الاثنين، 26 ديسمبر 2016
الحداثة المعرفية: مركزية العقل الإنساني المكتبة العامة
تفهم الحداثة بالمعني الأوسع علي أنها تنوير العقل. فالعقل هنا يحتل سلطة مركزية, لا في الفكر فقط, وإنما في تأسيس نظم المجتمع.
ولذلك يمكن القول ببساطة أن مشروع الحداثة هو مشروع عقلي, لا يستقيم نظام, ولا ينتظم أداء أو ممارسة, إلا وكان العقل هو الأداة المحركة. وفضلا عن ذلك فقد قام العقل بدور في نقل المجتمع من حالة الجمود والاستكانة, حيث التقاليد الجامدة تعمي البصائر وتطمس العقول, إلي حالة الانطلاق نحو الآفاق الرحبة لعقل يبدع ويتأمل وينتج أفكارا تسهم في تأسيس تعاقد اجتماعي يقوم علي إرادة الإنسان الجمعية, وعلي مركزية الفرد الحر الطليق القادر علي الفعل المختلف, وعلي بلورة ثقافة للحرية والمساواة والمواطنة, وعلي تكوين نسيج للحياة مغزول حول العقل.
ولم تكن هناك عملية أصعب من بناء هذا النسيج الحياتي. فقد استغرق الأمر أكثر من ثلاثة قرون لكي يضيء نور العقل ليهزم الخرافة واستلاب القدرة الحقيقة علي الفعل. ولقد كانت نقطة الانطلاق إلي ذلك جملة مفيدة; أصبحت تعبر رمزيا عن حضور العقل: أنا أفكر فأنا أذن موجودcogitoergosum. لقد نسج ديكارت(1596-1650) حول هذه الجملة منهجا جديدا, لا للفكر فقط بل للحياة أيضا. فلم يعد العقل في المنهج الديكارتي أداه للبحث المطلق عن الحقيقة فقط, بل أصبح أيضا أداة للوجود; فالوجود يكون منقوصا إذا لم يرتبط بالقدرة علي التفكير. يبدو العقل هنا وكأنه القادر علي بعث الوعي الوجودي من مكمنه, فيصبح للوجود معني, طالما هناك ذات مفكرة تحرس هذا الوعي الوجودي وتزيده انبعاثا. وإذ يبزغ العقل الديكارتي في فرنسا, يبزغ عقل من نوع آخر في انجلترا. هنا ينحو العقل في بلد الثورة الصناعية إلي فهم الواقع علي قواعد علمية وتجريبية. فيدعونا فرانسيس بيكون(1561-1626) بقوة إلي أن نطرح خلف ظهورنا الأوهام التي تعوق الفكر وتعطله( والتي أطلق عليها أوهام الجنس والكهف والسوق والمسرح) وتحوله إلي فكر بعيد عن موضوعية العقل وحياده. فإذا كان المجتمع يتحول إلي مجتمع جديد, فإنه بحاجة إلي’ أورجانون جديد’, إلي قواعد جديدة للتفكير تسمو بالعقل وتجعله قادرا علي الترفع عن التعلق بالجنس أو المكان أو الأقوال السائرة الدائرة غير الموثوق بصحتها أو الأقوال المأثورة التي لا تقبل الجدل. وأكاد أفهم هذا المنحي الفكري الجديد لا علي أنه دعوة إلي تدقيق التجريب والبحث فحسب, بل أنه دعوة إلي عمومية العقل ومن ثم عمومية القيم الإنسانية أيضا. فالعقل الباحث عن الحقيقة لا يحده مكان ولا زمان, ولا أطر ثقافية خاصة, بل هو عقل لا يحده إلا قواعد المنطق وقوانين التجربة.
وإذ ينتشر المنهج الديكارتي ومبادئ الأورجانون الجديد في أنحاء المجتمعات الغربية, التي تصبوا إلي الفكاك من ربقة التقليد والتقديس والجمود, فإنه ينتج نماذج فكرية هنا وهناك تعمل في النهاية علي أن يصبح العقل سند الحداثة الأول الذي يضعها علي جادة الحق والصواب. وقد كان كانط(1724-1804) من أهم الفلاسفة الذين ساهموا في هذا المسعي الفكري النبيل. فالعقل قادر علي بناء مفاهيم خالصة يمكن من خلالها أن ينظم الواقع الحسي وأن يخضعه للتجربة; إنه المنظم الأول للحياة المادية المحسوسة ولخبرات التجربة. وهو إذ يعارك الحياة يتحول إلي عقل عملي ينتج القيم الأخلاقية والأخلاق المهنية, وإذ يعارك الذات الفردية فإنه ينتج أحكاما جمالية تستقيم ومنطق العقل والأخلاق. يتحول العقل عبر تجلياته المختلفة العقل الخالص والعقل العملي وملكات الحكم الجمالي إلي عقل حاكم منظم للحياة والخبرة.
وإذا كان كانط قد حول العقل إلي سلطة حاكمة تتدرج عبر سلم, يبدأ من المنطلقات الكلية وينتهي بالأحكام الجمالية مرورا بالمنطلقات العملية, فإن هيجل قد منح العقل سلطة النفي. فالفكرة تعاند الفكرة, وتدخل في تناقض معها, بحثا عن تآلف فكري جديد, في سعي دائم نحو الكمال المطلق. دعوة جديدة لأن يشمر العقل عن ساعديه, فلا يركن إلي الخمول والكسل, بل يجادل ويرفض وينتقد ويشك ويعاند, لا من أجل الجدل والرفض والنقد والشك والعناد, بل من أجل السعي نحو غاية مطلقة, نحو قيم عليا, نحو الروح الكلية أو قل العقل الكلي الذي يلم وشائج المجتمع ويصبوا به إلي الكمال. وفضلا عن هذا فإن النقد( النقض) يولد قدرة انعكاسية للعقل, تجعله يمتلك المكنة لكي يتأمل ويراجع, ولا يركن أبدا إلي صيغ جاهزة وأطر مستكينة, ولا شك أن هذا التأمل الانعكاسي يصب في النهاية في العملية الكبري للعقل: أعني البحث عن الكمال والاكتمال.
ومن نافلة القول أن نؤكد علي أن الارتفاع بالعقل والعقلانية في الفكر الحداثي الأوروبي قد ساهم مساهمة كبيرة في تحويل المجتمع لينفك عن ربقة الجمود والتخلف إلي الأفق الرحب للحداثة. فمن الناحية السياسية كان هذا الاتجاه إلي مركزية العقل دافعا إلي بناء النظريات السياسية للعقد الاجتماعي. إن فكرة التعاقد الاجتماعي علي مختلف تجلياتها عند توماس هوبز(16791588) وجون لوك(17041632) وجان جاك روسو(17781712) ما هي إلا دعوة لكي يتأسس النظام السياسي علي سلطة مستقلة وحيادية; الدولة المهيمنة أو السلطة المطلقة( هوبز) أو القانون( لوك) أو الإرادة العامة( روسو). وأكاد أفهم هذه السلطة السياسية المستقلة علي أنها سلطة تناظر سلطة العقل المستقل الحيادي. وأحسب أن هذا الفكر هو الذي قاد إلي الثورة الفرنسية التي كانت رمزا للتحرر السياسي في أوروبا, بل وفي العالم. ومن الناحية الاقتصادية فقد ساهمت الفلسفة العقلية في بلورة الاسهامات السوسيولوجية التي أعلت من شأن التفكير العقلاني والرشد, واعتبرت الفعل الرشيد القائم علي حساب الوسائل والغايات نموذجا مثاليا للفعل. قد نسترجع هنا اسهامات ماكس فيبر عن العقلانية ودورها في بناء المشروع الرأسمالي, وعن الفعل الرشيد مقارنة بالأفعال التقليدية وغير الرشيدة, وعن السلطة القانونية مقارنة بالسلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية. كما قد نسترجع أراء باريتو(19231848) حول الفعل المنطقي والفعل غير المنطقي. وهي أراء استدمجت في علم الاجتماع المعاصر وأصبحت جزءا لا يتجزأ من المشروع الحداثي الرأسمالي.
ورغم أن العقل والعقلانية قد شكلا معا أساسا قويا لبناء المشروع الحداثي الأوروبي, الذي أصبح المشروع الأكثر سيطرة في عالمنا المعاصر, نقول رغم هذا, إلا أنه ينبغي علينا أن نستدعي ونحن نختتم هذه المقالة ما آل إليه المشروع الحداثي الغربي من مشكلات نجمت عن طموحه المادي غير الملجم, ونزعته الاستهلاكية الفجة, وميله إلي التمركز حول العقل الأوروبي; الأمر الذي أفرز انتقادات عديدة للنزعة العقلانية المفرطة ربما نعود إلي الكتابة عنها فيما بعد.
تعرّف على معاني الألوان ودورها في عملية التلاعب بعواطف جمهور السينما – إعداد: أحمد صهريج
المكتبة العامة
قد يستهوي أحد صانعي الأفلام اللون الأحمر، بينما يفضل آخر أن ينقر على مشاعر الجمهور ليثير رد فعل بدائي لما يُعرض أمامه من صور في المشاهد.
تقوم السينما بإثارة المشاعر بأساليب قد لا تدركها، وإنشاء كل لقطة على حدى في الفيلم هو أمر غاية في الصعوبة، كالأفكار التي تحتويها هذه اللقطات. سواء كانت خيار جمالي يصنع بالألوان أو الأثاث الذي يملأ الكادر، من خلالها تستطيع الألوان التلاعب بعواطف المشاهدين بدرجات مختلفة من الوعي واللاوعي.
من البديهي أن تحمل الألوان الكثير من المعاني المختلفة، وتستخدم بعدة طرق أيضاً، ولا يوجد طريقة خاطئة وأخرى صحيحة لاستخدام اللون الأزرق، الأخضر، البرتقالي…الخ. لكن استخدام أسلوب فريد وجذاب لإثارة مشاعر المشاهدين من خلال توظيف الألوان هو التحدي الحقيقي.
فلنطلع على الرموز التي نحملها بعض الألوان، والمشاعر التي تستثيرها:
الأحمر:
تتفاوت المعاني التي يحملها اللون الأحمر، لكن لا يمكن الانكار أنه أحد أقوى الألوان المستخدمة في الشاشة. من جهة، يستخدم هذا اللون في إظهار العدوان، العنف، والغضب.
فكما نرى في الصورة بالأعلى، يغوص فيلم ”إكس ماشينا“ لـ”أليكس غارلاند“ في عالم الشر، اللون الأحمر هو الطاغي على المشهد، وينتقل المشاهد إلى مرحلة جديدة ويقدم إشارة منبهاً الجمهور أن حدثاً هاماً على وشك أن يحصل.
ويعتبر ”ستانلي كوبريك“ خير من أتقن هذا الأسلوب بفضل ولعه بالألوان، وأوضح مثال على الاستخدام العدواني للون الأحمر كان في فيلم ”2001: A Space Odyssey“، عندما يحاول ”دايف“ تعطيل الحاسوب ”هال“ من داخل وحدة المعالجة، فيُصور وضع الغرفة المملة على أنه جهنمي وسينتهي بكارثة، وهذا الشعور المروع والمحتوم بالموت الوشيك سيبدو مفقوداً لولا استخدام ”كوبريك“ للون الأحمر. ومن جهة أخرى، يمكن أن يمثل هذا اللون مشاعر الحب الشغف.
البرتقالي:
على الرغم من أنه يرتبط بالدفء، الطاقة والمرح، يمكن للبرتقالي أن يمنح شعوراً بالحذير والتنبيه، ويرتبط هذا اللون في الديانة الكونفوشيوسية بالتحوّل. والصورة الأعلى المقتطفة من فيلم ”Beasts of No Nation“ تظهر البطل بشكل مختلف تماماً، ويكاد يكون كائن غريب يمر عبر الخنادق البرتقالية المظلمة.
والجو العام لفيلم ”Mad Max: Fury Road“ يطغى عليه صبغة برتقالية تخدم إسهاب الشعور الإيحائي، الأجرد، الميؤوس منه واللانهائي المشابه لبيئة المريخ، ينقل المشاهد إلى عالم آخر من الفوضى المتتالية.
الأصفر:
يحاكي اللون الأصفر مشاعر السعادة والاسترخاء، كما أنه يعبر عن الغيرة والخداع. ويشتهر ”ويس أندرسون“ باستخدامه لهذا اللون، وصممت هذه اللقطة من فيلم ”Hotel Chevalier“ لتعكس الهدوء والسلام التي تكافح الشخصية لإظهارهما.
يطغى اللون الأصفر على الغرفة في هذا المشهد الذي تستخف فيه شخصية ”إيما ستون“ من الشخصية التي يمثلها ”ميشيل كيتون“ في فيلم Birdman، فكل غرض من المشهد تقريبا يحمل اللون الاصفر، من شعر الممثلة الى الكرسي الذي يقبع بجانبها. هذا اللون الاصفر الزائد ينقل الاحساس بالخطر والحكم على الغير وتأكيد الذات.
بحلول نهاية هذا الصراع العاطفي، يشعر المشاهد بأن مشاعر ”مايكل كيتون“ قد تمزقت الى اشلاء، وتعكس الغرفة احساسه بالحرج والخجل.
الاصفر هو لون مميز وطاغ بحد ذاته، فتكوين مشهد كامل من هذا اللون يكون دائماً بيانا صريحاً من المخرج، وفك رموز هذا البيان يرجع للمشاهد.
الأخضر:
في فيلم ”The Machinist“ تنتشر الدنيوية والتكرار اليومي الممل مع الألوان الكئيبة والغير حيوية. وانتشار اللون الأخضر يعمل على توطيد الرتابة والملل، كما يمكن ملاحظته في فيلم ”The Matrix“ أيضاً.
ولهذا اللون أيضاً القدرة على بثّ الحياة لدى الشخصية والجمهور، والدرجة الفاتحة منه تعطي احساساً بالبداية الجديدة والنجاة. ففي نهاية فيلم ”Gravity“ تخرج ”ساندرا بولوك“ من الماء ويظهر أمامها كادر ينتشر فيه اللون العشبي الفاتح، ومحيط مفعم بالأوكسيجين، وهذا يرمز حتماً لبداية جديدة.
الأزرق:
الولاء، الطاعة والتعجب الطفولي، كلها تتألق في فيلم الخيال العلمي ”Midnight Special“. الشخصية الرئيسية فريدة من نوعها، ومكسوة باللون الأزرق من الرأس إلى أخمص القدم، حيث يتناغم هذا اللون مع الأفكار الإيجابية، ويجسد البراءة والنقاء.
وفي فيلم ”There Will Be Blood“، يكتشف البطل في هذا المشهد أنه يقف أمام واقع صعب، محاصر بالوحدة، ومدرك تماماً أنه وحيد فعلياً.
وفي فيلم ”Only God Forgives“، يزداد انفصال البطل عن الواقع مع تتالي الأحداث، وينفصل هذا المشهد الموضح في الصورة عن بقية المشاهد التي طغى عليها اللون الأحمر، ويستخدم ”رايان جوسلينغ“ اللون الأزرق الفاتح ليظهر الشخصية منعزلة عن الواقع. إن تخصيص هذا اللون الغير مألوف بالنسبة لباقي مشاهد الفيلم هو طريقة مثالية لإظهار صفات الشخصية الانفصالية.
الأرجواني:
وبالحديث عن ”رايان جوسلينغ“، يتميز عمله الأول ”Lost River“ بأنه أحد أكثر مداخل الشخصيات فتنة وإثارة. حيث تتجلى هذه الفتنة بالخلفية الأرجوانية. يمنح هذا اللون انطباعاً غامضاً ويترافق غالباً مع الغموض والترف، ومعظم هذه السمات مطبقة بأساليب مختلفة في هذا الفيلم.
الوردي:
يحمل اللون الوردي لمتجر المعجنات في فيلم ”The Grand Budapest Hotel“ الكثير من الدلالات، فالرومانسية الطفولية بين الشخصيتين واضحة، والأزياء النموذجية داعمة ومثمرة، والمحيط المليء بالصناديق الوردية، وازدهار الحب العذري هو العنوان العريض للمشهد.
وفي فيلم ”It Follows“، يفتتح الفيلم بالشخصية الرئيسية التي ترتدي زي وردي، والغرفة مليئة بهذا اللون. يوحي هذا اللون بالبراءة والطهارة، وبعد تتالي الأحداث المخيفة، تختفي البراءة عند الشخصية، ويختفي اللون من اللباس والإضاءة في آن واحد.
باختصار:
البنفسجي، القرمزي، الأحمر أو الوردي، كل هذه الألوان قد تحمل معاني الحب، الرومانسية والشغف، وقد تحمل سمات ومعاني أخرى، فالإجماع والفهم العام يميز دلالاتها ومعانيها.
الخيار الذي تتخذه كصانع أفلام بأن تستخدم أو لا تستخدم الألوان بعملك هو أمر يعود إليك، فلا يوجد طريقة صحيحة وأخرى خاطئة لإظهار الحزن، السعادة أو الخوف.
مهما يكن، هناك درجات معينة من اللاوعي للمشاعر الخام التي يمكن استثارتها لدى جمهورك إن أحسنت اختيار الألوان وكأي خيار في الإنتاج، كن متأكداً أنه يخدم العمل ويستقطب الجمهور.
السبت، 24 ديسمبر 2016
منظومة التعقيد ضد منظومة التبسيط ـ جواد الشوني
أنفاس نت
تـــمـــهــــيـــــد
لا وجود ليقين تام بخصوص المعرفة العلمية، كل معرفة تتخللها ثقوب سوداء لا يمكن ردمها، في الليل والضباب علينا أن نراهن، وأن نعي شروط وإمكانيات وحدود المعرفة، وترابطها مهما تضخمت وتعمقت في التخصص، لذلك يرفع فكر التعقيد التحدي بربط المجزأ ووصل المفصل وتحاور التناقض والتعايش معه. لأن معرفتنا بذاتنا والعالم أضحت مشوشة بعدما انهارت أسس التفكير في الكون بانهيار أسس الكون، فنحن لا ندرك العالم بل فقط صورته هذا ما وصل إليه التطور العلمي، فإذا كانت المعرفة العلمية كثيرة ومعقدة في عمقها وتخصصية فإنها جاهلة. لماذا؟ لأنها منفصلة، نحن نعرف ولكن هل نعرف معنى المعرفة؟ نفهم ولكن هل نعي معنى الفهم ووعي الوعي؟ مبرهنة غودل تقول "لا يمكن لنسق مركب مصورن أن يجد في ذاته برهان على صحته" في الواقع علينا الانطلاق من هذا المعطى السالب لصياغة تصور أو خطاطة معرفية نفهم من خلالها العالم.
تبدو الحقيقة بديهية لكن بمجرد ما نحاول أن نسألها تنفجر وتتفرع في اتجاهات ومناحي عدة منها ما يؤدي إلى اليقين والصدق ومنها ما يؤدي إلى الضلال والتيه والدوغمائية والوهم. من الآن فصاعدا علينا البحث عن إمكانية الحقيقة، وبالتالي الأمر مناط هنا بمعرفة المعرفة كبراديغم معرفي جديد يعي الشروط الثقافية والنفسية والاجتماعية والانتربولوجية للمعرفة، ويعي بأن الخطأ والوهم يتقدمان جنبا إلى جنب مع المعرفة.
إن فصل المعرفة وتجزيئها لا يؤثران فقط في إمكانيات المعرفة، بل يتجاوز ذلك إلى نقص في فهم ذاتنا ومحيطنا البيئي. كان حلم منظومة التبسيط-تلك المنظومة التي تعود جذورها إلى ديكارت- بناء علم إنساني يتحكم ويسيطر على الطبيعة ويجعلها في خدمة الإنسان وتلبية لمصالحه ونزواته. هذا الحلم أصبح كابوسا بعدما تم اكتشاف ثقوب سوداء في العالم قابلتها ثقوب سوداء في العلم.
لا نجد بدا إذن من الاستعانة بالابستومولوجيا المعقدة، لأنها في نظرنا هي من باستطاعتها تفهم تعقيد العالم، ببناء تعقيد على مستوى الفكر، فالرهان الذي أخذه ادغار موران على عاتقه هو"قلب أسس الكون بقلب أسس التفكير في الكون"، بهذه المقولة يمكننا تلخيص مهمة الابستمولوجية المركبة، لكن لماذا الابستمولوجية المركبة؟ لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من "العبارات الأساسية" أو "عبارات البرتوكول" كأساس للمعرفة يمكننا الانطلاق من كل مكان ومن اللامكان، من الواحد والمتعدد، من بنية شبكتها ليست تراتبية ولا هي منسقة ومنظمة، فالمنهج ليس خطا مرسوما مسبقا في فكر التعقيد بل مجرد دليل يمكن من لمس الطريق، وإعادة تنظيم المعرفة دون ادعاء امتلاك المعرفة، ويمكن أن ننعت ابستومولوجيا التعقيد بأنها ابستومولوجيا فوقية، لأنها تتجاوز الابستومولوجيا التقليدية وتتضمنها في نفس الوقت.
لا وجود ليقين تام بخصوص المعرفة العلمية، كل معرفة تتخللها ثقوب سوداء لا يمكن ردمها، في الليل والضباب علينا أن نراهن، وأن نعي شروط وإمكانيات وحدود المعرفة، وترابطها مهما تضخمت وتعمقت في التخصص، لذلك يرفع فكر التعقيد التحدي بربط المجزأ ووصل المفصل وتحاور التناقض والتعايش معه. لأن معرفتنا بذاتنا والعالم أضحت مشوشة بعدما انهارت أسس التفكير في الكون بانهيار أسس الكون، فنحن لا ندرك العالم بل فقط صورته هذا ما وصل إليه التطور العلمي، فإذا كانت المعرفة العلمية كثيرة ومعقدة في عمقها وتخصصية فإنها جاهلة. لماذا؟ لأنها منفصلة، نحن نعرف ولكن هل نعرف معنى المعرفة؟ نفهم ولكن هل نعي معنى الفهم ووعي الوعي؟ مبرهنة غودل تقول "لا يمكن لنسق مركب مصورن أن يجد في ذاته برهان على صحته" في الواقع علينا الانطلاق من هذا المعطى السالب لصياغة تصور أو خطاطة معرفية نفهم من خلالها العالم.
تبدو الحقيقة بديهية لكن بمجرد ما نحاول أن نسألها تنفجر وتتفرع في اتجاهات ومناحي عدة منها ما يؤدي إلى اليقين والصدق ومنها ما يؤدي إلى الضلال والتيه والدوغمائية والوهم. من الآن فصاعدا علينا البحث عن إمكانية الحقيقة، وبالتالي الأمر مناط هنا بمعرفة المعرفة كبراديغم معرفي جديد يعي الشروط الثقافية والنفسية والاجتماعية والانتربولوجية للمعرفة، ويعي بأن الخطأ والوهم يتقدمان جنبا إلى جنب مع المعرفة.
إن فصل المعرفة وتجزيئها لا يؤثران فقط في إمكانيات المعرفة، بل يتجاوز ذلك إلى نقص في فهم ذاتنا ومحيطنا البيئي. كان حلم منظومة التبسيط-تلك المنظومة التي تعود جذورها إلى ديكارت- بناء علم إنساني يتحكم ويسيطر على الطبيعة ويجعلها في خدمة الإنسان وتلبية لمصالحه ونزواته. هذا الحلم أصبح كابوسا بعدما تم اكتشاف ثقوب سوداء في العالم قابلتها ثقوب سوداء في العلم.
لا نجد بدا إذن من الاستعانة بالابستومولوجيا المعقدة، لأنها في نظرنا هي من باستطاعتها تفهم تعقيد العالم، ببناء تعقيد على مستوى الفكر، فالرهان الذي أخذه ادغار موران على عاتقه هو"قلب أسس الكون بقلب أسس التفكير في الكون"، بهذه المقولة يمكننا تلخيص مهمة الابستمولوجية المركبة، لكن لماذا الابستمولوجية المركبة؟ لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من "العبارات الأساسية" أو "عبارات البرتوكول" كأساس للمعرفة يمكننا الانطلاق من كل مكان ومن اللامكان، من الواحد والمتعدد، من بنية شبكتها ليست تراتبية ولا هي منسقة ومنظمة، فالمنهج ليس خطا مرسوما مسبقا في فكر التعقيد بل مجرد دليل يمكن من لمس الطريق، وإعادة تنظيم المعرفة دون ادعاء امتلاك المعرفة، ويمكن أن ننعت ابستومولوجيا التعقيد بأنها ابستومولوجيا فوقية، لأنها تتجاوز الابستومولوجيا التقليدية وتتضمنها في نفس الوقت.
فبراديغم التعقيد براديغم معرفي جديد يقيم فهما مغايرا للعالم والإنسان في وحدته وتفرده وترابطيته وتصاله في نظامه وتشتته وتبعثره، ويحاول أن يعي محددات المعرفة والتصور، ويضع المعرفة في العقدة الإشكالية للحقيقة، بالتالي يمكن اعتبارها تصورا علميا للعالم يقدم نظرة عقلانية فلسفية تمكن من يضطلع عليها من فهم أبعاد جديدة لذاته ولمجتمعه ويطمح إلى التطور وإقامة التغيير ذاتيا أولا ثم موضوعيا، ولكن كيف يمكن تعميق الفكر المركب في مجتمع طبع عليه الأفكار البسيطة والسهلة؟ ذلك هو التحدي الذي يرفعه المثقف العضوي الذي يرتبط بإشكالات واقعه الإجتماعي وقلقه النفسي والوجودي.
كما أن الفكر المركب ينفتح على علوم الدماغ؛ والدماغ آلة كيمائية بيولوجية، تتضمن عالما ميكروسكوبيا بداخلها، فالعقل الإنساني يتشكل من ملايين العصبونات والمشابك العصبية التي تقوم بوظائف كثيرة ومتنوعة ومتناقضة، فالمعلومات تنقل عبر مسالك عصبية. من خلية عصبية (النورون) إلى أخرى فتقوم هاته الأخيرة بإحتسابها وترجمتها وتنظيمها، والبحث عن صورة ملائمة لها عن طريق الرجوع إلى الذاكرة والمعطيات المخزنة وعن المماثلة والمحاكاة بين بنيات الدماغ وبنيات الواقع، فتتحول عن طريق الوعي والعقل والذهن إلى تصور يوضع في لغة وثقافة. فهي عملية معقدة مغلوقة ومفتوحة في نفس الوقت.
المبحث الأول : البراديغم الجديد
يمثل فكر التعقيد براديغما جديدا تولد عن حدود العلوم المعاصرة و تطورها معا. ولا يتخلى عن مبادئ العلم التقليدي، بل يدمجها في خطاطة أوسع وأغنى. فالتعقيد هو التحدي الأعظم للفكر المعاصر، لأنه يستلزم إصلاحا لنمط تفكيرنا. ويقدم انتقادا جذريا للفكر المبسط أو الفكر التبسيطي، وتعود جذور هذا الفكر(التبسيط) حسب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران إلى رونييه ديكارت «إننا نحيا تحت سلطان مبادئ الفصل والاختزال والتجريد التي تشكل في مجموعها ما أسميه ب«منظومة التبسيط».صاغ ديكارت هذه المنظومة المسيطرة على الغرب عن طريق الفصل بين الذات المفكرة((ego-cogitans والشئ الممدود (res-extensa)أي الفصل بين السلطة و العلم، وكذا عن طريق وضع الأفكار "الواضحة والمميزة" كمبدأ للحقيقة، أي الفكر الفاصل نفسه. ولا شك أن هذه المنظومة التي تراقب مغامرة الفكر الغربي منذ القرن السابع عشر سمحت بحدوث تقدم كبير على صعيد المعرفة العلمية والفكر الفلسفي، ولم تبدأ مخلفاتها الضارة الأخيرة في الانكشاف إلا في القرن العشرين»[1] .
ففكر التبسيط متغلغل في لاوعي الفكر الغربي، لذا يتوجب على فكر التعقيد المراهنة والتحدي بل ورفع التحدي لكي نتمكن من أن نلج مملكة الفكر المعقد ونترك النظرة التبسيطية التي تضلل معرفتها وخصوصا معرفتنا بمصادر معرفتنا.
تاريخ فكرة التعقيد
أدرك العديد من كبار فلاسفة الغرب(هيراقليطس، كانط، هيغل، نيتشه، هوسرل) أهمية فكرة التعقيد وحدود "العقل الخالص" ولا شك في أن باسكال هو الذي أدرك بشكل أفضل التناقضات المنطقية المؤسسة للواقع الفيزيائي والإنساني، واستحالة اختزال هذا العالم إلى مجموعة من المكونات البسيطة. ويعد هؤلاء الرواد هم من أعطوا الشرارة الأولى لفكرة التعقيد. بالإضافة إلى نظرية الأنساق الربانية(إذ حدث نقاش فكري حاد في نهاية الأربعينات بالولايات المتحدة الأمريكية المتحدة التي أبدعت الربانية (نور برت فينار)، ونظرية الأنساق، ونظرية الإعلام (كلود شانون Claude Shannon). وبالموازاة تم ابتكار الحاسوب والإعلاميات، والأجهزة الأولى للتحكم الالكتروني. بالإضافة إلى ندوات ماسيMacy1 التي ناقشت الأنساق والربانية و علوم العقل...[2]
أزمة الأسس
كلما ارتفعت معارفنا، ارتفعت بالموازاة معه أزمات معرفية. بدأت هذه الأزمة مع الفلسفة وذلك من قبل جدلية تحيل البحث عن أساس يقيني للمعرفة كان هذا الحدث في القرن التاسع عشر، وهو دخول فكرة الأساس في أزمة، فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية بلوغ "الشئ في ذاته"، قام نيتشه بالإعلان عن قدرية النزعة العدمية، أما في القرن العشرين، أعاد هايدغر النظر في أساس الأسس وفي طبيعة الموجود، والذي كرس إشكالاته"الأساس من دون أساس". لم تعد الفلسفة المعاصرة تقوم ببناء أنساق لنفسها على أسس متينة، بل التفكيك المعمم، والتساؤل الذي ينسبن كل معرفة.
أما العلم فلم يتوقف عن التأكيد على أنه وجد الأساس التجريبي والمنطقي اليقيني لكل حقيقة. في ظل هذه الشروط شرعت جماعة من الفلاسفة والعلماء الذين أخذوا على عاتقهم القضاء على ثرثرة الميتافيزيقا وعشوائيتها، من خلال تحويل الفلسفة إلى علم عبر تأسيس قضاياها على عبارات متحققة ومتسقة. هنا تجد رغبة "الوضعية المنطقية" بالموازاة مع ذلك قام فيتغنشتاين وهيلبرت بمشروع خاص على مستوى اللغة وعلى مستوى تنسيق النظريات العلمية.
إلا أن تطهير الفكر عبر إقصاء الحثالات والتلوث والبذاءات بدا تنظيفا يجرف معه الأخضر واليابس، وانهار حلم إيجاد أسس مطلقة مما أدى إلى غياب هاته الأسس، دخل إلى هذا الصراع حول أزمة الأسس "كارل بوبر" والذي برهن على أن "التحقق" لا يكفي لضمان حقيقة النظرية العلمية، وأعلن بوبر خاصية علمية تكمن في "القابلية للخطأ" وبالتالي إلى عدم كفاية الاستقراء كبرهان منطقي، غير أن المنطق الاستنباطي حافظ حتى من منظور بوبر على قيمة البرهان الحاسم، فشكل أساسا متينا للحقيقة، في حين كان يفترض أن هذه القاعدة المنطقية ذاتها غير كافية. بلغت تطورات الميكروفزياء، من ناحية، نوعا من الواقع أخفق أمامه مبدأ عدم التناقض وأثبتت مبرهنة غودل (Gödel)، من ناحية أخرى عدم القابلية للبث المنطقي في أنساق مصورنة مركبة. لذلك لا يكفي التحقق التجريبي والمنطقي لإنشاء أساس يقيني للمعرفة؛ لذلك وجدت هذه الأخيرة ذاتها محكومة بتضمن فجوة في قلبها لا تغلق. في اللحظة نفسها سقط الواقع ذاته في أزمة... بذلك تنظم أزمة الأسس المعرفة العلمية إلى الأسس المعرفة الفلسفية، لقد صار الوجود سكونا أو فجوة، وبدا المنطق متصدعا؛ لذا يتساءل العقل ويتخوف، فاللايقين يتلبد وراء كل اليقينيات الجهوية، لا توجد قاعدة اليقين ولا وجود لحقيقة مؤسسة. بالتالي لا وجود لفكرة الأساس.
إعادة التنظيم الإبستمولوجي
سيكون للإبستومولوجيا المعقدة كفاءة أوسع من التقليدية، لكن من دون أن تتوفر على أساس وموقع امتيازي، وعلى قدرة المراقبة أحادية الجانب، ستكون أولا منفصلة على عدد من المشاكل المعرفية الجوهرية التي أثارتها سابقا ابستومولوجيا بشلار(التعقيد) وبياجي( بيولوجيا المعرفة، الترابط بين المنطق وعلم النفس، والذات المعرفية).
وستقترح، ثانيا، على نفسها فحص ليس أدوات المعرفة في ذاتها فقط، بل شروط إنتاج أدوات المعرفة(الشروط العصبية الدماغية، الشروط الاجتماعية الثقافية). وبالتالي تتوقف معرفة المعرفة مجددا على المعارف العلمية الكثيرة والمشتتة، غير أن صلاحية هذه المعارف الكثيرة والمشتتة تتوقف على معرفة المعرفة. وجدير بالذكر أن الابيسمتمولوجيا المعقدة ستحدث ثورة هوبلية، لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من"عبارات الأساسية" أو "عبارات البروتوكول"، يتصور «رويشرRescher « نسقا على شكل شبكة بنيتها ليست تراتبية، ويضيف ادغار موران فكرة ديناميكية التكرار الدائري، أي أن الابيستمولوجيا ليست مركز الحقيقة بل يجب أن تدور حول مشكل الحقيقة، وعبر هذا الدوران يأمل موران في إعادة تمفصل/إعادة تنظيم المعرفة، تكون هي نفسها ملازمة لجهد التفكير الأساسي، وبالتالي فمعرفة المعرفة هي ابستومولوجيا فوقية، لأنها تتجاوز أطر الابستومولوجيا التقليدية وتتظمنها في الوقت ذاته، ورغم اهتمامها بالمسائل العلمية فإنها تسائل المعارف الغير العلمية، فهي تتبنى وجهة النظر العقلانية، ولكن ترفض المعارف الغير العقلانية، أي أنها تحتفظ بإشكالية الحقيقة مفتوحة على الدوام، فكل معرفة تدعي الصدق، إلا أنها في طياتها تحمل الخطأ الوهم والجهل أيضا.
كما أن الابستومولوجيا المعقدة ابستومولوجيا شاملة لأنها لا تستطيع الإشراف على المعارف بل تندمج في مسار معرفي يحتاج إلى التفكير في ذاته والتعرف عليها وموضعتها وأشكلتها.
الــمبــحث الثاني:التعقيد ضــد التبسيط
ففي سياق قراءته للحقل الفلسفي والعلمي والإبستمولوجي (المعرفي) المعاصر، يقر إدغار موران بهيمنة منظومة التبسيط والاختزال إلى الوحدات الأولية لمختلف الحقول المعرفية كالذرة في الفيزياء، والخلية في علوم الحياة، والتركيب (Structure) في قواعد اللغة على أساس أن الوحدة غير قابلة للتفكيك، ووحدها القابلة للضبط والقياس، فقامت منظومة التبسيط بتنظيم الكون عن طريق اختزاله في كيانات وجواهر مغلقة وثابتة، عذرية وخالدة، لا تعرف التناقض والاختلال. وبذلك شكلت لاوعي الفكر الغربي، وحكمت نظرياته وخطاباته.
إن منظومة التبسيط باختيارها ذاك النظام، والعذرية، والثبات، والخلود، والأصل، والهوية، والاستمرارية، قامت بحرب تاريخية وتجاهل هائل لأسئلة لا يجاب عنها بصدد التحوّل، والفوضى، والتجدد، والخلق، والتعقد، والصدفة، والاختلال، واللانهائي، واللايقيني «فأكبر خطر شكلته منظومة التبسيط ولا زالت تشكله هي أنها تحاول فهم العالم-ذلك المجموع الهائل من المركبات الدينامية والتشيدية والمعقدة واللايقينية والصدفوية والمفتوحة والمتحولة، كما تقدمه لنا العلوم والابيستمولوجيات المعاصرة-بأدوات الابستمولوجيا التقليدية، إبستومولوجيا القرن التاسع عشر: إبستمولوجيا الاختزال والتبسيط والثبات والوضوح وحجب تعقد العالم. ذلك أن العالم هنا والآن، وبعد الاكتشافات الأساسية لفيزياء الكوانطا وفيزياء الأنظمة المختلة والفلسفات والابستمولوجيات والعلوم النسقية عموما، أصبح يتطلب أدوات وأطرا وفلسفات وعلوما جديدو لفهمه. وهي الغائبة كليا عن الابستمولوجيا التقليدية»[3].
من هنا يظهر لنا أن كبح تلك الأسئلة يُعقّد من فهم ومعرفة أدق للعالم والكون بعد الاكتشافات الفيزيائية الكوانتم الطاقة وللأنظمة المختلة والعلوم النسقية عموماً، التي تتطلب أدوات وأطراً ينظمها الفكر المركب القادر على تمثل الوجه الجديد لعالم دينامي، صدفوي، متنوع، ومتحول، ولانهائي. إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم الذي ارتكز فهمنا له على منجزات العلم الكلاسيكي.
يكمن التغيير المنشود في أدوات فهمنا للعالم التي تميزت بأنها مقطّعة ومفصولة في الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وعلم الاجتماع والآداب والإبستومولوجيا. لكن ما هو فكر التعقيد عند إدغار موران؟
يقول موران«ما هو التعقيد؟ من أول وهلة، نقول إن التعقيد هو نسيج(complexus: ما نسج ككل) من المكونات المتنافرة المجمعة بشكل يتعذر معه التفريق بينهما. إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدد. ثانيا، بالفعل إن التعقيد هو نسيج من الاحداث والافعال والتفاعلات والارتدادات والتحديدات والمصادفات التي تشكل عالمنا الظاهراتي. لكن في هذه الحالة يحمل التعقيد بشكل مقلق سمات الخليط وغير القابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين...»[4]
يرى موران في كتابه مدخل إلى الفكر المركب أن التعقيد ظاهرة كمية للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات، كما هو الحال في الخلية، والذرة، حيث تشتمل الواحدة على عدد من اللايقينيات واللاتحديدات والظواهر الصدفوية.
إن التعقيد هو ذاته اللايقين، وهذا تضاد الحتمية في العلم الكلاسيكي. بفضل تطور علم الفلك على المستوى الماكروفيزيائي والمايكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في أجسامنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون، فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا، إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي.
ظهر التعقيد في العلم الحديث، ذلك أن المايكروفيزياء لم تفتح الطريق أمام علاقة مركبة بين الملاحظ والملحوظ فحسب، ولكن أيضاً على مقولة مركبة ومضللة جداً، وهي الجزئية الأولية التي تقدم نفسها للملاحظ تارة كموجة، وتارة كجسيم.
إن للتعقيد دائماً صلة بالصدفة، إنه اللايقين بعينه المترسخ داخل الأنساق المنظمة بشكل ثريّ، إنه مرتبط بنوع من الخليط العميق بين الاستقرار والاختلال.
يضع موران الذات والموضوع في علاقة تبادل وثيق، ولا وجود لموضوع إلا بالموازاة مع ذات (تلاحِظ، تَعزل، تَعرف، تُفكر). إن نمط تفكيرنا يقصي الواحد بواسطة الآخر. لقد تمّ شق طريقنا من جهة بواسطة الماكروفيزياء، حيث أصبحت الذات والموضوع متعالقين، لكنهما غير ملائمين لبعضهما البعض. وإذا انطلق المرء من ذاته المفكرة من أجل العثور على أصلها، فإنه يعثر على مجتمعه وعلى تاريخ هذا الموضوع داخل تطور البشرية، وعلى الإنسان المنظم بذاته في علاقته مع محيطه. وبناء على ذلك، يوجد العالم داخل فكرنا الذي يوجد داخل العالم.
منظومة البساطة
ولكي نفهم مشكلة التعقيد، يجب أن نعلم أن هناك منظومة خاصة بالبساطة، وهي منظومة تقوم بتنظيم الكون بإقصاء الاختلال من داخله، وهنا يتم اختزال النظام في قانون ومبدأ معينين. إن البساطة ترى إما الواحد وإما المتعدد، ولكنها لا ترى أن الواحد قد يكون في الوقت ذاته متعدداً. لنأخذ الإنسان مثالاً، فهو كائن بيولوجي، وهو في الوقت ذاته ثقافي يعيش داخل كون من اللغة والأفكار والوعي.
لقد كانت مهمة المعرفة العلمية مدعومة بهذه الإرادة في التبسيط، وهي الكشف عن البساطة المختفية وراء التعددية الظاهرة والاختلال الظاهر للظواهر؛
اعتقد العلماء أن الجزيئة هي الوحدة الأولية، ثم تبين أنها عبارة عن نسق معقد جداً يتعذر عزلها عن محيطها، إضافة لذلك تبين انبعاث الاختلال داخل الكون الفيزيائي، وأن ما تدعوه الحرارة هي في الواقع إثارة فوضوية لجزيئات أو لذرات. فعند تسخين الماء تبدأ الجزيئات في التزوبع لتتبخر وتتشتت.
إن التطور يؤدي إلى نشوء أنواع في الطبيعة وموتها... وإن التبدد والاختلال يتعاقبان بشكل ما مع أن كل واحد عدوّ للآخر. قال هيراقليطس: "إننا نحيا بواسطة الموت، ونموت بواسطة الحياة".
"إننا نحيا بموت خلايانا، تماماً كما يحيا مجتمع بموت أفراده".
يجب أن نعيد النظر في كل ما يبدو لنا بديهيا، وفي كل ما يؤسس حقائقنا. حققت العلوم تقدما معرفيا عظيما، غير أن تقدم العلم الأكثر تطورا، (الفيزياء) يقربنا من مجهول يتحدى مفاهيمنا ومنطقنا وذكائنا (الميكروفيزياء و الماكروفيزياء)، ويضع أمامنا مشكل ما لا يقبل المعرفة، وتلك الثقة العمياء حول "العقل" الذي يشكل الوسيلة المعرفية الأكثر أمانا، ألا يمكن أن يحمل في ذاته مهمة عمياء؟ هنا يتساءل موران في المنهج3" ما هو عقلنا؟ هل هو كوني؟ عقلاني؟ ألا يمكن أن يتحول إلى ضده من دون أن يعي ذلك؟ ألم نبدأ في فهم أن الاعتقاد في كونية عقلنا يخفي عقلنه غريبة متمركزة وتشويهية؟ ألم نبدأ اكتشاف تجاهلنا واحتقارنا وهدمنا لكنوز المعرفة باسم محاربة الجهل؟..."[5]. فالبحث عن الحقيقة الآن أصبح مرتبطا بالبحث عن إمكانياتها، هل معنى هذا أنه علينا ترك فكرة الحقيقة( الاعتراف بغياب الحقيقة كحقيقة)؟ ووضع المعرفة من أجل الحقيقة في العقدة الإستراتيجية لمعرفة المعرفة؟
مجهول المعرفة
مفهوم الحقيقة واحد بديهي، ولكن ما إن نحاول مسائلته حتى ينفجر ويتنوع ويتكاثر إلى مفاهيم غير محدودة(يبين ادغار موران ذلك بدقة في المنهج 3 ت.:يوسف تيبس ص22) كل واحد يضع تساؤلا جديدا، فنحن نفهم ولكن هل نفهم معنى الفهم؟ ونفكر، لكن هل نعرف التفكير في معنى التفكير؟ وبالتالي نحن هنا أمام مفارقة المعرفة التي لا تنفجر إلى شظايا أمام أول تساؤل، بل تكتشف المجهول في ذاتها«يمكن أن نأكل دون معرفة بقوانين الهضم، وأن نتنفس دون معرفة بقوانين التنفس، ويمكن أن نفكر دون أن معرفة بقوانين أو طبيعة الفكر، ويمكن أن نعرف من غير أن نعرف المعرفة»[6].
إذن سنسقط لا محالة في باطالوجيا معرفية، تشوه معرفتنا بهذا العالم«في الوقت الذي نشعر مباشرة بالاختناق في التنفس والتسمم في الهضم، يتميز الخطأ والوهم بعدم ظهورهما كخطأ أو وهم "لا يتجلى الخطأ إلا في كونه لا يظهر كذلك"(ديكارت).»[7]
باطولوجيا المعرفة
يتحدث موران في المنهج3 عن باطولوجيا معرفية مصدرها التجزيء والفصل بين مختلف التخصصات المعرفية. إن الاختصاصيين والخبراء قد يحرزون كشوفات لكنهم غير واعون بالجوانب المدمرة المرتبطة بكشوفاتهم، وهنا يريد كارل بوبر أن ثقة الاختصاصيين المفرطة في كشوفاتهم أجل محتوم للمعرفة، وينظر بوبر إلى الشخص الذي لا يقبل تغيير وجهة نظره العصبي أو المجنون.
وفي كتابه مدخل الى الفكر المركب يتحدث موران عن باطولوجيا معرفية"تعود جذورها إلى ديكارت الذي صاغ منظومة تبسيطية هيمنت على تاريخ الفكر الحديث، ومنعت العلم من التفكير في ذاته"، والحل هنا ليس التبيسط ولا التجزيء إنما تجميع المعارف لمعرفة المعرفة.[8]
بيولوجيا المعرفة
ففلسفة التعقيد تنفتح على التطور الذي تعرفه البيولوجيا، ف«تقحمنا معرفة الحياة في حياة المعرفة بشكل حميمي رائع:"إن العيش، بإعتباره صيرورة معرفة"(ماتورانا).»[9] ، كما تنفتح على علوم الدماغ؛ والدماغ آلة كيمائية بيولوجية، تتضمن عالما ميكروسكوبيا بداخلها، فالعقل الإنساني يتشكل من ملايين العصبونات والمشابك العصبية التي تقوم بوظائف كثيرة ومتنوعة ومتناقضة، فالمعلومات تنقل عبر مسالك عصبية. من خلية عصبية (النورون)إلى أخرى فتقوم هاته الأخيرة باحتسابها وترجمتها وتنظيمه. وبالتالي لن تبقى المعادلة" أنا أفكر إذن أنا موجود" (الديكارتية) بل ستصبح "أنا أحتسب إذن أنا موجود" لكن ما هو الاحتساب computation؟ «يعني الحساب والمقارنة والفهم والمواجهة والتقييم...فهو فاعلية إدراكية، تعمل على الإشارات والرموز حيث تفصل وتربط وتحتوي على حاكمية معلوماتية ورمزية وذاكرة وعلى حبكة إعلامية وهي مجموعة البرامج والإجراءات والقواعد والمستندات التي تعود إلى وظيفة المجموعة العلاجية لأية معلومة»[10].
استنتاج
في ختام هذا الفصل لن نجد أفضل من قول لإدغار موران يلخص ما ذكرناه سلفا، إذ يقول في كتابه مدخل إلى الفكر المركب «اكتسبنا معارف هائلة حول العالم الفيزيائي والبيولوجي والبسيكولوجي والسوسيولوجي.أعطى العلم الغلبة شيئا فشيئا وعلى نطاق واسع، لمناهج التحقق الامبريقي والمنطقي. ويبدو أن أنوار العقل تكبت في الأعماق الدنيا للروح عدة أساطير وظلمات. ومع ذلك، يتقدم الخطأ والجهل والعمى في كل مكان في نفس الوقت الذي تتقدم فيه معارفنا.
من الضروري أن يصير لنا وعي جذري بالأمور التالية:
1. لا يكمن السبب العميق للخطأ في الخطأ بالفعل(إدراك خاطئ) أو الخطإ المنطقي(عدم الانسجام)، بل في صيغة تنظيم معرفتنا في شكل نسق من الأفكار(نظريات، إيديولوجيات)؛
2. هناك جهل جديد مرتبط بتطور العلم نفسه؛
3. ترتبط عمى جديد مرتبط بالاستعمال المنحط للعقل؛
4. ترتبط أخطر التهديدات التي تتربص بالبشرية بالتقدم الأعمى وغير المتحكم فيه للمعرفة(أسلحة حرارية-نووية؛ تلاعبات في كل الأنواع، خطأ بيئي، الخ).
5. أريد أن أبين بأن هذه الأخطاء والجهالات والعمى والأخطار لها طابع مشترك يكمن في كونها ناجمة عن صيغة مشوهة لتنظيم المعرفة، غير قادرة على الاعتراف وعلى وضع اليد على تعقيد الواقع.»
من هذا القول نخلص على ضرورة تخطي منظومة التبسيط التي قامت بنشر أوهام وجهالات وأخطاء على الصعيد الابستمولوجي، والانتربولوجي، والمنطقي، والسياسي، والتي جعلت العالم يحيا، ويترنح، ويتدحرج، ويتجشأ، ويمكن القول جعلته في حالة فواق وحزاق يومي، والغوص في بحر التعقيد لأنه الوحيد القادر على تمثل الوجه الجديد العالم.
هكذا يظهر أن إصلاح الفكر ونقد الفكر الاعمى هو المهمة الاستعجالية للفكر. يعني إصلاح الفكر أنطولوجيا/إبستمولوجيا/منهج/منطق جديد تكون مهمته الجوهرية الوقوف عند تنوع/تعقد/صدفوية/دينامية/تاريخية العالم وأدوات فهم العالم.
إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم، وهذا التغيير يكون في تغيير أدوات فهم العالم التي لا توجد في أي علم؛ أي أن هذه الأدوات لا توجد في المعارف المجزأة والمقطعة والمفصولة عن بعضها البعض؛ أي أن الفكر المركب لا الفيزياء ولا البيولوجيا ولا الكيمياء ولا علم الاجتماع ولا الآداب ولا الابستمولوجيا، فالفكر المركب هو مجموع هذه العلوم المباحث وقد توحدت في أفق التعقيد، فهو فكر يؤمن بإمكانية تجميع وتوحيد المتعدد، وهدفه هو تفجير المباحث ولمها داخل أفق مركب جديد.
[1] موران، إدغار[2004]، الفكر و المستقبل مدخل إلى الفكر المركب ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، ط.1، الدار البيضاء-المغرب، ص.15
[2] موران، إدغار:[2009]، نحو براديغم جديد، ترجمة وتقديم، د.يوسف تيبس، مجلة رؤى، عدد29، ص.121.
[3] الفكر والمستقبل: مدخل إلى الفكر المركب، ص. 6
[4]الفكر والمستقبل: مدخل الى الفكر المركب، ص.17
[5] موران، إدغار[2013]، المنهج الجزءان الثالث و الرابع ت.: د.يوسف تيبس، أفريقيا الشرق، ب. ط. ، شارع يعقوب المنصور-الدار البيضاء- المغرب، ص21
[6] المنهج 3 ص.21.
[7] المصدر نفسه.
[8] تريعي، حمدي:[2012]: ترجمة الفصل الأول من كتاب معرفة المعرفة لادغار موران المنهج3، ص.126.
[9] المنهج3، ص. 56.
[10] تريعي، حمدي:[2012]: ترجمة الفصل الأول من كتاب معرفة المعرفة لادغار موران المنهج3، ص. 14.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)