الأربعاء، 25 يناير 2017

أطروحات حول الفكر والحرية *د. حسن مدن

ثقافات


حظيت مسألة الحرية باهتمام بالغ في التاريخ الفكري والفلسفي، بما في ذلك من زاوية علاقتها بالتاريخ، حيث جرى النظر إلى أن مجرى هذا التاريخ ذاهب نحو خلاص الانسان من القيود والكوابح الكثيرة التي تعيق حريته، وأن لحظة تاريخية، آتية لا ريب فيها، من وجهة نظر المفكرين القائلين بالمنحى التصاعدي /‏ التقدمي للتاريخ، سينجز فيها الانسان كامل حريته، ويغدو حراً من ثقل القيود التي فرضت عليه في المسار التاريخي المعقد والطويل.

وفي هذا اتفق الليبراليون والماركسيون، على ما بينهم من خلافات جذرية كثيرة في العديد من المسائل. وكان المفكر الليبرالي اللورد اكتن من بين الدعاة الليبراليين المؤمنين بهذا المسار التصاعدي للتاريخ، الذي هو من وجهة نظره سجلاً للتقدم وامتداداً مستمرا للحرية، رغم أنه كتب ذلك قبل ما عرفه التاريخ الحديث من نهوض الحركات التحررية في العالم، وخاصة في البلدان التي خضعت طويلاً للاستعمار والعبودية.(1)

هيغل المُشبع بالمركزية الأوروبية، وفكرة الشعب المختار نظر، هو الآخر، إلى التاريخ بصفته مساراً تقدمياً، لكنه  يقف عند تلك اللحظة التي أزفت بنشوء الدولة البروسية، التي هيمن وجهة نظره ذروة التقدم الانساني، وفيها سينال الانسان ما تاق إليه من حريات، لأنه رأى في تلك الدولة كمال العقل والمنطق.
وما أكثر ما سرقت فكرة هيغل هذه في عصرنا الحديث، لاسقاطها على سياقات مجتمعية وثقافية أخرى، غير الدولة البروسية التي باتت في ذمة التاريخ، على خلاف ما كان هيغل يظنها كنهاية للتاريخ، ففي عهد الرئيس الأمريكي كيندي في ستينات القرن العشرين أحاط به مجموعة من أساتذة جامعة هارفرد في الاقتصاد والفلسفة الذين روجوا لانتصار الحلم الأمريكي الذي يتوج مسيرة البشر.
لكن التاريخ لم ينته عند هيغل ولا عند أساتذة هارفرد. ظلَّ هذا التاريخ يشق طريقه صعوداً وسط تخبطات وحروب ومآسي وكوارث، وكذلك نجاحات وانتصارات هنا وهناك. وبعد نهاية الحرب الباردة بهزيمة الاتحاد السوفيتي وتفككه وانهيار الأنظمة الحليفة له في شرقي أوروبا، أطلق فرانسيس فوكاياما أطروحته حول «نهاية التاريخ» بالانتصار المبين لليبرالية الرأسمالية، التي تمثل الولايات المتحدة الأمريكية نموذجها التاريخي الأرقى الذي يضمن الحريات العامة والفردية بصورة غير مسبوقة في التاريخ، ورغم أن نظرية فوكاياما هاته بدت أمراً شاحباً بالقياس للمنظومة الفلسفية المعقدة لهيغل، لكن الآلة الدعائية التي توفرت لفوكاياما لم تتوفر لهيغل في زمنه.
النابهون من الناس وبعيدو البصر والبصيرة أدركوا، منذ ذلك الحين، أن هذه الأطروحات إنما كانت تؤسس لشمولية جديدة أشد خطورة، شمولية كونية، تجعل الشعوب كلها أمام خيار أوحد، لا ثاني أو ثالث له. هؤلاء النابهون قالوا أيضا إن هذه حال مؤقتة، لأن الأحادية هي نقيض لمنطق الأشياء وللطبيعة السوية. كل شيء في الحياة، بما في ذلك أصغر الظواهر وأكثرها بساطة قائمة على التنوع والتعدد، فما بالنا بالمجتمع البشري الذي يعج بالتناقضات على مختلف المستويات؟
على خلاف هيغل ركز كارل ماركس على المستقبل أكثر، فمفهومه لهدف التاريخ واتجاهه كان قريباً من مفهوم اكتن الليبرالي. بمعنى من المعاني يمكن القول إن ماركس واكتن نظرا إلى التاريخ على أنه يسير نحو تحقيق الحد الأقصى من الحرية الانسانية. كانت تصوراتهما عن المرحلة الوسيطة من الحرية شديدة الاختلاف، بيد أن تصورهم للمرحلة النهائية من الحرية كان أكثر تقارباً.(2)

تحمل الليبرالية والماركسية ارتيابا عميقا في الدولة بوصفها أداة للقهر، فماركس ينظر للدولة على أنها، أساساً، أداة للاضطهاد الطبقي، والدولة بالنسبة لليبراليين تشكل دائماً تهديداً للحرية الفردية، مع ذلك فان الرؤية الماركسية المستقبلية لمجتمع خالٍ من الطبقات تفترض وجود أفراد يتمتعون بقدرٍ عال من الاستقلالية غير مثقلين بإدارة الدولة أو بمطالب الاحتياجات الاقتصادية وقيودها. (3)

اهتم ماركس بدراسة الاستلاب بصفته عائقاً بوجه بلوغ الإنسان لحريته، حيث رأى أن الإنسان يعاني في مظاهر حياته من هذا الاستلاب الذي يأخذ ثلاثة مظاهر: استلاب أيديولوجي يتمثل في خضوع الانسان لعالم الوهم وانفصال ماهيته عنه، واستلاب سياسي يتمثل في انفصال عالم السلطة السياسية عن الإنسان، واستلاب اقتصادي يتمثل في تبعية العمل لرأس المال وغربة العامل عن منتوج عمله وخضوعه للقوة الاجتماعية للمنتوج تلك القوة التي تتحول مباشرة من العامل إلى المالك، والعلاقة بين هذه المظاهر هي علاقة عللية، بمعنى أن الاستلاب الاقتصادي هو علة مظاهر الاستلاب الأخرى كافة أو أنها مشتقة عنه، ومن أجل بلوغ الحرية المنشودة يجب تحرير الانسان من مظاهر الاستلاب هاته.(4)

(2)
أحد أوجه محنة الفيلسوف الاغريقي سقراط، الذي انتهى به الأمر، محكوما بالإعدام بتجرع السم، هو قراره بتجنب الحياة السياسية والانصراف إلى الفكر. رأى الرجل أنه مفكر عليه أن يعيش بالفكر وللفكر، ولكن الانحياز لهذا الموقف كان محالاً، لأنه ينطوي على نقض لميثاق الديمقراطية في أثينا القديمة التي كانت تجعل الاشتغال بالسياسة واجباً على كل مواطن.
بدا مُسْتهجنا في أعين الكثيرين يومها أن سقراط المحارب، الذي خاض المعارك، ورأى ان الذود عن الديمقراطية في أثينا في مقدمة أولوياته أن يترك السياسة وينشغل بالحكمة والفلسفة.
كيف يمكن إقناع بسطاء الناس الذين لا يكترثون لا بالفلسفة ولا الحكمة بصواب قراره، وبأن للفكر رجاله وللسياسة رجالها، وللحرب رجالها؟
تبدو هذه مفارقة في مجتمع أنتج الفلسفة وقدم للبشرية كبار رموزها عبر التاريخ، بحيث أن الفلاسفة في العصور اللاحقة لم يكن بوسعهم أن يكونوا كذلك لو لم يعودوا إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وسواهم من فلاسفة الاغريق، ومع ذلك فإن الشعب كان يزدري الفلسفة، وكان مستعداً لأن يقبل باعدام سقراط.
محنة سقراط ليست محنة فردية، أنها محنة عامة طبعت تاريخ العلاقة المعقدة بين الساسة والمفكرين والمبدعين. حين انغمس إدوارد سعيد في العقود الأخيرة من حياته في السياسة، نصحته أمه، حسما روى في مذكراته :«خارج المكان»، بأن يكف عن ذلك: أنت مفكر، ولم تخلق للسياسة.
اناييس ين في يومياتها التي نقلتها الى العربية لُطفية الدليمي (5) تتحدث عن أمر مشابه، من واقع تجربتها الشخصية حين وضع أحد أصدقائها المثقفين إسمها ضمن قائمة من الأدباء المدعوين لاجتماع للبحث في نصرة الجمهوريين الاسبان في حربهم ضد الفاشية. حين كان الداعي للاجتماع يتحدث للحاضرين، وكان من بينهم بابلو نيرودا وأسماء اخرى كبيرة عن دور المبدع في عالم متغير، سألته اناسيس ين وبتهذيب: «لأي نفع ترجوني. انني فكرت بتغيير العالم والغاء البؤس عندما كنت في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمري، وأدركت فيما بعد عدم جدوى ذلك، وعملت بإصرار على بناء عالم فردي مطلق».
لكن صديقها أوضح: ثمة لحظة تجيء ينهار فيها عالمك الفردي أمام ما يحدث في العالم حولك. ولم تجادل المرأة في ذلك. بل سجلت في اليوميات: «ذلك حق. عند نقطة محددة يرتطم عالمي الفردي بجدار الواقع»، فلا يعود بالوسع حمايته من سطوته.
مهما سعى الفكر للتجرد من الواقع الذي يضج بالمظالم والتعقيدات من حوله، لن يفلح في ذلك. سيجد نفسه متورطاً فيه أراد ذلك، أم لم يرد. «إن تحويل اي شيء لا سياسياً هو فعل سياسي بحد ذاته» (6)، «والكاتب يصبح سياسيا حتى لو لم يرد ذلك» (7)

الهوامش:

1-علي الأمين المزروعي: «براهمة العالم.. ومنبوذوه» – ترجمة: أحمد حسن المعيني، مسقط . ص 104
2-المصدر السابق ص 104
3-المصدر السابق ص 104
4- محمد سبيلا:«مدارات الحداثة»- بيروت ص 29
5- أناييس ين: «اليوميات: – ترجمة لطفية الدليمي – بيروت ص 120 – 121
6- حسن مدن: «الكتابة بحبرٍ أسود» – الطبعة الثانية – البحرين ص 107
7- المصدر السابق ص 109



الأحد، 22 يناير 2017

لمن تقرأ؟ لمن تكتب؟… مأزق المثقف العربي لمحمد الأسعد

عن ثقافات



حسب التصنيف المستقر حتى الآن، يمثلُ «المثقفُ» في ثلاث صور، التقليدي والعضوي والمتنبئ. الأول صورة مكرورة تواصل نشاطها بحدود وظيفة لا تتجاوزها، نشر المعروف من ثقافات تقليدية، والثاني صورة مغايرة ذات طابع صراعي، إما أن تكون ملتحمة بسلطة تحافظ عليها وتخدمها (ماسح أحذية كل صاحب سلطة)، أو معارضة تسعى إلى التغيير وتشارك في فعاليته وتتمتع بروح نقدية (المنخرط في نضال تغيير الوضع الإنساني)، والثالث صورة نائية بنفسها لا زمنية تمسك بمعايير مطلقة تقيس بها من دون انحياز إلى طرف دون طرف، معنية بما هو حق وعدل خالصين (المراقب من خارج الأزمنة).

هذه الصور حلل سماتها وأدوارها د. إدوارد سعيد (1935-2003) على خطى الإيطالي «أنطونيو غرامشي» (1891-1937) محلل شخصية المثقف العضوي بنوعيه، ولكن هناك شخصية رابعة تمثلُ في الذهن حين نتطلع إلى الوسط العربي بخاصة، شخصية شبه المثقف، منتحل صورة المثقف، وسماتها التلون والتحول حسب المناسبة. على هذه الشخصية تطلق تسمية «الانتهازي» عادة، وإن كانت السمة الأدق هي سمة الكائن الأميبي الذي يتحول ويتلون غريزياً حسب كل حالة، هلامي لا قوام له يمكن أن يكون اليوم شيئاً ويكون عكسه في يوم آخر. وأظن أنه هو من اخترع مقولة «لكل مقام مقال»، وكأنه يقول اليوم «لكل حالة لبوسها».
ما يعنينا هنا هو مأزق المثقف.. الكاتب.. العربي، ونعني به العضوي المنخرط في صراع تغيير الوضعية الإنسانية تحديداً، لا ماسح الأحذية ولا التقليدي ولا الساكن في عالم الأزمنة والأمكنة المجرد، ولا شبيه الكائن الأميبي المتقلب من حال إلى حال تدفعه غرائزه، وحاجاته العضوية في المقام الأول، لأن لا واحداً من هؤلاء يعيش مأزقاً، فهو الطاعم الكاسي بالأمس واليوم وغداً.
مأزق المثقف العضوي الكاتب، والحداثي بخاصة، المنخرط في مهمة التغيير هو الذي يعنينا هنا، لأن وضعيته، على رغم نبل غايته وحماسه، تحمل مفارقة قلما يُشار إليها، فهو يتطلع من جهة إلى التأثير في مجتمعه ووسطه الثقافي، أي أن يكون فعالاً، إلا أنه من جهة أخرى، لا يعرف سر انعدام فعاليته في الوسط الذي يعمل فيه، وحتى حين يتعرض للقمع والسجن أحياناً تصيبه الدهشة وهو يرى اللامبالاة تحكم الجمهور الذي يقدسه في أعماقه، فيعبر عن يأس وإحباط يشلان قدراته، وحين يتعرض للاغتيال ترثيه قلة ممن يعرفونه، وترى وحدها في جهده الفكري قيمة عليا، وتأسف على غيابه أو تغييبه.

هذه المفارقة ناجمة كما نرى عن تصور غير واقعي ماثل في أذهان غالبية مثقفينا العضويين. تصور أن ما يمتلكه المثقف من وصلات، أو مراجع ثقافية، متنوعة عادة وعديدة، تصله بما تيسر له في عالم المعرفة بجهده وغزارة إطلاعه شرقاً وغرباً، هي وصلات يمتلكها الجمهور الذي يكتب له أو يخاطبه أيضاً. مثقفنا هذا، لا يعرف، وسط اندفاعه وإيمانه البريء بإمكانيات الجمهور، أن لهذا الجمهور العام، أو الوسط الاجتماعي، وصلاته ومراجعه الخاصة بثقافته التقليدية التي نشأ عليها، وتدرب على السير في طرقاتها آمناً على يد مثقفيه التقليديين، ولا يمتلك حشد الوصلات أو المراجع التي يمتلكها المثقف الحداثي، والتي قد تكون ذات صلة بثقافات عوالم ومشاغل أخرى وبلغات مختلفة. مثل هذا الجمهور العام، ونحن نتحدث هنا عن الأغلبية الساحقة، لا يمكنه الوصول إلى وصلات ومراجع مثقفيه الحداثيين، سواء كانوا عضويين أو متنبئين، واستيعاب وفهم ما يقولون أو التأثر به. من هنا لن يكون لجهدهم فاعلية. وتجربة مثقفي الأحزاب والجماعات العربية المتقدمة، أو السابقة على عصرها كما يقال، من ماركسية وقومية، تدل على هذه المفارقة، ويمكن أن تكون السبب الجوهري وراء انحسار ما كان يتصوره الكثيرون من نفوذ على مخيلة وواقع المجتمعات العربية، ذاك الذي يسمونه فشلاً بالتعبير السياسي.
على الرصيف المقابل، نجد تجربة معاكسة؛ تجربة الجماعات والحركات التقليدية فكراً وسلوكاً، وأشهرها الحركات والأحزاب التي تتبنى الخطاب التقليدي بخاصة. فهذه الجماعات والحركات لم تنجح في مخاطبة الجمهور العام فقط، بل والتأثير فيه، واكتسبت كتاباتها وخطبها نفوذاً وفاعلية، ليس لأن كتابات وخطب الجماعات والأحزاب المستنيرة والحداثية فقدت السند السياسي بعد تدمير النظم والدول التي تبنت أفكارها، بل لأن جماعات وحركات الجانب الآخر من الرصيف خاطبت جمهوراً يمتلك وصلات تصله بعوالمها، ولديها وصلات تصلها بعالمه. ولهذا بدا التقليدي الآتي من أزمنة أخرى، لا علاقة لها بالزمن الراهن، مؤثراً وفعالاً حتى وإن لم يكن عقلانياً ومستنيراً، وعُدّ متخلفاً قياساً بما وصلت إليه البشرية عقلاً وسلوكاً في العصر الحديث. ولأن هذا التقليدي متخلف عن زمننا هذا الذي نعيشه، ولا شأن له بمشكلاته وقضاياه هو العائش، فعلاً لا مجازاً، في عصور بادت بأعرافها وعاداتها ونظمها، فسيظل الجمهور تحت تأثيره منخفض الوعي، مقاوماً بعنف لكل تغيير وتحديث، لأنه ينتقل مع «مثقفه» التقليدي هذا تحت سطوة أو هامه إلى عصور زاهية كان فيها سيداً ومتنعماً، وسيظل غافلاً عما يحدث له في عالمه المعاصر من بؤس وشقاء.
الوصلات التي وضعها في متناول الجمهور وهؤلاء التقليديين، المتوارثُ والاعتيادُ وسهولة الوصول إليها بلا عناء والثقافة الشائعة، هي عبارة عن مرجعيات مبذولة ومعروفة، فالجمهور يفهمك تماماً حين تكون إشاراتك المرجعية مبثوثة في زوايا عقليته، ولن يفهمك حين تكون إشاراتك مما لم يعرف ولم يألف، مثل مرجعيات المثقف العضوي الحداثي التي تصلك بالعالم المعاصر، بفنونه وثقافته ورموزه وسياساته وبآخر منجزاته، فهذه تظل خاصة بهذا المثقف أو القلة التي توفر لها ما توفر له من وصلات، وستكون نصوصه المكتوبة والمنطوقة (التي نصادفها أحياناً في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة) أشبه ببوابات مغلقة أمام الجمهور الواسع.

الوصلات، وهي شبيهة بوصلات الحاسوب التي يصادفها المتصفح للمواقع الإلكترونية، تعمل عملها في دماغ الإنسان أيضاً، فما أن يُذكر اسم أو مكان أو حدث حتى يحدث ما يشبه الضغط على كلمة «وصلة» أو «Link» بالإنجليزية، فنجد الذهن ينتقل إلى مجال اسم ومكان وحدث مألوف. والثقافة هي التي توفر عادة عناوين هذه الوصلات، وتجعلها في متناول ابن هذه الثقافة. وميزة المثقف العضوي، المتطلع إلى تغيير عالمه والمساهمة في تغيير أساسيات ثقافته، أنه يحشد أكبر عدد من وصلات تكون بعيدة وغريبة في الوقت نفسه عن الجمهور العام وثقافته، وتشكل هذه الوصلات مراجع معرفته التي يستنير بها، والتي يشير إليها خطابه مباشرة أو ضمناً.

إلى هذه الوصلات، والفرق بين ما لدى الجمهور منها وما لدى المثقف، لم يلتفت أحد من المتحدثين عن أزمة الثقافة وانعدام فاعلية خطاب المثقف، أو فشل الفكر التنويري وسيادة الأفكار الظلامية، وتركز النظر والجهد على تفسيرات تتجاهل زوايا المشكلة الأربع؛ ثقافة الجمهور وأساسياتها، واختلاف المرجعيات، وقلاع الأيديولوجية التقليدية التي تظل فاعلة في وجه أي إخصاب ثقافي حتى في ظل نظام ساع إلى التغيير، وعدم إدراك غالبية المثقفين أنهم يخاطبون قارئاً أو مستمعاً أو مشاهداً لا يمتلك ما يمتلكون من وصلات.

ما يبدو مسلمات في وسط المثقفين، أي أن عليهم أن يقولوا وعلى الجمهور أن يرتفع إلى مستواهم، ليست مسلمات بقدر ماهي أوهام مضللة. إن انعدام الانسجام والتناغم بين مراجع الكاتب ومراجع مجتمعه الأوسع لا تعمق مأزقه فقط، بل ومأزق المجتمع ذاته حين لا يجد مساعدة واعية وكافية من مثقفين يشتم بعضهم مجتمعه أو يمعن في التعالي عليه والابتعاد عنه. قد نجد هذا التناغم والانسجام في بنى اجتماعية بدائية حيث يجد شاعر القبيلة من يفهمه ويتأثر بأقواله، ونجده في نظم أقدم حيث يقود السحرة والعرافون مجتمعاتهم بمجرد التلفظ بتعاويذ يعرفها ويتأثر بها الجميع، ولكن في البنى الاجتماعية المتطورة، وخاصة في العصور الحديثة، لم تعد العلاقات الإنسانية بهذه البساطة، ولم يعد العالم ذاته؛ عالم قبيلة أو قرية أو حتى مدينة، بل أصبح عالماً متنوعاً ومتعدداً، أو عالماً يحتشد بملايين الوصلات والمنافذ إلى ثقافات ولغات وأمكنة تحضر بالضرورة في ذهن المثقف الحديث، تثريه وتغنيه ولكنها تبعده و «تغربه» أيضاً عن عالمه سواء كان قبيلة أو مدينة أو دولة، وبالتالي عن الجمهور المفترض أنه يخاطبه ويطمح إلى أن يغيره أو يحدث فيه تأثيراً.

إذا أخذنا هذه الواقعة في الاعتبار، سنقول للكاتب ببساطة: عليك أن تعرف أنك تخاطب قارئاً حين تكتب.

من وظائف الإبداع لأميرتاج السر

عن ثقافات


تحدثت مرة عن أهمية الكتابة الإبداعية، أو السيرية، أو حتى كتابة المقالات الصحافية، في التوثيق لأحداث تاريخية، سواء كانت تلك الأحداث، اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية وفنية أيضا، جنبا إلى جنب مع كتابة التاريخ الرسمي، التي يقوم بها أكاديميون، لا يعنيهم سوى محاولة إيصال ما كان يحدث في وقتهم أو الوقت الذي سبقهم، وما يظنونه حقائق للأزمنة اللاحقة، مع الفرق أن الكتابة الإبداعية والصحافية، تحمل بهاراتها الخاصة من لغة جيدة ولمحات ساخرة وأوصاف تعجب المتلقي، وبالتالي تكون أكثر ملاءمة للقارئ من التاريخ الخشن الصارم.
بناء على ما أعتقده صوابا، أي ما راق لي كقارئ يريد أن يعرف ما كان يحدث قديما في مجتمعه ودولته، وباقي العالم، وكيف تطورت الحياة الاجتماعية للشعوب، من مجموعات صغيرة، بلا أفق، إلى جماهير عريضة، تحب الأوطان أو لا تحبها، والحياة الاقتصادية، من تجارة خرساء، ضعيفة، تحملها الدواب إلى هنا وهناك، في مساحات محدودة، إلى تلك التجارة العريضة، التي تتنقل عبر السفن والقطارات والطائرات، وعبر شاشات الإنترنت، وعبر كل ما يمكن أن يعد فكرة خلاقة، فقد اعتدت على قراءة الروايات، وكتب السيرة والرحلات، وأيضا قصائد الشعر، وخرجت بمعطيات كثيرة، حين أقارنها بالتاريخ، أجدها صادقة في معظم الأحوال، فقط انسابت إلى ذهني بسهولة، لما تحمله من جمال.
في روايات الحرب مثلا، تلك التي كتبت في زمن حدوثها، أو بعد انتهائها بفترة وجيزة، ستجد كل ما يمكن أن يعد سرا من أسرار الحرب مكشوفا أمامك، ستجد الأسلحة التي استخدمت والجيوش التي تقاتلت، وربما عدد القتلى الذين سقطوا، والجرحى الذين تم إسعافهم أو لم يتم، والناجين الذي كانوا يهللون بنصر، لم يكن في الحقيقة نصرهم شخصيا، وإنما محرقة لهم، لينتصر من أراد إشعال الحرب.
وجدت تلك المعاني المتنوعة، في رواية «ليلة لشبونة» للألماني إريك ماريا، وفي «تقشير البصلة»، السيرة الذاتية للألماني العظيم غونتر غراس، وقد عاش في الحرب وشارك فيها، مضطرا كمواطن ألماني، وكذلك في كتب بعض الإسبان واللاتينيين، والأفارقة، من الذين خاضوا حروبا أهلية، خرجوا منها سالمين، لكن كتبوا لنا إبداعا داميا، تخبط فيه أبطالهم وسقطوا ضحايا، وما زالت ترد إلى ذهني دائما، رواية «الله يفعل ما يشاء»، التي كتبها العاجي الراحل: أحمدو كروما، لتصبح من العلامات في أدب الجروح وعدم اندمالها، في أي وقت.
بالنسبة لأنظمة الحكم في زمن ما، وطريقة الأكل واللبس، والفرح والحزن، وتقاليد الأعراس والمآتم وغيرها من الأشياء المؤثرة في تاريخ الشعوب، نجدها كثيرا في مذكرات الرحالة العابرين ببلاد لم يكونوا أصلا من أهلها، ومعروف أن الرحلات الاستكشافية، تنشط منذ زمن بعيد، ولا يوجد عهد من العهود، إلا تحدث عن الكثير منها.
كان الأوروبيون، يحبون استكشاف قارات أفريقيا وآسيا، ويسيرون القوافل الضخمة من أجل الوصول إلى ذلك المجهول الذي يتخيلونه ولا يعرفون معناه إلا حين يصلون ويستكشفون، العرب يستكشفون أيضا، ويركبون البحر والخطر من أجل متعة الاستكشاف، هكذا، وفي كل تلك الحالات، نحصل على الأشياء المهمة التي ستساعدنا في حياتنا أو ربما لا تساعدنا في شيء، وفقط تمنح نشوة الاكتشاف.
لا أذكر متى قرأت كتاب «ملامح من المجتمع السوداني» للكاتب الراحل حسن نجيلة، لأول مرة، لكن قطعا منذ زمن طويل، وربما في بداية سنوات افتتاني بالقراءة، وللعم حسن كتابان معروفان، هما هذا الكتاب، وكتاب آخر رائع جدا، هو «ذكرياتي في البادية»، وربما كان ثمة كتب أخرى لكني لست متأكدا. ذكرياتي في البادية، وثق لبادية الكبايش في غرب السودان، حين ذهب الأستاذ لإنشاء مدرسة أولية لأطفال الرحل، وكيف عاش في تلك البيئة غير المرحبة بالتعليم، زمانا، مرض بأمراض أهلها، وتداوى بأدويتهم المحلية، أكل من زادهم المختلف عن زاد الحضر، وعطش وارتوى كما يعطشون ويرتوون.
ملامح من المجتمع السوداني الذي أعيدت قراءته الآن، يختلف، إنه مجموعة مقالات سياسية واجتماعية، يتجلى فيها التاريخ حيا وراقصا ومنتشيا وليس بجمود الكتب الأكاديمية، لقد أكد كثيرا على تلك العلاقات التي لم نكن نعرفها بيننا وبين الشعوب العربية الأخرى، لنكتشف أن أول صحيفة في السودان، أسسها مصريون، وأوكلوا رئاسة تحريرها لرجل سوري، وأن صحيفة «الرائد» التي كانت مهمة في بداية القرن الماضي وحتى إغلاقها في عشرينياته، كانت أول من ابتدع المسابقات الشعرية، وكان رئيس تحريرها لبنانيا، يقيم في تلك البلاد. سنقرأ عن فتيان ثورة اللواء الأبيض، التي هزت رسوخ المستعمر الإنكليزي، وخفضت من هيبته: علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وغيرهما من الأصحاب والشهداء، سنقرأ عن وجهاء المجتمع ورجال العلم والفكر ودعاة التحرر، ومنتديات الثقافة التي كانت تقام في الأندية، ويرتادها الكثيرون، وأشياء أخرى عديدة لم ترد صراحة في كتب التاريخ، لأن المؤرخين يبحثون عن الأحداث العظيمة، ولن تكون الثقافة مهما تجلت، حدثا عظيما في يوم ما. وحتى في أيامنا هذه حين باتت كل التفاهات عظيمة ولا أحد يحفل بالثقافة إلا في أضيق نطاق.
لقد اهتم الأستاذ نجيلة في كتاب مقالاته الكنز هذا، باللغة والجمال السردي، وكتبه بأسلوب كان سائدا في ما مضى، حين يذكر كاتب المقال أن فلانا أخبره بشيء وهو ينقل ما أخبر به، وأحيانا يجعل الكاتب من نفسه، مستمعا في مجلس أحدهم وهو يحكي، ويدعم ذلك بأن يقول مثلا أن الراوي، رفع عينيه ونظر إلينا، أشار بيده في اتجاهي، قال لي يا حسن.. وهذا يمنحنا فكرة عن الأساليب التي كانت موجودة في رواية الحكاية، هذا المجهول الذي لا بد من وجوده لتكتمل المعضلة السردية، وقد لاحظت هذه الطريقة عند كثيرين من أجيال قديمة، ولعلها متوارثة من الإخبار العربي القديم، حين يكتب أحدهم: حدثني فلان بن فلان بن فلان، عن جده.
عموما لعلها جزء من هواية الحكايات، أن أهتم بالكتب القديمة وما فيها، أو لعله ولع بتوظيف بعض ما جاء في تلك الكتب، مع شيء من الخيال، في ما أكتب، ولذلك أسميها الكتب الكنوز، وممكن جدا أن غيري لا يعتبرها كذلك.

استهداف الفلسفة وانحباس التفكير في عوالم التكفير عبد القادر لعميمي

عن ثقافات




    “دافعوا عن عقولكم كما لو كنتم تدافعون عن أسوار مدينتكم..” (هيراقليطس).

                  ———————

استهلال

إن المتأمل في الفكر العقلي المنطقي، والمتتبع لسيرورته وظروف انبثاقه الزمكانية، يدرك لا محالة حجم الخناق والتضييق اللذان مورسا على هذا الفكر عبر التاريخ، بدءا من الزمن الإغريقي القديم، حيث أزمة الحرية الفردية وانتكاسة العقل الفلسفي مع المعتقدات الإغريقية الوثنية ومفارقات الديمقراطية الأثينية، مرورا بلحظة سيطرة المتعالي اللاهوتي المسيحي، وصولا إلى المحنة الفكرية العربية مع التفكير النقلي الإسلامي المتزمت… تاريخ حافل بالقتل والعنف والنفي والهجوم على العلماء والفلاسفة و الفكر العقلي النقدي.  تاريخ بلغت سموم لدغاته جسد حاضرنا وراهننا العربي أيضا.. فاستهداف الحرية الفردية والفكر الفلسفي النقدي والعلوم، متواصل بطرق ووسائل شتى، وعبر قنوات متعددة من بينها : الحس المشترك (أو العوام)، والدين والفتاوى الدينية، والبرامج التربوية، والمخططات التعليمية ذات النفس الإيديولوجي الوهابي، المشحونة بروح التطرف والتدجين الديني.. مسار طويل من المحن والاكتواء، ظل فيه الفلاسفة وأهل العقل يتجرعون كؤوس الألم قطرةً قطرةً، ولا مِنْ رحيم يحس بأوجاعهم أو يفهم مكنونات صدورهم وأفكارهم.. ألآم قاوموها بصبر وأناة، وكل ذلك من اجل بلوغ الأمل : أمل تحقيق الشرط الإنساني، وإعلان الإنسان كائنًا عاقلا، حرا، ومبدعا، يعلو بذاته على كل البهائم والعجماوات.

غير أن المفارقة المؤلمة التي يندى لها الجبين هي أنه وبعدما تمكن الإنسان الغربي من التحرر من سلطة اللاهوت المسيحي، وانعتق من لعنة الأساطير والخرافات، وبنى لنفسه أنوارا عقلية مكنته من التحليق عاليا في سماء التقدم العلمي والتكنولوجي، قام الإنسان العربي بإطفاء أنواره العقلية عبر مهاجمة كل العلماء والفلاسفة والتخلص من علومهم وآثارهم المنطقية، مع الاحتفاظ بمجلدات الأصوليين الحاوية لفتاوى التكفير والقتل ومنطق الحلال والحرام، ومخطوطات السحر والجان، ثم مؤلفات طرق وفوائد الجنس أو النكاح من قبيل : الروض العاطر في ترويض الخاطر- الوشاح في فوائد النكاح- رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه- تحفة العروس ومتعة النفوس …الخ.. إنه الارتماء في بحر التخلف والحكم على تاريخ امة برمتها بالعدم والفناء.. لقد استبدل الغربيون العمى الأصولي وظلام العصور الوسطى بالنهضة والأنوار، أما العرب فألقوا بأنوارهم وحضارتهم الغنية _التي كانت لديهم في العصر الذهبي القديم_ في سلة المهملات، وأبقوا على عتمات ثقافة الخرافة وأفكار الظلام والتخلف والجهل، دون وعي أو تردد… فما مظاهر استهداف العقل والعلم والفكر النقدي عبر التاريخ البشري؟، وما تجليات هذا الاستهداف في راهننا العربي والمغربي خاصة ؟ ثم ما انعكاسات ذلك على الأجيال الصاعدة واللاحقة ؟؟

2-   استهداف الفلسفة والعلوم في التاريخ :

2-1 – محنة التفكير العقلي وضريبته زمن اليونان القديمة

إن الهجوم على الفلسفة والفكر العلمي ليس حديث النشأة، بل هو هجوم تاريخي شُنَّ على العقل والحرية منذ القدم. ففي الزمن اليوناني القديم، وبعد ظهور الفلسفة أول مرة، لم يسلم الفلاسفة حينها من محاولات الإقصاء والاستهداف، فبالنظر إلى الأفكار والمعتقدات اليونانية التي كانت سائدة لدى عموم اليونانيين آنذاك، كان القبول بتفكير جديد يعد أمرا ممنوعا ومن باب المستحيل، فالفيلسوف المعلق على نظام الجماعة والمنتقد لأعرافها وطقوسها الدينية والمشكك في صحة معتقداتها، يعتبر في نظر الأسطوريين والخرافيين وأرباب الوثنية فاسدا ومجنونا، وعدوا يغرد خارج السرب ويهدد أمن البلاد وأخلاقها الموروثة.. ولذلك كان ‘بروتاغورس’ باعتباره واحدا من فلاسفة ما قبل سقراط، من الذين أدينوا في ذلك العصر، لعدم اعترافه بالعقائد الوثنية القديمة واعتراضه الشديد على كل التفسيرات الأسطورية للقضايا الوجودية، مؤكدا مقابل ذلك، على أن “الإنسان هو مقياس الأشياء كلها” وأن لا حقيقة خارج إطار العقل الإنساني (اللوغوس).  لقد كان هذا الفيلسوف من المشككين في صحة وجود الآلهة. والسبب حسب اعتقاده هو أن الإيمان الغامض الذي لا يتأسس على الفهم والتفكير، ولا يقوم على الوعي الصحيح بحقيقة ما نؤمن به، هو مجرد إيمان أعمى،  ولا تربطه بالإيمان الحقيقي (المنطقي) أية علاقة.  وبسبب هذا الموقف ثار عليه عدد كبير من عامة الشعب في اليونان فكفروه وأحرقوا كتبه.

إلى جانب بروتاغورس اعتُبر الأثينيون الفيلسوف سقراط صاحب العبارة الشهيرة : أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك”، شرّا ينبغي إزاحته..  فأثينا في زمن سقراط كانت في حالة اضطراب مع إسبارطة ومجتمعها كان غارقا في المشاعر الدينية، لدرجة أن أيّ مصيبة تحلّ يمكن أن تُفسّر على أنها علامة تحذير من الآلهة. وكانت خسارة الحرب تعني بالنسبة للأثينيين أن الآلهة غاضبة، ولم يكن سقراط سوى القربان أو كبش الفداء المناسب. ترى مَن غيره يمكن أن يكون مسئولا عن الهزيمة وهو الذي كان يدرّس الشباب ويحرّضهم على أن يتمردّوا على آبائهم ويشكّكوا في القيم القديمة؟ 
إن الدين في أثينا كان شأنا عامّا ومرتبطا ارتباطا وثيقا بقيم المدينة. وكانت المعصية أو انعدام التقوى تُعرّف وفقا لمعايير المجتمع، تماما مثلما نعرّف نحن في أيامنا هذه مفردات مثل الفحش أو الفسق أو الفجور.

وأثناء البحث عن الأسباب والعوامل التي أطاحت بالفيلسوف الأهمّ والأشهر في العالم : سقراط،  حاول “روبن  ووترفيلد” (مترجم وباحث وأستاذ للفلسفة اليونانية القديمة) في كتابه “لماذا مات سقراط: تبديد الأساطير رسم صورة لمجتمع أثينا خلال السنوات الثلاثين التي سبقت محاكمته (محاكمة سقراط) والتي انتهت بإعدامه في العام 399 قبل الميلاد. فبعد دراسته للعديد من المصادر اليونانية الفعلية من تلك الفترة، توصل ووتر فيلد إلى أن موت سقراط كان سببه التهم الخطيرة التي وجهت إليه من قبل الأثينيين وهي :  معصية الآلهة وإفساد شباب أثينا والاعتراض على النظام الديمقراطي بتحريض الشباب ضده، بالقول على أن الحاكم لا يجب أن يكون من الدين يتم انتخابهم، بل من الدين يعرفون كيف يتصرفون أثناء الحكم (الخبرة).. إن هذه التهم حسب “ووترفيلد”  كانت بالفعل كافية لإصدار الحكم بالموت على سقراط. وموت هذا الأخير هو في  الحقيقة استهداف للعقل والفلسفة ومُصَادرة ملموسة لحرية التفكير والإرادة في ذلك الزمان..

أضف إلى ذلك فاجعة اغتيال الفيلسوفة هيباتيا «أول فيلسوفة في التاريخ»، التي كان موتها تراجيديا، حيث إنها قتلت بطريقة لا  إنسانية على يد متطرفين في مصر القديمة ..

2-2- نكبة العلم والفكر النقدي واعلان الفلسفة خادمة للدين في القرون الوسطى المسيحية

أما في العصور الوسطى المسيحية، فلقد شاءت الظروف أن تظهر في أوربا، نزعة جديدة على غرار النزعة الإنسانية التي جسّدها فلاسفة اليونان (جورجياس، بروتاغورس، سقراط …)، نزعة سحبت البساط  من تحت الإنسان، وانقادت خلف المتعالي المفارق لعالم الهنا (عالم الإنسان) والمتوطن في سماء الهناك، إنه الخضوع لإرادة اللاهوت المسيحي والإقطاعي.

يُعدُّ هذا الحدث فاجعة كبيرة، لأنه تعبير عن ضياع الإنسان وضياع لحقيقته الباطنية التي تميزه. فبعدما كان الإنسان حيوانا عاقلا ناطقا وكائنا سياسيا فاعلا في حياة الجماعة، أصبح عبارة عن لا شيء، انتقل من وضعية الكل إلى وضعية الجزء، لكنه مجرد جزء منفعل لا فاعل، لأن إرادة السماء ترمز إلى كل شيء وتحدد أي شيء بعيدا عن تدخل الإنسان. ويظهر ذلك جليّا من خلال الشعارات التي رُفعت آنذاك، ومنها : “لا تفكر وإنما اتبع فقط” ، “لا تبحث عن الحقيقة، بل توجه إلى رجال الدين” ، ” الويل لكل من يقول أنا ” … ، إنه الضّياع في المقدس، حيث إن إرادة الله (الكنيسة) تعلو على الأفراد، وما على هؤلاء إلا أن يخضعوا كرها لها.  لذلك فكل محاولة عقلية للتمرد عليها يعرض الإنسان للنفي أو الإحراق والموت، ودليل هذا ما حصل مع العلماء. فعالم الفلك ‘نيكولاس كوبرنيكوس’ لما أنصت إلى نداء عقله وإرادته المعرفية الحرة، توصل إلى حقيقة واضحة برهن عليها من خلال العلم والمعرفة العقلية، لكن إرادة اللاهوت المتعالية أبت إلا أن تحرقه. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن “العقيدة اللاهوتية المسيحية مارست هيمنة شديدة على العقول والحريات الفردية.” 

أما في العصور المسيحية المتأخرة فأشهر المقتولين “سيجر البرابوني” وهو فيلسوف فرنسي، قتل على يد المتشددين لأنه من أتباع الفيلسوف العربي ابن رشد.

2-3- القتل والتعذيب والنفي.. لغة تواصل فئة من المتدينين مع الفلاسفة والعلماء في العصور الوسطى الإسلامية

إن تاريخ حروب رجال الدين للعلم والعلماء طويل ومرير، وقصص الصراع العصيب بين العلم والفهم الخاطئ للدين كثيرة ومتعددة، وهى ليست مقصورة على دين واحد أو زمان واحد.. والعالم الإسلامي لا يخلو من أحداث تعذيب العلماء والمفكرين وإعدامهم سواء في الماضي أو في الحاضر.. ولمن ينكر أو يشكك في صدق ذلك،  فعليه أن يضطلع على التاريخ ويقرأه بتمعّن.. من منكم لا يعرف الرازي والخوارزمي والكندي والفارابي والبيروني وابن سينا وابن الهيثم ؟.
ومن منكم لم يسمع  بابن رشد وابن باجة وبن طفيل وبن عربي وابن المقفع والطبري ؟؟. من منكم لا يعرف عمر الخيام والحلاج وبن الراوندي والجاحظ والمعري  وابن بطوطة  وابن خلدون ؟؟؟ لا شك في أنكم تعرفون هذه النخبة من علماء الإسلام التي أنارت فضاءات الحضارة العربية وطغت بشموسها على الحضارة الغربية آنذاك، حيث كانوا أساتذة العالم فكرا وفلسفة وحضارة, ولا ريب أنكم تتفاخرون بهم وبانجازاتهم في الطب والفلسفة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والآداب وعلم الفلك والهندسة وعلم الاجتماع.  غير أنه وبالرغم من كل إنجازاتهم التي حققوها وأفكارهم الراقية التي أبدعوها، لم يسلموا من كيد الكائدين أعداء العقل والتفكير العلمي الذين أصدروا ضدهم  (ضد الفلاسفة والعلماء) أبشع الأحكام التكفيرية بنصوص متطابقة مع قرارات الكنيسة التي كفّرت كوبرنيك وبرونو وغاليلي, وبولستون ولينوس في أوروبا في القرون المظلمة, وحرّمت قراءة كتبهم, وبالغت في مطاردتهم وتعذيبهم والتنكيل بهم.

 

فالطبري قُتل , والمعري حُبس, والجعد بن درهم مات مذبوحا, وسُفك دم أبن حيان, ونُفي ابن المنمر, وحرّقت كتب ابن رشد والأصفهاني واتهموا في إيمانهم  وكُفّر الفارابي والرازي وابن سيناء والكندي .أما ابن المقفع ” الذي كان يجمع بين لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيين، فأغضب الخليفة المنصور في صدر العصر العباسي الأول، فأتهم بالكفر, وقطعت أطرافه وفُصِلَ رأسه عن جسده, وألقي بباقي أجزاء جسده في النار، والخلفية الحقيقية الكامنة وراء هذا الحكم الشنيع هي كتابه كليلة ودمنة وكتب سياسية أخرى كثيرة، وضح فيها ابن المقفع ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية, وما يجب أن تكون عليه الرعية إزاء الحاكم”.  ثم خنقوا لسان الدين بن الخطيب وحرقوا جثته, وكفروا ابن الفارض وطاردوه في كل مكان.. والإمام ابن حنبل, قام الخليفة المعتصم بسجنه وتعذيبه. أما الكندي, فيلسوف العرب, فَجُرِّد من ملابسه وهو في الستين, وجلد 60 جلدة في ساحة عامة، وسط تهليل العام  و زغاريد النساء.


فقد لا يعلم عامة الناس ما قالوه عن ابن سينا الطبيب والعالم والفقيه والفيلسوف, وما قاله عنه ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان حيث قال: “إنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر”, وقال عنه الكشميري في “فيض الباري”: “ابن سيناء الملحد الزنديق القرمطي”, وقد لا يعلم الناس أيضا بما قالوه عن أبي بكر الرازي, الطبيب والعالم والفيلسوف. قال عنه ابن القيم في “إغاثة اللهفان” : “إن الرازي من المجوس”, و”إنه ضال مضلل” . وقالوا عن ابن الهيثم: “إنه كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام, وكان سفيها زنديقا كأمثاله من الفلاسفة”, وقالوا عن أبي العلاء أحمد بن عبد الله المعري: “إنه كان من مشاهير الزنادقة, وفي شعره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين”, وقالوا عن محمد بن عبد الله بن بطوطة: “إنه كان مشركا كذابا”, وشتموا الكندي, وقالوا عنه: “إنه كان زنديقا ضالا!!.لسنا هنا للدفاع عن هؤلاء العلماء الذين رحلوا منذ أكثر من ألف عام, ولكن نحن ضد تسطيح عقول الناس وضد محاربة العلم والعلماء ظاهراً “وباطناً”.

 وإذا كان الإسلام قد حث المسلمين على شد الرحال لطلب العلم ولو كان في الصين، فإن محاولات تكفير هؤلاء العلماء الأعلام, وتشويه صورتهم بهذه الأساليب البدائية تمهد الطريق لتراجع مساهمات العرب في إنتاج وتطوير العلوم والآداب. والاستنتاج الممكن الذي نخرج به في هذا السياق، هو إن الدعوات التي استهدفت تكفير العلماء في الماضي والحاضر تهدف في حقيقتها إلى تكريس الجهل والتخلف, وتأخر ميلاد الإبداع في المجتمعات الإسلامية فتصبح الشعوب بأيدي رجال الدين والسلاطين يسومونهم كيفما شاءوا ويوجهونهم نحو الفكر والعلم الذي يستهويهم  فقط  ويحافظ على مكانتهم . إن الزندقة كانت وما زالت من أبشع الأسلحة التي تستخدم ضد العلماء والمفكرين , فتزرع بدورها بذور الخوف والشك في المجتمعات الناهضة لتنمو أشجار الجهل والتخلف, وإذا بقينا على هذا الحال فعاجلا أو آجلا سوف نصل إلى ما وصلت إليه أوروبا في العصور المظلمة. فالتقدم له أسبابه. والتخلف أيضاً لا يأتي من فراغ. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين حجبت الرأي, وحاربت العقل. وطغت بظلم وعدوان على العلماء والحريات الفكرية.

لكن هل ليالي القرون الوسطى الحالكة قد غابت عن حاضرنا، و ولت إلى غير رجعة، أم أن سواد لياليها لا يزال مخيما فوق سماء وجودنا؟ وإذا كان الغرب الأوربي قد تحرر من سلطة المتعالي وأعلن عن ميلاد الأنا المفكرة، فأنار بهذا الحدث الجلل عالم أوربا برمتها وحقق الحداثة، فأين نحن من ذلك ؟ هل تنورنا أم لازلنا غارقين في مستنقعات التخلف والجهل والتطرف ؟

 

2-4- امتداد الفكر السياسوي الديني الوهابي المتطرف نحو حاضر المغرب

 

لا ريب في أن الأستاذ المفكر هاشم صالح ومعه الفيلسوف الجزائري محمد أركون وغيرهما، قد استفاضوا في الجواب عن هذا الإشكال (إشكال: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟)، ووقفوا على أزمة التنوير في المجتمعات العربية وأسباب الانحباس الفكري والعلمي والفلسفي فيها، رادين ذلك إلى عوامل سياسية ودينية وتاريخية،  أبقت هذه المجتمعات إلى حدود الآن غارقة في الشعوذة والأساطير والغرائز، ومتأخرة في كل شيء : في التعليم والتربية والعلم والصناعة والفلسفة…

والمغرب مثال حي على ذلك، فالتضييق الذي مارسته الدولة على الفلسفة والعلوم الإنسانية نهاية السبعينات، عبر إعلانها عن قرار إغلاق معهد السوسيولوجيا بالرباط سنة 1971…  و أوامر البصري حينها لوزير التعليم عز الدين العراقي بمنع أي مجاز في الفلسفة من ولوج مدارس تكوين المعلمين لكي لا  يتسرب الفكر “الثوري” إلى الأطفال في الابتدائي.. ومحاصرة شعبة الفلسفة  داخل كليتي الرباط و فاس بوليسيا ، و الحكم عليها بالانزواء بين أسوار الجامعة ومنعها من الخروج إلى الخارج حتى لا ينتشر صوت أفكارها العقلية النقدية في جسد المجتمع.. ثم قيام الدولة مع بداية الثمانينات، بإطلاق مشروع   افتتاح شُعَب الدراسات الإسلامية للترويج لفكر نجح بقوة في تحويل الأنظار من التفكير في الحياة وقضايا الواقع المعقدة والملغومة، نحو التفكير في الآخرة وقضايا القبر والجنة والنار.

أضف إلى ذلك  التصريح الخطير لوزير التعليم العالي ما بين سنتي 2015/2016، في حق خريجي كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، والذي وصف فيه هؤلاء بأنهم عالة على الآباء والمجتمع، داعيا إلى العمل ما أمكن على التقليص من وتيرة انتشار شعب الآداب والعلوم الإنسانية غير النافعة على حد تعبيره، والتخفيض ما أمكن من عدد زبنائها في المجتمع، عبر التفكير في بدائل إستراتيجية تعود على البلاد بالنفع والثروة.

هذا دون أن نغفل أيضا، التعليق التهكمي السافر الذي صدر عن رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية في حق الشعراء والفلاسفة والقضاة، الذين قال عنهم بأن المغرب ليس في حاجة إليهم، بقدر ما هو محتاج إلى قطاع ذو إنتاجية وأبناء ينتجون الثروة.

تصريحات مباشرة كهذه من رجال الدولة لا تنم إلا عن رغبة هؤلاء في زرع الفتنة وتحقيق مشاريع سياسية وإيديولوجية خبيثة غايتها تضبيع الأجيال الصاعدة، وتمزيق شمل المغاربة بواسطة إقصاء الفكر النقدي والإبداع، والتضييق على المفكرين والأدباء، عبر توهيم عموم المجتمع بإمكانية العيش بسعادة وهناء ولو في غياب الثقافة.

و ما يسترعي الانتباه أكثر هو أنه وبعد التصريحات العنيفة والخطيرة التي وقفنا عليها، والتي استهدفت بقوة الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية.. نجد أن هذا الاستهداف سيمتد ليطال هذه المرة حتى العلوم الطبيعية والحقة، التي لم تسلم هي الأخرى من هذا الجشع الإيديولوجي الوهابي الأصولي الأرثوذوكسي المتطرف. ونقصد هنا بالضبط : ما صدر عن مؤلفي المقررات الجديدة لمادة التربية الإسلامية (منار الجذوع المشتركة والأوليات)، من مضامين واختيارات لا تربوية أبانت وبشكل واضح عن عدائهم الواضح للفلسفة والمنطق والعلوم.

فالناظر في مقررات منار التربية الإسلامية، يكشف بوضوح مباشر عن العداء الشرس الذي يكنه مؤلفو هذه المقررات ومن معهم في التصور، تجاه الفلسفة والعلوم العقلية: الطبيعية والإنسانية.. وهو في الحقيقة عداء ليس بغريب ومتوقع من هاته الجهات في أية لحظة. عداء محصن بقوة المؤسسة والقانون، فالأصوليون السياسويون، لا ينجزون أي عمل إلا وتكون له خلفيات إيديولوجية حقيقية تؤسس لأفق اجتماعي وثقافي مسدود.

ومادامت الفلسفة خطابا عقليا منفلتا من كل اليقينيات ومفككا لجميع الخطابات: سياسية كانت أو دينية أو إيديولوجية أو تاريخية، فإن وجودها النقدي الحر يجعلها حجرة عثراء أمام كل المحاولات التجارية والاستثمارية والاستغلالية للوعي الجماهيري ورادارا فكريا يرصد حركات أعداء العقل والعلم أينما رحلوا وارتحلوا ..  ولكي لا يظل العقل سيد على العالم وسلطانا يدبر أمور الحياة وقضايا التاريخ، فإن أعداءه (أنصار التطرف الديني والفكري) لم يتوانوا عن القيام بكل المحاولات الخسيسة البئيسة من داخل كل الفضاءات (الشارع، المدرسة، المساجد، والمنابر الإعلامية والسياسية) لتأليب الناس والناشئة ضد المنطق والفلسفة والعلوم، عبر تصويرها لهم في شكل خطابات شاذة، مجنونة، ودخيلة يلزم الحذر منها على الدوام، في أفق القطع معها نهائيا في المستقبل، اقتداء بالنموذج التربوي لبعض البلدان العربية التي أبعدت الفلسفة والتفلسف عن ديارها ومدارسها، مبررة هذا القرار السياسي بفتوى دينية تقول بتحريم الفلسفة والمنطق لأنهما على حد اعتقادها السياسوي الوهابي المنغلق، مخالفان لشريعة الله وعقيدته السماوية.. ومن ثمة رفع شعار: “التفلسف والتمنطق هما أس التهرطق والتزندق” .

 

وإذا كانت أوربا قد تقدمت وتحضرت بفعل الإصلاحات الجذرية التي قامت بها على مستوى كافة  القطاعات، خاصة قطاع التعليم وأعادت النظر في الدين والتربية عبر عقلنتهما وجعلهما متلائمان مع قيم الحداثة وروح العصر، فإن مغربنا لا يزال تائها ومحتارا، فلا نحن فصلنا الدين عن السياسة وتحدثنا ولا نحن تشبثنا بالموروث الثقافي الديني وتأصلنا.. نريد الحداثة وفي نفس الوقت نَحِنُّ إلى التقليد والقدامة، نستهلك إنتاجات الحداثة بلهفة دون أن نعي ونستوعب مضامينها ومبادئها، نستخدم الحاسوب والهواتف الذكية ونركب السيارات والقطارات، دون أن نتساءل عن كيف تم بناؤها؟ ننتقد الحداثة ونسبها سبا ونعتبرها فكرا شاذا كافرا يعارض الدين، وفي مقابل ذلك نستهلك منتجاتها، فنبرر هذا الفعل بالقول : إن هذا لمن فضل رب العالمين، دون أن نعترف بفضل العقل العلمي الغربي فيها وعلينا.

هذا الانفصام الفكري الذي نعيشه، سببه التربية الأصولية المتطرفة، والروح الوهابية التي تسكن تعليمنا ومقرراتنا وبرامجنا المدرسية منذ زمن طويل، حيث التركيز على التلقين والحفظ بدل الفهم،  والكم بدل الكيف، وعرض القضايا بطريقة غير بيداغوجية، تقتل الفكر وتشل ملكاته، ثم طرح أسئلة نمطية لا تحفز العقل على التفكير، وتركز على الحفظ  فقط، من قبيل : ما هي..؟ من هو..؟ متى كان.. ؟ وتغييب أسئلة الفهم والتحليل والتفسير التي توسع الأفق العقلي العلمي والفلسفي لدى المتعلم من قبيل: كيف أن.. ؟ ما معنى أن..؟ وبأي معنى يمكن القول على أن.. ؟ برهن على أن.. ؟ ما تفسير أسباب وقوع ذلك.. ؟ …الخ، فمثل هذه الأسئلة هي التي  تنمي لدى التلميذ القدرة على الفهم والتحليل والنقد والتركيب، وحل الوضعيات المشكلة، بكيفية عقلانية ذاتية حرة،  بعيدا عن الخوف وعن حجة السلطة، والوثوقية  وفكر الوصاية والتحكم.

 

فبعدما كنا نعتقد بأن زمن الفكر القروسطي المتشدد قد وَلَّى، وبأن محنة الفلسفة مع النقل قد اختفت وانقضت مع انبلاج زمن الحرية والحداثة، ها نحن الآن نشهد بأم العين انبعاث التزمت الوسطوي من رماده في عصرنا المغربي الراهن، بكيفية صريحة دون تَخَفٍّ أو مواراة، ليس من طرف العامة وحسب، وإنما أيضا من قبل الساهرين على تأليف المقررات المدرسية والأوصياء على قطاع التربية والتعليم، الذين عِوَضَ أن يعملوا على تحديث البرامج التربوية وجعلها متماشية مع روح العصر وقيم العقل المستنير، نجدهم يستهدفون العلوم العقلية والتفكير النقدي الحر، عبر زرع نصوص أصولية متشددة تحمل نفسا وهابيا خطيرا يهدد المدرسة والبلاد من الداخل، مثل بعض النصوص التكفيرية المتشددة لابن تيمية الذي يعد مرجعا مهما للحركات الإرهابية في الوقت الراهن (كَ: داعش) أو الفتاوى الدينية المتطرفة، لابن الصلاح الشهرزودي الذي سفه الفلسفة والمنطق واعتبر المشتغل بهما مهرطقا وزنديقا مسه الشيطان وأبعده عن دروب الإيمان بالله ورسوله، كيف لا وهو صاحب القول المشهور ” من تمنطق تزنطق”.. وما زاد الطين بلة، هو دفاع الجهات الوصية على التربية والتعليم عن هذه المقررات علنا، والدعوة إلى تبنيها دون حرج،  والعمل بها دون الاكتراث لخطورتها على الهوية الوطنية والمجتمع..

على سبيل الختم

يتبين لنا من خلال ما سبق أن مسألة استهداف العقل وعلومه الفكرية، هي مسألة تاريخية جرى وقعها منذ عقود طويلة من الزمن، من قبل  أعداء التفكير النقدي وخصومه أنى كانت توجهاتهم (سياسية أو دينية)، ولا زالت شرارة هذا الاستهداف اللاهبة ممتدة إلى يومنا هذا، من خلال الأحكام الدينية المتزمتة والقرارات السياسية القاتلة والجائرة في حق النخب المفكرة والمثقفة، متى ما كان صوت  لسانها مرفوعا ومنطوق عقلها واضحا، كاشفا عن فساد القيم ومغالطات السياسة، ومآرب الإيديولوجيين وتجار الدين.. وحتى ينقطع دابر الفكر النقدي الحر، ويختفي توهج العقلية التنويرية من أرض الوجود الاجتماعي، فإن أنصار الظلام يستغلون كافة الوسائل الضرورية والقنوات التربوية المهمة لتحقيق غاياتهم، كتأليب العامة ضد المتفلسفين والمناطق، وتبخيس العلم لديهم عبر الإشادة بقوة الخرافة والشعوذة والسحر في تحقيق الأمن الصحي والروحي لديهم، واستغلال المدرسة لتمرير أفكار سطحية وقديمة بعيدة عن روح العصر والحداثة، ثم تلقين المتعلمين مواد دراسية، بصيغة تبدو فيها هذه المواد متعارضة على مستوى القيم ومتناقضة على مستوى المنهج والمعرفة، دون الأخذ بعين الاعتبار مبدأ التكامل والامتداد بينها على مستوى التوجهات التربوية (كهجوم مقرر منار التربية الإسلامية الجديد بمستوياته الثلاث، على الفلسفة والعلم والمنطق، بدولة المغرب)، وكل ذلك بهدف خلق الزوبعة وتنفير المتعلمين من الفلسفة والعلوم المنطقية.. هذا دون أن ننسى الحصار المرير التي تعانيه هذه الأخيرة في دول عربية أخرى ذات التوجه الديني السلفي الوهابي، الرافضة للفكر العقلي، والساعية  ما أمكن، نحو شل حركية العلوم، و ذلك من أجل تسطيح العقول وتضبــيـع الأجيال، و تحويل الأفراد إلى عبيد وأتباع طَّــيٍّـعِــينْ.

—————————————–

تعبِّر “الأصولية” intégrisme عن موقف فكريٍّ متعصب لدى بعض المؤمنين الذين يرفضون، من خلال تمسكهم بـ”أصول” دينهم، كل تطور ويأبون مجاراة الحياة الاجتماعية الحديثة باسم احترام متصلب للعقائد الدينية أو الإيديولوجية.

 

*أستاذ مادة الفلسفة وباحث في تاريخ الفلسفة وقضايا الوجود الإنساني*




السبت، 14 يناير 2017

علوم التربية الزمن التربوي بين التبذير و التدبير - د. محمد الصفاح

انفاس نت



يعد الزمان من المعضلات الكبرى التي شغلت بال الإنسان مسببة له الحيرة ، والقلق٬ بسبب طبيعته المبنية على بنيتين متضادتين :
1-    بنية الليل : حيث الظلام و الخوف و السكون.....
2-    بنية النهار: حيث انتشار الضوء وتبدد الخوف و عودة الحركة٬ و الانتشار عبر أنحاء الكون. و هوتضاد أدهش الإنسان القديم ٬فلم يجد له تفسيرا منطقيا ، يخرجه من الحيرة العقلية والقلق الوجودي ٬ و الاضطراب النفسي. فظل يشعر بقوته وجبروته ٬ خاضعا خانعا لسلطته و سطوته ، مستسلما للعيش على السجية والعفوية ٬  يتحرك بالنهار ويسكن بالليل ٬ دون معرفة أوعلم بما يجري حوله.
لكن مع تطور البنية الذهنية الإدراكية للإنسان وفي ظل التقدم الحضاري٬ ظهرت حقيقة الزمن وانكشفت هويته ٬ عبر قراءات متعددة أجمعت على أن الزمن ليس فقط ظاهرة كونية يحكمها التعاقب المنظم لحركة الكون ٬ بل هو قيمة كبرى تتحكم في وجود الإنسان ، مركز الكون، وبناء مصيره الفكري ٬ و الثقافي والاجتماعي و الحضاري..... ولعل أجمل ما قيل في شأنه "انه طاقة غير متجددة". وبما انه كذلك ٬ فإما أن يستهلك على الوجه الأمثل، فيكون زمنا ايجابيا، نافعا، مثمرا .(الزمن الفعال الايجابي....أو ما يسمى بزمن ولوج الحضارة ). و إما أن يستهلك بكيفية مناقضة، فيكون عامل تدمير، وهدم. أي زمن عقيم ٬ سلبي٬ أو ما يسمى بالزمن العائق. وعلى هذا الأساس يمكن القول ٬أنه إذا كان الإنسان قديما قد عانى أزمة / معضلة التفسير ٬ فان إنسان حديثا، يعيش شرنقة أو أزمة التدبير والتقدير . بمعنى ٬ أن الإنسان في ظل السياق الحضاري المعيش ذي الخصوصيات المركبة والمعقدة ٬ يجد صعوبة جمة في تدبير زمانه . والموضوعية تقتضي الجزم أن الزمن أصبح خارج السيطرة٬ بفعل سوء التدبير ٬ لا سيما الزمن التربوي . وهنا يطرح السؤال الملح ٬كيف ينفق الزمن التربوي داخل المؤسسات التربوية؟
من خلال ملاحظة وقراءة بنية الأحداث الناظمة للمشهد التربوي داخل المؤسسات التربوية ٬٬ يمكن القول ٬ أن الظلم واقع على الزمن٬ إذ لا ينفق بكيفية تربوية مرضي عنها .وذلك لما يصدر في حقه من هدر وتضييع  قويين.. ويتعلق الأمر في هذا الصدد بالمتمدرسين الشاهرين سيوف التمرد على الزمن٬ محاولين اغتياله كلما سنحت لهم الفرصة . و عملية التأهب للقتل عبر شحذ سنان العبث ٬ تبدأ من خارج أسوار المؤسسة ٬ إلى عقر الفصل. فالمتمدرس يخاصم الزمن ويلاحقه بالإساءة والاعتداء في كل زاوية من زوايا المؤسسة. فيلاحظ ،وهو يتلكأ ٬ ساعيا لضياع الوقت بطرائق مختلفة منها :
-    عدم الرغبة في دخول الفصل. 
-    اختلاق الاعذار للخروج من الفصل. 
-    عدم الالتحاق بسرعة إلى الفصول فور سماع رنين الجرس.
-    السرعة في الخروج من الفصول عند رنين الجرس.
-    الاختباء في أماكن غير مكشوفة.
-    الإحساس بالسعادة والانتشاء عند غياب الأستاذ لسبب ما.
وهي بعض المظاهر الصادرة عند المتمدرسين المعبرة وبوضوح عن علاقاتهم المتوترة / المتنافرة بالزمن ٬ الشيء الذي يجسد صورته العكرة داخل المؤسسات التربوية ٬ ويعكس بجلاء وضعه الاعتباري المشوش داخل البنية الذهنية . ومن هذا المنطلق يمكن القول أن التدبير الزمني لا يسير وفق المنطق التربوي ٬ الذي يلح على ضرورة التحكم في الزمن المدرسي ٬ لخدمة الأغراض التربوية ، وفق خريطة زمنية مضبوطة ورؤية إستراتجية واضحة ٬ بعيدا عما يسمى "فوضى التدبير الزمني". وهو وصف يصدق على مؤسساتنا التربوية٬ مع العلم أن السلطات الإدارية الوصية على القطاع ٬ ومن باب الحرص على الزمن ٬ والحفاظ عليه ٬ سطرت خريطة زمنية ٬  وزعت بمقتضاها المواد الدراسية٬ وذلك وفق وعاء زمني محدد . إلا أن سوء التدبير الذي تتقاسم مسؤوليته ٬ يجعل الزمن المدرسي لا  يسثتمر بالكيفية التربوية المتوخاة ، مما يؤثر سلبا على عملية التحصيل والمردودية لدى المتلقين . وهي نتيجة مباشرة لجملة من الأسباب النسقية٬ وعلى رأسها انعدام الإحساس بالزمن كقيمة فاعلة في الحياة ٬ يقتضي الحال التحكم فيها ، بما يحقق المنفعة على المستوى الفردي والجماعي.وذلك بالتفاعل الايجابي والبناء معها . وللخروج من معضلة سوء التدبير الزمني في بعده التربوي الفاعل العميق ، ينبغي اعادة بناء علاقة جديدة مع الزمن اللربوي ، وفق رؤية تصالحية مقنعة٬ تؤكد على أن نجاح القطاع التربوي رهين بالقدرة على التحكم في الزمن واستثماره بكيفية عقلانية ٬ ووفق معايير تدبيرية تعيد الثقة المفقودة بين المتمدرسين و الزمن و ذلك بتضافر و تكاتف جهود الفاعلين المباشرين ، و غير المباشرين، القادرين على الثاتير ايجابا في هذا الشأن. و هم : 
1- الأسرة: وينبغي القيام بواجبها كاملا ٬ باعتبارها الخلية الساهرة على التربية والتنشئة الاجتماعية٬ وذلك من  خلال آليتي :  
ا. التحسيس بأهمية الوقت وقيمته في صنع الإنسان . فكريا ٬وثقافيا ٬ واجتماعيا ...... اعتمادا على أسلوبي : 
- الترغيب : القاضي بالمكافأة  أثناء المحافظة على الوقت واحترام المواعيد.
- الترغيب : والرامي إلى الحرمان أو العقاب ٬ أثناء تضييع الوقت والتهاون في تقدير الزمن.
ب. والمراقبة المواكبة للتمثلات الذهنية الإدراكية حول الزمن . لمعرفة الخاطئة منها ٬ والمبادرة إلى معالجتها وتصحيحها لتصبح بذلك قناعة تربوية ٬ ترقى إلى مستوى المعرفة اليقينية العلمية ٬ فتتحول على إثرها بطريقة واعية أو لاواعية إلى سلوك عملي ممارس. بينا قد يؤدي عدم الوعي بها حتما إلى ترسيخها في البنية الذهنية ٬ وغرسها في البنية النفسية فتغدو بذلك قناعة فكرية ٬ تترجم على مستوى السلوكات والمواقف والوضعيات.
2-الإعلام: ودوره قوي التأثير  ، جم الفائدة ، حينما توجه مادته إلى توضيح أهمية الزمن وقيمته ونفعه ومردوديته على مستوى الفرد والجماعة .وذلك بتسخير الوسائط الإعلامية السمعية والبصرية بهدف التوجيه و الإرشاد.
3-السلطات الإدراية الوصية: الموكول إليها استصدار نصوص جديدة ٬ يقنن على ضوئها، التدبير الأمثل للزمن التربوي، والعمل على تحيين النصوص الموجودة والسهر على تفعيلها بقوة القانون. دون إغفال إدراج نصوص تعالج الزمن ، وقيمه، وذلك في سياق المواد المقررة .حتى يصبح مفهوم الزمن لدى المتعلم تابعا تبعية عضوية ونسقية واستعمالية لمجالات الحياة كافة.
4- الفاعلون التربويون: ويتمثل دورهم في التحسيس الدائم والمستمر والمتواصل بقيمة الوقت ٬ والاجتهاد الدؤوب لتطهير البنيات الإدراكية والذهنية للنشء من التمثلات الخاطئة٬ حول الزمن.واستبدالها بتمثالات مقدرة للزمن مع إبداء الحزم والصرامة تجاه العابثين به والمضيعين له .
5-الإدارة التربوية : ويتأسس دورها بشكل كبير على التحسيس الدائم للمتعلمين بقيمة الزمن ٬ وذلك عبر تنظيم حملات أسبوعية أو شهرية.... لتنبيه الغافلين عديمي الإحساس بأهمية الزمن ٬ مع إبداء ما يلزم من الصرامة تجاه الهدر الزمني . كما ينبغي ربط الاتصال كلما دعت الضرورة ، بأولياء أمور التلاميذ لاطلاعهم على علاقة أبنائهم بالزمن.
ليست هذه إلا بعض الاقتراحات التصحيحية لصورة الزمن العكرة داخل المؤسسات ٬ الذي يبدو وضعه الاعتباري داخلها أسفل سلم اهتمامات المتمدرسي. رغم المجهودات المبذولة من لدن الوطنيين المخلصين . الذين يدركون حقيقة الزمن وأهميته في بناء نهضة تربوية متينة الأسس. وما من شك أن بناء نهضة تربوية يرتبط بتغيير الرؤية حول حقيقة  الزمن ٬ وتصحيح العلاقة معه ٬ بغية استثماره على النحو الأفضل والأمثل . وذلك عبر اكتساب ثقافة التدبير العقلاني للزمن . كل مدبر من موقع مسؤوليته . وهو سلوك نهجته الأمم المتقدمة وجعلته أساس حياته العملية . فحققت بذاك نجاحا عاد عليها وعلى الآخرين بالنفع والخير. وباحترام الزمن وتقديره ٬ كسبت احترام الآخر، وفرضت عليه احترامها . وأصبح بذلك معيارا يقاس به تقدم وتحضر الأمم . فيقال على سبيل المثال :"الزمن الحضاري بين الولايات المتحدة وفرنسا يقدر بعشرات السنين " . مع العلم أن كليهما متقدمان. ومن هذا المنطلق ٬ يمكن القول ٬ أن مقياس التقدم الحديث، هو الزمن . وبمعنى أدق ٬ فبقدر ما تحكمت الأمم في زمنها ٬ مستثمرة إياه على الوجه الأمثل ٬ إلا وحققت النجاح المنشود وارتقت وتقدمت على سلم التحضر . و كلما عبتت بالزمن، إلا وعبث بها ٬ وقذف بها على هامش الصفوف الخلفية للأمم . وعليه ، فالزمن، إما أن يكون عامل بناء ، حينما يتم التحكم فيه والسيطرة عليه وقهره. وإما أن يكون عامل هدم، حينما تستعصي السيطرة عليه وتدبيره . 
 فبالتدبير الجيد إذن للزمن داخل المؤسسات التربوية، تصنع الأجيال الناجحة ، المرتبط اسمها ، بمدرسة النجاح ، التي تحمل على كاهلها هذه المهمة التربوية الثقيلة ٬ ثقل الزمن المستقبلي ، الذي لن يلين جانبه و عضده إلا للعقول الوطنية المتشبعة بثقافة القدرة على تدبير الزمن ، والتحكم فيه . كآلية لبناء وطن تسوده قيم البناء البانية لعقول متفتحة كانفتاح فيافيه، وهمم شامخة شموخ جبال أطلسه وريفه . وذلك قصد بناء نهضة الوطن والدفع به إلى مصاف الأوطان القوية على الخريطة الكونية .
أليس جديرا بأمة قامت على تقدير الزمن وتدبيره ٬ وبفضل ذلك ،ملأ صيتها الأفاق و الأمصال ماضيا  ٬ أن تتبنى ثقافة التدبير الزمني ،وتحارب ثقافة التبذير . وتتمسك بها باعتبارها أساس النجاح وشرطه الضروري في المجالات كافة ٬ لاسيما المجال التربوي ، الذي هو في حاجة ماسة وملحة إلى بناء ثقافة التدبير الزمني وترسيخها في البنية الذهنية والإدراكية  للمتعلمين ، و غرسها في نفوسهم . والسهر على مواكبتها لتصبح سلوكا عمليا  في واقعهم المعيش.

في بيداغوجيا المدنيّة ـ عبدالله عطيّة

أنفاس نت



في المفهوم:
التّربية المدنيّة مادّة قيم بدرجة أولى، التّسمية في حدّ ذاتها تُغني عن كلّ تشكيك في ماهيّتها من ناحية، وتؤكّد هذه الحقيقة البيّنة من ناحية ثانية. ولعلّ الانتقال في مستوى التّسمية من "التربية الوطنيّة" إلى "التربية المدنيّة" له أكثر من دلالة، هي استجابة طبيعيّة مجتمعيًّا لمرور الدّولة من طور البناء إلى طور ما بعد البناء ،أو لِنَقُل من طور بقاء الكيان السياسيّ إلى طور حسن البقاء التنشيئيّ لهذا الكيان .أعني كيف يستشعر النّشء معنى الوطنيّة حين يمارسها أفقيّا وعموديّا، الممارسة العموديّة تأخذ شكل "التعرّف على: - الهياكل الإداريّة التي يتعامل معها وتراتيب عملها / ودور المؤسّسات العموميّة وكيفيّة تنظيمها/ والعلاقات القائمة بين المؤسّسات الوطنيّة والمؤسّسات العالميّة.." ثمّ "المشاركة في نشاط المؤسّسات والمنظّمات الجهويّة والوطنيّة / والاقتناع بضرورة صيانة المكاسب الوطنيّة والإنسانيّة (1)"..هي أهداف عامّة بطبيعة الحال ضَبَطَها المقرّر الدراسيّ للمادّة وتحكمها فلسفة سياسيّة جوهرها "أنّه في كلّ بلدان العالم يُدرَّسُ الأطفالُ أنّ بلادهم هي الأحسن"(2)..أمّا الممارسة الأفقيّة فهي ذات أهميّة قصوى، هي ممارسة تنبع أوّلاً من وعْي حادّ ودقيق بالتلازم بين الحقّ والواجب...ذلك أنّ ثنائيّة الحقّ والواجب تختزل تقريبا مُجمل مضامين مدارات المادّة في مختلف المستويات التعليميّة. فطالما أنّ "المدنيّة هي مجموع الصّفات الوديعة والرّقيقة التي يحملها الإنسان أثناء تصرّفه وفي علاقاته بالآخرين" (3) فليس بالإمكان الحديث عن ممارسة أفقيّة سليمة وإيجابيّة حين لا يكون الفرد "مواطنا"...ولا يكون الفرد مواطنا في دولته إن لم يكن "واعيا بحقوقه وقائما بواجباته".

في أُسس المدنيّة:
إنّ قيم المادّة تنشيئيّة أساسا، والمدرسة فضاء للكِبَر، أمّا مستويات التنشئة المنشودة فهي ثلاث تشترك جميعها في إنتاج:
-    الوعي بالفرديّة.
-    الوعي بالوطنيّة.
-    الوعي بالإنسانيّة.
القيمة ومنها القيم، هي الأهميّة المناسبة التي يخصّ بها فرد فكرةً أو توجّهًا ما أو سلوكًا معيّنًا على ضوء تصوّر مخصوص...ومُدرّسُ التّربية المدنيّة هو بدرجة أولى "مدرّسُ قيم ومبادئ"، فالأدبيّات التّربويّة والبيداغوجيّة حديثا تنزع نحو التأكيد على أنّ الدّيمقراطيّة  مثلا ،كمفهوم حاملٍ لعديد القيم ،لا معنى له كمادّة دراسيّة إن لم يكن مصحوبا بتصرّف ديمقراطيّ يتجلّى ممارسةً أثناء أنشطة التعلّم والتّعليم. فكفاية المدرّس المهنيّة لا تتحدّد حصْريّا بما هو ديداكتيكيّ وتقنيّ، أي بدرجة وعيه بما يدرّس وكيف يدرّس – وإن كان ذلك مطلوبا بطبيعة الحال – بل إنّ الأساس الآخر لهذه الكفاية إيتيقيّ وأخلاقيّ...إنّه تمثُّلٌ للتّرابط الوثيق بين المفاهيم التّالية: المعرفة le savoir والأنْسَنَة l’humanisme والنّجاعة l’efficacité و النّجاح la réussite ...أمّا عن المعرفة فهي دون أدنى شكّ تمثُّلُ ما به يكون المتعلّم "واعيا ومقتنعا ومدركا ومستعدّا..."  فالأهداف المعرفيّة لا تتحقّق إلاّ استنادا إلى مضامين تُلامِس جوانب حياتيّة ومعيشة، وتفتح أُفُقَ المتعلّم عمّا يختلج بداخله وعمّا يحدث في مختلف دوائر انتمائه...أمّا عن الأنْسَنَةِ فهي موصولة بالمستوى العلائقيّ أي بما هو إنسانيٌّ في المتعلّم- الإنسان، فالمدرسة تنقل المتعلّم من مجال حَميميّ تحتكم العلاقات فيه إلى العواطف والمشاعر (أي العائلة) إلى فضاءات ينظّمها القانون (المدرسة ،المجتمع) من خلال الانفتاح على مفاهيم تبدو شكلانيّة (الدّور، المكانة، الوظيفة، القانون، الدّولة، الحريّة ،المسؤوليّة....)وعلى هذا الأساس فاشتغال المدرّس وتلاميذه على مثل هذه المفاهيم لا ينبغي أن يكون اشتغالا تقنيّا جافّا وخاليا من كلّ معنى إنسانيّ...فحين يباشرون مقولة المواطنة مثلاً شرْحًا وتحليلا وتعمّقا، يُنتظر أن لا يُختزل منطق التعلّمات في منطق المعارف، أي أن تكون غاية الممارسة البيداغوجيّة مجرّد حفظ معارف وترديدها للاستظهار بها عند الضّرورة التقييميّة، والمطلوب حينئذ هو استحضار ما يلي: أنّ التّربية المدنيّة –وسائر المواد الدّراسيّة في الواقع- تستدعي الوعي بأنّ التّعليم/التّعلّم موقفٌ إنسانيّ ومدنيّ أوّلُ مقوّماته استهداف شخصيّة المتعلّم بما هو إنسان...فالأنْسَنَةُ موصولة بالبُعد المتّصل بالممارسات أي بآليّات التّبليغ وبكيفيّاته، وموقع المتعلّم فيها لأنّ هذا الأخير للأسف الشّديد مازال "موضوع إعلام وليس ذاتَ تواصل" على حدّ عبارة ميشيل فوكو   l’élève est objet d’une information mais jamais un sujet d’une communication  .
إنّ الأساس الإيبستيمولوجيّ للاشتغال على المفاهيم والقيم الواردة في برامج المادّة يتمثّل في كيفيّة إكساب المعارف المتّصلة بها المعنى، أي أن يكون لها امتداد عمليّ في حياة المتعلّم: كيف يقدر المتعلّم ،في تواصل مع هذه المفاهيم ومع مدرّسه ،على تحويل هذه القيم والمعارف إلى ممارسات ، فالتّربية المدنيّة ،وهي التي تُتيح للمتعلّم الانفتاح على عديد القيم، تنشُد تعديل عديد التصوّرات ما قبل العلميّة لديه وإعانته على بناء مفاهيم جديدة يكون ناجعا في بنائها وواعيا بمضامينها وحقولها المعرفيّة.

في أبعاد المدنيّة:
إنّ المنظومة المفاهيميّة والقيميّة التي تستند إليها المادّة لها في تقديرنا أربعة أبعاد: بُعْد تحسيسيّ تنشيئيّ وبُعْد معياريّ وبُعْد معرفيّ وبُعْد إجرائيّ.
-    البُعْد التحسيسيّ التنشيئيّ: التّحسيس والتّوعية مُكوِّنان أساسيّان للحياة المدنيّة والأخلاقيّة، هُما يَسْمحان بمراجعة المتعلّم للأحاسيس والمشاعر الأوّليّة التي تَسْكُنه، يسمح له هذا البُعد باكتساب مشاعر متجدّدة تتّصل بذاته في جانبيها الفرديّ والجمعيّ من حيث خصوصيّاتها وميزاتها وجوهرها.
 أمّا عن الكفايات المناسبة لهذا البُعد فهي عديدة نذكر منها: *أن يُقَدِّر المتعلّمُ ذاتَه وفرديّتَه بحيث يجنّبها كلّ سوء وكلّ سلوكيّات لاَسَوِيّة،  *أن يُراقب اندفاعيّته وفَيض مشاعره – بحكم مرحلته العمريّة- فيوظّفها إيجابيّا في النّفع الخاصّ والعامّ. *أن يستحضر وجدانيّا الآخر فيُنْجِدُه ويتضامن معه ويُعينه.
إنّ هذه الثّقافة التّحسيسيّة تُبنَى انطلاقا من وضعيّات متنوّعة من محيط المتعلّم ،ومن محامل بيداغوجيّة تستميله وتشدّه إليها فيتفاعل معها بما يمكّنه من تصويب اتّجاهاته ومواقفه.
-    البُعْد المعياريّ (ثقافة القانون والحقّ ): إنّ ثقافة الحقّ والواجب والقانون التي توجّه السّلوكيّات داخل القسم وفي المؤسّسة التّربويّة وفي المجتمع تجعل المتعلّم يدرك كيف أنّ القيم المشتركة في مجتمع ديمقراطيّ تحكمها قواعد ومعايير مشتركة ،فالحياة الجماعيّة منظَّمة بالقانون، والمجتمع ذلك "الكائن الأعظم" على حدّ تعبير دوركهايم لا يستقيم وجوده دون الوازع أي القانون ،القانون كقواعد ومؤسّسات وآليّات رقابة ومحاسبة...
إنّ الكفايات المتّصلة بهذا البُعد عديدة نذكر منها على وجه التّخصيص ما يلي: *اقتناع المتعلّم باستحقاقات العيش المشترك المتمثّلة في منظومة القواعد والضوابط القانونيّة ،*إدراك معنى احترام هذه القواعد القانونيّة بل وحتميّة احترامها، فهي بقدر ما تَسْمَحُ وتَضْمَنُ فإنّها كذلك تَمْنَعُ وتُعاقب...
-    البُعْد المعرفيّ (ثقافة الحُكْم) :المعرفة غاية ووسيلة، هي غاية الفعل التّربويّ وهي إحدى رسائل المدرسة ،ولكنّها مع ذلك هي وسيلة هامّة لإنضاج المواقف وللمُحاجّة والمساءلة النّقديّة الواعية...فالقيم والمفاهيم المدرّسَة تظلّ حول المتعلّم ما لم تبعث فيه الحيرة المعرفيّة ولم تُدرّبه على اتّخاذ مسافة نقديّة منها، النّقدُ إجراءٌ واعٍ ومسؤول يَنِمُّ عن قدرة المتعلّم على أن يمارس سلطته ...إجرائيّا يتّخذ هذا السّلوك عدّة أشكال نذكر منها طرح السّؤال والتّعليق والدّحض والدّعم متى كان ذلك ضروريّا.
إنّ الكفايات المستهدفة من هذا البُعد تتعلّق أساسا بمدى قدرة المتعلّم على *التّفاعل مع محتويات ما يَدْرُسُ، أي بمدى أهليّته لبناء موقف مُستنِد إلى حُجج منطقيّة تناسب مستواه وتُثري تحصيله العلميّ بعيدا عن كلّ استيعاب أعمَى أو رفضٍ أصَمّ، * الارتقاء ذاتيّا من وضع اللاّمبالاة إلى موقف واعٍ يُسنِد خياراته فكرًا وسلوكًا ،ويَحمله على الإبداع و يَقِيهِ شَرَّ التّسطيح الفكريّ والوجدانيّ والاستسلام إلى المجهود الأدنى...إنّ جوهر هذه الكفاية يتمثّل في تحويل الفكرة إلى موقف.
-    البُعد الإجرائيّ (ثقافة الالتزام): التّربية المدنيّة هي تربية على القيم المدنيّة، ومنظومةُ مقرّراتها المفاهيميّة تُحاجِج كلّ تصوّر خاطئ أو ممارسة منحرفة عن ذلك، وعلى هذا الأساس فإنّ ما يتعيّن استحضاره والاشتغال عليه هو المتعلّم ذاته: المتعلّم فاعلا في محيطه المدرسيّ والعائليّ والمجتمعيّ. تتّخذ هذه الفاعليّة عدّة أشكال لعلّ أهمّها أن ينخرط المتعلّم في الشأن الخاصّ والعامّ انخراطا واعيا ومسؤولا...بل أن تتوفّر له كلّ عوامل الانخراط وأن تَضمن له كلُّ الأطراف هذا الالتزام المواطنيّ فَتُثَمِّنَ مساهماته وتُصوّب عثراته .
أمّا عن الكفايات المتعلّقة بهذا البُعد الهامّ فنذكر منها ما يلي: *أن يُجسِّم المتعلّم  تمثُّله لفكرة القانون والنّظام الدّاخلي لمدرسته *أن تتولّد لديه قناعة بأنّ المحيط المدرسيّ هو بنفس أهميّة ومكانة محيطه الأسريّ لديه  فيُخرج هذه القناعة من مستوى الاعْتِمَالِ الوجْدانيّ إلى مستوى الإجراء والتّنفيذ ويكون ذلك بالحفاظ على مكوّناته وأشيائه *أن ينخرط داخل فضائه المدرسيّ في مشاريع خاصّة وجمعيّة بدافعِ الوعي المواطنيّ والبيئيّ...

 في ضمانات بيداغوجيا المدنيّة:
إنّ بيداغوجيا المدنيّة  la pédagogie du civisme)) دقيقةٌ وحسّاسةٌ، ولا نبالغ حين نُقرّ بأنّ السّلوك والعلاقة القائمة على الممارسة أهمُّ بكثير من المعرفة المحضة، فعناوين التّربية المدنيّة والمفاهيم المتّصلة بها بقدْر ما تؤثّث المتعلّمَ بشروط المواطنة الفاعلة من خلال المعرفيّ le cognitif باعتباره أفكارا تنتظر التّجسيم ،فإنّ السّلوك والممارسة والانخراط الطّوعي فرديًّا أو جماعيًّا، من خلال المواقف أو الأفعال، تَظَلّ  كلُّها من أهمّ متطلّبات تدريس التّربية المدنيّة...فالمدنيّة علاقة، هي علاقة ناتجة عن وعْي، والوعْيُ له امتدادٌ في مَتْنٍ معرفيّ استساغه المتعلّمون وساهموا في إنتاجه وبنائه، وهذا الوعْي يستحيل على المدى الحينيّ العاجل أو الآجل ممارسة مواطنيّة مسؤولة.
إنّ تطوير بيداغوجيا مدنيّة في مقاربة القيم والمفاهيم الواردة في مقرّرات المادّة متأكّد، فليس مُمكنًا الحديثُ عن التّربية على المدنيّة والمواطنة دون إحالة مشروطة على إيتيقا وأخلاقيّات معيّنة...فالمدرّس الموكول له ذلك ،باعتباره رسولَ هذه المنظومة القيميّة، مَدعُوٌّ إلى أن يستحضر في كلّ مرّة المتعلّمَ ذاتًا وكيانًا وإنسانًا: أن يُربّي المدرّسُ يعني ذلك أن يتعامل مع المتعلّم باعتباره غاية في حدّ ذاته وليس مجرّد وسيلة...فالتّكوين المدنيّ بِناءٌ يَتمّ من خلال شبَكة من العلاقات المتفاعلة ،ولعلّ أهمّ علاقة هي التي تَصِلُ المعلّمَ بالمتعلّمِ والمتعلّمَ بالمعلّمِ ...و إنّ القيم التي يستهدفها هذا التّكوين تميّز الأفراد المتعلّمين باعتبارهم مواطنين ينتمون إلى وطن وإلى عالم وإلى ثقافة وحضارة.

الإحالات:
(1)    البرامج الرّسميّة للتّربية المدنيّة، وزارة التّربية والتّكوين ، تونس.
(2)    التّربية والنّظام الاجتماعيّ، برتراند رسل، ترجمة سمير عبده، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت ص133.
(3)    معجم علم الاجتماع.

الفلسفة الأولى مع المرحلة الأرسطية ـ محمد بلصفار

انفاس نت



الفلسفة الأولى التي سميت بأشراف العلوم والمعارف لكونها النظر  في العلل الأولى إذ تبحث عن الحقيقة السامية التي تشغل بال الفيلسوف طيلة مسيرة سؤاله حتى انتقاله إلى جوارها فهي  كما اخبرنا الكندي " :  أنها أشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى: أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق. ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشراف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف: لأن علم العلة أشرف من علم المعلول[1] " ، فالفلسفة الأولى أو المتافزيقا كما سماها تلميذ أرسطو " اندرونيقوس الرودسي " في القرن الأول قبل الميلاد عندما صنف مؤلفات أرسطو فجاءت تلك النصوص بالتصنيف بعد البحوث الطبيعية ، وفيما بعد أخذ الفلاسفة في العصور الوسطى هذا العنوان ليشيروا به إلى الموضوعات التي ناقشها أرسطو في الميتافيزيقا بوصفها موضوعات تأتى بعد الموجودات الطبيعية ولا تعرف بالإدراك الحسي لأنها تناقش بالعقل المجرد الخالي من الشوائب الحسية لأن الحواس مخادعة وواهمة إذ لا تصل بنا إلى الحقيقة التام والكلية عكس النظر العقلي الذي هو السبيل إلى عالم المثل[i] وقد اختص أرسطو علم ما وراء الطبعة بدراسة الوجود بما هو الموجود والبحت عن العلل الأولى لهدا الوجود .
ويطلق أرسطو أيضا على هذه الفلسفة اسم الحكمة أو العلم الإلهي ،لأنها تبحث في الموجود الأولى أو العلة الأولى ،وتبحث في أكثر الموضوعات الألوهية وهى ذات الله وصفاته وأفعاله باعتبار أنه- المحرك الأول  - هو المبدأ الأول للوجود ، ويذهب أرسطو كذلك إلى أن الفلسفة الأولى التي تبحث في الوجود كما هو موجود، أي أنها تبحث في الوجود من ناحية المبادئ الأولية الكلية التي تعم جميع الموجودات والتي تجعل الوجود موجودا[2] فاستطرد أرسطو بعد دلك إلى إبراز العلل و العناصر المكونة لهدا الوجود من خلال ربط ما توصل إليه الأولون من الفلاسفة ومحاولة الجمع بينها ، فالعناصر المكونة للوجود حسب أرسطو هي الماء ، التراب النار ، الهواء . [ii] وتبقى العلة الأولى للوجود هي المحرك الأول أو الإله ، وقد خص أرسطو كل الأشياء بمعادلة أساسية ، والتي تنطبق على كل الموجودات بما فيها المحرك الأول وهي مسألة العلل فكل الموجودات و الأشياء خاضعة لهده العلل وهي أربع:  العلة الصورية و العلة الفاعلة و العلة المادية و العلة الغائية فمثلا الكرسي لا بد له من تلك العلل :

-       العلة الصورية : فكرة الكرسي
-       العلة المادية : الخشب
-       العلة الفاعلة: النجار أو الصانع
-       العلة الغائية : الجلوس

ويبقى النظر الأساسي للفلسفة الأولى هو النظر في العلة الأولى لهدا الوجود من اجل الوصول إلى الحقيقة و بلوغ الحكمة وقد تناول أرسطو في هدا المبحث : على أن الإله هو  الموجود الواحد الأول غير المتغير ، وحضوره هو الذي يجعل العالم يقوم بعملية النمو الكونية كلها ، وهو  المصدر الأعلى الذي يجعل سلسة ( الصور ) الكامنة في المادة في العالم تخرج إلى التحقق الفعلي ، والإله يقف خارج مجمل عمليات العالم التي يؤدي حضوره إلى استثارتها لتقوم الطبيعة ، وهو ليس مكونا هو نفسه من مادة وصورة شأن ما ينتج في العالم ، إنما هو صورة خالصة مفردة وفعل خالص ، وليس وراءه مراحل مرّ بها تدريجيا حتى وصل إلى ما هو عليه ، فإنه موجود غير مادي على وجه الإطلاق ، وهو ضرورة لازمة لوجود العالم ، ولكنه يعلو على العالم ويقف خارجه [3] وعلى أن المحرك الأول لا تنطبق عليه تلك العلل لأن وجوده هو وجود بالقوة ولقد حدد ارسطوا للمحرك الأول صفات وهي :
الصفة الأولى :أنه لا يتحرك فهو ثابت ويحرك فقط ومعني هذا أن هذا المحرك يتحرك بذاته لأنه لو تحركبغيره فمعني هذا أنه يوجد شيء آخر يحركه فهو لا يمكن أن يكون محركا بغيره بل محركا بذاته .
الصفة الثانية:أنه أبدي لا ينقسم لأنه إذا انقسم تعدد ولو تعدد لأصبح له أجزاء وعندها لا نستطيع أن نعرف الحركة من أي جزء ، وهو لا ينقسم لأنه خالي من المادة
الصفة الثالثة : انه لا يعلم بجزئيات الموجودات مثل : أفعال الإنسان وإنما هو يعلم فقط الكليات . فالفلسفة في النظر الأرسطي قد تناولت النظر في علم الإلهيات كما سماه ابن سينا لأنها تهدف إلى  البحت والنظر في المحرك الأول للوجود ، ولكن السؤال الذي يطرح هنا  هل ستستمر هده النظرة بواسطة الفلسفة الأولى عبر التسلسل الفلسفي في الزمان ؟ أم أن موضوعات أشرف الصنع ستتغير ؟

المراجع

o        الكتب :
1.       مدخل إلى متافزيقا إمام عبد الفتاح
2.       رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
3.       فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
o        المقالات
1.       ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
2.       ولاء رشدى فوزى /الحوار المتمدن-العدد: 3119 - 2010 / 9 / 8 - 08:43 -http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=22844


[1]  رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
[2]ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
[3] فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
 النظر الأفلطوني للحقيقة ودلك من خلال الفلسفة التي توصلنا الى عالم المثل الدي هو عالم الحقيقة الكاملة [i]
[ii] وهي العلل التي توصل إليها الفلاسفة قبل سقراط لتحديد أصل الوجود فكما هو معلوم حدد طاليس أصل الوجود بالماء و بارمندس بالهواء وهرقلطس بالنار ....،