيائيّة’ وحسّية للجسد الإنساني»، وهذا بالإرتباط مع التصوّر الإيتيقي* الذي ينظر إلى الإنسان «باعتباره مجرّد ‘ترابط ظرفي بين جزيئات’، أي مجرد حال لصفة الامتداد الخاصة بالطبيعة […]».[46] ويتحدّد الجسم عنده باعتباره «تركيباً جامعاً وبشكل دائم لعددٍ لا متناه من الجزيئات»،[47] أي، وبِلُغة سبينوزا نفسه، ’’تعبيراً‘‘ من تعبيرات الطبيعة التي تتشكّل في أشكال وتركيبات لامتناهية. تبعاً لهذا يصير وجود الإنسان جملة أجزاء متناهية في الصغر تتعالق فيما بينها[48] لِتتحقّق باعتبارها جزء من هذه الكينونة العامّة الشاملة التي هي الطبيعة أو الجوهر.[49] هكذا يصير الإنسان، في هذا التصوّر، أحياناً طعاما للدّود أومادّة للأرض أو سماداً للنبات[50] عندما ينحل تركيبه الظّرفي.

هذا التصوّر عن الإنسان، الذي يستتبع التصوّر الأعم عن العالم (الطبيعة)، ينظر إلى المستوى الأوّلي للوجود الإنساني: المستوى الفيزيقي البيولوجي الصِّرف. وكونه كذلك، أي «كقطعة من الطبيعة»[51] ما يفتأ ينحلّ ليعود إلى هذا الكلّ ويتشكّل في تفرّدات أخرى، يجعله من الطبيعة وليس فيها.

2- التصور السياسي: الخروج من الإطار الفلسفي

«العالم، المسكن الإنساني المبني على الأرض والمصنوع من المواد التي تمنحها الطبيعة الأرضيّة للأيادي الإنسانية، لا يتمثّل في الأشياء التي نستهلِكُها، بل في تلك التي نستعملها. إذا كانت الطبيعة والأرض تشكّلان، عموما،ً شرط الحياة الإنسانية، [فإنّ] العالم وأشياء العالم تشكّل الشرط الذي بِهِ يمكن لهذه الحياة الإنسانية أن تُقام على الأرض».[52] تمثّل هذه الفقرة  الخلاصة شبه العامّة التي بها تتحدّد، عند أرندت، الفروقات بين ’العالم‘ و’الطبيعة‘ و ’الأرض‘، ’الاستهلاك‘ و ’الاستعمال‘، ’الحياة‘ بصفة عامّة (الفيزيقيّة) و ’الحياة الانسانيّة‘ بصفة خاصّة.

في مقامٍ أوّل، تُشكّل الأرض شرط الوجود الانساني أو لنَقُل مجموع الشروط المعطات للإنسان والتي بحسبها يحيا (ككائن حي في طبيعة) و يعيش (كإنسان في العالم)؛ فالأنشطة الانسانية (الشغل، الصّنع والفعل)، وحتّى الفكر، لايكون لها معنى إلاّ داخل الشروط التي تمنحنا إيّاها الأرض.[53] لهذا، فإذا كانت «الأرض تشكّل جوهر الوجود الإنساني […]»[54]نفسه، فإنّ «التغيّر الأكثر جذريّة الذي يمكننا تخيّله لهذا الشرط الإنساني، هو الهجرة إلى كوكب آخر […]»؛[55] لأنّ الخروج من الأرض هو خروج من الشروط التي تشرطنا بها، والتي داخلها يتحدّد وجودنا كلّه؛ فالفكر وباقي الأنشطة الانسانية الأخرى كما نعرفها، لن يصير لها أيّ معنى خارج الشروط المعطات على الأرض.

و في مقامٍ ثانٍ، فإنّه «من دون عالمٍ بين النّاس والطبيعة، لن يكون هناك سوى حركة أبديّة […]»[56] تكون فيها الطبيعة وموجوداتها شيئاً واحداً. فَ «الكائن الطبيعيّ ليس ‘في’ الطبيعة، بل هو الطبيعة […]»[57] نفسها؛ لأنّ الطبيعة تَبتَلِع كلّ منتوجاتها للاستمرار، بشكل أبديّ، في الحفاظ على حركتها الدائريّة[58] التي هي حركة العود الأبدي. لأنّه في غياب عالمٍ يسكنه الإنسان –في مقابل الطبيعة التي يحيا فيها مع باقي الكائنات الحيّة- ليس هناك وجودٌ إلاّ لهذا العود الأبدي للنوع الإنساني كباقي الأنواع الحيوانية الأخرى.[59] فالحياة بالمعنى الأعم، من حيث هي مشتركة بين كلّ الحيوانات (الكائنات الحيّة)، هي خاصيّة الطبيعة التي تُحافظ بها على زمانيّتها الدائريّة؛ أمّا الحياة بمعناها الانساني، من حيث معيشالإنسان، هي خاصيّة العالم الذي بموجبها يتمتّع بِ زمانيّة خطيّة.

وكِلا هاتيْنِ ‘الحياتين’، تشرطهما الشروط المُعطات على الأرض؛ ففَضلاً على الشروط التي تُعطى فيها الحياة الطبيعية على الأرض، فإنّ الإنسان يصنع شروطاً –غير طبيعيّة- يعيش داخلها ويَنْشَرِط بها أيضاً، هي شروط العالم الذي يصنعه بجوار الطبيعة.[60] فالانسان يصنع عالماً اصطناعياً، بجوار الطبيعة، لكنّه مختلفٌ تماماً عن كلّ مجال طبيعي،[61] وكلٌ من الطبيعة والعالم ينشرطان بشروط الأرض ويوجدان عليها. وهذا عكس ما ذهب إليه الباحث ميشيل دياس (Michel DAISS) عندما لم يفرّق بين الطبيعة والأرض من جهة، و جعل للأرض نفس خصائص الطبيعة[62] من جهة أخرى؛ في حين أنّ خاصيّة الأرض، عند أرندت، هي كونها شرطاً للوجود، يتحدّد بها كلّ من الطبيعة والعالم باعتبارهما جزءً منها.

بهذه التمييزات إذن: الأرض كشرط للوجود، الطبيعة كشرط للحياة والعالم كشرط للمعيش، يتحدّد عند أرندت الوجود المكاني للإنسان. وذلك في مقابل المُماهات بين الأرض والطبيعة والعالم التي قام بها أصحاب التيارات الحيوية، من دون رسمٍ للحدود الفاصلة بين كلّ منها ودون تحديدٍ لخصائصها كما تقدّم معنا.[63]

نخلُص إذن إلى أنّ محاولات التي قامت بها التيارات الفلسفية (التيار الحيوي أساسا) لم تنجح في التخلّص من الإطار الفلسفي (كما تحدّد مع أفلاطون)، بل قامت فقط بِ ‘قلبه’. ويُمثّل التصوّر السياسي الذي اقترحته آرندت مُجاوزة وخروجا فعليّيْن من هذا الإطار؛ وبالاستتباع انتقالا من التصور الفلسفي للعالم والوجود الإنساني، إلى تصور سياسي لهما.




الهوامش :

([1]) Hannah ARENDT, «What Remains? The Language Remains: A conversation with Günter Gaus», Trans by Joan Stamaugh, In: The Portable Hannah ARENDT, Edited with an intoduction by Peter BAEHR, Penguin books, New York, 2000, pp 3-22, p 3.

([2]) Etienne TASSIN, «La question de l’apparence», In: Politique et pensée (Colloque Hannah Arendt),  PBP, Paris, 2004, pp 87-119, p 88.

([3]) Hannah ARENDT, Between Past and Future, The Viking Press, New York, 1961, p 94; Trad. Fr. La crise de la culture, Trad. sous la direction de Patrick LEVY, Gallimard, coll «Flio essais», Paris, 1989, p 124.

([4]) Hannah ARENDT, La vie de l’esprit (T1:La pensée), Trad. Lucienne      LOTRINGER,  PUF, coll «philosophie d’aujourd’hui», Paris, 1981, p 27.

([5]) Hannah ARENDT, Between Past and Futureop.,cit., p 26; Trad., Fr., La Crise de la culture op., cit., p 39.

[6]Ibid., p 25; Trad., Fr., Ibid., p 38.)

([7]) Hannah ARENDT, The Human Condition, The University of Chicago, Chicago & London, 1998, p 17; Trad., Fr., par Georges Fradier, Condition de l’homme moderne, Préface de Paul Ricœur, Pocket, Calmann-Lévy, 1983, p 52.

([8]) Etienne TASSIN, «La question de l’apparence», op. cit., p 89.

([9]) Platon, «Timée», In: Sophiste-Politique-Philèbe-Timée-Critias, trad. par Emile Chambry, GF, coll «Flammarion», Paris, 1969, p 410.

                               ([10]) Emile Chambry, «Notice sur le Timée», Ibid, p 381.

([11]) Ibid., pp 380-381.

([12]) Platon, «Timée», op., cit., p 413.

([13]) Ibid., p 412.

([14]) Ibid., p 428.

([15]) Hannah ARENDT, Between past and Futureop., cit.,p 38; Trad., Fr.,  La crise de la cultureop. cit., p 54.

                                            (التسويد مُضاف)             ([16]) Ibid., p 43.

([17]) «Luc Ferry explique Nietzsche volume2», https://www.youtube.com/watch?v=WtpqWO8wxAM.=

=معلومٌ أنّ العدمية بدأت مع أفلاطون؛ حيث تعني: inventer de l’idéal pour nier le réel”” (Luc Ferry)، وما عدميّة نيتشه إلاّ إعادة تقويم هذه العدميّة الأفلاطزنية وتسويّتها. يُنظر أيضاً:
op. cit., pp 44, 53. Between Past and Futureop., cit., p30, 37; Trad., Frr.,

([18]) «Luc Ferry explique Nietzsche volume2», op., cit.

([19]) Ibid.

([20]) Emile Chambry, «Notes sur le Timée», op., cit., note 105, p 504.

   (التسويد مُضاف )         ([21]) Platon, «Timée», op. cit., p 410.

([22]) Ibidem., «A-t-il toujours existé, sans avoir aucun commencement de génération, ou est-il né, et a-t-il eu un commencement».

([23]) وهذا أشبه بالتميّز الذي أولاه التقليد الغربي وهرميّته للحياة التأملية، إلى درجةٍ انمحت معها كلّ التمايزات داخل الحياة العملية؛ يُنظر :
The Human Condition, op., cit., p 17; Trad., Fr., Condition de l’homme moderneop. cit., p 522.

([24]) جيل دولوز، قلب الأفلاطونية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، مجلّة فكر ونقد، ع1، 1997، [الموقع الالكتروني].

[25]) Platon, «Timée», op. cit., p 427. )

[26])) جيرار جهامي، موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1998، ص 431.

([27]) Platon, «Timée», op. cit., p 447. «[…] cet univers animal unique, qui contient en lui-même toutes les créatures vivantes et immortelles».

[28]) Hannah ARENDT, La crise de la cultureop. cit., p 58.)

[29])) جيل دولوز، «الجسم باعتباره رهانا فلسفيا عند سبينوزا»، ترجمة عادل حدجامي، ضمن: مجلة كتابات فلسفية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، عدد1 2014، ص ص 75-90، ص 90.

([30]) عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط1، 2012، ص 59. (التسويد والتسطير مُضافان) (نُسقِط من اعتبارنا  السياق الذي وردت فيه الجملة)

[31])) عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، المصدر السابق، ص 58. (التسويد مُضاف)

[32])) نفسه، ص 180. (التسويد مُضاف)

[33])) عادل حدجامي، «فيزياء الفكر: باروخ سبينوزا، أو كيف يكون الله هو الطبيعة؟»، موقع ‘الأوان’ الالكتروني، بتاريخ 24/02/2010، تاريخ الزيارة 22/04/2014، http://www.alawan.org/article6939.html .

([34]) جيل دولوز، «الجسم باعتباره رهانا فلسفيا عند سبينوزا»، ترجمة عادل حدجامي، ضمن: مجلة كتابات فلسفية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، عدد1 2014، ص 75-90، ص 88. (التسويد مُضاف)

[35])) عادل حدجامي، «فيزياء الفكر…»، المصدر السابق. وأيضاً: «فلسفة جيل دولوز…»، المصدر السابق، ص 59.

([36]) عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوزعن الوجود والاختلاف، المصدر السابق، ص 250.

 ([37]) «Luc Ferry explique Nietzsche», op. cit.

 ([38])عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوزعن الوجود والاختلاف، المصدر السابق، ص 252.

[39])) نفسه، ص 60.

[40])) عادل حدجامي، «فيزياء الفكر…»، المصدر السابق.

([41]) نفسه.

([42]) عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، المصدر السابق، ص 63.

([43]) جيل دولوز، «الجسم باعتباره رهانا فلسفيا عند سبينوزا»، المصدر السابق، ص 90.

[44])) نفسه، ص 78.

[45])) عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، المصدر السابق، ص 180.

(*) يُفرّق هذا التصوّر بين الإيتيقا والأخلاق. يُنظر تفصيل ذلك: عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، المصدر السابق، ص 66 ومابعدها.

 ([46])عادل حدجامي، الهامش (*) من تقديم ترجمة «الجسم باعتباره رهانا فلسفيا عند سبينوزا» لجيل دولوز، المصدر السابق، ص 75. (التسويد مُضاف)

[47])) جيل دولوز، «الجسم باعتباره رهانا فلسفيا عند سبينوزا»، المصدر السابق، ص 86.

[48])) عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، المصدر السابق، ص 64.

[49])) عادل حدجامي، «فيزياء الفكر…»، المصدر السابق؛ وأيضاً: «فلسفة جيل دولوز…»، نفسه.

[50])) عادل حدجامي، «فيزياء الفكر…»، المصدر السابق.

[51])) كْلاوْس هيلْد، «العالم والأشياء: قراءة لفلسفة مارتن هايدجر»، ترجمة اسماعيل المصدق، مجلة فكر ونقد [الموقع الإلكتروني]، عدد1، سبتمبر 1997،  تاريخ الزيارة 15/05/2014. http://www.aljabriabed.net/n01_14musaddak.htm

          ([52]) Hannah ARENDT, The Human Condition, op., cit., p 134.

([53]) Ibid., p 44.

([54]) Ibid., p 34.

[55]Ibid., p 44.)

[56]Ibid., p 189.)

([57]) Michel DIAS, Hannah Arendt (politique et culture), L’Harmattan, coll «œuvres philosophiques», Paris, 2006, p 22.

([58]) Ibid., p 14.

[59]) Hannah ARENDT, Condition de l’homme moderne, op., cit., p 142. )

([60]) Hannah ARENDT, Condition ce l’homme moderneop., cit., p 44.

([61]) Ibid., p 34.

([62]) Cf., Michel DIAS, Hannah Arendt (culture et politique)op., cit., p 14. «[…] la nature ou parfois la terre […]» ; «Tout ce qui est sur la terre n’y est que de passage […]».

[63])) وجب التنبيه إلى بعض الفروقات النظريّة حول المفهوم من ’الطبيعة‘ كما يرد عند أرندت، والمفهوم منها كما ورد عند دولوز (باعتباره مؤوّل كلّ سبينوزا ونيتشه وآخرين). حيث ينبّه الأستاذ عادل حدجامي إلى المقصود بالطبيعة عنده بالقول: «[…] فليست طبيعانية دولوز وحيويته  نزوعا تلقاءيا فجا من جنس ذلك الذي تقول به التوجهات التي تنتصر للطبيعة ضد الإنسان، أو تلك التي تدعو للعودة إلى الطبيعة ضد المدينة»، وذلك أنّ دولوز لاينظر إلى الطبيعة «باعتبارها واقعا وفضاء للتأمل، بل تؤخد بمعناها السبينوزي، حيث هي قوة وشرط  كل ما يوجد، فالطبيعة صيرورة تحقق دائم […]» (فلسفة جيل دولوز…، المصدر السابق، ص 253.)




المصادر والمراجع:
باللغات الأجنبية
– ARENDT, Hannah : Condition de l’homme moderne, Trad. par Georges FRADIER, préface de Paul Ricœur, Pocket, Calmann-Lévy, 1983.

– ARENDT, H. : La crise de la culture (Huit exercices de pensée politique), Trad. sous la direction de Patrick LEVY, Gallimard, coll «Flio essais», Paris, 1989.

– ARENDT, H. : La vie de l’esprit vol.1 (La Pensée), Trad. Lucienne LOTRINGER, PUF, coll «Philosophie d’aujourd’hui», Paris, 1981.

– Arendt, H. : The Human Condition, Introduction by Margeret Canovan, 2nd ed, The University Of Chicago, Chicago & London, 1998.
– ARENDT, H. : Between Past and Future (Six Exercises in Political Thought), The Viking Press, New York, 1961.
– «“What Remains? The Language Remains’’:A conversation with Günter Gaus», Trans by Joan Stamaugh, In: The Portable Hannah ARENDT, Edited with an intoduction by Peter BAEHR, Penguin books, New York, 2000, pg3-22.
– Dias, Michel : Hannah Arendt (politique et culture), L’Harmattan, coll «œuvres philosophiques», Paris, 2006.
– FERRY, Luc : «Luc Ferry explique Nietzsche, Volume1 » , https://www.youtube.com/watch?v=umCsxS8H4YY
– TASSIN, Etienne : «La question de l’apparence», In: Politique et pensée (Colloque Hannah Arendt),  Payot, coll «PBP», Paris, 2004, p 87-119.
– PLATON « Timée », In: Sophiste-Politique-Philèbe-Timée-Critias, édition établie par Emile Chambry, GF, coll «Flammarion», Paris, 1969.

باللغة العربية

– جهامي، جيرار : ‘موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب‘، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1998.
– حدجامي، عادل : فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط1، 2012.
– عادل حدجامي، «فيزياء الفكر: باروخ سبينوزا، أو كيف يكون الله هو الطبيعة؟»، موقع ‘الأوان’ الإلكتروني، بتاريخ 24/02/2010، تاريخ الزيارة 22/04/2014،http://www.alawan.org/article6939.html .

– دولوز، جيل : ‘ الجسم باعتباره رهانا فلسفيا عند سبينوزا’، ترجمة عادل حدجامي، ضمن: مجلة  كتابات فلسفية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، عدد1 2014، ص 75-90.
– دولوز، جيل : ’ قلب الأفلاطونية‘، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، مجلة فكر ونقد [الموقع الإلكتروني]، عدد1، سبتمبر 1997. تاريخ الزيارة 19/10/2014.http://www.aljabriabed.net/n01_13abdeali.htm
– هيلْد، كْلاوْس : ’ العالم والأشياء: قراءة لفلسفة مارتن هايدجر‘، ترجمة اسماعيل المصدق، مجلة فكر ونقد [الموقع الإلكتروني]، عدد1، سبتمبر 1997.http://www.aljabriabed.net/n01_14musaddak.htm تاريخ الزيارة 15/05/20144.

إشكاليَّة شرعية السُّلطة مقاربة من وجهة نظر فلسفة القانون خلدون النبواني

عن موقع الأوان


بين فلسفة القانون ونظرية القانون:
استُخدِم مُصطلح فلسفة القانون لأول مرّة في الفلسفة في كتاب هيغل مبادئ فلسفة الحق (1821) ليؤكِّد بعده المُشرِّعُ النمساوي/الأمريكي هانز كلسن في كتابه الأشهر النظرية المحضة للقانون على ضرورة التمييز بين نظرية  القانون وفلسفة القانون. منذ ذلك الحين والفرق الدقيق بين هذين الاختصاصين يتحدّد في كون فلسفة القانون تجعل من القانون موضوعاً لتأملاتها حيث يطمح الفيلسوف إلى إعادة تأسيس القانون على أساسٍ فلسفيّ، في حين تقوم نظرية القانون بطرح تصوراتها المعيارية والوضعية للقانون بشكلٍ فلسفيّ. وبشكل آخر يمكن لنا القول أن هناك قانونيين ومشرعين ومنظرين للقانون جاؤوا بنظرياتهم القانونية نحو الفلسفة وتنظيراتها واستخدموا أدواتها النظرية في مباحثهم القانونية كما هو حال هانز كلسن مثلاً أو نيكلاس لومان أو كارل شميت أو ماكس فايبر وهؤلاء تشكلوا غالباً معرفياً وأكاديمياً بالمباحث القانونيّة وليس بالفلسفة؛ بينما هناك فلاسفة اتجهوا إلى القانون انطلاقاً من اهتمامات فلسفية فسعوا إلى تأصيل وتأسيس القانون على أساسٍ فلسفيّ عبر دراسة وتحليل مفاهيم ومصطلحات القانون الرئيسيّة كما فعل كانط مثلاً في ميتافيزيقا الأخلاق و هيغل في مبادئ فلسفة الحق و جون راولس فينظرية العدالة وهابرماس في ما بين الحقائق والمعايير. على عكس أصحاب نظريات القانون القادمين من القانون نحو الفلسفة في نظرياتهم حول الحقوق والمعايير والنظم القانونية، يتجه الفلاسفة بعدتهم النظرية ـ دون أن يتشكلوا أكاديمياً بالضرورة بالدراسات القانونية ـ نحو القانون مُعيدين مساءلة مبادئه ومقولاته ومحاولين إعادة ربطه مع مقدماته الفلسفية الأخلاقية أو السياسيّة أو الاجتماعية والثقافية. من هنا لا تُعتبر فلسفة القانون فرعاً من فروع القانون وإنما فرعاً متعلقاً بمباحث الفلسفة كما يؤكّد على ذلك الفيلسوف كانط في الجزء الأول من كتابه ميتافيزيقا الأخلاق والمعنون ﺑ : “فقه القانون” بقوله ” باستقلاله عن الفلسفة ليس القانون بذاته إلا وجهاً جميلاً لكن دون دماغ”.
وفقاً لفيلسوف القانون الفرنسي جان فرانسوا كيرفيغان (كان أُستاذي المُشرف على أطروحتي الماجستير والدكتوراة في جامعة السوربون)، فإن فلسفة القانون تتموضع عند تقاطع ثلاثة اختصاصات واهتمامات نظرية هي: الفلسفة، والقانون، والعلوم السياسيّة. ولعل هذا التفصيل ضروري لأُحدّد مقاربتي هنا لإشكالية الشرعية أو شرعية السُّلطة السياسيّة من وجهة نظر فلسفة القانون مع الأخذ بعين الاعتبار كل تلك الترسانة المعيارية من المفاهيم والبنى والأحكام التي جاءت بها نظريات القانون.
الشَّرعيَّة والقانون في السّياق الأوروبي الحديث: ألمانيا نموذجاً
ليست مناقشة إشكالية شرعية السُّلطة السياسية مقصورة اليوم على الأنظمة غير الديمقراطية كأنظمة الحكم العربية، وإنما هي مُشكلة قد واجهت الغرب “الديمقراطي” الذي ركن طويلاً إلى أنه قد أسس الشرعية السياسية للحكم على أساس ثابت من المعيارية العقلانية والقانونية ولم يعد بحاجة إلى نقاش ما تعين قانونياً وصار مثالاً نموذجياً لحداثة الغرب. فقد وجدت دول أوروبا الغربية أنها كانت مطمئنة أكثر من اللازم لعقلانيتها ومعياريتها بعد حربين عالميتين قامت بها أنظمة فاشية وصلت للحكم بطريقة شرعية تماماً وفقاً لمعايير العقلانية والحداثة والتنوير الأوربي. هكذا وجد الغرب الحديث والمعاصر نفسه بحاجة إلى إعادة مساءلة مسألة الشرعية ووضعها موضع موضع الشك والبحث والمراجعة. فقد وصل الحزب النازي إلى الحكم وفق مسارات الديمقراطية وتم انتخاب هتلر وحزبه بأغلبية كبيرة؛ وكما نعلم جيداً فالنازية لم تكن الحزب الشمولي الوحيد الذي وصل إلى الحكم في أوروبا في نهايات النصف الثاني من القرن العشرين، بل إن العديد من الأنظمة الفاشية حققت فوزاً ديمقراطياً شعبياً في أوروبا الحديثة كحكومة موسليني في إيطاليا وحكومة فرانكو في إسبانيا. كان الغرب الأوروبي إذن بعد فظائع الحرب العالمية الثانية وجرائم النازية أمام معضلة شرعية السُّلطة المُنتخبة ديمقراطياً. فكيف يمكن مثلاً القبول بأن سلطة هتلر شرعية؟ ولكن كيف يمكن الاعتراض على شرعيتها بنفس الوقت وهي قانونيّة ودستورية ولم تنتهك مبدأ الديمقراطية في تقرير المصير؟ لقد واجه الفكر السياسيّ الغربي عموماً والألماني خصوصاً مشكلة كيفيّة الاعتراض على إرادة الشعب الذي اختار بأغلبية ساحقة نظاماً شمولياً كالنظام النازي بينما الدستور الألماني الحديث مبني على أسس قانونية حديثة وضعية مُستمدة من أفكار فلسفية وأخلاقية تقوم على فكرة العدالة والحرية والمساواة الخ؟
نتيجةً لذلك سيقوم جدل فلسفيّ/قانونيّ حول شرعية السلطة المُنتخبة دستورياً أو ما يمكن التعبير عنه، بمصطلحات فلسفة القانون، بالعلاقة المُعقّدة بين القانونية légalité/legality وبين الشرعية légitimité/legitimacy. وبمعنى آخر سيعود طرح السؤال القديم مجدّداً هل يكفي القانون (مُمثّلاً بالدستور هنا بوصفه الشكل القانونيّ للسُلطة) لشرعنة سُلطة ما؟ كيف يمكن الاعتراض على دستور قانونيّ حديث يخوِّل الشعب سلطة اختيار من يمثله ويحكمه؟ في ألمانيا سيحتد الجدال طويلاً وسيتم فتح صفحة جديدة من الجدل التشريعي القانوني الفلسفيّ الأخلاقيّ ستُثمر عن جملة تشريعات وتصورات قانونية وفلسفية جديدة تضع معايير جديدة لمنع انزلاق الديمقراطية في أفخاخ الفاشية والشمولية. فقد كان عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر مثلاُ لا يتوقف عن التأكيد على استقلالية القانون الغربي الحديث عن الأخلاق والسياسة، أي باختصار عن الأسس الفلسفية المؤسسة له وذلك بحجة أن القانون الحديث، بحسب ماكس فيبر، صار عقلانياً بما يكفي ليستمد شرعيته من منظومته العقلانية ذات المعيارية المضبوطة التي قد تسيء إليها المثالية الأخلاقية أو المتغيرات السياسيّة. وفي الوقت الذي كان فيه ماكس فيبر وهانس كلزن يؤكدان مثلاً على استقلالية المنظومة المعيارية للقانون الحديث، فإن الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس سيدعو لاحقاً في محاضرتيه الشهيرتين Tanner Lectures إلى إعادة الاعتبار للمحتوى الأخلاقي الكامن في القانون (ممثلاً  بالدستور في موضوع السُّلطة السياسية). يريد هابرماس في كُتيبه ذاك أن يعيد تأسيس الشرعية في القانون الحديث على أساس فلسفيّ أخلاقي قائم على التواصل. لكنه سيعيد من جديد مراجعة موقفه لموقع الأخلاق في القانون في كتابه الضخم والأهم بين الحقائق والمعايير Faktizität und Geltung ليفتح مجالاً أوسع للمشاركة الشعبية في إعطاء  الشرعية لما هو قانوني بل والمساهمة في تشريعه.
إذن بفضل تلك النقاشات المُستفيضة التي عرفتها ألمانيا الحديثة والتي خاض فيها مجموعة من مُشرِّعيها مثل هانس كلزن وكارل شميت (المُدان بالنازية) وعلماء اجتماعها كماكس فيبر، نيكلس لومان، ويورغين هابرماس، تعيد ألمانيا امتحان مسألة شرعية السُّلطة السياسيّة دون الركون إلى ذلك الخطاب المُبسّط الذي يحيل الديمقراطية إلى الأنظمة الشمولية التي ولدت ذات يوم من ممارسات ديمقراطية معينة[i].
من هنا نجد ضرورة التيقظ للمفاهيم التي قد تبدو محررة في زمن ما ثم تصبح عائق وقيد، بل ومبرر للانحراف وانتاج النقيض مما تطرحه.
الشَّرعية والدَّولة:
يكشف لنا تاريخ تطوّر القانون الغربيّ أن مسألة الشرعية والدستور هما مسألتان من اختصاص الدولةétatiques  أي من احتكار الدولة لا المجتمع وأن دولة القانون بالمعنى القانونيّ والسياسيّ الغربي للكلمة لم تكتف فقط باحتكار العُنف (الشرعيّ) وإنما هيمنت فيها أيضاً السياسة إلى حدٍّ ما على تعريف العديد من المصطلحات القانونية مثل مصطلحات السيادة والشرعيّة والقانون. وهنا مكمن الخطر إذ أن هيمنة السياسة على تعريف الشرعية وسنِّ نصوص الدستور هو أمر قد يؤدي إلى تلاعب السلطة السياسيّة الحاكمة بالشرعية وقلب ما هو إنجاز إنسانيّ إلى أداة لاستغلال الناس إما عبر أخاديد المنظومة القانونية أو عن طريق احتكار التعريف المفاهيمي وعد تجديده بعد أن روضته قوة الدولة في مقابل ضعف أو غياب مؤسسات المجتمع. وكما أوضح ذلك ماكس فيبر ثم فالتر بنيامين ومن بعده دريدا[ii] فإن  الدولة، بل والديمقراطية والقانون والعنف تؤسُّس جميعاً على شيء من العنف في أصولها ثم تحتفظ بحقها في ممارسة العنف الذي يحمي سلطتها بينما تضفي عليه لاحقاً شيئاً من الشرعية. ولعل عنف السُّلطة حتى في دول القانون والأنظمة الديمقراطية هو شرٌ لا بد منه للحياة السياسيّة الحديثة. فالدولة شرٌ لأنها تسعى لأن تفرض نفسها كسُلطة وسيادة فوق المجتمع والأفراد والتنظيمات. إنها قوة الهيمنة والسيطرة و”العنف الشرعي”، بل هي التنين والوحش العملاق كما رآها توماس هوبز في مؤلفه الأشهر Leviathan[iii]. ولكن وإن يكن مفهوم الدولة ومؤسساتها وإكراهاتها شرّاً على نحوٍ ما، فلعلها شرٌ لا بد منه لتستقيم الحياة السياسيّة وتنتظم شؤون المجتمع. فمن مهام الدولة الأساسية هو ضبط وتنظيم الحياة السياسيّة في بلدٍ ما عبر المؤسسات الحكوميّة وذلك بما تملكه الدولة من سيادة وقوة سيطرة وفق آليّات وصلاحيات أمنية وقانونيّة يحدّدها الدستور. هكذا بُنيت الدول الديمقراطيّة الحديثة على اختلاف تجاربها. لكن العنف “الشرعيّ” الذي يظل ضمن حدود قانونيّة واضحة محمية بيقظة المواطنين في الديمقراطيات الغربية الحديثة بينما هو عنف دموي غير محدود في المجتمعات والدول التي لم تدمقرط بعد كبلدان العالم العربي التي أسالت دماء شعوبها عندما جرأت هذه الشعوب ولأول مرة ربما في التاريخ الحديث على وضع  مسألة شرعية الحاكم موضع السؤال والشك.
إذ نميل إلى التأكيد على أهمية الدولة كمنظم لعلاقات الناس وضابط لحياتهم وحافظ لحرياتهم لا يعني ذلك أبداً تبني فكرة الدولة المهيمنة المسيطرة على مقدّرات المجتمع كما ذهب إلى ذلك مثلاً كل من هوبز وبودان، ولا ندعو إلى مجتمع بدون دولة كما يذهب إلى ذلك البعض مثل بيير كلاستر الانثربيولوجي الفرنسيّ الشهير، بقدر ما نفترض ضرورة وجود مؤسسات مدنية تتوسُّط العلاقة بين الدولة والمجتمع وتنظِّم العلاقة بينهما في المراحل الانتقالية تحديداً حتى يتمكن الشعب من حيازة سيادته ويوقع عقده الاجتماعيّ الذي يضمن حقوقه وواجباته وعلاقاته في إطار المجتمع والدولة ويتمكن من حماية حقوقه وحفظها بقوّة القانون.
*******
1ـ  كنتُ قد عالجتُ في كتابي الأخير المنشور مؤخراً باللغة الفرنسية العلاقة المعقدة بين الشرعية والقانونية في الإطار الديمقراطي الغربي وذلك من وجهة نظر فلسفة القانون وهذه الدراسة شغلت مساحة الفصل السابع الذي امتد على أكثر من 100 صفحة من الكتاب. أنظر:
Khaldoun ALNABWANI, Habermas et Derrida : divergence théorique et convergence pratique ?, Paf, 2013.
[ii] Max Weber, Le Savant et le Politique, trad. Julien Freund, Collection Bibliothèque, 2002.
Walter Benjamin, « Critique de la violence » in Œuvres I trad. Rainer Rochlitz, Paris, Gallimard. 2000.
Jacques Derrida, Force de loi, Galilée, 2005.
[iii] Thomas Hobbes, Leviathan: Or the Matter, Forme, and Power of a Common-Wealth Ecclesiasticall and Civill, ed. by Ian Shapiro (Yale University Press; 20100.