السبت، 24 ديسمبر 2016

نقاش فتجنشتاين مع مدرسة الجشطلت حول مفهوم الصورة ـ عبد الله الخمسي

أنفاس نت


تعتبر اللغة ذات مكانة بارزة داخل الفلسفة التحليلية ، باعتبارها الموضوع الجدير بالبحث والاهتمام ، حيث أضحت كل التوجهات التحليلية هي توجهات لغوية همها الأساسي هو البحث في معاني العبارات اللغوية ، وإذا كان القرن 20 هو قرن العلم في نظر الابستمولوجيين وفلاسفة العلم ، فإن هذا القرن هو في نظر الفلاسفة التحليليين قرن التحليل والبحث عن المعنى في القضايا اللغوية ، ولعل هذا ما عبر عنه المفكر الأمريكي  Morton White بالقول "عصرنا هو عصر التحليل والمعنى" ، واللغة في منظور الفلاسفة التحليليين ليست فقط وسيلة للتخاطب والتواصل وإنما تشكل أيضا هدفا للبحث الفلسفي، وكانت هذه العناية الخاصة باللغة من قبل فلاسفة التحليل من أمثال مور ورسل وفتجنشتاين بمثابة تجسيد فعلي لتقليد فلسفي معاصر يتخذ من اللغة الموضوع الجدير بالعناية والتنقيب ، إلا أن مسألة المعنى والتحليل لم تكن وليدة الصدفة بقدر ما أنها وليدة مخاض عسير ونقاش خاضه رواد فلسفة التحليل مع الفلاسفة السابقين عليهم ، ونقصد الفلاسفة الكلاسيكيين الذين هم في نظرهم مسؤولون عن الانغلاق الذي طرأ على موضوع الفلسفة ، وذلك من خلال مغالاتهم في منهج التركيب الذي أعطانا أفقا مسدودا في الفلسفة ، ومن أجل الخروج من هذا الانغلاق اقترح رواد التحليل طريقة أو منهج للخروج من هذه التخمة التي لحقت الفلسفة، وكان  هيجل مسؤولا عنها ومن حدا حدوه ، وهذا المنهج كان طبعا هو التحليل كرد فعل مباشر ضد التركيب ، والمحاولات الأولى التي كانت ضد هذا المنهج كانت من قبل جورج مور من خلال نشره مقال حول "تفنيذ المثالية" سنة 1903، مقترحا منهجا جديدا للتعامل مع موضوعات الفلسفة ألا وهو منهج التحليل .
غير أن مور بقي وفيا للغة الطبيعية ولم يخض خوضا منطقيا في معالجة مشكل التركيب في الفلسفة ، غير أن كل من فريجه وراسل بالإضافة إلى فتجنشتاين ، سيجعلون من الصورنة مدخلا لحل مشكلات الفلسفة التقليدية ، وذلك بالاعتماد على أدوات منطقية وجبرية كرائز من أجل تدقيق موضوع الفلسفة الذي أصبح في نظرهم هو التحليل المنطقي للغة وذلك من أجل تفسير فلسفي للفكر، والذي استقام اشتغاله مع هذا الطرح هو الفيلسوف النمساوي فتجنشتاين من خلال كتابه الرسالة المنطقية – الفلسفية ، وهذا الكتاب جعله فتجنشتاين بأكمله عبارة عن نقد للغة، بمعنى أن مشروع فتجنشتاين في هذه الرسالة ينصب على نقد اللغة الطبيعية وتنصيب لغة منطقية محلها  لأجل قول فقط ما يمكن قوله كخطاب مشروع في اللغة وخطاب آخر مما لا يقال ، إما لافتقاره لأدوات التركيب المنطقي و إما لعدم قابلية هذه اللغة لتمثيل ما يوجد في العالم الخارجي ، لكن ما هو مسؤول عن المعنى في اللغة عند فتجنشتاين هو كذلك مما لا يقال فيها وهي الصورة المنطقية  التي شكلت ما يسمى بميتافيزيقا الصورة المنطقية في فلسفة فتجنشتاين بعدما خاض نقاشا مع سيكولوجية الجشطلت، وهذا هو مربط الفرس في هذه الدراسة التحليلية لفلسفة التحليل .

 لا يخفى عن أي متصفح لرسالة فتجنشتاين - المنطقية على كون فيلسوفنا  يميز بشكل واضح بين مجال القول ومجال آخر لا نملك  إلا القدرة  على إظهاره أو الإشارة إليه فقط، وإذا كانت قضايا المنطق والرياضيات بالإضافة إلى قضايا الميتافيزيقا مما لا يمكن قوله، فإن الصورة المنطقية لا تخرج عن باقي هذه القضايا التي لا يجب أن تقال في اللغة ، نظرا لكونه قد حدد أن طبيعة اللغة هي أن تقول ما هو عليه العالم ، والصورة المنطقية  لا توجد في العالم ، لذلك ضمنيا لا يمكن أن تقال ، كما أننا  لا نجد في الرسالة قضايا تقول الصورة المنطقية لأن ما يظهر نفسه في اللغة لا تستطيع اللغة أن تعبر عنه ، إلا أن ما يثير الانتباه بخصوص هذه الصورة  هو كونها لا توجد في العالم كما لا توجد في اللغة ، لكنها ضرورية للربط بين اللغة والعالم من أجل أن يكون للغة معنى،  ثم وجودها كهوية تربط بين الاثنين ، لكن إذا سألنا فتجنشتاين أين توجد هذه الصورة المنطقية ؟ فهو يجيب أنها لا توجد لا في اللغة ولا في العالم ولا حتى في الذات ، وهذا له ما يبرره عند فتجنشتاين الذي أراد إنقاذ الصورة  المنطقية مما ألصقته بها نظرية الجشطلت لأنها حاولت جعل الشكل أو الصورة مرتبطة أشد ارتباطا بالإدراكات الحسية.

إذن كيف جعل فتجنشتاين الصورة المنطقية مستقلة عن العالم وعن اللغة ثم عن الذات ، في أفق إنقاذها من الإدراكات الحسية التي حاولت نظرية الجشطلت أن تجعلها كبديل لعلم نفس القرن 19 وخاصة النزعة التحليلية منه؟

        لقد جعل فتجنشتاين من الصورة المنطقية البراديغم الأساسي الذي به يمكن الحديث عن المعنى في اللغة ، وكما نعلم أن نظرية المعنى عنده ترتبط أساسا بالقضايا الحقيقية أي قضايا العلم الطبيعي ، الذي يسمح لنا قولها ، وما يسمح لنا قوله رهين بتطابق القضية مع الواقعة ، وهذا التطابق أوضحه فتجنشتاين من خلال نظرية التمثيل ، أي تمثيل القضية للواقعة الأولية الذي لن يقوم إلا إذا كان هناك شيئا مشتركا بين الواقعة والقضية ، وهذا ما عبر عنه من خلال القول " لكي تكون إحدى الوقائع رسما ينبغي أن يكون بينها وبين ما ترسمه شيئا مشتركا"[1] .

بمعنى أن يكون هناك شيء ثابت بين كل من الواقعة والقضية حتى يسمح للقضية أن تصور ما يوجد في العالم الخارجي من وقائع وكأن شيئا من الهوية بينها، ولعل هذا ما أكدت عليه الرسالة ذاتها في إحدى شذراتها "لا بد أن يكون هناك شيء من الهوية بين الرسم والمرسوم حتى يتسنى لأحدهما أن يكون رسما للآخر "[2]

إذن؛ فتجنشتاين يؤكد على ضرورة وجود هوية بين الرسم وما جاء ليرسمه ، لكن ما هو هذا الشيء المشترك أو هذا النوع من الهوية الذي يكون بين القضية والواقعة حتى تقوم عملية التمثيل هذه؟  فالجواب عن هذا السؤال يكون من خلال الرسالة التي تجيبنا من بإحدى شذراتها "والذي لابد أن يكون في الرسم مشتركا بينه وبين الوجود الخارجي لكي يتسنى له أن يمثله بطريقته الخاصة صوابا أو خطأ هو صورة هو صورة ذلك التمثيل"[3]. وبذلك الذي يسمح بعملية التمثيل هو صورة ذلك التمثيل، وهذه الصورة جعلها فتجنشتاين بمثابة الجندي الذي يحمي وطنه من الغزو الخارجي لبلد آخر، وذلك من أجل ألا يضيع بلده في التشرذم ، وهذا التشرذم والضياع هو الذي يجعل اللغة تائهة في اللامعنى ، ولكي لا تتيه هذه اللغة في اللامعنى يجب أن تكون بينها وبين ما جاءت لتمثله صورة ذلك التمثيل، لكن ما هي هذه الصورة في عرف فتجنشتاين؟ "فالصورة هي إمكان قيام البنية[4] ، ثم يضيف "الطرقة التي تتشابك بها الأشياء في الواقعة الذرية، هي ما يصبح بنية الواقعة الأولية"[5].

        القضية  في عرف فتجنشتاين هي التي تبنى من أسماء وحدود مفردة ، وهي الأخرى لا تدل لوحدها ، ثم تشابك هذه الحدود فيما بينها  لتشكل القضية البسيطة باعتبارها بنية ، وإذا كانت إمكانية لقيام هذه البنية بالنسبة للواقعة كما بالنسبة للقضية تكون لدينا الصورة المنطقية كعنصر مشترك بينهما ، والتي بدونها لا يكون لعملية التمثيل وجود ، ولعل هذا ما قصده فتجنشتاين من الشذرة التالية " وما يجب أن يكون مشتركا بين أي رسم مهما كانت صورته وبين الوجود الخارجي حتى يمكن أن يمثله على الإطلاق سواء صوابا أو خطأ، هي الصورة المنطقية أي صورة الوجود الخارجي"[6] .

        وإذا كانت الصورة المنطقية هي ما هو مشترك بين القضية البسيطة والواقعة الأولية والتي من دونها لا تتم عملية التمثيل أو التصوير، فهل يمكن تمثيل الصور المنطقية بواسطة قضايا؟

        فإجابة فتجنشتاين على هذا السؤال تكون بالرفض وذلك من خلال قوله "القضايا يمكن أن تمثل ما يجب أن يكون مشتركا بينها وبين الوجود الخارجي حتى يتسنى لها أن تمثله وهو الصورة المنطقية ، ولكي يمكن تمثيل الصورة المنطقية ، يجب أن يكون في مستطاعنا أن نضع أنفسنا نحن والقضايا خارج المنطق، أي خارج العالم"[7] ، وعدم تمثيل الصورة المنطقية فهو غير متناقض مع فلسفة فتجنشتاين الأولى التي تقر بأن حدود المنطق هي حدود العالم ، وبذلك لا يمكن أن تكون  القضايا التي هي من صميم المنطق خارج المنطق وخارج العالم من أجل تمثيل الصورة المنطقية ، هذا بالإضافة إلى كون الصورة المنطقية ليست واقعة من وقائع العالم حتى يتسنى للقضايا أن تمثلها وهذا ما ذهب إليه فتجنشتاين ذاته عندما قال بأن "القضايا لا تستطيع أن تمثل الصورة المنطقية ، إنما تعكس هذه الصورة نفسها في القضايا"[8].  ولكي نفهم الأمر جيدا سأسوق مثالا إن سمح لي فتجنشتاين بذلك حول الصورة المنطقية فأقول "عثمان و يسين" فهذه قضية بسيطة لها معنى لأنها سليمة من ناحية التركيب المنطقي نظرا لكونها تتكون من حدين مفردين هما عثمان ثم يسين ، و هذه القضية صادقة لأنها تقول واقعة أولية موجودة في العالم ، وبذلك  فهذه القضية تمثل واقعة أولية ، لكن هناك رابط منطقي بين هذين الحدين وهو " و" ، وهذا الرابط المنطقي لا يمكن تمثيله لأنه لا يمثل شيئا وهذا ما أوضحته الرسالة في إحدى شذراتها "إن إمكان القضايا إنما يقوم على مبدأ تمثيل الأشياء بواسطة الألفاظ، وفكرتي الرئيسية في هذا الصدد أن الثوابت المنطقية لا تمثل شيئا، بمعنى منطق الوقائع لا يمكن تمثيله"[9] .

        وأهمية فتجنشتاين هو أنه يركز على الثوابت المنطقية أكثر من تركيزه على القضايا فهو لا يأخذ بالقضية وإنما بصورة القضية أي ما يجب أن يكون متسقا ليس هو القضية وإنما صورة القضية ، والدليل على أهمية الصورة المنطقية رغم أنها لا تمثل واقعة من الوقائع كما أنها لا يمكن أن تقال ، إلا أنا هي المسؤولة عن التطابق بين اللغة والعالم وبذلك لا يوجد مكان خارج هذا التطابق يمكن أن نضع فيه أنفسنا كي نستطيع أن نرسم تلك الصورة المنطقية نظرا لكون هذه الأخيرة تظهر في صورة كل القضايا ، وما يظهر نفسه في القضايا لا يمكن للغة أن تمثله أو أن تقوله ، وفتجنشتاين يقول لنا "بأنه من غير الممكن أن نتحدث بطريقة منطقية عن الصورة المنطقية في إطار فهم صحيح للغة وفي هذه الحالة لا يمكن سوى إظهارها"[10]، والإظهار يتعلق بما يعبر عن نفسه في اللغة ، والصورة المنطقية هي من ضمن ما يتجلى بنفسه في القضية لأنها صفة داخلية للقضايا وهذا أكده فتجنشتاين بقوله "ووجود صفة داخلية لأمر ممكن من أمور الواقع ، لا تعبر عنه بواسطة قضية ما بل هي تعبر عن نفسها في القضية التي تمثل الشيء بواسطة الصفة الداخلية الخاصة بهذه القضية"[11] ، وهي تفيد حسب رأي بلاك "أن مظاهر الصورة المنطقية يتم إظهارها بواسطة المظاهر الصورية للقضايا"[12].

                والصورة المنطقية عند فتجنشتاين فهي تشبه إلا حد ما آلة التصوير الفوتوغرافية ، فنحن عندما نلتقط صورة لمنظر معين ، فهذه الصورة تظهر ذلك المنظر التي التقطته وكأنها الإطار الذي يحتويه ، وهذا الإطار أو شكل المنظر وهو المهم في نظر فتجنشتاين لأنه هو القالب الذي توجد فيه القضية ، وهذه الأخيرة رغم أنها مرآة عاكسة لواقعة من الوقائع ولكنها أيضا عاكسة لصورتها المنطقية من خلال الرموز التي تتكون منها القضية ، وهذا الاختيار لفتجشتاين يوافق منطلق فلسفته التي تطفو عليها الصبغة المنطقية وهذا راجع إلى خصوصية التوجه التحليلي من أجل نقد النزعة السيكولوجية التي خيمت في تناول موضوعات الفلسفة ، فنجد فريجه قد انتقد هذه النزعة وذلك بالعودة إلى منطلقات أفلاطونية ، فكذلك فتجنشتاين لا يخرج عن هذا التوجه النقدي ، إلا أنه ينتقد توجه مخصوص في هذه النزعة السيكولوجية ، وهي نظرية الجشطلت التي هي بدورها أسالت مدادا كثيرا حول تنظيرها لمفهوم الصورة ، إلا أن الاختلاف بينهما نابع من كون نظرية الجشطلت هي تخصص في علم النفس وهي ذات مساهمات عيانية و تجريبية في نظرتها إلى الصورة كإدراك حسي ، في حين فتجنشتاين لا يضع الصورة المنطقية في الإدراك الحسي بل هي تبقى معلقة ، لكن قبل أن نحكم على  نظرية الجشطلت هذا الحكم السريع علينا أن نلقي نظرة  ولو خاطفة على مرتكزات هذه النظرية المعاصرة في علم النفس، فما هي المرتكزات التي تقوم عليها نظرية الجشطلت؟ وكيف جعلت الصورة أو الشكل ذا ارتباط  بالإدراكات الحسية؟

        أولا علينا اعطاء نبذة عن هذه النظرية الجشطلتية التي جاءت هي بدورها كرد فعل ضد اتجاه سيكولوجي عاصف في الحضارة الألمانية و هو الاتجاه الترابطي أو الاستبطاني في علم النفس الذي يركز على تحليل السلوك الانساني، وهذا الاتجاه التحليلي كان يحاكي الفيزياء والكيمياء في نظرتهما  التجزيئية للواقع  "...الذي فرض عليه هذا المنهج التحليلي هو أسلوب الفيزياء والكيمياء التي كانتا تحللان الأجسام إلى جزيئات وذرات كما كانت حتى الفسيولوجيا تعزل أعضاء وتفككها إلى أنسجة، وخلايا ومن هنا كان على علم النفس هو الآخر أن يعزل عناصر ، وأن يكتشف قوانين لإتلافه "[13].  وهذا ما رفضته نظرية الجشطلت بتركيزها على نظرة كلية أو جشطلتيةّ(*) للسلوك الإنساني ، وتزامن ظهور هذه المدرسة نتاج تشعب أفكار برنتانو المؤرخ المشهور لفلسفة أرسطو، و من بين أقطاب هذا التشعب نجد ( Carl Stumpf 1848 - 1936) الذي وضع على كاهله انشاء مختبر لعلم النفس، وقد كان هذا المعهد هو مهد مدرسة الجشطلت التي بلورها stumpf هو وتلامذته المقربون مثل Wertheimer  و Koehler وKurt Kofka  وKurt   Loewin"[14].

        "ومدرسة الجشطلت تنكر على أن يكون الكل هو مجرد حاصل زائد عن مجموع العناصر، وخاصية الجشطلت ليست صفة جديدة مضافة إلى المجموع الذي نستطيع إدراك أحاده بصورة مستقلة ولا يتمتع مجموع العناصر بوجود فعلي فهو دو صفة جشطلتية منذ الوهلة الأولى"[15] ، وهذه النظرة الكلية للسلوك كانت ضد الاتجاه التحليلي في علم النفس الذي خيم على الاتجاهات السيكولوجية في القرن 18 ، وهذا النقد نتاج خصوصية هذه المدرسة نظرا لتشعب وجهة اشتغالها ، ولكونها عملت في حقل التجربة وفي عالم المادة العضوية ثم في العالم الفيزيائي الخالص ، ولعل البداية الأولى لهذه النظرية وبوادرها الجنينية تزامنت مع أعمال Von Ehrenfels الذي نشر مقالا حول "سيكولوجية الجشطلت" وأقر بأن صفة الشكل هي خاصية يملكها الكل و لا يملكها أي جزء من الأجزاء التي تكون هذا الشكل ، وبذلك يمكن القول بأن الجشطلت هي شيء آخر أو شيء يزيد على حاصل جمع أجزائه ، أي خصائص لا تنتج من مجرد جمع خصائص عناصرها لأن الجشطلتات هي متاحة التبدل الوضعي غير مستقرة أو ثابتة في مكان بعينه ، وبذلك تصبح الوقائع النفسية في منظور هذه المدرسة جشطلتات ، لأن المنطلق الذي انطلقت منه هذه الأخيرة هو البنيات بوصفها معطيات أولية " إنها لا تعترف بمادة خلوة من الصيغة بكثرة عمائية خالصة لتبحث بعد ذلك عن القوى الخارجية الغريبة، عن هذه المواد الجرداء، التي بفعلها تتجمع هذه المواد وتنتظم، فليست هناك مادة بغير صيغة"[16] ، وهذه الصيغة أو الشكل التي نادت به نظرية الجشطلت لم تحصر مجاله فقط في علم النفس بل ربطته بالمجال الفيزيائي الخالص والمجال البيولوجي ، لأن أهم ما تركز عليه هذه المدرسة هو الصيغة و البنية ثم الانتظام وهذه المفاهيم هي قريبة من حقل البيولوجا كما أقر غيوم ذاته "إن مفاهيم الجشطلت والبنية والانتظام تنتمي إلى لغة البيولوجيا بقدر ما تنتمي إلى لغة علم النفس فالكائن الحي هو كائن عضوي، هو فرد متمايز عن البيئة، على الرغم من المبادلات المادية والطاقية فيما بينهما، إنه جهاز تتوقف أجزائه من أنسجة وأعضاء على الكل الذي يحدد فيما يبدو خصائص الأجزاء"[17].

        اذن؛ حاولت هذه النظرية أن تجعل من الصيغة ، الشكل ، الانتظام ، البنية ، هي منطلق النظر في كل ما يوجد في العالم الخارجي أي العالم الفيزيائي الذي يظهر ، لأجل تحقيق التوازن الداخلي النفسي بنفس الصيغة ، أي  من أجل تحقيق الانتظام والانسجام بين الإدراك والشيء المدرك ، وإدراك شكل ما هو الذي شكل لب وجوهر ما تدور عليه هذه النظرية ، ولعل السؤال الذي كان يؤرقهم ، كما كان هو منطلقهم هو ما هي الشروط التي يجب توفرها لحدوث جشطلت ما ثم ما هي القوانين التي تحكم تغيراتها؟ هذا بالإضافة إلى "مشكلة الإدراك التي تنحصر في تحديد الانتشار الفيزيائي المثيرات الذي يناظر كل صيغة من الصيغ موضوع الإدراك، ثم تحديد التغيرات التي تطرأ على هذه المثيرات فتغير من بنية الصيغة"[18]،  فنظرية الجشطلت حاولت أن تضع شروط محددة  لإدراك أشكال وصور منتظمة ، وقبل أن نبدأ بتحديد هذه الشروط علينا أن نعرف أن هذه النظرية  تركز  أولا   على واقعية التجربة المباشرة ، أي تبدأ من الظواهر أو التجربة الساذجة ، وهذا الاختيار يتوافق مع الطرح الذي جاءت به هذه النظرية ، لكونها حاولت استبعاد دور الذاكرة المسرف في إدراك الأشكال ، أي استبعاد معرفتنا السابقة عن الشيء الذي ندركه وهذا ما جعلهم يتخذون أنموذجهم الانتظام التلقائي الضروري الذي يتحقق في انتظام فيزيائي أو كيميائي . والشروط التي حددتها هذه النظرية كانت انطلاقا من عدة تجارب أجرتها بخصوص  علاقة الصورة أو الشكل بالقاع أو الأرضية ، لتميز بين الصورة والحقل التي توجد عليه  الصورة ، وهذا من أجل أن يكون الإدراك واضحا ومتميزا ، ولن يحدث هذا الوضوح والتميز إلا إذا كان هناك اختلاف ذاتي بين الشيء الذي ندركه والخلفية التي يوجد عليها هذا الشيء ، ولقد ابرز بول غيوم مثالا ل Rubin  الذي ميز بين الشكل والقاع، وتوصل إلى كون الشكل له صيغة أما القاع فلا صيغة له ، لأننا في نظره لا نستطيع أن نرى في نفس الوقت كل من الصورة والقاع ، لذلك نجد "الصورة عادة موحدة الأجزاء تبدو ذات شكل وحدود ، في حين تبدو الخلفية مساحة لا حدود لها ، ولذلك فالصورة أقدر على اجتذاب الانتباه من الخلفية"[19] ، التمييز بين الصورة والخلفية لا يقتصر فقط على الأشكال المرئية ولكنها خاصة بالنسبة لكل الحواس وحتى الأصوات الموسيقية وهذا ما أوضحه غيوم من خلال  عرضه لتجارب ليمان وأردف قائلا" فكل شيء نحسه لا يمكن أن يوجد إلا بالنسبة إلى قاع ما، وهذا القول ينطبق ليس فحسب على الأشياء المرئية وإنما أيضا على كل ضرب من الأشياء والوقائع المحسوسة، فالصوت الموسيقي ينسلخ متميزا فوق قاع يتكون من أصوات أخرى أو فوق قاع من الضجيج أو السكينة، كما ينسلخ الشيء المرئي متميزا فوق قاع مضيء أو مظلم"[20] ، وهذا التمييز يجعل إدراكنا الحسي أكثر وضوحا ، كما يجعلنا نركز أكثر على الصورة التي تطفو على الخلفية كشكل أو كصيغة أكثر انتظاما ، وليس هذا فحسب ، بل تذهب نظرية الجشطلت أكثر من ذلك إلى الانتظام الداخلي للشكل الذي يتعلق بمعرفة الشروط الضرورية لتكوّن مجموعة ما وقد، أورد غيوم مثال حول مجموعة النقط لفرتهايمر، لكي يوضح هذه الشروط التي قد أوردت في ثلاث شروط أولها وجوب تقارب لهذه النقاط ثم ثانيها تشابه النقاط ، وذلك راجع إلى كون الخلفية أو القاع إذا احتوى على نقاط مختلفة اللون فإن المتشابهة منها ترى وكأنها تكون مجموعة، ثالثا وجوب تكوين النقاط شكلا مغلقا أي متناسقا وخاليا من الثغرات "إن الجشطلتي لا يفسر النزعة الطبيعة نحو إغلاق الثغرات كما يفسرها الآخرين على أنها نتيجة لخبراتنا الماضية وتعاملنا بالكليات ، بل إنه يعتقد أنها تمثل الديناميكية الداخلية للدماغ في استقبالها كتلة مؤثرة عن طريق العين ، إنه يعتقد أن العمليات الدماغية تسد الثغرات"[21] ، وهذه النزعة التي تدعو إلى تجاوز الثغرات تواز الطرح إلى تجاوز عدم الانتظام من أجل تقديم صورة على أحسن حال ممكن من الانتظام.

 ان ما ينبغي التأكيد عليه بخصوص نظرية الجشطلت وأصالتها في علم النفس هو تركيزها الأساسي على الصورة التي تظهر من خلال مجال الرؤية بقطع النظر عن معاني تلك الصور كأشياء أي علينا أن ندرك فقط ما تظهر لنا أعيننا ، هذا بالإضافة إلى كون هذه النظرية قد ربطت الصورة بمجال الإدراك الحسي ، أي الذي يعطينا الصور هو الإدراك الحسي من خلال شروط قد حددتها هذه النظرية ، وارتباط الصورة أو الشكل بالإدركات الحسية هو راجع إلى اقتران العين بما تدركه ، وهذه الأخيرة حتى لو لم تجد الشكل أو الصورة فهي تلصق صورة على الشيء المرئي وهذا، ما يظهر من خلال رؤيتنا لأشياء تتحرك بسرعة.

اذن؛ نظرية الجشطلت جعلت الصورة في الادراك الحسي من أجل تجاوز النزعة التحليلية في علم النفس ، واعتبار الصورة أو الشكل في الادراك الحسي هو ما انزعج له فتجنشتاين الذي رفض أن يلطخ الصورة المنطقية بكل ما هو عياني أو تجريبي ، هذا راجع إلى المنطلق المنطقي الذي تبناه من أجل نقد النزعة السيكولوجيا التي ترجح جانب الذات في ادراكها للأشكال ، والذات عند فتجنشتاين تختلف عن نظرة السيكولوجيين لها فهو ينكر الذات بالمعنى السيكولوجي من خلال قوله" أنه لا وجود لشيء مثل الروح ، أو الذات كما هي معروفة في علم النفس السطحي المعاصر"[22] ،  نظرة فتجنشتاين للذات مختلفة عن رواد هذه المدرسة  لذلك تعد  حد للعالم ، "إن الذات لا تتصل بالعالم بقدر ما هي حد للعالم"[23] ، وهو يشبه الذات بالعين ومجال الرؤية، فالعين لا يمكن أن نراها ولا يمكن أن نستدل على أن الذي رأيناه هو العين ، هذا دليل على كون الذات حد للعالم وليس جزء فيه، وكان هذا الاختيار لفتجنشتاين من أجل أن يعطي أنا غير سيكولوجي أكدته إحدى شذرات الرسالة التي تقول " فهناك في الحقيقة معنى في الفلسفة ، على أساسه نستطيع أن نتحدث عن أنا غير سيكولوجي، فالأنا ترد في الفلسفة من خلال الحقيقة التي تجعل العالم عالمي ، والأنا الفلسفية ليست هي الإنسان ، ولا الجسم الإنساني ، أو الروح الإنسانية التي يتناولها علم النفس ، إنما هي ذات ميتافيزيقية ، إنها حد للعالم لا جزء عنه"[24] ، ففتجنشتاين يتبنى تصورا مخالفا للذات عن ما هو عليه تصور علماء النفس لها ، هذا بالإضافة إلى نظرته المختلفة عن سيكولوجية الجشطلت في جانب الإدراك ويتجلى هذا الاختلاف من خلال الرسالة التي تقول في إحدى شذراتها "ولئن تدرك مركب ما- فإن هذا يعني أن تدرك أن مكوناته قد ارتبطت على نحو معين هو كذا وكذا"[25] ، وارتباط مكونات هذا المركب على نحو معين هو ما يسمى بالبنية ، أي إدراك طريقة ترابط مكونات هذا المركب وهذا الإدراك ليس حسي بل هو منطقي أي إدراك مكونات هذا المركب المنطقية، وبذلك فالصورة المنطقية لدى فتجنشتاين لا ترتبط بالإدراكات الحسية ولا حتى بالذات لأن الذات هي في نظره حدا للعالم ، ونعلم أن هذه الأخيرة (أي الصورة المنطقية) هي التي تجعل التطابق بين اللغة والعالم ممكنا إلا أنها لا توجد في العالم ولا في اللغة ولا في الذات، وهذا ما يجعل الصورة المنطقية عند فتجنشتاين معلقة على العكس من مما فعلته نظرية الجشطلت التي ربطت الصورة بالإدراكات الحسية ، و فتجنشتاين قد تعمد على أن يعلق الصورة المنطقية لكي لا تخضع إلى مفاهيم سيكولوجيا، وهذا التعليق هو ما أنتج له ميتافيزيقا الصورة المنطقية ، رغم أنها هي التي تعطينا معنى في اللغة إلا أنها لا تحمل معنى وما لا يحمل معنى هو يظهر بذاته ، وكان الأهم في نظره هو الصورة المنطقية لأنها هي التي تعطينا شكل القضية ومن خلالها نحكم على القضية هل هي تحمل معنى أو لا، لكن على الرغم من أن الصورة المنطقية هي التي تعطينا معنى إلا أنها لاتحمل معنى، ولعل هذا ما جعل فتجنشتاين يختم الرسالة بالقول "إن قضاياي لتوضيح الموقف على النحو التالي ، إن من يفهمني سيعلم آخر الأمر أن قضايا كانت بغير معنى، وذلك بعد أن يكون قد استخدمها سلما في الصعود ، أي صعد عليها ليتجاوزها"[26].
إذن؛ فتجنشتاين بقي وفيا لتصوره للغة وخاصة الصورة المنطقية التي لا تمثل شيئا، وهي بذلك من مما لا يقال في اللغة وما لا يقال لا معنى له في نظر صاحب الرسالة بل فقط نكتفي بإظهاره ومن الإظهار انتقل فتجنشتاين إلى الصمت كما عبرت عنه آخر قضية في الرسالة.
خلاصة القول أن النقاش الذي خاضه فتجنشتاين مع نظرية الجشطلت بخوص الصورة أو الشكل الذي جعلته نظرية الجشطلت ذا ارتباط بالإدراك الحسي وهذا الآخير هو ما وضعت فيه نظرية الجشطلت الشكل أوالصورة ، في  حين ذهب فتجنشتاين على العكس من ذلك لكونه لم يخصص مكان ما لكي يضع فيه الصورة المنطقية وهذا نابع من توجهه المنطقي الذي يركز على صورة القضية بغض النظر عن مضمونها وهذه ما انتج لديه ميتافيزيقا الصورة المنطقية لدى فتجنشتاين باعتبارها تفهم ولا تقال.

فتجنشتاين( لودفيج)، رسالة منطقية - فلسفية ،تر،ع زمي إسلام، مراجعة زكي نجيب محمود، مكتبة الانجلو مصرية القاهرة، 1968، العبارة 2 ,16 [1] .                                                                                                                                                         
المرجع نفسه ، العبارة ، 2,161. [2]
. 2.17 المرجع نفسه، العبار ة، [3]
المرجع نفسه، العبارة 2,033. [4]
المرجع نفسه، العبارة 2,032. [5]
المرجع نفسه، العبارة 2,18 . [6]
المرجع نفسه ، العبارة 4,12. [7]
 المرجع نفسه، العبارة 4,121. [8]
 المرجع نفسه، العبارة 4,0312. [9]
 حمود (جمال)، فلسفة اللغة عند لدفيج فتجنشتاين، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة،ط1، 2009 ، ص224. [10]
  الرسالة، مرجع سبق ذكره، العبارة 4,124.  [11]
حمود جمال، فلسفة اللغة عند لدفيج فتجنشتاين ، مرجع سبق ذكره، ص224. نقلا عن:                                                                 :
Black.M :A Companion to Wittgenstein’s Tractatus, Cambridge University Press,1971,p.197 [12]
 غيوم( بول)،علم نفس الجشطلت،ترجمة، صلاح مخيمروعبده ميخائيل، مراجعة يوسف مراد، مؤسسة سجل العرب القاهرة،1963 ،ص17.  [13]
 الجشطلت بالألمانية على الرغم من أنها لا تناظر تماما الكلمة الألمانية  Gestltheorie وفي الفرنسية تستخدم كلمة Forme  بمعنى الصيغة  (*(
    "جشطلت"، وقد يكون من الأفضل ترجمتها بالفرنسة.   Structture بمعنى بنية أو  Organisation بمعنى انتظام.
بناني (عز العرب لحكيم )، الظاهراتية وفلسفة اللغة، (تطور مباحث الدلالة في الفلسفة النمساوية)، إفريقيا الشرق-المغرب 2003ص9. [14]
 المرجع نفسه، ص9-10.  [15]
غيوم بول، علم نفس الجشطلت، مرجع سبق ذكره، ص33. [16]
المرجع نفسه، ص35.   [17]
المرجع نفسه، ص34. [18]
 عاقل (فاخر)، مدارس علم النفس، دار العلم للملايين، بيروت-لبنان، ط7، 1987،ص155.[19]
 غيوم بول، علم نفس الجشطلت، مرجع سبق ذكره، ص86. [20]
 عاقل فاخر، مدارس علم النفس، مرجع سبق ذكره، ص156. [21]
 الرسالة، مرجع سبق ذكره، العبارة 5,5421.[22]
 المرجع نفسه ، العبارة 5,632.[23]
المرجع نفسه، العبارة 5,641.[24]
 المرجع نفسه، العبارة5,5423 .[25]
 المرجع نفسه، العبارة6,54 . [26]

الأربعاء، 21 ديسمبر 2016

كيف يُصدق الناس معلومة معينة رغم علمهم أنها خاطئة؟ – ترجمة: محمد الشهري

المكتبة العامة


عندما يجلس معجبو نادي Kansas City Royals أمام التلفاز وهم يعتقدون بعدم وجود علاقة بين قبعاتهم الجالبة للحظ (أو الجوارب أو القمصان) وبين نتيجة مباراة ضخمة في ملعب سيتي فيلد في نيويورك، الذي يبعد عنهم مسافة 1200 ميلا. فإنه لا يمكن إقناع الكثير من هؤلاء المعجبين بمشاهدة المباراة دون ارتداء تلك الملبوسات الجالبة للحظ.

ليس الأمر متعلقا بعدم فهم الناس أن تلك القبعات ليست لها علاقة علمية بنتيجة المباراة (ما عدا المؤمنين بالخرافات) ولكنه يتعلق بوجود طاقة للحدس لا يمكن إلغاؤها رغم لا معقوليتها الكلية.

بالنظر إلى دراسة قام بها طبيب نفسي يُدعى Paul Rozin وبعض زملائه في جامعة بنسلفينيا في 1986 فقد طُلِب  من المشاركين في هذه الدراسة إلصاق عبارتين على حاويتي سكر متطابقتين. هاتان العبارتان هما “سكر القصب” و”سيانيد الصوديوم (سُم)”. على الرغم من إعطاء حرية اختيار العبارات  فقد كانوا مترددين في استخدام الحاوية التي ألصقوا عليها عبارة “سُمّ”. كان حدسهم قويا بحيث أنه أثَّر على سلوكهم رغم إدراكهم عدم وجود علاقة بين الأمرين.

يعتمد الأطباء النفسيون الذي يدرسون صناعة القرار ونتائجه المباشرة دائما على الفكرة المشهورة التي جاء بها Daniel Kahneman في كتابه “Thinking, Fast and Slow,” وهي أن هناك وضعان (modes) لمعالجة المعلومات: هناك “نظام سريع” وهو حدسي وينتج الانطباعات والأحكام بسرعة وهناك “نظام بطيء” يعمل بتأنٍّ وجهد، ومسؤول عن معالجة ومراجعة مخرجات النظام السريع عندما يعثرُ على خطأ.

في أغلب الأوقات يكون النظام السريع كافيا لنا. عندما تقرر أخذ مظلتك عند خروجك من المنزل فأنت تنظر إلى السماء لترى إن كانت غائمة بما فيه الكفاية كي تمطر. تستخدم خلال ذلك طريقة مختصرة مبنية على التشابه (هل يُمكن أن تُمطر؟) بدلا من التفكير في الاحتمال. هذه الحالة بصفة عامة مثال رائع على مبدأ الحكم بناء على التجربة (rule of thumb).

لكن النظام السريع معرض أيضا للتشويش والأخطاء. إذ تدفعك الغيوم إلى الاعتقاد بأنها قد تمطر وفي نفس الوقت لا تأخذ في حسبانك أنك تزور سان دييقو (بدلا من سياتل) فمن المحتمل أن يكون حكمك قابلا للتشويش. (من الناحية الفنية: أنت تتجاهل القدر الكافي من قاعدة Base rate للحكم السليم على احتمال).

في هذه الحالة يستطيع النظام البطيء التدخل. عندما يُشير أحدهم إلى أن احتمال هطول المطر في سان دييقو ضعيف جدا حتى عندما تكون السماء غائمة جدا، فمن المُفترض أن تُراجع حُكمكَ وتترك المظلة في منزلك فقد وجد نظامك البطيء خطأً وقام بتصحيحه.

ناقش البروفيسور رايزن في إحدى أوراقه المنشورة حديثا في Psychological Review عدة حالات في موضوع الخرافة والتفكير الغامض/السحري حيث أشار إلى أن النظام البطيء لا يعمل بهذه الطريقة دائما. عندما يتوقف الإنسان لوهلة لمراجعة حقيقة كون حدسه الخرافي غير منطقي فإن نظامه البطيء الذي يُفترض أن يصلح الأخطاء لا يقوم غالبا بذلك. يستطيع البشر إدراك أن اعتقاداتهم الخرافية غير معقولة عقلًا لكن تلك الاعتقادات ما تزال موجودة وباقية بقوة متمثلة في سلوكهم. العثور على خطأ لا يقود الناس بالضرورة إلى تصحيحه.

من السهل التعرف على هذا الهوس المعرفي ضمن إطار الخرافة، لكنه ليس محصورا ضمنها. لو تبنى مدرب فريق بيسبول مثلا إستراتيجية أو خطة ill-advised sacrifice bunt فمن السهل افتراض عدم معرفته بأن الرهان  سيكون حتما على خسارة إستراتيجيته التي من المحتمل أن تؤذي فريقه. قد يملك كل المعلومات الصحيحة لكنه يختار أن لا يستخدمها بناء على حدسه في ذلك الموقف بالتحديد.

أحيانا يُفاقِم النظام البطيء المشكلة بدلا من إصلاحها فبدلا من أن يجعل قرار المدرب أكثر عقلانية فإنه قد يضاعِف سوء المشكلة بمحاولته عقلنة الحدس عن طريق خلق أسباب تبرر القيام بما قام به لاحقا، على الأقل في هذه الحالة بالتحديد.

بمجرد أن ندرك أن العثور على خطأ لا يقتضي بالضرورة معالجته (هما نظامان منفصلان، وليسا نظاما واحدا كما يُفترض حسب الـ “dual system” models) فإننا في وضع أفضل لمعالجة الخطأ. فمثلا بدلا من أن يوعِز إلى المدرب بأن القيام بتلك التضحية عمل غير عقلاني (وكأنه لا يعلم ذلك أصلا!) فإنه قد يعمل على التوصية بسياسات معينة بما يجب أن يفعله في مثل هذه المواقف قبل فوات الأوان وتشجيعه على الالتزام بها، لكن من الصعب جدا ابتكار عقلانية طويلة المدى لموسم كامل في البيسبول مثلا.

عندما يختار مدرب الفريق إستراتيجية ما بغض النظر عن معرفته بأن الإحصائيات تُشير إلى احتمال خسارة فريقه لجولة، فإنه لا يتَّبع الخرافة. قد يستطيع حتى عقلنة قراره وإقناع نفسه بأن قراره صحيح، لكن ما يقوم به يشبه في الحالة النفسية ذلك المعجب الذي يرتدي القبعة الجالبة للحظ أو لاعب الكرة الذي لا يقف على خط “الفاول”. كلاهما لديه حدس قوي ولكنهما لا يستطيعان خلخلته.

المصدر: ساسة بوست

ما هي الأنثروبولوجيا الثقافية ؟

المكتبة العامة



أولاً-تعريف الأنثروبولوجيا الثقافية‏
تعرّف الأنثروبولوجيا الثقافية -بوجه عام – بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع لـه ثقافة معيّنة. وعلى هذا الإنسان أن يمارس سلوكاً يتوافق مع سلوك الأفراد في المجتمع (الجماعة) المحيط به، يتحلّى بقيمه وعاداته ويدين بنظامه ويتحدّث بلغة قومه .‏
ولذلك، فإنّ الأنثروبولوجيا الثقافية :هي ذلك العلم الذي يهتمّ بدراسة الثقافة الإنسانية، ويعنى بدراسة أساليب حياة الإنسان وسلوكاته النابعة من ثقافته. وهي تدرس الشعوب القديمة، كما تدرس الشعوب المعاصرة. (بيلز وهويجر، 1976، ص 21)‏
فالأنثروبولوجيا الثقافية إذن، تهدف إلى فهم الظاهرة الثقافية وتحديد عناصرها. كما تهدف إلى دراسة عمليات التغيير الثقافي والتمازج الثقافي، وتحديد الخصائص المتشابهة بين الثقافات، وتفسّر بالتالي المراحل التطوّرية لثقافة معيّنة في مجتمع معيّن .‏
ولهذا استطاع علماء الأنثروبولوجيا الثقافية أن ينجحوا في دراساتهم التي أجروها على حياة الإنسان، سواء ما اعتمد منها على التراث المكتوب للإنسان القديم وتحليل آثارها، أو ما كان منها يتعلّق بالإنسان المعاصر ضمن إطاره الاجتماعي المعاش .‏
وهذا يدخل – إلى حدّ بعيد- فيما يسمّى (علم اجتماع الثقافة) والذي يعني تحليل طبيعة العلاقة بين الموجود من أنماط الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية، وتحديد وظائف هذا الإنتاج في المجتمعات ذات التركيب التنضيدي أو الطبقي. ويتضمنّ هذا التعريف الاعتبارات التالية : (لبيب، 1987، ص24- 26)‏
1- إنّ الحديث عن أنماط الإنتاج الفكري، يعني أنّ التجانس الثقافي بالمعنيين : الفلسفي والأنثروبولوجي، هو غير عمليات علم الاجتماع. لأنّ هذا التجانس يغطّي وجوداً حقيقياً لأنماط مختلفة من الثقافة، قد تتناقض مضموناً ووظيفة في المجتمع الواحد. فعلى الرغم من وجود بعض العوامل (الأنثروبولوجية) المشتركة، فلا توجد موضوعيّاً في المجتمعات ذات التركيب الطبقي “” ثقافة للجميع “، حتى وإن ادّعت أو أرادت هذه الثقافة لنفسها، أن تكون كذلك. فهناك من وجهة نظر اجتماعية نمطية ثقافية (ربّما في ذلك أنماط الثقافة الجماهيرية) يفضي تصنيفها وتحليلها، إلى إبراز التمايز الاجتماعي الذي تعبّر عنه بالضرورة. وهذا يعني أن اجتماعية الثقافة في نهاية الأمر، هي اجتماعية التباين في الثقافة وعدم مساواة في المجال الثقافي .‏
2- إنّ الحديث عن المجتمعات المنضّدة (الطبقية) ليس حصراً بقدر ما هو تأكيد على أنّ الإنتاج الفكري هو تعبير عن مرحلة معيّنة من التمايز بين الأصناف الاجتماعية الاقتصادية. وأن استعمال مفهوم التركيب التنضيدي Stratification، على الرغم من غموضه، يقحم في حقل التحليل الاجتماعي مجتمعات تاريخية قبل رأسمالية، قد يكون مضمونها الطبقي محلّ نقاش. وعلى هذا الأساس، تكون المجتمعات الوحيدة التي تخرج من الحقل الاجتماعي، هي تلك التي تسمّى عادة بالمجتمعات (البدائية )، والتي لم تصل فيها أنماط الإنتاج الفكري إلى درجة كافية من التمايز تسمح لها بتصنيف معيّن .‏
3- ليس المهمّ من وجهة النظر التحليلية إثبات العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي، بقدر ما هو تحليل أشكال هذه العلاقة في مرحلة معيّنة لمجتمع معيّن. ويعدّ هذا التحليل مصدراً أساسيّاً في المناقشات المتعلّقة بالروابط الموجودة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، والتي أفضت إلى تأكيد فكرة التبادل الدياليكتيكي القائم بينهما. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ اجتماعية الأدب والفن، ساهمت مساهمة متطوّرة في تحليل أشكال العلاقة بين الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية .‏
4- إن تحديد الكيفية التي يحوّل بها إنتاج فكري، كالقصّ أو المسرح مثلاً، معطيات الواقع، لا يكفي، بل لا بدّ من إبراز الوظيفة الاجتماعية / السياسية لهذا الإنتاج، ولا سيّما أنّ المنتجين ينتمون إلى فئات من المثقّفين يؤدّون أدواراً قد يعونها أو لا يعونها لصالح أصناف أو طبقات اجتماعية معيّنة. وهذه الوظيفة ليست مظهراً ثانوياً أو تكميلياً، بل هي بعدٌ من أبعاد العلاقة بين الثقافة والمجتمع، ولا يمكن تفسير أي حدث فكري من دونها. وهي في الوقت ذاته، توجد حلاًّ لما يسمّى ” استقلالية ” القيم الفكرية والجمالية، وذلك من خلال اكتشاف وظيفة استمرارية هذه القيم، أو بعثها في ظروف تاريخية محدّدة.‏
إنّ دراسة الوسط الثقافي، تكشف عن الآلية السيكولوجية التي توجّه سلوك الفرد، وتصرف النزعة العدوانية في مجالات تنفيس مهذّب. والمثال على ذلك في بعض النظم الاجتماعية، كما في طقوس (الآبوApo) التي تمارسها قبائل الآشانتي Ashanti في ساحل الذهب في أفريقيا الغربية .‏
ففي احتفالات الآبو، لا يسمح فقط، بل يجب، أن يسمع أصحاب السلطة، السخرية واللوم واللعنات من رعاياهم بسبب المظالم التي ارتكبوها. ويعتقد رجال الآشانتي أنّ في هذا ضمانة لكي لا تتعذّب أرواح الحكام بسبب كبت استياء الغاضبين. ولولا ذلك، لأفضى تراكم الاستياء وتعاظم قوّته، إلى إضعاف سلطة الحكام، بل وإلى قتلهم. ولا تتطلّب فعالية هذه الآلية (الفرويدية الجوهر) في التنفيس عن الكبت أي إيضاح. فهي تلقي ضوءاً أكبر على ما تقوم به من أشكال السلوك المنظّمة في نظم اجتماعية، من تصحيح لاختلال التوازن في نمو شخصيات الأفراد الذين تشملهم. (هرسكوفيتز، 1974، ص 59 )‏
ومن هذا المنطلق تهتمّ الأنثروبولوجيا الثقافية بالتراث والحياة داخل نطاق المجتمع، ويمكن بوساطتها الخوض في جوهر الثقافات المختلفة، ومعرفة كيف تحيا الأمم، من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية :‏
ما هي سبل العيش المتّبع لديهم؟ ما هي الطرائق التي يتبعونها في تربية أبنائهم ؟ كيف يعبّرون عن أنفسهم؟ ما هي طريقتهم في أداء عباداتهم؟ ما هي العلوم والآداب والفنون السائدة عندهم؟ وكيف ينقلون تراثهم إلى أجيالهم الجديدة من بعدهم؟ وغير ذلك من العادات والقيم وأساليب التعامل فيما بينهم .‏
ثانياً-نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ومراحل تطوّرها :‏
لم تظهر الأنثروبولوجيا الثقافية كفرع مستقلّ عن الأنثروبولوجيا العامة، إلاّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .‏
وربّما يعود الفضل في ذلك إلى العالم الإنكليزي / إدوارد تايلور / الذي يعدّ من روّاد الأنثروبولوجيا، والذي قدّم أول تعريف شامل للثقافة عام 1871 في كتابه ” الثقافة البدائية ” .وقد مرّت الأنثروبولوجيا الثقافية بمراحل متعدّدة، منذ ذلك الحين حتى وصلت إلى ما هي عليه في العصر الحاضر. ( Barnouw, 1972, p.7 )‏
مرحلة البدية : وتمتدّ من ظهور هذه الأنثروبولوجيا وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وكانت عبارة عن محاولات لرسم صورة عامة لتطوّر الثقافة منذ القدم، والبحث أيضاً عن نشأة المجتمع الإنساني.‏
وظهر في هذه الفترة إلى جانب العالم الإنكليزي / تايلور /، العالم الأمريكي / بواز / الذي أخذ بالاتجاه التاريخي في دراسة الثقافات الإنسانية، وذلك من جانبين ؛ أولهما : إجراء دراسات تفصيلية لثقافات مجموعات صغيرة، كالقبائل والعشائر، ومراحل تطوّرها .‏
وثانيهما : أجراء مقارنة بين تاريخ التطوّر الثقافي، عند مجموعة من القبائل، بغية الوصول إلى قوانين عامة أو مبادىء، تحكم نمو الثقافات الإنسانية وتطوّرها. وهذا ما يعطي أهميّة للأنثروبولوجيا باعتبارها علماً لـه منهجيّته الخاصّة .‏
المرحلة الثانية : وتقع ما بين (1900- 1915 م)، وتعدّ المرحلة التكوينية، حيث تركّزت الجهود في الأبحاث والدراسات، على مجتمعات صغيرة محدّدة لمعرفة تاريخ ثقافتها ومراحل تطوّرها، وبالتالي تحديد عناصر هذه الثقافة قبل أن تنقرض .‏
واستناداً إلى ذلك، جرت دراسات عديدة على ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، وتوصّل الباحث الأمريكي / وسلر / إلى أسلوب يمكن بوساطته من دراسة أي إقليم أو منطقة في العالم تعيش فيها مجتمعات ذات ثقافات متشابهة، أو ما أصطلح على تسميته بـ (المنطقة الثقافية ). وقد شبّه / وسلر / المنطقة الثقافية بدائرة، تتركّز معظم العناصر الثقافية في مركزها، وتقلّ هذه العناصر كلّما ابتعدت عن المركز.‏
المرحلة الثالثة : وتقع ما بين (1915- 1930 م) وتعدّ فترة الازدهار، حيث تميّزت بكثرة البحوث والمناقشات في القضايا التي تدخل في صلب علم الأنثربولوجيا الثقافية، ولا سيّما تلك الدراسات التي تركّزت في أمريكا .‏
ويرجع ازدهار الأنثربولوجيا في تلك الفترة، إلى نضج هذا العلم ووضوح مفاهيمه ومناهجه. وترافق ذلك بازدهار المدرسة التاريخية في أمريكا، وظهور المدرسة الانتشارية في إنكلترا، ولا سيّما بعد الأخذ بمفهوم (المنطقة الثقافية) الذي طرحه / وسلر / كإطار لتحليل المعطيات الثقافية وتفسيرها، والتوصّل إلى العناصر المشتركة بين الثقافات المتشابهة.‏
المرحلة الرابعة : ومدّتها عشر سنوات فقط، وتقع ما بين (1930- 1940 م). وعلى الرغم من قصر مدّتها، فقد أطلق عليها الفترة التوسّعية، حيث تميّزت باعتراف الجامعات الأمريكية والأوروبية بالأنثروبولوجيا الثقافية كعلم خاص في إطار الأنثروبولوجية العامة، وخصّصت لها فروع ومقرّرات دراسية في أقسام علم الاجتماع في الجامعات.‏
وظهرت في هذه الفترة النظرية (التكاملية) التي تبنّاها / سابير / عالم الاجتماع الأمريكي، واستطاع من خلالها تحديد مجموعة متناسقة من أنماط السلوك الإنساني، والتي يمكن اعتمادها في دراسة السلوك الفردي، لدى أفراد مجتمع معيّن، حيث أنّ جوهر الثقافة هو في حقيقة الأمر، ليس إلاّ تفاعل الأفراد في المجتمع بعضهم مع بعض، وما ينجم عن هذا التفاعل من علاقات ومشاعر وطرائق حياتية مشتركة .‏
وقد تأثّرت الأنثروبولوجيا في هذه الفترة- إلى حدّ بعيد- بالأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما في مفاهيمها ومناهجها، وذلك بفضل الأبحاث التي قام بها كلّ من / مالينوفسكي وبراون / في مجالات الأنثربولوجيا الاجتماعية .‏
المرحلة الخامسة : وهي الفترة المعاصرة التي بدأت منذ عام 1940، وما زالت حتى الوقت الحاضر. وتمتاز هذه المرحلة بتوسّع نطاق الدراسات الأنثروبولوجية، خارج أوروبا وأمريكا، وانتشار الأنثروبولوجيا الثقافية في العديد من جامعات الدول النامية، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينينية.‏
وترافق ذلك مع ظهور اتّجاهات جديدة في الدراسات الأنثربولوجية، كان الاتّجاه القومي في مقدّمة هذه الاتّجاهات الحديثة في الأنثروبولوجيا الثقافية، والذي يهدف إلى تحديد الخصائص الرئيسة للثقافة القوميّة. وقد أخذت بهذا الاتّجاه الباحثة الأمريكية / روث بيندكيت / التي قامت بدراسة الثقافة اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية .‏
ويسمّى الاتجاه القومي في تقييم الثقافة : ” الانطوائية القومية ” والتي تعني: أنّ الانسان يفضّل طريقة قومه في الحياة، على طرائق الأقوام الأخرى جميعها. تلك هي النتيجة المنطقية لعملية التثقيف الأولى، والتي يتّفق بها شعور معظم الأفراد نحو ثقافتهم الخاصة، سواء أفصحوا عن هذا الشعور أو لم يفصحوا .‏
وتتجلّى الانطوائية القومية لدى الشعوب البدائية بأحسن أشكالها ، في الأساطير والقصص الشعبية، والأمثلة والعادات اللغوية .. فأسطورة أصل العروق البشرية لدى هنود (الشيروكي) تعطينا مثالاً حيّاً عن الانطوائية القومية. تقول الأسطورة :‏
” صوّر الخالق الإنسان بأن صنع أولاً فرناً وأوقد النار فيه، ثمّ صنع من عجينة ثلاثة تماثيل على شكل الإنسان، ووضعها في الفرن وانتظر شيّها (شواءها ). غير أنّ لهفة الخالق إلى رؤية نتيجة عمله الذي يتوّج تجربته في الخلق، كانت من الشدّة بحيث أخرج التمثال الأول مبكراً، فكان – وللأسف- غير ناضج شاحباً باهت اللون، ومن نسله كان العرق الأبيض. أمّا التمثال الثاني، فكان ناضجاً جيّداً لأنّ مدّته في الشواء كانت مضبوطة وكافية، فأعجبه شكله الأسمر الجميل، وكان هذا سلف الهنود. وانصرف الخالق إلى تأمّل صورته، ناسياً أن يسحب التمثال الثالث من الفرن حتى اشتمّ رائحة الاحتراق. فتح باب الفرن فجأة، فوجد هذا التمثال متفحماً أسود اللون .. فكان ذلك مدعاة للأسف، ولكن لم يعد بالإمكان حيلة، وكان هذا أول رجل أسود .” (هرسكوفيتز، 1974، ص 72 )‏
بهذه الصورة تبدو الانطوائية القومية لدى الكثير من الشعوب .. حيث يصرّ الإنسان / الفرد على التعبير عن صفات قومه الحميدة .. ولهذا يحكم أي إنسان على النظام القيمي/ الاجتماعي لدى أي شعب آخر، من خلال العلاقة التي تربط هذا الشعب بشعبه، وفق درجة الرغبة والقبول في ذلك، والتي قد تصل إلى حدود الرفض المطلق أو القبول المطلق، وفقاً لمعايير عامة .‏
وكانت من أهمّ الاتجاهات الحديثة أيضاً في الأنثروبولوجيا الثقافية، تلك الدراسات التي عنيت بالمجتمعات المتمدّنة، وما أطلق عليها ” دراسة الحالة “. كدراسة أوضاع قرية أو عدد من القرى المتجاورة، أو في منطقة معيّنة، أو دراسة ثقافة خاصة بمجموعة أو بفئة من البشر. إضافة إلى دراسات أكاديمية تتعلّق بخصائص الأنثروبولوجيا الثقافية ومبادئها، ومناهج البحث فيها وطرائقها وأساليبها .. وغيرها ممّا يسهم في إجراء الدراسات على أسس موضوعية وعلمية تحقّق الأهداف المرجوة منها.‏
ثالثاً-أقسام الأنثروبولوجيا الثقافية :‏
على الرغم من تعدّد العناصر الثقافية، وتداخل مضموناتها وتفاعلها في النسيج العام لبنية المجتمع الإنساني، فقد اتّفق الأنثروبولوجيون على تقسيم الأنثروبولوجيا الثقافية إلى ثلاثة أقسام أساسيّة، هي : (علم الآثار – علم اللغويات – وعلم الثقافات المقارن) وفيما يلي شرح لكلّ منها :‏
1-علم اللغويات :‏
هو العلم الذي يبحث في تركيب اللغات الإنسانية، المنقرضة والحيّة، ولا سيّما المكتوبة منها في السجلاّت التاريخية فحسب، كاللاتينية أو اليونانية القديمة، واللغات الحيّة المستخدمة في الوقت كالعربية والفرنسية والإنكليزية. . ويهتمّ دارسو اللغات بالرموز اللغوية المستعملة، إلى جانب العلاقة القائمة بين لغة شعب ما، والجوانب الأخرى من ثقافته، باعتبار اللغة وعاء ناقلاً للثقافة.‏
إنّ اللغة من الصفات التي يتميّز بها الكائن الإنساني عن غيره من الكائنات الحيّة الأخرى، فهي طريقة التخاطب والتفاهم بين الأفراد والشعوب، بواسطة رموز صوتية وأشكال كلامية متّفق عليها، ويمكن تعلّمها .. علاوة على أنّها وسيلة لنقل التراث الثقافي / الحضاري، حيث يمكن استخدام معظم اللغات في كتابة هذا التراث .‏
يحتلّ علم اللغة مكاناً ممتازاً في مجمل العلوم الاجتماعية التي ينتمي إليها ؛ فهو ليس علماً اجتماعياً كالعلوم الأخرى، بل العلم الذي قدّم إنجازات عظيمة، وتوصّل إلى صياغة منهج وضعي ومعرفة الوقائع الخاصة. ولذلك، ارتبط علماء النفس والاجتماع والأثنوغرافيا بالحرص على تعلّم الطريق المؤدّية إلى المعرفة الوضعية للوقائع الاجتماعية، من علم اللغة الحديث .‏
يدرس علماء الأنثروبولوجيا، اللغة في سياقها الاجتماعي والثقافي، في المكان والزمان. ويقوم بعضهم باستنتاجات تتعلّق بالمقوّمات العامة للغة وربطها بالتماثلات الموجودة في الدماغ الإنساني. ويقوم آخرون بإعادة بناء اللغات القديمة من خلال مقارنتها بالمتحدّرات عنها في الوقت الحاضر، ويحصلون من ذلك على اكتشافات تاريخية عن اللغة.‏
وما يزال عدد من علماء الأنثروبولوجيا اللغوية، يدرسون اختلافات اللغة ليكتشفوا الادراكات والنماذج الفكرية المختلفة، في عدد وافر من الحضارات. ويدخل في ذلك، دراسة الاختلافات اللغوية في سياقها الاجتماعي، وهو ما يدعى (علم اللغة الاجتماعي) الذي يدرس الاختلاف الموجود في لغة واحدة، ليظهر كيف يعكس الكلام الفروقات الاجتماعية .( Kattak,1994, 10 )‏
إنّ التشابه المنهجي الشديد بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من جهة، وعلم اللغة من جهة أخرى، يفترض واجباً خاصاً من التعاون فيما بينها، حيث يستطيع علم اللغة أن يقدّم البراهين المساعدة في دراسة مسائل القرابة، من خلال تقديم أصول الكلمات وما ينتج عنها من علاقات في بعض ألفاظ القرابة التي لم تكن مدركة بصورة مباشرة، من قبل عالم الأنثربولوجيا أو عالم الاجتماع، وبذلك يلتقي علماء الأنثروبولوجيا، بهدف مقارنة الفروع التي ينتجها هذان العلمان. ويقترب اللغويون من علماء الأنثروبولوجيا، آملين في جعل دراساتهم أكثر واقعية، وفي المقابل، يلتمس الأنثروبولوجيون اللغويين كلّما توسّموا فيهم القدرة على إخراجهم من الاضطراب الذي ألقتهم فيه على ما يبدو، أُلفتهم الزائدة مع الظاهرات المادية والتجريبية. (ستروس، 1977، ص 49 و92)‏
ولذلك، يلاحظ أنّ فرع اللغويات هو حالياً من أكثر فروع الأنثروبولوجيا الثقافية، استقلالاً وانعزالاً عن الفروع الأخرى .فدراسة اللغات يمكن أن تجري دون اهتمام كبير بعلاقاتها مع الجوانب الأخرى في النشاط الإنساني، وهذا هو الواقع في حالات كثيرة .ومما لا شك فيه، أنّ اللغات – بما فيها من تراكيب معقّدة وغريبة، وما تنطوي عليه من تنوّع هائل، ولا سيّما عند الشعوب البدائية، تزوّد الباحث بمادة دراسية غنيّة لا يمكن حصرها .( لينتون، 1967، ص 20)‏
ولذلك، يعطي / ليفي ستروس / أهميّة بالغة لِلُّغَةِ ويعتبرها أحد الأركان الأساسية في علم الإنسان، إن لم تكن حجر الزاوية في ذلك العلم، وعلى أساس أنّ اللغة هي الخاصية الرئيسة التي تميّز الإنسان عن الكائنات الحيّة الأخرى. ولذلك، يعتبرها الظاهرة الثقافية الأساسية التي يمكن عن طريقها، فهم كلّ صور الحياة الاجتماعية. وهذا ما يؤكّده في كتابه (المناطق المدارية الحزينة) والذي يعرف في العالم العربي باسم (الآفاق الحزينة) وهو نوع من السيرة الذاتية في قالب أنثروبولوجي، حيث يقول : ” حين نقول الإنسان .. فإنّنا نعني اللغة. وحين نقول اللغة … فإنّنا نقصد المجتمع ..”‏
وهذا ما دفعه إلى استخدام مناهج اللغويات الحديثة وأساليبها، في تحليله للمعلومات الثقافية، وكلّ مادة غير لغوية. كما جعله يعطي الكلمة (الدال) من الأهميّة أكثر ممّا يعطي للمعنى (المدلول )، ولا سيّما أنّ الدال الواحد (الكلمة الواحدة) قد يكون لـه مدلولان مختلفان بالنسبة لشخصين مختلفين، وذلك تبعاً لاختلاف تجاربهما. بل أنّ الدال الواحد، قد تكون لـه مدلولات مختلفة بالنسبة للشخص نفسه، وفي أوقات أو ظروف مختلفة. (أبو زيد، 2001، ص 86 )‏
وعلى الرغم من أنّ علماء اللغة لم يتمكّنوا من تحديد أسبقية لغة على أخرى، فقد توصّلوا من خلال دراساتهم إلى تصنيف اللغات المختلفة بحسب طبيعتها واستخدامها، في ثلاثة أقسام هي :‏
-اللغات المنعزلة : وهي اللغات التي تتخاطب بها فئات منعزلة عن الفئات الأخرى، ولا تفهمها إلاّ تلك الفئات المتحدّثة بها. وهي لغة لا تكتب وليس لها تاريخ .‏
-اللغات الملتصقة : وهي اللغات التي تتخاطب بها شعوب كبيرة، ولكنّها ملتصقة بهم وبتراثهم. وهي لغات معروفة، ولكن ليس لها قواعد، وإنّما تعتمد على المقاطع والكلمات، مثل : اللغة الصينيّة .‏
-اللغات ذات القواعد (النحو والصرف) : وهي اللغات الحديثة التي تستخدمها الأمم المتحضّرة، لها قواعد نحوية وصرفية، تضبط جملها وقوالبها اللغوية، مثل : اللغة العربية، واللغات الأوربية ،( زرقانة، 1958، ص 148)‏
ومهما يكن هذا التقسيم، فإنّ اللغات المستعملة في العالم، جميعها، شُكّلت من أصوات متناسقة تدلّ على هذه اللغة أو تلك، وفق أصول وقواعد خاصة بها. ولهذا يقسم علم اللغويات إلى أقسام فرعيّة، من أهمّها : علم اللغات الوصفي، وعلم أصول اللغات .‏
1/1- علم اللغات الوصفي : يهتمّ بتحليل اللغات في زمن محدّد، ويدرس النظم الصوتية، وقواعد اللغة والمفردات. ويعتمد عالم اللغات في دراساته هنا على اللغة الكلامية، ولذلك يستمع إلى الأفراد، ولا سيّما إذا كانت الدراسة متعلّقة بلغات لم تكتب. فيقوم عالم اللغة بكتابة تلك اللغات عن طريق استخدام الرموز المتعارف عليها .‏
ومهما يكن الأمر، فإنّ عملية تحليل اللغات وتصنيفها، كعملية تحليل الأجناس البشرية وتصنيفها، لا تشكّل إلاّ الخطوة الأولى لغيرها من الدراسات المهمّة .فاللغات، على اختلاف أنواعها، تمثّل أداة قيّمة في يد العالم .. ولا شكّ في أنّها ستساعده في النهاية، على التوصّل إلى فهم أعمق لسيكولوجية الأفراد والمجتمعات.( لينتون، 1967، ص 20 )‏
وتتركّز معظم تلك الدراسات في المجتمعات البدائية التي تستخدم اللغة الكلامية، ولم تعرف القراءة والكتابة. فلا يوجد مجتمع إنساني – مهما تخلّفت ثقافته – من دون لغة كلامية يتفاهم بها أبناؤه .‏

1/2-علم أصول اللغات :‏
يهدف إلى تحديد أصول اللغات الإنسانية. ولذلك، يختصّ بالجانب التاريخي والمقارن، حيث يدرس العلاقات التاريخيّة بين اللغات التي يمكن متابعة تاريخها، عن طريق وثائق مكتوبة. وتكون المشكلة أكثر تعقيداً بالنسبة للغات القديمة التي لم تترك أية وثائق مكتوبة تدلّ عليها. ولكن ثمّة وسائل خاصة يمكن للباحث أن يستخدمها في دراسة تاريخ تلك اللغات.‏
وهناك علاقات تعاونية بين عالم اللغة، والأنثروبولوجي الثقافي، وذلك لأنهّ على كلّ من الأثنولوجي والأنثروبولوجي الاجتماعي، أن يدرس لغة المجتمع الذي يجري بحثه عليه.‏
وبناء على ذلك، تقدّم علم اللغويات – في العصر الحاضر – وأصبح يستخدم مناهج علمية وآليات دقيقة، في دراسة لغات العالم .. واستطاع من خلال ذلك أن يتوصّل إلى قوانين أساسية وعامة، لا تقلُّ أهميّة في دقّتها عن قوانين العلوم الطبيعية. (وصفي، 1971، ص 31-32)‏
ومن المحتم أن تثير (مورفولوجية) أية لغة، أسئلة بعيدة المدى تتّصل بميداني : الفيزياء والقيم .. فاللغة ليست مجرّد أداة للاتّصال أو لاستثارة الانفعالات فحسب، وإنّما هي أيضاً وسيلة لتصنيف الخبرات. والخبرة هي أشبه ما تكون بخطّ متّصل الأجزاء، يمكن تقسيمه بطرق مختلفة .( لينتون، 1967، ص 182)‏
ولذلك، فإن الدراسات اللغوية المقارنة، توضح أنّ الكائن البشري على الرغم من استخدامه لغة واحدة، فهو يقوم بعملية انتقائية غير واعية للمعاني التي يستخدمها. وذلك لأنّه لا يستطيع الاستجابة الدقيقة للمنبّهات المتنوّعة في محيطه الخارجي .‏
2- علم الآثار القديمة (الحفريات Archeology):‏
يعنى بشكل خاص بجمع الآثار والمخلّفات البشرية وتحليلها، بحيث يستدلّ منها على التسلسل التاريخي للأجناس البشرية، في تلك الفترة التي لم تكن فيها كتابة، وليس ثمّة وثائق مدوّنة (مكتوبة) عنها .‏
ويبحث هذا الفرع من علم الأنثروبولوجيا الثقافية، في الأصول الأولى للثقافات الإنسانية، ولا سيّما الثقافات المنقرضة. ولعلّ علم الآثار القديمة أكثر شيوعاً بين فروع الأنثروبولوجيا، وربّما كانت مكتشفاته مألوفة لدى الشخص العادي أكثر من مكتشفات الفروع الأخرى. ومثال ذلك، أنّ اسم (توت عنخ آمون) أحد ملوك قدماء المصريين، يكاد يكون معروفاً لدى الأوساط الشعبية العامة. (لينتون، 1967، ص 22 )‏
وعلى الرغم من أنّ الهدف الأوّل من هذه الأبحاث، هو الحصول على معلومات عن الشعوب القديمة، إلاّ أنّ الهدف النهائي يتمثّل في مساعدة القرّاء والدارسين، في تفهّم العمليات المتّصلة بنمو الثقافات أو (الحضارات) وازدهارها أو انهيارها، وبالتالي إدراك العوامل المسؤولة عن تلك التغيّرات .‏
ومن المعروف لدى علماء الأنثروبولوجيا، أنّ الكتابة ظهرت منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وما كتب من ذلك التاريخ معروف لدى الدارسين والباحثين، ويمكن بواسطة هذه الآثار المكتوبة معرفة الكثير عن الإنسان. (ناصر، 1985، ص 62)‏
فعالم الآثار يعتمد في دراسته، على البقايا التي خلفها الإنسان القديم، والتي تمثّل طبيعة ثقافاته وعناصرها. وقد توصّل علماء الآثار إلى أساليب دقيقة لحفر طبقات الأرض التي يتوقّع وجود بقايا حضارية فيها. كما توصّلوا إلى مناهج دقيقة لفحص تلك البقايا وتحديد مواقعها، وتصنيفها من أجل التعرّف إليها، ومن ثمّ مقارنتها بعضها مع بعض. ويستطيع علماء الآثار باستخدام تلك المناهج، استخلاص الكثير من المعلومات عن الثقافات القديمة، وتغيّراتها، وعلاقة كلّ منها بغيرها.‏
ويستخدم علماء الأنثروبولوجيا بقايا المواد كمعطيات رئيسة لاستخدام المعرفة العلمية والنظرية، حيث يقوم علماء الآثار بتحليل النماذج الحضارية والتطوّرات التي طرأت عليها، فتكشف النفايات عن الأوضاع الخاصة بالاستهلاك والنشاطات.‏
فالحبوب البرية والحبوب المنزلية / مثلاً : تمتلك خصائص مختلفة تسمح لعلماء الآثار أن يميّزوا بين النبات الذي تمّ جلبه، وذلك الذي تمّت العناية به محلياً. كما يكشف فحص عظام الحيوانات، عن أعمار هذه الحيوانات التي تمّ ذبحها، ويزوّد بمعلومات أخرى مفيدة، تحدّد فيما إذا كانت هذه الأنواع بريّة أو مدجّنة. ويقوم علماء الآثار من خلال بحثهم في هذه المعلومات، بإعادة بناء نماذج الإنتاج والتجارة والاستهلاك .Kattak, 1994,8))‏
ومع أنّ الهدف القريب الواضح للأبحاث (الأرخلوجية )، هو استكمال معارفنا ومعلوماتنا عن ماضي الإنسان، فإنّ الهدف النهائي هو مساعدتنا في تفهّم العمليات المتّصلة، بنمو الحضارات وازدهارها وانهيارها، وإدراك العوامل المسؤولة عن هذه الظاهرات التاريخية. وقد أصبحت نتائج الدراسات (الأرخلوجية) المتّصلة بعمليات التطوّر، مألوفة لدى العلماء الأنثروبولوجيين جميعهم، والذين يعنون بدراسة ظاهرات التغيير الثقافي. (لينتون، 1967، ص24)‏
ولذلك، يلجأ علماء الآثار – الأنثربولوجيون – إلى الاستفادة من أبحاث علماء الجيولوجيا والمناخ، للتحقّق من (هوية) البقايا التي يكتشفونها، وتاريخ وجودها. كما يتعاون علماء الآثار أيضاً، مع المتخصّصين في الأنثروبولوجيا الطبيعية، وذلك لكثرة وجود( اللُقى) الإنسانية في الحفريات، مع البقايا الثقافية. وقد نجح علماء الآثار المحدثون، في استخدام (الكربون المشعّ) كوسيلة لتحديد عمر ” البقايا ” بدقّة. (وصفي، 1971، ص 31)‏
ويمكن القول – بوجه عام – إنّ علماء الآثار القديمة، يحاولون اكتشاف ذلك الجزء من التاريخ الماضي الذي لا تتعرّض لـه السجلاّت المكتوبة. ويقبل عالم الآثار القديمة على ميدان اختصاصه بحماسة، لأنّ عمله يقترن بمجموعة من الدوافع والمثيرات المغرية، كالرغبة في إجراء أبحاث علمية شائقة، واحتمال العثور على كنوز ثمينة …( لينتون، 1967، ص 23 )‏
فعلم الآثار إذاً، يدرس تاريخ الإنسان وما رافقه من تغيّرات ثقافية، في محاولة لبناء تصوّر كامل عن الحياة الاجتماعية التي عاشتها المجتمعات القديمة، مجتمعات ما قبل التاريخ. وإذا كان علم الآثار يعتمد – إلى حدّ ما على التاريخ – فإنّه يختلف عن علم التاريخ في أنّه لا يدرس المراحل الحضارية المؤرّخة، وإنّما يدرس تلك الفترات التي عاشها المجتمع الإنساني قبل اختراع الكتابة وتدوين التاريخ.‏
3-علم الثقافات المقارن (الأثنولوجياEthnology) :‏
تعتبر الأثنولوجيا من أقرب العلوم إلى طبيعة الأنثروبولوجيا، بالنظر إلى التداخل الكبير فيما بينهما من حيث دراسة الشعوب وتصنيفها على أساس خصائصها، وميزاتها السلالية والثقافية والاقتصادية، بما في ذلك من عادات ومعتقدات، وأنواع المساكن والملابس، والمثل السائدة لدى هذه الشعوب.‏
ولذلك، تعدّ الأثنولوجيا فرعاً من الأنثروبولوجيا، يختصّ بالبحث والدراسة عن نشأة السلالات البشرية، والأصول الأولى للإنسان. وترجع لفظة (أثنولوجيا) إلى الأصل اليوناني (أثنوس Ethnos) وتعني دراسة الشعوب. ولذلك تدرس الأثنولوجيا، خصائص الشعوب اللغوية و الثقافية والسلالية. (اسماعيل، 1973، ص 460)‏
وتعتمد الأثنولوجيا في تفسير توزيع الشعوب – في الماضي والحاضر – على أنّه نتيجة لتحرّك هذه الشعوب واختلاطها، وانتشار الثقافات التي ترجع إلى كثرة الحوادث المعقّدة، التي بدأت مع ظهور الإنسان منذ مليون (ملايين) من السنين. فهي تبحث، مسألة المصادر التاريخية للشعوب، من أين أتت قبائل الهنود الحمر؟مثلاً، وأي طريق سلكت؟ ومتى احتلّت هذه الشعوب المناطق الموجودة فيها الآن، وكيف؟ ومن أية جهة تسلّلت إلى أمريكا؟ وكيف انتشرت فيها؟ ومتى ظهرت أجناس الهنود الحمر؟ وما هي الميزات اللغوية والملامح الثقافية التي نشرتها ثقافة الهنود الحمر، قبل احتكاكها بالثقافة الأوروبية؟ وغير ذلك ممّا يفيد في الدراسات الوصفيّة المقارنة للمجتمعات الإنسانية وثقافاتها. (رشوان، 1988، ص 81 )‏
وتدخل في ذلك دراسة أصول الثقافات والمناطق الثقافية، وهجرة الثقافات وانتشارها والخصائص النوعية لكلّ منها، دراسة حياة المجتمعات في صورها المختلفة. أي أنّه العلم الذي يبحث في السلالات القديمة وأصولها وأنماط حياتها، كما يبحث في الحياة الحديثة في المجتمعات الحاضرة، وتأثّرها بتلك الأصول القديمة.‏
ولذلك، تعرّف الأثنولوجيا بأنّها : دراسة الثقافة على أسس مقارنة وفي ضوء نظريات وقواعد ثابتة، بقصد استنباط تعميمات عن أصول الثقافات وتطوّرها، وأوجه الاختلاف فيما بينها، وتحليل انتشارها تحليلاً تاريخياً ،( كلوكهون، 1964، ص 31)‏
وتهتمّ النظرية الأثنولوجية بدراسة الثقافة، عن طريق القوانين المقارنة، ولا سيّما مقارنة قوانين الشعوب البدائية، حيث يهتمّ علماء القانون المقارن بدراسة بعض العادات والنظم والقيم والتقاليد، مثل : النسب الأبوي أو الأمومي، سلطة الأب، الحياة الإباحية، الاختلاط الجنسي، وطرائق الزواج المختلفة. (حمدان، 1989، ص 103)‏
ويبحث علم الأثنولوجيا في طرائق حياة المجتمعات التي لا تزال موجودة في عصرنا الحاضر، أو المجتمعات التي يعود تاريخ انقراضها إلى عهد قريب، وتتوافر لدينا عنه سجلاّت تكاد تكون كاملة. فلكلّ مجتمع طريقته الخاصة في الحياة، وهي التي يطلق عليها العلماء الأنثروبولوجيون مصطلح ” الثقافة “. ويعدّ مفهوم الثقافة من أهمّ الأدوات التي يتعامل معها الباحث الأثنولوجي. (لينتون، 1967، ص 25)‏
ومن ميزات الأثنولوجيا، أنّها تعتمد عمليتي التحليل والمقارنة ، فتكون عملية التحليل في دراسة ثقافة واحدة، بينما تكون عملية المقارنة في دراسة ثقافتين أو أكثر. وتدرس الأثنولوجيا الثقافات الحيّة (المعاصرة) والتي يمكن التعرّف إليها بالعيش بين أهلها، كما تدرس الثقافات المنقرضة (البائدة) بواسطة مخلّفاتها الأثرية المكتوبة والوثائق المدوّنة. وتهتمّ إلى جانب ذلك، بدراسة ظاهرة التغيير الثقافي من خلال البحث في تاريخ الثقافات وتطوّرها .( وصفي، 1977، ص 30 )‏
وقد كان هذا الفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية، يلقى اهتماما قليلاً قياساً للفروع الأنثروبولوجية الأخرى، حيث قام بعض علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، بدراسة الطرائق التي تؤثّر من خلالها المفاهيم الاجتماعية المحدودة في سلوك الأشخاص وأمزجتهم، ومعرفة الحياة الإنسانية للشعوب التي ما زالت تحيا حياة بسيطة، ولا سيّما تلك الشعوب التي تعيش في : أستراليا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، وفي بعض المناطق في آسيا .‏
وكان علماء الأثنولوجيا، وإلى عهد قريب جدّاً، يقصرون أبحاثهم في الظواهر الاجتماعية والإنسانية للمجتمعات الثقافية. وكانوا يعتبرون الفرد كما لو أنّه مجرّد ناقل للثقافة، أو حلقة من سلسلة من الوحدات المتماثلة التي يمكن أن تستبدل الواحدة منها بأخرى. ولكن، وبعد دراسات عديدة، تبيّن لهؤلاء العلماء أن المعايير الشخصيّة، تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات والثقافات. (ناصر، 1985، ص 66)‏
فمنذ البدايات الأولى لتطوّر الأبحاث الأثنولوجية، والعلماء يحاولون اكتشاف الأسباب التي تجعل مجتمعات معيّنة، تطوّر محاور اهتمام خاصة بها، وتتقبّل أو تنبذ تجديدات مختلفة من النوع الذي يبدو أنّه لا ينطوي على أيّة عوامل نفعية، وكذلك الأسباب التي تجعل الثقافات المتنوّعة تعكس – بصورة منتظمة – اتّجاهات مختلفة في تطوّرها. وساد الاعتقاد حيناً من الزمن أنّ هذه الظاهرات يمكن عزوها إلى وقائع تاريخيّة عارضة، غير أنّ هذه النظرية هي ضرب من الافتراض الجدلي الذي لا يستند إلى أي برهان أو دليل. (لينتون، 1967، ص 32)‏
ويتّفق معظم العلماء على أنّ مصطلح (أثنوجرافيا) يطلق على الدراسة التي تعمد إلى وصف ثقافة ما في مجتمع معيّن، بينما يطلق مصطلح (أثنولوجيا) على الدراسات التي تجمع بين الوصف والمقارنة. فالأثنولوجي يهدف من تلك المقارنات الوصول إلى قوانين عامة للعادات الإنسانية، ولظاهرة التغيير الثقافي وآثار الاتصال بين الثقافات المختلفة، كما يهدف الأثنولوجي أيضاً إلى تصنيف الثقافات ضمن مجموعات أو أشكال، على أساس مقاييس (معايير) معيّنة. (وصفي، 1971، ص 25)‏
وهذا يعني أنّ الأهداف النهائية للعالِم الأثنولوجي، هي في الأساس، مماثلة لأهداف عالِم الاجتماع وعالِم الاقتصاد .. فكلّ عالم من هؤلاء، يحاول أن يفهم كيف تعمل المجتمعات والثقافات؟ وكيف ولماذا تتغيّر الثقافات؟ كما يحاول أن يتوصّل إلى تعميمات معيّنة، أو ” قوانين ” بحسب المصطلح الدارج للمفهوم، لتساعده في التنبّؤ باتّجاه سير الأحداث، بقصد التحكّم به في النهاية. (لينتون، 1967، ص 27 )‏
فإذا كان القول بأنّ الأثنولوجيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة رأسية، أي دراسة مقارنة زمانية تاريخية لثقافات الماضي، مع متابعة دراسة تلك الثقافات وتطوّرها ومقارنتها عبر التاريخ، فإنّ الأثنوجرافيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة أفقية محدّدة المكان، وهكذا تكون الأثنولوجيا دراسة مقارنة في الزمان، بينما تكون الأثنوجرافيا دراسة مقارنة في المكان. (اسماعيل، 1973،‏
ص 26)‏
وكان من نتائج الاحتكاك بين علم الاجتماع وعلم الأثنولوجيا، أن تزوّد علم الاجتماع بأساليب جديدة ثبت أنّها ذات قيمة خاصة للباحث الاجتماعي، الذي يعنى بدراسة المجتمعات الحديثة الصغيرة. أضف إلى ذلك، أنّ الاحتكاك بين العلمين وسّع مجال علم الاجتماع، وأدّى بالتالي إلى تغيّر بعض صيغه النظرية. (لينتون، 1967، ص 32 )‏
لقد تبلورت الأثنولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية ، وشكّلت ما يمكن الإشارة إليه بالأنثروبولوجيا المعاصرة. وساعد على هذا الاتجاه ودعمه، ازدياد عدد الأنثوبولوجيين في البلدان النامية، بعد إن كانت هذه المهنة وقفاً على الباحثين الغربيين. ولم تعد الأثنولوجيا تقصر مجال دراستها على المجتمعات الصغيرة الحجم، أو المحليّة ذات الثقافات غير الغربية، وإنّما اتجهت لتوسيع مجالها بحيث تشمل الثقافات والمجتمعات كلّها، وعلى اختلاف حجمها وموقعها. (فهيم، 1986، ص 36)‏
غير أنّ هذا التنوّع الذي اتصفت به الأثنولوجيا في القرن العشرين، أدّى إلى حدوث بعض التضارب في الدراسات، وهذا ما أفقدها الكثير من الاستقرار الأكاديمي، علاوة على تمسّكها بالنواحي المنهجيّة أكثر من توصّلها إلى نظريات علمية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول كيفيّة دراسة الثقافات الإنسانية وعلميّتها، وصلتها بقضايا الإنسان المعاصر‏

المصـادر:
– أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّـة العربي، الكويت .‏
– اسماعيل، قباري محمد (1973) الأنثروبولوجيا العامة، منشأة المعارف بالاسكندرية .‏
– بيلز، رالف ؛ هويجرا، هاري (1977) مقدّمة في الأنثروبولوجيا العامة، ترجمة : محمد الجوهري وآخرون، دار النهضة المصرية، القاهرة .‏
– حمدان، محمد زياد (1989) الثقافات الاجتماعية المعاصرة، دار التربية الحديثة، عمّان .‏
– رشوان، حسين عبد الحميد (1988) الأنثروبولوجيا في المجال النظري، الاسكندرية .‏
– زرقانة، ابراهيم (1958) الأنثروبولوجيا، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة .‏
– ستروس، كلود ليفي (1977) الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة : مصطفى صالح، وزارة الثقافة، دمشق .‏
– فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا – فصول في تاريخ الإنسان، عالم المعرفة (198)، الكويت .‏
– كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : شاكر سليم، بغداد .‏
– لبيب، الطاهر (1987) سوسيولوجية الثقافة، دار الحوار، اللاذقية .‏
– لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .‏
– ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي -، عمّان.‏
– هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .‏
– وصفي، عاطف (1971) الأنثروبولوجيا الثقافية، دار النهضة العربية، بيروت.‏
– وصفي، عاطف (1977) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر.‏

المدرسة وتحديات المستقبل ـ لحسن الصديق

أنفاس نت


تقديم المترجم:
يتناول الأستاذ" كين روبرسون" المتخصص في التربية والمستشار لدى العديد من المنظمات الحكومية ومدرس الفنون بجامعة (Warwick) عدة قضايا تربوية في هذا الحوار . ويركز بشكل خاص على مشكل بيداغوجي محوري تعاني منه المدرسة الفرنسية بشكل خاص. يتعلق الامر بعدم قدرة النظام التربوي والتعليمي على مواكبة التغيرات والتحديات اتي يطرحها المجتمع المعاصر. فإذا كان المجتمع التقني يوفر آليات متعددة للتعلم كآليات التعلم عن بعد، والتي تمكن الشباب من التعلم بسرعة مهما كانت المسافات التي تربط بينهم، فإن النظام التعليمي الفرنسي الى جانب أنظمة تعليمية أخرى لا زال مركزا على الشكلانية والصرامة في اتباع التقاليد، وهو الامر الذي يجعل الخريجين غير قادرين على التكيف مع متطلبات سوق الشغل. لذلك يدعو كين روبرسون الى إعادة النظر في النظام التربوي الفرنسي من اجل مواكبة المتغيرات الراهنة للمجتمع.

سؤال: تعتبر التربية المثالية هي تلك التربية التي تمكن الفرد من تحقيق ذاته، وان يجد طريق النجاح. لماذا في نظركم تفشل المدرسة في تحقيق هذه الغاية؟
روبرسون كين:  من النادر أن نجد شابا قد استطاع تحقيق ما كان يطمح اليه على مستوى الشهادة الجامعية التي حصل عليها أو المهنة التي يشتغل بها، أي أنه قد حقق ذاته فعلا. إن هذا الاختلاف والتعارض بين ما يطمح اليه الانسان وما يحققه فعلا على أرض الواقع، أو بين الرغبة والميول والانجاز على مستوى الواقع يعكس وجود النظام التعليمي في ازمة. ويمكن ارجاع ذلك الى عدة أسباب من أهمها ان الأنظمة التعليمية قائمة على  نظرة ضيقة ومحدودة حول مفهوم الذكاء، لذلك نجدها تنتج برامج محدودة ومناهج نمطية وتقويمات لا تأخذ بعين الاعتبار الا النتائج النهائية والمعبر عنها بنقطة عددية.
في مقابل ذلك، يجب ان يأخذ نظام التربية والتعليم بعين الاعتبار حالة كل تلميذ على المستوى الذهني بشكل خاص، وعلى المستويات العاطفية والروحية والمادية أيضا... لذلك فالنظام التعليمي الفرنسي يحتاج الى إصلاحات على كل المستويات: البرامج والمناهج البيداغوجية والتقويمات.

سؤال: هل المسؤولية ملقاة على عاتق المدرسة فقط، ألا يمكن القول ان الاسرة أيضا تلعب دورا أساسيا في ذلك؟
روبرسون كين: من الأكيد انها تلعب دورا هاما في هذا الامر، لكن لا ينبغي أن نراهن عليها وحدها. ففي كثير من الحالات لا نترك حرية الاختيار للتلميذ في مجال نوع الدراسة التي يتابعها، وهذا ما يجعل عدة صعوبات تعترضه مثل عدم التلاؤم بين المتطلبات المهنية التي تفرض عليه وقدراته البدنية او الفكرية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الطفل يمضي وقتا مهما من حياته داخل المدرسة الذي قد يتجاوز عشرين سنة، فإنه من المفترض أن تقوم المدرسة بإتاحة الفرص له للقيام بكل المحاولات الممكنة، وإذا تطلب الامر ان تتدخل المدرسة لدى الإباء لاقناعهم فيجب ان تفعل ذلك، لكن للأسف، قليلا ما يحدث ذلك... فقد حدث ان رفضت الفرقة الموسيقية لمدرسة ليفربول(liverpool) احد تلاميذها الذي كان (Pqul McCartney) تحت ذريعة ان غناءه سيء.

سؤال: تستشهدون دائما في كتاباتكم بأشخاص ناجحين: بول ماكارتني (Paul McCartney) إلفيس بريسلي (Elvis Presley) و لاري باج (Larry Page) مدير شركة كوكل... لكننا لا يمكن أن نصبح جميعا فنانين او مدراء شركات عالمية؟ 
روبرسون كين: انني اتعمد استحضار هذه الأمثلة او النماذج التي تبرز عدم ملائمة النظام التعليمي في حالته الراهنة مع الحالات الخاصة للتلاميذ، وبذلك يعرض عليهم تحدي مواجهة المدرسة من اجل تحقيق النجاح، لكنني استشهد أيضا بعلماء الرياضيات وعلماء النفس ورصاصين...ونعرف ان ما يمكن من تحقيق سعادة الشخص يمكن من تحقيق سعادة الغير أيضا. انني اعرف المشتغلين في دفن الموتى بالمقابر مقتنعون انه من المستحيل ان يغيروا مهنتهم.

سؤال: يبدو أنكم تتأسفون على أنه {يجب المصابرة من أجل النجاح}، لكن ألا يبدو لك انه في المواجهة والمعاناة تتكون شخصيتنا بشكل أفضل؟
روبرسون كين: إن الامر مرتبط بحالات الأطفال والتلاميذ بصفة عامة، فمنهم من يحتاج فعلا للمواجهة والمقاومة من أجل تحقيق إنجاز. أما الآخرون فهم يحققون النجاح عندما يكون بجانبهم نظام تعليمي يساندهم ويوجههم ويمنحهم الثقة في ذواتهم. إن على المدرسة اليوم، في نظري، أن تعرف كيف تتكيف مع الحالتين معا.

سؤال: تقولون إنه يجب الانتهاء "بأسطورة العودة إلى الاساسات"، أي الى فكرة ان على المدرسة أن تركز خلال السنوات الأولى على القراءة والكتابة والحساب، لكن ماذا يجب ان نفعل مع النسبة الكبيرة من التلاميذ الذين يغادرون المدرسة خلال المرحلة الابتدائية أو حتى الإعدادية دون تحقيق مستوى القدرة على القراءة والكتابة والحساب وهي اساسيات التعلم؟ 
روبرسون كين: لم أقل إنه يجب علينا أن نركز على الاساسات وكفى، بل ان ذلك غير كاف. انني استغرب دائما من الطريقة السريعة التي ينتقل بها الطفل من الفضول المعرفي الى الملل المطلق. إن أهم مشكل يعاني منه التعليم اليوم هو غياب الدافعية للتعلم لدى التلاميذ. فالطفل يظل جالسا اليوم كله. ويطلب منه ان يستمع وان يهدأ وان ينتظر فراغ الأستاذ من الشرح لكي يطلب الكلمة. وهذا كله يتعارض مع فضوله المعرفي الطبيعي. يجب إذن أن يحس التلميذ بالمسؤولية. وذا من بين الحجج التي أركز عليها من أجل تحقيق فعالية جيدة في التعليم والتعلم. إن الاساسات لا ينبغي حصرها في القراءة والكتابة والحساب فقط. أو بمعنى آخر، فهي لا تقتصر على تحقيق الأهداف التربوية والاقتصادية فقط، بل تتجاوزها الى الأهداف الثقافية والاجتماعية والشخصية. ومن اجل تحقيق هذه الأهداف يجب ان يروم التعليم تحقيق غايات متنوعة ومتوازنة تنطلق من الكتابة والقراءة والحساب لتصل الى العلوم الحقة والعلوم الإنسانية مرورا بالفنون بكل أنواعها. بمعنى آخر، يجب الا نرسم في ذهن التلميذ ان تعلم الرياضيات أفضل من تعلم الرقص.

سؤال: لكن كيف يمكن إدماج كل هذه المواد داخل البرنامج الدراسي (cursus) مع العلم أن المدارس في فرنسا تجد صعوبة في إنهاء البرنامج خلال مدة الزمن المدرسي المبرمج؟
روبرسون كين: هناك طرق أخرى لتكييف البرامج يبدو في مقابله التقطيع على شكل مواد دراسية أقل ملاءمة. فلا يمكن اعتبار الرياضيات أفضل من التاريخ أو الموسيقى. يجب ان نفكر ونتخيل صيغ أخرى لخلق حافزية أكبر لدى الأطفال. ان المواد والتخصصات تتغير باستمرار في حين ان انظمتنا التعليمية تقوم بكل هذه الاعمال لجعل اذهان التلاميذ متحجرة لا تتغير. ان المدارس والجامعات التي لا تسعى الى التغيير والتجديد تجد نفسها في النهاية مهملة.

سؤال: كيف تفسرون هذا التفاوت بين الكفايات المكتسبة في المدرسة وحاجات المجتمع؟
روبرسون كين:  إن هذا من بين أهم المشكلات التي اعترض المدرسة خلال السنوات المقبلة. فلماذا يواجه الشباب مشكلة الحصول على فرصة عمل ويبدلون جهدا أكبر من أجل المحافظة عليه؟ لماذا نجد المنافسة بين المقاولات في استقطاب الخبرات ترتبط بصفات وخصائص يقمعها النظام التعليمي؟ إنني أؤكد أن أنظمتنا التعليمية قائمة على نظرة متجاوزة بشكل مطلق من طرف الاقتصاد والمقاولة. فخلال سنة 2010 نشرت شركة IBM دراسة مهمة حول التحديات الكبرى التي ستواجه المقاولات في المستقبل القريب. فقد انطلقت الدراسة من قاعدة معطيات لأجوبة 1500 مسؤول في مقاولة ينتمون الى حوالي ستين بلدا ويمثلون أكثر من ثلاثين قطاعا. كانت النتائج واضحة ومعبرة: تمحورت الأجوبة حول قدرة المقاولة على التكيف مع المتغيرات من جهة، ومن جهة أخرى أثارت مسألة الابداع والقدرة على التطوير. ونتساءل ماذا تفعل المدرسة من اجل الاعداد لذلك، إذا كانت لا تزال تركز على الشكلانية في غياب روح وثقافة الابداع؟

سؤال: هل تعتقدون أن مجتمعنا جاهر ومستعد للتغييرات في النظام التربوي التي تقترحونها؟
روبرسون كين: إنني، حينما أتأمل في النظام التربوي الفرنسي وألاحظ أنه لم يستطع التغير والتحرك إلا بمقدار ضئيل منذ القرن التاسع عشر ولم يستطع التكيف مع رهانات المجتمع اليوم، أشعر بنوع من الإحباط، لكن في مقابل ذلك هناك أسباب وجيهة تدعونا للشعور بنوع من الامل. ان الذهنيات لا تتغير خلال ليلة واحدة، فوزن العادات والتقاليد لن يرتفع بين عشية وضحاها. إن الأمور في نوع من التطور، ولو أنه بطيء شيئا ما. لنلاحظ مثلا كيف تغيرت الذهنيات بخصوص مسألة " الزواج للجميع". من كان يعتقد قبل عشرين سنة أن بإمكان شخصين من نفس الجنس أن يتزوجا؟
ان بإمكاننا اليوم الرهان على مجموعة من الآليات لتغيير الذهنيات تجاه المدرسة. فالأعداد الضخمة من الدورات التكوينية المفتوحة على شبكة الانترنت، والتي تركز على دمج التخصصات وتنتج طرقا جديدة للتعلم، نماذج يمكن الاستفادة منها.

أجرت الحوار: الصحفية Victoria Gairin .
نشر الحوار باللغة الفرنسية في مجلة لوبوان الفرنسية: Le Point Reference n de octobre-novembre 2016, p 82-83