الجمعة، 21 أكتوبر 2016

الثقوب السبع للمعرفة إدغار موران



تقديم
تعميمًا للفائدة، نقدِّم لقارئ معابر ترجمةً للنصِّ الكامل للمحاضرة التي ألقاها عالم الاجتماع الفرنسي المرموق إدغار موران في الرباط، بدعوة من وزارة التربية الوطنية والشباب، بتاريخ 6/2/2004.
إن صيغة المحاضرة عادةً ما تُلزِم الباحث بتبنِّي نظام في العرض يتوخى الوضوح والعمومية في معالجة قضايا غالبًا ما تكون معقدة وتستند إلى تفاصيل يصعب على غير المتتبِّع لعمل الباحث أو المفكر أن يحيط بها و/أو يستحضر خلفيتها.

وتشكِّل محاضرة إدغار موران نموذجًا لهذا التمرين الپيداغوجي [=التربوي] والفكري الذي يلخص مسار حياة كاملة، استغرقها النضالُ من أجل مستقبل أفضل، والبحث النظري والميداني، والتأمل الفلسفي في القضايا الكبرى للوجود الإنساني. وتأتي فائدة هذه المحاضرة من كونها تقدِّم المعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران، منذ سنوات، استنادًا إلى نتائج وتراكمات مسار طويل في البحث والتفكير والنضال من أجل مستقبل أفضل، يكون فيه الفهمُ والقرارُ في مستوى التعقيد الذي يحكم تداخُل المستويات والمرجعيات والآفاق.
ويوجِّه موران سهام نقده القوي إلى هندسات الإصلاح كلِّها، العاجزة عن إدراك مطالب التعقيد، المؤمنة بالنفعية، والناسية – أو المتناسية – للشرط الإنساني.
كما يظهر في هذه المحاضرة مدى أهمية – بل ضرورة – توفُّر رؤية شمولية لدى كلِّ مَن يطمح إلى إصلاح المنظومة التربوية، وكذلك مدى خطورة أصحاب النظرة التجزيئية والتقنية المحض إلى قضايا التربية والتعليم.[1]
بقي أن أشير، في الآخِر، إلى أن مضمون المحاضرة يبقى متقدمًا على الأفق المعرفي للمنظومة التربوية المغربية الحالية، والعربية عمومًا، بحيث يمثِّل نوعًا من اليوتوپيا التي لا نعرف هل سيتمكن المجتمع العربي يومًا من أن يصل إلى أحد شواطئها أو يعيش أحد أزمنتها. وهو الأمر الذي يطرح سؤال القابلية الثقافية لنقل الأرضية المعرفية التي اقترحها موران في تقرير استشارته لصالح اليونسكو[2] إلى الواقع العربي أو لملاءمتها معه – وهو سؤال نترك أمر معالجته لمناسبة أخرى.
م.ز.
***

سأركِّز في هذه المحاضرة على أحد أهم الإصلاحات التي يفرضها إشكالُ التربية والتعليم الذي يتطلب، بدوره، العديد من الإصلاحات. إن أهم تحدٍّ يواجه المسؤولين هو ذاك الذي يخص اختيار مضامين التربية ومعارفها، أو بالأصح، المعارف الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها كلُّ تربية.
وأنطلق من ملاحظة أنه يتم تعليم المواد الدراسية والاختصاصات disciplines مفصولةً بعضها عن بعض. ولهذا الفصل تاريخ طويل أدى إلى إيجاد "ثقوب معرفية سوداء" حقيقية في مجال المعرفة، مما أعاق تقدمها، وجعل إصلاح المنظومة التربوية شبه متعذر، ما لم يتم التعرف إلى هذه الثقوب المعرفية السوداء.
وقد تعرفت، شخصيًّا، إلى سبعة ثقوب سوداء في النظام التربوي الحالي. وبناءً على هذا التعرف، أحاول إيجاد روابط بين الاختصاصات لإنقاذ ما تبتلعه هذه الثقوب السوداء. وفي هذا السياق، أقترح إيجاد سبعة كراسي تعمل على تحقيق هذا الهدف، وعلى نشر المعارف السبع الضرورية التي من شأنها استرجاع ما يضيع في تلك الثقوب.
وأذكِّر، بهذه المناسبة، أن مهمة الجامعة هي مهمة جامعة للاختصاصات، مهمة تجعل منها المؤسَّسة التي تعترف بتراث الماضي وتحاول إدماج الإبداعات الثقافية للحاضر وفتحها على المستقبل؛ ويعني هذا أيضًا أنه لا يمكن للجامعة أن تكون مجرد مؤسَّسة تتكيف مع محيطها الحاضر والحالي، فتكتفي بتأهيل المتخصِّصين أو المهنيين، بل هي مطالَبة بأن تحمي الثقافة وبأن تحملها في أحشائها وتصون مطلبَها الشمولي.
وليست الثقافة هي مختلف المعارف التي تكون لنا حول مختلف المجالات وحسب، بل هي المعارف التي ندمجها في حياتنا اليومية لمواجهة رهانات الحياة الفردية والجماعية، السياسية والاجتماعية. كتب روسو في كتابه التربوي الشهير إميل أو في التربية: "أن يحيا، هذه هي المهنة التي أريد تعليمها له" – قاصدًا تلميذه. طبعًا، لا يمكن أن نعلِّم التلميذ كيف يحيا حياةً مصطنعة، بل ينبغي له أن يطور قدراتِه الخاصة التي تسمح له بإدماج ما يتعلَّمه في حياته؛ مما يعني أن علاقة المتعلِّم بمادة التعلم تتطلب دائمًا علاقة إبداعية أصيلة. ولكن لنتوقف الآن عند هذه الثقوب السوداء في مجال المعرفة ولنتبيَّن أمرها.
الثقب الأسود الأول: ما تجب معرفته وعدم نسيانه بخصوص كلِّ معرفة
نعلِّم المعارف، ولكننا لا نجيب عن السؤال الأساس: ما المعرفة؟ ولا يتم الاهتمام بهذا السؤال إلا داخل اختصاص فلسفي نخبوي يسمى الإپستمولوجيا. كما لا يتم الانتباه إلى أن هذا المشكل – مشكل تعريف المعرفة – هو مشكل الجميع، ومشكل كلِّ واحد، في الآن نفسه. لماذا؟
لأن مشكل المعرفة هو في الأساس مشكل الخطأ والوهم. هناك جملة شهيرة لماركس يقول فيها: "إن الناس لا يعرفون ما هم عليه من أحوال ولا ما يفعلون." وهي جملة لا تَصدُق على عموم الناس فقط، بل تَصدُق حتى على ماركس نفسه! فهو لم يكن يعرف ماذا كان يفعل عندما كان ينجز أعماله. ولكن هذه الملاحظة تَصدُق علينا نحن أيضًا: فعندما نفكر في الماضي ونتأمله بنوع من التباعد، نجده عبارة عن سلسلة من الأخطاء والأوهام. وعندما نفكر في الماضي القريب، نتذكر الأهوال: النازية، الفاشية، الشيوعية، الستالينية، والليبرالية الجديدة؛ نكتشف أخطاء هذه المنظومات وأوهامها، على الرغم من أنها كانت تعاش كحقائق أكيدة. إن ما كان في الماضي حقيقةً أضحى في الحاضر خطأ أو وهمًا. وهكذا نستمر في اكتشاف أخطاء الماضي دون توقف. لماذا؟
لأن المعرفة الأبسط هي معرفة ترجع، في المآل، إلى الإدراك الذي يبقى دائمًا إدراكًا محدودًا. إذ ليست المعرفة أبدًا تلك الصورة المطابقة تمامًا لموضوعها؛ فهي لا تتطابق وواقعها تمام التطابُق. إنها إدراك لبعض المنبِّهات والمثيرات الحسية التي تُعاد ترجمتُها ومعالجتُها عن طريق آلاف الخلايا البصرية التي تنقل هذه المعطيات إلى الدماغ عن طريق بالغة التعقيد، تتحول عِبْرها تلك المعطياتُ إلى إدراك. وهي عملية مازالت موضوع أبحاث جارية للكشف عن أسرارها.
فعل المعرفة هو، إذن، ترجمة معينة لواقع خارجي وإعادة بناء له. وهو فعل نقوم به تلقائيًّا من خلال ما يُسمَّى بظاهرة "الثبات الإدراكي". وهذه تعني أن الأشخاص الحاضرين والجالسين في آخر القاعة هم أصغر حجمًا في شبكية عيني من الأشخاص الجالسين بجانبي؛ ومع ذلك، فإنني لا أتصور أصدقائي الجالسين في الصفوف الأمامية عمالقة والأصدقاء الجالسين في الصفوف الخلفية أقزامًا! فأنا أعرف أن كلَّ الحاضرين لهم الحجم نفسه تقريبًا. إن سيرورة الثبات الإدراكي هي التي تضمن إمكانية إعادة البناء التي نقوم بها في عملية الإدراك.
ونعرف، من جهة ثانية، أنه لا يوجد حدٌّ فاصل بين الإدراك، من جهة أولى، والهلوسة أو التهيؤات، من جهة ثانية؛ لا يوجد أي حدٍّ فاصل يُظهِر لنا الفرق بين الإدراك والتهيؤ. إن أصدقاءنا هم عادةً مَن ينبهوننا إلى ما نقع فيه من لَبْس. في عبارة أخرى، مادام لا يوجد اختلاف جوهري بين الإدراك وبين التهيؤ والوهم، فإننا نبقى معرَّضين لاحتمال اعتبارنا ما قد يشبَّه لنا على أنه الواقع، في حين أنه مجرد توهم. إن الوهم يتربص بنا في إدراكاتنا كلِّها، بما فيها تلك الإدراكات التي نعتبرها الأكثر مباشرة والتصاقًا بالواقع الفعلي.
في هذا السياق، سأحكي لكم عن حادثة شخصية، سبق لي أن كتبت عنها في أحد كتبي. ذات يوم، وجدت نفسي في أحد مفترقات الطرق في الوضعية التالية: تغير اللون المنظِّم للمرور، وشاهدت، في تزامن مع ذلك، سيارة تصدم راكب دراجة هوائية. بالنسبة لي، لم تحترم السيارة الإشارة المنظِّمة للمرور، في حين كان لصاحب الدراجة الهوائية الحق في المرور. فسارعت إلى مساعدة راكب الدراجة وإلى توبيخ سائق السيارة، فإذا براكب الدراجة يقول لي: "إني أنا الذي لم أحترم إشارة المرور!" لماذا أخطأت؟ لأنه كان من المنطقي، بالنسبة لي، أن يصدم الكبيرُ الصغيرَ وأن يكون الصغير هو الضحية الدائمة للكبير.
تقودنا هذه الحادثة إلى طرح مشكل الشهادة، وبالتالي، إلى طرح سؤال المعرفة. إنكم تعرفون أن الشهود يجدون دائمًا صعوبة بالغة في الشهادة بخصوص الحدث نفسه، على الرغم من أنهم جميعًا شاهدوه. ولكن، هل شاهدوه بالطريقة نفسها، ومن الزاوية عينها؟ هناك كتاب هام لمؤرخ إنكليزي يدعى نورتون كرو بعنوان في الشهادة، يتناول فيه وقائع الحرب العالمية الأولى، حيث يُظهِر أن الأحداث نفسها التي كان يعيشها الجنود نفسهم كانت تُدرَك بطُرُق مختلفة. لهذا علينا أن نحترس من إدراكاتنا وأن نعي حدود منظورنا. فإذا اقتنعنا بأن الأفكار والنظريات والتصورات هي ترجمات وتأويلات، فإننا، في هذه اللحظة، نعترف بأننا نواجه مشكلاً كبيرًا، هو ميلنا "الطبيعي" إلى الوهم؛ وهو ميل يطوِّقنا من كلِّ صوب ويهددنا تهديدًا مستمرًّا، على الرغم من محاولتنا التخلص منه. لهذا ينبغي أن نربي أنفسنا على التعامل مع فخاخ المعرفة، وأن نتعلم غربلة ومراجعة التأثيرات الثقافية التي تمارسها علينا المدرسة والعائلة بخصوص أفكار تظهر بديهية، كفكرة المجتمع والطبقة والفئة والأسرة إلخ. علينا، عمومًا، أن نتعلم التحكم أيضًا في التأثير الذي تمارسه هذه الأفكار على الأذهان التي تعتقد بها اعتقادًا مطلقًا. ولحسن الحظ، توجد دائمًا، في جميع المجتمعات، عقول ترفض هذه البداهة المفروضة أو المألوفة. ولكن، على الرغم من حسن الحظ هذا، يبقى خطرُ اليقين النهائي يهدِّد، مع ذلك، سيرورة المعرفة بإيقافها أو إنهائها. وهنا، نواجه مهمة أساسية: ضرورة تنسيب relativiser معرفتنا، وتعميم تدريس هذا التنسيب.
وعلينا الانطلاق من الإقرار بأن الأفكار ليست مجرد أدوات يستخدمها الإنسان لمعرفة الواقع؛ فنحن أيضًا يمكن لنا أن نصبح أدوات لأفكارنا. نحن نجد في مختلف الديانات الآلهةَ حاضرةً في قوة حضورًا فعليًّا، على الرغم من أنها – أنثروپولوجيًّا وسوسيولوجيًّا ونفسيًّا – مجرد أفكار إنسانية. فللآلهة سلطان عظيم على البشر، يجعلها تطلب منهم الطاعة والموت والقتل من أجلها. يتعلق الأمر هنا بظاهرة التملك الفكري أو الاستحواذ. وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على الإيديولوجيات الكبرى: فهي أيضًا تطلب الموت من أجل الأفكار الكبرى. لهذا ينبغي لنا، تربويًّا، تدريس كيفية إقامة علاقة حوار بيننا وبين أفكارنا (التأمل الانعكاسي). لا يمكن لنا أن نمنع الأفكار من أن تتملَّكنا وتستحوذ علينا، ولكن يمكن لنا، نحن أيضًا، أن نراقب هذه الأفكار التي تراقبنا. لهذا السبب ينبغي لتدريس الحذر أن يشكِّل أولوية، ليس في التدريس الجامعي وحسب، بل منذ السنوات الأولى للتعليم الأولي. نعم، ثمة ضرورة لتدريس كيفية مواجهة خطر الوهم والخطأ في كلِّ عملية إنتاج للمعرفة وتحصيلها، دون أن يعني ذلك ضمان النجاح ضمانًا مطلقًا في ذلك. ولكن يمكن لنا، مع ذلك، تكوين مناعة ضد هذا التوجه نحو الوهم – وهي مهمة يمكن لها أن تكون أساسية.
الثقب الأسود الثاني: كيفية تحول المعلومات إلى معرفة وجيهة
ليست كثرة المعلومات هي المعرفة الوجيهة؛ وليست لهذه الأخيرة أية علاقة بالمبالغة في الترميز أو التعقيد. المعرفة الوجيهة هي تلك التي نتعرف من خلالها على القدرة على تنظيم المعلومات وتأطيرها ضمن سياقها، الذي يبقى أهم من المعلومات في حدِّ ذاتها. إننا نتلقى معلومات كثيرة من التلفزة، ولكننا لا نستفيد منها إلا إذا كان عمل رئيس التحرير متقنًا ومنظمًا واستطاع تأطير تلك المعلومات التأطيرَ الوجيهالذي يحولها من مجرد معلومات متفرقة حول الحدث إلى معرفة بالحدث. فإذا أخذنا، مثلاً، حالة النزاع في كوسوفو، فمن الواضح أنه لا يمكن لِمَن لا يستطيع استحضار الخلفية التاريخية للأحداث وتاريخ كوسوفو، وليس فقط جغرافيته، وعمق تأثير الإمبراطورية العثمانية، إلخ، أن يفهم شيئًا. ففي هذه الحالة – حالة غياب التأطير – تكون المعلومات مجرد أخبار متفرقة تهطل كالمطر، وليست لديك فرصة لتنظيمها والتحكم فيها. إن المعرفة الوجيهة هي التنظيم الملائم للمعلومات: فإذا كان تنظيم المعلومات جيدًا ومفتوحًا على المتغيرات، بحيث يستطاع إدماجُها، فإنه يولِّد معرفة جديدة ويكون قابلاً لإدماج المعطيات الجديدة واستيعابها. أما إذا كان التنظيم صارمًا ومغلقًا، كما هي حال التنظيمات السياسية، فإنه يتجاهل المعطيات التي لا يستوعبها أو لا يرغب فيها، مما يشكِّل خسارة لما تمَّ تجاهلُه.
إن مشكل تنظيم المعلومات مشكل عويص. وعوض أن يواجه تدريسُنا هذا المشكل، فإنه يتبنى منهاجًا يفصل بين الاختصاصات وبين المواد الدراسية، وبذلك، يُضعِف القدرة التي تكون للإنسان على وضع الأفكار في سياقها وتأطيرها التأطير المولِّد للمعنى. كان الشاعر ت.س. إليوت يردِّد عبارة جميلة يقول فيها: "أين المعرفة التي ضيَّعناها في المعلومات؟ وأين الحكمة التي ضيَّعناها في المعرفة؟" والحكمة هنا هي فن استيعاب هذه المعارف وهضمها لتساعدنا في حياتنا الخاصة.
لنأخذ مثالاً آخر من أحد العلوم الإنسانية الأكثر دقة وتنظيمًا، وليكن علم الاقتصاد، – لأنه يقوم على الحساب، وهو علم دقيق، وتوجد جائزة نوبل للاقتصاد، إلخ، – ولنطرح السؤال التالي: لماذا يواجه هذا العلم الدقيق مشاكل في تنبؤاته وفي بناء نماذجه التفسيرية؟ لماذا لا يستطيع علماء الاقتصاد التنبؤ بما قد يحدث، فيتساوون في ذلك مع رجل الشارع، على الرغم من علمهم؟ طبعًا لأنه لا يمكن اختزال الاقتصاد إلى الحساب فقط. بل هناك الحاجات المتولدة في استمرار، وهناك الرغبات والأهواء والملذات، وهناك التخوفات والتوجسات – هذه العوامل كلها تجعل عالَم الاقتصاد عالَمًا معقدًا تتداخل فيه هذه العوامل، سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو مالية إلخ. فإذا كان علم الاقتصاد علمًا مغلقًا، لا يمكن أن تربطه علاقةٌ بباقي العلوم وبباقي مظاهر الحياة الاجتماعية؛ وبالتالي، فإنه سيجهل كلَّ ما لا يدخل في الحسبان وكلَّ ما لا يقبل الحساب. وما هذا الذي لا يُحسَب؟ طبعًا إنه الألم والعذاب والسعادة والشقاء والإنسانية والإبداع والحياة. نواجه، إذن، مشكلة حقيقية، لا يمكن أن نحلها إلا إذا تبنَّينا فكرًا علائقيًّا، فكرًا يفكر في العلاقات. إننا في حاجة إلى فكر يربط ويؤطِّر؛ إننا في حاجة إلى فكر يؤطِّر المعلومات ويضعها في سياقها، ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى التي تؤطِّر هذه المادة أو تلك – علمًا أن النظام العام الكبير اليوم ليس هو النظام الوطني، ولا حتى الجِهَوي، بل هو النظام الكوكبي. إن النظام العام هو النظام الأرضي بمعناه الأشمل.
إن كلَّ حدث كوكبي (عالمي) يؤثر على ما هو محلِّي تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر، كما أن الحدث المحلِّي يجد صداه على مستوى الكوكب الأرضي بأسره. إن هذا المعطى الأساس في عصرنا هو ما يعجز نظامُنا المعرفي والتربوي عن متابعته واستيعابه: فهو عاجز عن ربط المحلِّي بالكوني وبالكوكبي، وعن استخلاص النتائج التربوية لذلك. إنه لا يستطيع إدراك السياق الشمولي للمعطى المحلِّي أو الجِهَوي؛ كما أنه يعجز عن تبيُّن روابط الجزئي بالكلِّي. إن هذا العجز هو الثقب الأسود الذي يبتلع ويعدم كلَّ ما يمكن التوصل إليه بفضل هذا الربط وبفضل المعرفة الوجيهة التي تكون قادرة على تصور المشاكل الأساسية والشاملة في سياقها الكوكبي، بجميع أبعاده ودلالاته. وهذا هو أساس العمل الذي قمت به في عملي الذي أسميته المنهج La Méthode، حيث حاولت تطوير أدوات المعرفة التي تسمح بربط المعارف المفصولة بعضها عن بعض. وأكتفي هنا بمجرد الإشارة إليه لضيق الوقت.
الثقب الأسود الثالث: الشرط الإنساني، تلك القارة المنسية
يخص هذا الثقب الشرط الإنساني. وهو يستدعي الاستغراب والدهشة؛ إذ لا يوجد مكان خاص ندرِّس فيه ونعلِّم شرطنا الإنساني، أي ما نحن عليه من أحوال، باعتبارنا كائنات إنسانية. وهو موضوع مهمل، ليس فقط من طرف العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، بل حتى من طرف العلوم الدقيقة، لأن جزءًا هامًّا من النشاط الإنساني يندرج ضمن موضوعات هذه العلوم الأخيرة، باعتبارنا حيوانات تنتمي إلى الثدييات، بل وحتى بالنسبة إلى العلوم الفيزيائية والكيميائية. فنحن نعرف اليوم أن الحياة هي تنظيم لعناصر فيزيائية–كيميائية، جزيئات تتكون من ذرات. إن جزءًا من الوضع الإنساني هو واقع فيزيائي–كيميائي. ولكن تدريس هذه العلوم مفصولةً بعضها عن بعض يجعلنا لا ندرك هذه الروابط وتشكيلها للإنسان، على الرغم من أن الواقع الفعلي لوجوده يعكس التحام هذه العوامل وانصهارها فيه. فبفضل تطور علم الفلك وآليات الرصد والتتبع، على المستويين الماكروفيزيائي والميكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في جسمنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون. فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا؛ وبعد انفجارها (النجوم)، تشتتت هذه الذرات و/أو تجمعت في الكوكب الصغير الذي نسميه اليوم الأرض. كما نعرف اليوم أن العناصر الأولية تراكبت حتى توفرت شروطُ ظهور الحياة. وأقول إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى التي ظهرت في الثواني الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي؛ كما نحمل في داخلنا العالم الحيواني؛ ونحمل في داخلنا، أيضًا، بنية الكائنات الفقارية وكلَّ ما يرتبط بتاريخ الثدييات: فنحن نرضع الأبناء، ونحمل في داخلنا الشواهد على الحياة البدائية.
لكننا تجاوزنا هذا كلَّه لأننا كائنات تنفرد بالثقافة واللغة والوعي والبُعد الروحي، مما يجعل وضعنا الإنساني وضعًا غريبًا ومثيرًا. فنحن، على مستوى أول، ننتمي إلى هذا الكون انتماءً قويًّا، تشهد عليه خلايا أجسامنا وتركيبتنا المادية؛ ونحن، على مستوى ثانٍ، ننفصل عنه ونتعالى عليه بالوعي: إننا كالأيتام في هذا الكون، لأننا نتميز بهذه الخاصية التي تجعلنا كائنات واعية تتساءل عن مآلها وقدرها.
إن شرطنا الإنساني شرط معقد. وهذا يعني أننا لسنا فقط مجرد أفراد، بل نحن أفراد ينتمون إلى مجتمع، وفي الآن نفسه، إلى النوع البشري. وهذا معطى معقد لا ينفع معه أي حساب؛ إذ لا يمكن لنا القول إن الكائن الإنساني هو كائن بيولوجي بنسبة 33%، وثقافي بنسبة 33%، وسوسيولوجي بنسبة 33%، بل هو كائن بيولوجي 100%، وثقافي 100%، وسوسيولوجي 100%! إن هذا المعطى هو الذي يطرح علينا مشكل الفكر المعقد la pensée complexe الذي لم نتعود عليه، ولا نمتلك منهجيتَه ولا أدواتِه. ولا يمكن لنا مواجهة المشكل إلا إذا تبنَّينا القول بنوع من الارتباط المغلق والمفتوح في الآن نفسه، مفاده أن طرفي العلاقة ضروريان أحدهما للآخر ضرورةً تامة غير منقوصة، بحيث يكون الناتج ضروريًّا لمنتجه. فنحن نتاج ظاهرة توالد بيولوجي (تكاثر النوع بحسب برنامجنا الوراثي)؛ ولكننا بفضل هذه الخاصية منتجون أيضًا، فنلد الأولاد، ولا يكون كلُّ مولود عضوًا في الجماعة البشرية فقط، بل مولود يحمل في ذاته وفي كيانه النوعَ البشري ككل. وقل الشيء نفسه بخصوص العلاقة بالمجتمع: فنحن ننتمي إلى المجتمع بالقدر الذي نكوِّن به هذا المجتمع. إننا داخل المجتمع، والمجتمع داخلنا. فنحن نتعلم، منذ طفولتنا الأولى، منظومة المعايير والقيم واللغة والثقافة وقواعد السلوك. وهذا ما أسميته بـ"مبدأ الاشتمال": اشتمال الجزئي على الكلِّي، بحيث يكون الكل متضمَّنًا في الجزء. وبالتالي، تتخلَّى طريقةُ تفكيرنا عن اعتبار أن الجزء هو الوحيد الذي يكون متضمَّنًا في الكل، وأن الكلَّ لا يمكن له أن يُتضمَّن في الجزء. إن الكلَّ يكون هو أيضًا ضمن الجزء. إذا استوعبنا هذا المبدأ، أدركنا الشرط الإنساني وتعقيده.
غير أني أضيف إلى هذا المجال مجالاً آخر، لا يقل أهمية عنه لفهم واقع الشرط الإنساني: إنه مجال الأدب، والرواية بصفة خاصة. إذ تستطيع الرواية أن تُظهِر لنا ما لا تستطيع العلوم الإنسانية إظهارَه. فهذه الأخيرة تُظهِر لنا الإنسانَ من خلال خصائصه الموضوعية والخارجية؛ ولكن الرواية تنفذ إلى عمق الإنسان، وتكشف لنا عالمه الداخلي، كما تُظهِر لنا الذوات من خلال طريقة تفكيرها وتوترات أهوائها وطموحاتها وحماقتها وذكائها وعلاقاتها الاجتماعية وسياقها التاريخي. ويمكن لنا أن نأخذ رواية الحرب والسلم لتولستوي كمثال، بحيث نستطيع القول إننا بفضل الأدب نستطيع معرفة الذات الإنسانية، بل ويمكن لنا النفاذ إلى عمقها بفضل الأعمال الأدبية الرائعة لمارسيل پروست أو دوستويفسكي، مثلاً لا حصرًا؛ كما يمكن لنا الاقتناع، بفضل قراءة هذه الأعمال، بأن كلَّ واحد منَّا يحمل في داخله شخصيات عدة، لا شخصية وحيدة وواحدة. لنقل، بهذه المناسبة، إن الأدب ليس شيئًا كماليًّا، بل هو ما ننفذ به إلى أعماقنا. وهذا ما ينبغي للمدرِّسين أن يفهموه ويستوعبوه وأن يوجِّهوا التلاميذ إليه، بدلاً من إفقار هذه العلاقة بالاكتفاء بتحليل النصوص وتشريحها سيميولوجيًّا [دلاليًّا] ونحويًّا.
ولا تتجلَّى ضرورة الأدب في ضرورة الرواية فقط، بل أيضًا في ضرورة الشعر، الذي لا نرى فيه مجرد ذاك الشيء الجميل في حدٍّ ذاته، بموسيقاه المتفردة، لأن الشعر هو تعلُّم وانفتاح على شاعرية الحياة. الشعر باب آخر نلج منه إلى عمق العالم الإنساني الشاسع.
عُرِّف بالإنسان قديمًا بأنه "حيوان عاقل". وينبغي لنا اليوم الاعتراف بأنه ليس فقط حيوانًا عاقلاً، بل هو أيضًا "حيوان مجنون"! وقد سبق للفيلسوف كورنيليوس كاستوريادس أن قال: "الإنسان حيوان مجنون، ولكن جنونه خلق العقل."
وعُرِّف بالإنسان قديمًا بأنه "صانع آلة"، وبالتالي، عُرِّف بمهارته التقنية – وهذا أمر واقع لدى البشر. ولكن ينبغي لنا التأكيد على أنه، منذ نشأة البشرية، كان هناك دائمًا لدى البشر اعتقادٌ في عالم آخر؛ كان لديهم اعتقاد في الأساطير والديانات. وهذا ما يجب التوقف عنده مطولاً، وليس عند مهارته التقنية وحسب. فنحن نعرف اليوم أن صناعة الأدوات سابقة على ظهور الإنسان العاقل؛ كما أن الأبحاث أكدت وجود هذه المهارات عند بعض أنواع الشمپانزي المسماة بونوبو، حيث يعلِّم الكبارُ الصغارَ بعض تقنيات صناعة الأدوات. ولكن الفرق الأساسي يبقى هو الاعتقاد في حياة أخرى بعد الموت. الأساطير الإنسانية جمعاء تؤكد هذا الأمر.
كما عُرِّف بالإنسان، ابتداءً من القرن الثامن العاشر، كـ"كائن اقتصادي"، تحرِّكه مصلحتُه الاقتصادية؛ ولكن هذا التعريف ينسى كلَّ ما يستطيع الإنسان فعلَه بعيدًا عن مصلحته الاقتصادية، وأحيانًا ضدها، كاللعب والعطاء والممارسات المجانية إلخ.
لهذه الاعتبارات جميعًا، يجب أن نحذر بعض الشيء عندما نطرح موضوع "الشرط الإنساني". فعندما ننظر إلى الإنسان من زاوية مظهره الاقتصادي أو التقني أو العقلي فقط، فإننا لا نرى من هذا الإنسان إلا جانبًا واحدًا. والحال أن المظاهر الشاعرية للحياة هي تلك التي نتعرف إليها في اللعب، وفي الاتحاد والالتحام، وفي التعاطف مع الآخرين، وفي العطاء، وفي الحب. إنها مظاهر شاعرية الحياة. كان الشاعر هولدرلِن يقول: "الإنسان يسكن الأرض شعريًّا." نجد هذا التصريح متفائلاً جدًّا. لهذا قيل: "الإنسان يسكن الأرض شعريًّا وعاديًّا." ولكن من الأهمية القصوى أن نعلِّم كيف نحيا الحياة شعريًّا وكيف نستضيف الشعر في حياتنا.
وأسجِّل، على مستوى آخر، ودائمًا بخصوص الشرط الإنساني، أنه يتم تصور العقل الإنساني في نشاطاته مفصولاً عن النشاط الإنساني، بأبعاده الكبرى، وعن الأهواء. وهي فكرة خاطئة اليوم؛ ويمكن رفضها كليًّا بناءً على نتائج أبحاث أنطونيو داماسيو وجان ديدييه فَنسان ودراسات أخرى للدماغ البشري، أظهرتْ أن النشاطات العقلانية للدماغ تشغِّل مناطق دماغية انفعالية وتنشِّطها. فعالِم الرياضيات، عندما يقوم بحلِّ مشكلة رياضية، لا يكون بصدد إنجاز عمل تقني صرف وخالص وحسب، بل إنه يقوم أيضًا بنشاط انفعالي. لا يمكن لنا اليوم فصلُ الأهواء عن النفعية ولا عن العقل؛ فالكل يشكِّل تركيبة معقدة. ولهذا المعطى الأساس نتائج مهمة في مجال التربية. وإحدى الخلاصات الهامة هي أن النشاط الانفعالي يبقى حاضرًا، بكيفية ما، حتى في النشاط العقلاني المجرَّد، كما يبقى البُعد العقلاني حاضرًا، بكيفية ما، حتى في الأنشطة الانفعالية.
إن معرفة الشرط الإنساني والهوية الإنسانية يستدعيان الربط بين الاختصاصات التي تُدرَّس اليوم منفصلةً بعضها عن بعض. ولهذا أرى أنه، إلى جانب كرسي يخصَّص للمعرفة كما حددناها، لا بدَّ من تخصيص كرسيٍّ للهوية الإنسانية، يكون من مهامه توجيه عقول المتعلِّمين نحو الربط بين المواد والاختصاصات من أجل بناء هوية تقترب أكثر من التعقيد الذي يطبعها.
الثقب الأسود الرابع: ضرورة السير على طُرُق الفهم والتفاهم
يتعلق الأمر، هاهنا، بكيفية فهم بعضنا بعضًا. فنحن نلاحظ، من جهة أولى، الانتشار الواسع لوسائل الاتصال وتعقد شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية التي لم تعرف البشرية من قبل مثيلاً لها (الهواتف المحمولة، الإنترنت، إلخ)؛ ونلاحظ، من جهة ثانية، عدم فهمنا بعضنا بعضًا، وعدم التفاهم بين الأمم والقارات والثقافات، مما يعني أن التواصل لا يأتي بالضرورة بالفهم ولا بالتفاهم. نجد نقل المعارف والمعلومات، ولكننا لا نجد الفهم ولا التفاهم.
كما نجد، على مستوى آخر، أن القرب لا يضمن بالضرورة الفهم والتفاهم، سواء داخل الأسرة نفسها، بين الآباء والبنين، بين الإخوة والأخوات، أو حتى داخل مكان العمل نفسه، أو الجامعة نفسها. إن عدم التفاهم ليس ذاك الشر الذي يجعل العلاقة صعبة بين الشعوب والديانات وحسب، ولكنه ذاك الشر الذي يمس الحياة اليومية لكلِّ واحد منا. كيف يمكن لنا تحقيق التقدم والرقي بالعلاقات الإنسانية إذا كنَّا عاجزين عن التفاهم فيما بيننا؟ ما هي هذه العوائق التي تمنع التفاهم في العالم المعاصر؟
نجد دائمًا أن الشرَّ يأتي من علاقة محددة، هي تطور النزعة الفردية individualisme تطورًا أعطى الفرد مزيدًا من الاستقلالية. وينبغي الإسراع في القول إن هذه الخاصية تُعتبَر معطى حضاريًّا أساسيًّا وإيجابيًّا. ولكن عندما يتم هذا التطور (تطور النزعة الفردية) على حساب روابط التضامن التقليدية، فإنه لا يخلق العزلة وحسب، بل يصنع الأنانية والتبرير الذاتي وتجريم الآخرين وتحميلهم مسؤولية جميع الأخطاء.
مثلاً، لا أعرف هل تعرف مدينة الرباط أو الدار البيضاء الاكتظاظ السكاني نفسه الذي تعرفه مدينة باريس في حركة السير في ساعات الذروة، ولكنه مشهد مفيد. فعندما يشاهد المرء ما يقع بسبب هذا الازدحام من انفعال وسبٍّ وشتم، فإنه يقتنع في سهولة بصعوبة التحكم في الانفعالات وبضرورة الانتباه إلى الآخرين ومحاولة فهمهم.
إضافة إلى هذا المعطى، هناك شيء آخر ركَّز عليه الفيلسوف هيغل، ألا وهو اختزال الغير إلى أحد خصائصه، أي عزل عنصر واحد من عناصر هويته والتركيز عليه واختزاله إليه – وهذه هي الفعلة الأسوأ. يقول هيغل: إذا وصفتُ رجلاً ارتكب جريمة واحدة في حياته بالمجرم، فإني أنزع عنه مظاهرَ حياته وأفعالَه كلَّها، لأسجنه في هذا المظهر الوحيد ولأرجعه إليه. إن هذه الآلية التي تكلَّم عليها هيغل هي إحدى آليات سوء الفهم والتفاهم. وهي لا تَصدُق على الحالات الفردية وحسب، بل حتى على الجماعات. فحرب كوسوفو التي وقعت بين مكوِّنات كانت، حتى عهد قريب، تشكِّل "أمَّة واحدة" أظهرت كيف أن آلية اختزال الغير إلى عنصر واحد فقط من عناصر هويته وتاريخه هي تنكُّر لتاريخ مشترك يسَّر التجاوزات كلَّها باختزال العدو إلى صفة واحدة. إن عدم التفاهم هو الخميرة التي تنمِّي أسوأ مظاهر العداوة والحقد التي يمكن لها أن تستشري بين الناس وبين المجتمعات.
ويهمنا هنا جانبٌ آخر في التفاهم، ألا وهو تجاوُز اللامبالاة حيال الغير. فالتفاهم لا يعني فقط التعرف إلى الغير موضوعيًّا: طوله، لونه، ملامحه، لغته، مهنته، إلخ، بل التعرف إليه عن طريق الإحساس والتعاطف. فإذا رأيت طفلاً يبكي فإني أتفهم حالته وأنفذ إليها بإحساسي المتعاطف، لأني كنت طفلاً وأحسست بما يحس به وأعرف ماذا يعني البكاء. فإذا لم يكن هذا التعاطف، لن يكون هناك أيُّ شكل من أشكال التفاهم.
ولتفسير هذا الأمر، أسوق مثلاً آخر، وليكن ما يجري في قاعة العرض السينمائي. هناك من الناس مَن يقول إنها مكان للاستلاب، حيث يتم تخدير المتفرِّج وفصله عن الواقع وإفقاده جزءًا كبيرًا من استقلاليته. ربما كان هذا صحيحًا؛ ولكن هناك مظهرًا آخر يكتسي بأهمية بالغة، ألا وهو التماهي identification: فمن خلال التماهي مع شخصيات الفيلم، نربِّي فينا الانفتاح على الآخرين والانتباه إليهم كما هم، وبالتالي، نفهم حتى أنفسنا.
ولا تَصدُق هذه الملاحظة على الشخصيات الطيبة أو المحبوبة فقط، بل تَصدُق حتى على الشخصيات التي تجسِّد القوة والبأس والقهر. فإذا تذكَّرنا، مثلاً، فيلم العرَّاب لفرانسيس كوپولا، وانتبهنا إلى رأس الأسرة أو ربِّ الجماعة، كما أدى دوره كلٌّ من الممثلين مارلون براندو وآل پاتشينو، فإننا نجد أنه يقدر على ارتكاب أفعال بالغة القسوة والبأس وعلى القتل ببرودة أعصاب تامة، ولكننا نعرف أنه يقدر على الحبِّ والوفاء والإخلاص أيضًا، وأنه يتألم ويبكي، كباقي البشر؛ فنحن بذلك نفهمه في شموليته وكلِّيته.
يحدث الشيء نفسه عندما نشاهد تشارلي تشاپلن في دور المتشرد المتسكع، فنتعاطف معه تعاطفًا لا يصدَّق؛ ومع ذلك، بمجرد أن نخرج من قاعة السينما ونصادف متشردًا، فإننا نبدي نفورًا منه ولا نبالي به! إننا ننفذ إلى أعماق هذه الشخصيات ونفهمها بفضل التماهي. والشيء نفسه يَصدُق على الشخصيات الروائية أو المسرحية، كشخصيات وليم شكسپير مثلاً.
في الواقع، هناك مفارقة: نستطيع، عِبْر الفن والأدب، التعاطف مع هذه الشخصيات وفهمها؛ ولكننا في الواقع اليومي لحياتنا لا نستطيع ذلك، فنكون كالنائمين. وهو ما يضفي معنى على عبارة هيراقليطس، – الفيلسوف الذي تكلَّم كثيرًا بالمجاز، – تلك العبارة الرائعة التي يقول فيها: "أيقاظ، لكنهم نائمون" – وهي عبارة تستحق أن نتأملها تأملاً مستمرًّا.
إن ضرورة فهم الغير تخلق ضرورة فهم الذات وتفادي التبرير الذاتي وتجريم الغير والكذب على الذات – وهي تجارة رائجة بيننا اليوم. فهناك العديد من الشروط التي يمكن لها أن تساعد على تربية ملَكة الفهم وتطويرها. ويمكن تدريسُها منذ الفصول الدراسية الأولى، وليس انتظار الوصول إلى مرحلة التعليم الجامعي للقيام بذلك.
إن اللاتفاهم يسود العالم ويهدِّده. ومن المؤكد أن ضرورة التفاهم هي المطلب الملح للرقيِّ بمستوى العلاقات بين البشر.
الثقب الأسود الخامس: ندرِّس اليقين ولا ندرِّس اللايقين والمحتمَل والمفاجئ
لا نؤهَّل لمواجهة مفاجآت الحياة. والواقع أن البشرية طورت أساليب لمواجهة هذه الأحوال بالتنجيم والفراسة والسحر والعبادة والدعاء. ولكن أعتقد أنه ينبغي علينا الذهاب بعيدًا في البحث، من دون تجاهُل هذه الكيفيات في المواجهة والتحكم التي طوَّرتْها البشرية. نفهم كيف أن اللايقين والمحتمَل يشكلان جزءًا صميميًّا من حياة كلِّ واحد منَّا منذ ولادته. لا أحد يعرف مسبقًا الأمراض التي ستصيبه أو مصيره في الحياة؛ ولكن بقدر ما يتقدم المرء في الحياة يكتشف، وبالقدر نفسه يتفاجأ. إنه لا يعرف هل سيكون زواجُه سعيدًا أم شقيًّا؛ إنه يعرف فقط أنه سيموت، ولكنه لا يعرف تاريخ موته. هذه بعض الملاحظات عن علاقة اليقين باللايقين على المستوى الفردي.
أما على مستوى العلوم، فإن هذه قد حقَّقت، منذ فجر القرن العشرين، تقدمها باختراق مجال اللايقين والمحتمَل. فعلوم القرن التاسع عشر، بما فيها علوم الفيزياء، كانت علوم الحتميات المطلقة، وكانت تتبنَّى الدعوة القائلة: إذا عرفنا الشروط كلَّها توصَّلنا إلى النتائج كلَّها كما هي محددة. كان مناخها الإيديولوجي والفكري هو مناخ دعاوى التقدم. في القرن العشرين، لم تعد فيزياء القُسَيْمات (الفيزياء الكوانتية) هي وحدها التي تقول باللاحتمية indéterminisme، بل حتى فيزياء الشواش chaos. لقد توصلت هذه العلوم كلها إلى أن السيرورات المحدَّدة في الأصل، بمجرد أن تصير موضوع تفاعلات، فإنه لا يمكن التنبؤ بنتائجها إلا على وجه الاحتمال. ويقودنا هذا إلى مجموعة من النتائج الهامة، أهمها الشك في كلِّ نتيجة قد تُعتبَر نهائية ومطلقة: فما يظهر أنه ظاهرة محكومة بحتمية تعكسها معادلةٌ رياضية صارمة، كحركة دوران الأرض حول الشمس مثلاً، يبقى كذلك في حدود معينة – وهو أمر صحيح. ولكن الأبحاث والحسابات الرياضية تؤكد أن الأرض نفسها التي تدور بهذه السرعة المحسوبة بدقة رياضية كانت هي نفسها تدور حول الشمس بسرعة أكبر في ما مضى، ولا نعرف بأية سرعة ستدور في غضون ملايين السنين القادمة. وبالتالي، فإن العديد من الظواهر التي تظهر حتميةً اليوم لا تكون كذلك إلا في حدود زمنية قصيرة نسبيًّا.
ولكنْ – حتى لا أطيل عليكم في مجال النظرية الفيزيائية – فلآخذ مثالاً آخر من البيولوجيا والتطور البيولوجي. إننا نعرف أن كوارث كونية كانت في أصل ظهور الحياة على الأرض. كما نعرف أن كوارث طبيعية أُخَر عرفها العصر الجيولوجي الأول أبادت العديد من الكائنات الحية؛ وهي الإبادة نفسها التي سمحت بظهور أنواع أخرى. وهناك أيضًا الكارثة الثانية التي عرفتْها الأرض في نهاية العصر الجيولوجي الثاني، ربما بفعل ارتطام نيزك قادم من الفضاء بالأرض، وما تولَّد عن هذا الارتطام من دمار شامل وتغيُّر في المناخ والتضاريس، مما قضى نهائيًّا على الديناصورات وسهَّل نموَّ حيوانات صغيرة آكلة للحوم (لحوم الديناصورات) وتكاثرَها – وهو التطور نفسه الذي سمح بظهور النوع البشري. إن الدرس الذي يمكن لنا استخلاصُه من تاريخ الحياة هو أنه تاريخ الشواش والمصادفة واللامؤكَّد والمفاجئ.
وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على التاريخ البشري الذي حاولنا دائمًا جعلَه تاريخًا متصلاً وعقلانيًّا، وكأن له غايةً محددة سلفًا. إنه تاريخ انهيار الإمبراطوريات وتلاشيها: الإمبراطوريات الآشورية، البابلية، الفرعونية، الصينية، الرومانية، بل وحتى الإمبراطوريات الحديثة والمعاصرة: الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية السوفييتية. في اختصار، إن تاريخ البشرية هو نفسه تاريخ لا يحكمه قانونٌ صارم وحتمي؛ فهو تاريخ الأحداث والوقائع العظمى، تاريخ الحروب العالمية، مع نتائجها غير المحسوبة وغير المرتقَبة والمفاجئة.
ينبغي لنا، إذن، تدريس اللايقين والمحتمَل لمواجهتهما. وأود، بهذه المناسبة، أن أقف عند شيء هام على هذا المستوى، غالبًا ما يُغفَل، وأسميه بـ"إيكولوجية الفعل"، ويعني أنه عندما يبدأ فعلٌ ما، سواء في وسط اجتماعي أو طبيعي، فإن ذلك الفعل يفلت تدريجيًّا من إرادة الفاعل الأول، ليدخل في سيرورة تفاعُل قد تغيِّر اتجاهه أو مساره. وتقدِّم الثورة الفرنسية مثالاً تاريخيًّا هامًّا.
نعرف أن الثورة الفرنسية جاءت كردِّ فعل للطبقة الأرستقراطية التي حاولت استغلال ضعف السلطة الملكية وانعدام كفاءتها لاسترجاع امتيازات فقدتْها بعد قيام الملكية المطلقة للملك لويس الرابع عشر. فطلبت اجتماع المجلس الأعلى États généraux، حيث كانت الكنيسة ممثَّلة ومعها طبقة النبلاء، وعموم الناس Tiers-état. وكان التصويت في هذه الهيئة يتم على أساس الفئة أو الهيئة المنتمى إليها، بحيث كانت الأغلبية للكنيسة وللنبلاء. ولكن في بداية الاجتماع تم فرضُ التصويت الفردي، فكانت النتيجة (1849) إلغاء الامتيازات. مثال آخر، حاول غورباتشوف إصلاح الاتحاد السوفييتي، فعجَّل في انهياره وتفككه.
نرى، مرارًا، أن الفعل لا ينتهي إلى قصده الأول، بل غالبًا ما ينحرف عنه ويخون هدفه الأول. وهذا أيضًا درس هام يعلِّمنا، أولاً، أن كلَّ قرار هو نوع من المراهنة، هو شيء لا نضمن نجاحه سلفًا؛ ويعلِّمنا، ثانيًا، ضرورة معرفة كيفية بلورة الاستراتيجية. وأميِّز، هاهنا، بين الاستراتيجية والتخطيط.
البرنامج نحدِّده مرة واحدة، وبصفة نهائية، ليطبَّق بحذافيره. يتعلق الأمر بآليات يتم حصرُها في مجال نتحكم فيه. أما عندما يتعلق الأمر بمجال متحرك للفعل، فإنه ينبغي جعل خطة العمل مرنة لإدماج المعلومات والمعطيات بحسب الشروط والمفاجئات والطوارئ.
علينا أن نستحضر هذا الشيء، وأن نتذكر ما قاله المؤلِّف التراجيدي الإغريقي إفريپيدس، الذي قال إن مدار تراجيدياته كلِّها فكرةُ أن الذي يحصل عادةً ليس المتوقَّع أو المرتقَب، بل اللامتوقَّع والمفاجئ. فلنتوقع اللامتوقَّع، ولاسيما أننا نعرف أن معاهد المستقبليات futurologie كلَّها لن تسعفنا في جعل المستقبل أمرًا أكيدًا، على الرغم من السيناريوهات الجاهزة كلِّها.
إن مغامرة البشرية تسير دائمًا في اتجاه المجهول، وليس لنا سوى المراهنة أو الاستراتيجية.
الثقب الأسود السادس: تدريس الكوكبي
على مستوى أوروبا، ينبغي تدريس التاريخ الوطني؛ وينبغي إدماج هذا التاريخ في تاريخ أوروبا: مثلاً، إدماج تاريخ فرنسا ضمن تاريخ أوروبا، وليس تدريس تاريخ أوروبا من زاوية تاريخ فرنسا. فنحن لا نعرف تاريخ أوروبا الشرقية أو الإمبراطورية العثمانية. ينبغي إدماج هذا التاريخ ضمن هذه التواريخ، وهذه الأخيرة ضمن تاريخ كوني.
كانت هناك في تاريخ البشرية مرحلة أولى هي مرحلة التشتت والانتشار (الإمبراطوريات العظيمة القديمة)؛ وكانت هناك مرحلة ثانية، بدأت مع الاكتشافات الجغرافية الكبرى، بمظاهرها الأسوأ والأفضل – الأسوأ: العبودية والاستعمار، والأفضل: الاكتشافات والمعرفة والعيش. تلتهما المرحلة الحالية، التي نسميها اليوم "الكوكبية الشمولية"، حيث يتم إرساء البنيات التحتية لمجتمع–عالَم لا يوجد بعد؛ وهي مرحلة تقودنا إلى حالة فوضى كاملة. ولكن هذا المعطى يفتح عيوننا على المشكل الحقيقي: صعوبة فهم الحاضر. يردِّد الفيلسوف الإسباني أورتيغا لوكاثيت: "لا نعرف ما يجري. وهذا ما يجري." إنه جهلنا بحقيقة حاضرنا. إننا في حاجة ماسَّة إلى معرفة حاضرنا معرفةً أحسن، لا لكي نعرف مستقبلنا معرفة أفضل، بل لمحاولة إدراك ما يحدث – علمًا بأننا نعرف أن ما يحدث لا يكون مرتقَبًا، بل غالبًا ما يكون غير متوقَّع. والمفارقة تكمن في أن هذا الوضع يفتح باب الأمل بلامتوقَّعه؛ أما المستقبل المنظور، فإنه يخيف بتوتراته وأسلحته.
الثقب الأسود الأخير – أخلاقيات المركَّب الثلاثي: الفرد والمجتمع والنوع البشري
هناك أخلاقيات تتعلق بالفرد، بأقاربه وبذاته؛ وهناك أخلاقيات لتطوير الفرد؛ وهناك أخلاقيات المجتمع، حيث الدمقرطة هي المطلب، وحيث يمكن للمواطنين أن يراقبوا مراقبيهم. وهنا نجد الدائرة المغلقة بين المواطنين والحكومة.
وهناك أخلاقيات النوع البشري؛ وهي ليست بيولوجية فقط، بل هي أخلاقية وحدة القَدَر والمصير التي تجمع بين جميع البشر على الكوكب الأرضي حيال المشاكل الأساسية وأمام الأخطار نفسها.
ويقودنا هذا التحليل إلى طرح سؤال: كيف نفكر في الإصلاح؟
إذا خلقنا هذه الكراسي السبعة للمعارف الضرورية، مع ضرورة إعادة تأهيل المدرِّسين، بحيث يكون في مقدورهم القيام بتدريس يتطلب تأهيلاً متينًا وقدرة على الجمع والتركيب، فإن الإصلاح يكون ممكنًا ويمكن لنا التقدم ومواجهة قدرنا. وأضيف أنه سيكون من المستحب أن تخصِّص كلُّ جامعة وكلُّ كلية نسبة 10% من برنامجها لجميع الاختصاصات؛ وهذا ما أسمِّيه "الذمة الإپستمولوجية"، التي ينبغي أن تجيب، بالضرورة، عن أسئلة أربعة أساسية:
السؤال الأول: ما العقلانية؟ – علمًا بأنه لا توجد عقلانية خالصة من الأهواء.
السؤال الثاني: ما العلم، وما المعرفة العلمية؟ كثير من الفلاسفة يفكرون في مفهوم العلم، أما العلماء فلا يفكرون في العلم.
السؤال الثالث: ما التعقيد؟ ما حقيقة هذا البناء المعقَّد للظواهر؟ وكيف يمكن للفكر البشري أن يستوعبها في تعقيدها، لا أن يشوِّهها بتبسيطها؟ إن المعرفة المطلوبة تتعدى معرفة المكوِّنات والأجزاء، بل هي معرفةٌ بما يعطى للإدراك ككل.
السؤال الرابع: ما الحضارة؟
هذه بعض الآفاق التي قدَّمتُها هنا، في اختصار شديد، علمًا بأنه يمكن لنا إيجاد كلِّيات جديدة، ككلِّية الإنسان، حيث يتم جمع كلِّ يتعلق به من علوم؛ كما يمكن إيجاد كلِّية للكون، إلخ.
يمكن لنا، إذن، إعادة تنظيم المعارف والاختصاصات. ولا يكمن المشكل في حذف الاختصاصات، بل يكمن في عدم تحاوُرها وفي عدم انفتاحها بعضها على بعض، مما يجعلها لا تتحول إلى تراث حي وإلى ثقافة. إن الثقافة الإنسانية اليوم معطوبة بانشطارها إلى ثقافة علمية، مغرِقة في التخصص، منغلقة على ذاتها، ولا تتفكر فيما يقوم به العلم، من جهة، وثقافة إنسانية، قوامها الفلسفة والأدب والفن، لا تتفكر فيما يقوم به العلم؛ وهي نفسها لا تستند إلى مكتسبات المعرفة العلمية التي تمنحنا فرصة للتفكير في قدرتنا.
إن التواصل بجمع المكوِّنين هو الذي سيسمح بإحياء الثقافة على مستوى تلبية حاجات الإنسان والعالم المعاصرين.

الجمعة، 30 سبتمبر 2016

ما هي العلمانية ؟

المكتبة العامة



العلمانية مذهب قانوني ـ سياسي يتميز بإقصاء النفوذ الديني عن الدولة. ولهذاالمذهب جانب نظري فلسفي بوصفه نتاجاً للنظر العقلي، وجانب عملي بوصفه ينشأ عن جملة من الممارسات والإشكاليات التي تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، بينالسلطة الروحية والسلطة الزمنية، ومن ثَمَّ بين الإلهيات والإنسانيات.

والعلمانية لفظة عربية مستحدثة مقابلة لكلمتي laïcisme  الفرنسية وlaizismsاللاتينية المتأخرة التي تعني العامي أو ابن الشعب؛ أي المدني غير المتعلم، مقابل كلمةclerc التي تعني رجل الدين. وهي مشتقة من العَالَم، وليس من العِلْم، ونقيضها الإكليريكية (نسبة إلى الإكليروس: طبقة رجال الدين)؛ مذهب من يقول بضرورة تدخل رجال الكهنوت في الشؤون العامة.

وتعني العلمانية من الناحية القانونية، عدم كفاءة الكنيسة في الشؤون العامة والمجال الزمني، كما تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي، فالحريةالدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائه تنتفي العلمانية من أساسها. لكن هذا لايعني أن الدولة العلمانية دولة لا دينية، أو دولة تنكر الدين، بل هي دولة لاتميز ديناً من دين. أما فلسفياً، فهي تعني تأسيس حقل معرفي مستقل عن الغيبيات والافتراضات الإيمانية السابقة، أي مستقل عن المرجعيات المتعالية التي تعطي نفسها حق تنظيم العلم وتضع لحرية الفكر حدوداً تتنافى مع ماهية الفكر بالذات. فالعلمانية ليست إلحاداً، أو نفياً للاعتقاد، بل هي تحرير له من القيود الخارجية. وتاريخياً، تعد إشكالية العلمانية غربية، وفي المقام الأول فرنسية، ففي فرنسا صيغ المفهوم أول مرة، وعرف الصراع بين الدولة والكنيسة أكثر أشكاله ضراوة، فتطور، عبر فلسفة الأنوار وورثتها، فكر فلسفي معاد للدين أو لرجاله أو لكليهما معاً.

اقترنت العلمانية بتيارات العقلانية والحداثة، التي ظهرت في أوربا المسيحية بداية العصر الحديث، وخاصة منذ القرن السابع عشر، وقد شكلت ثقافة واسعة انتشرت في المجتمعات الأوربية، وتجلت في منظومة فكرية، اعتمدت على المنهج العلمي في تفسير الطبيعة و الكون ونشاط الإنسان وفاعليته في حركة المجتمعات وتطورها، واتخذت موقفاً مناوئاً إزاء الفكر والسلطة الكنسية، التي كانت تشكل الخلفية الثقافية والسياسية لنظام الإقطاع الذي كان يحتمي بكهنة الكنيسة وهيمنتها على عقول الناس والمجتمعات.

وفي ظل الثقافة العلمانية ظهرت الأفكار الفلسفية المتباينة، منها العقلانية، والمذاهب الطبيعية والوضعية والمادية والمثالية، ومفاهيم الدولة الحديثة الصناعية، ونظرية فصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة والمجتمع المدني، ونشأت معها مفاهيم الحقوق والواجبات والديمقراطية وسيادة القانون والدساتير والأمة والقومية.

وقد أسهمت عوامل عدة في بلورة الفكر العلماني داخل النظام الإقطاعي الكنسي نفسه منها:

ـ إسهام مجتمعات المدن الناشئة في العصور الوسطى التي كانت تمتهن الحرف والصناعة، وكونت لاحقاً مجتمع البرجوازية الصناعية في بنى اجتماعية قابلة للتحديث ورفض النظام الاجتماعي والاقتصادي وثقافته القائمة.

ـ دعوات الإصلاح السياسي والتي كانت تظهر بين آونة وأخرى في إطار الصراع بين الكنيسة وبعض أمراء الإقطاع عند بعض المفكرين السياسيين، كالمفكر الشهير مكيافيللي[ر] الذي عادى السلطة الزمنية للكرسي المقدس، ولم يكتف بالدعوة إلى علمنة الدولة، بل أراد أن يخضع الدين بصورة كاملة لسلطة الأمير، ولذلك فقد فصل بين مدينة الله ومدينة البشر التي يقودها العقل البشري وحده، وصاغ فلسفة لا أخلاقية للسياسة لتبرير تمجيد الدولة وسلطان الأمير.

ـ دعوات الإصلاح الكنسي، التي كان أهمها دعوة مارتن لوثر، التي أدت إلى ظهور البروتستنتية، ومهدت لقيام كنائس قومية؛ أي كنائس مستقلة عن الزعامة المركزية البابوية وتابعة للأمير المحلي. وقد أدى تفتح الوعي البرجوازي وازدياد السلطة المطلقة للملوك والإمارات في مواجهة الكنيسة وتحدي سلطتها إلى بلورة الأفكار العلمانية في القرن السادس عشر. ففي فرنسا بالذات، تطور المذهب الأنغليكاني الذي يقر لكنيسة فرنسا باستقلال نسبي عن الكرسي البابوي، ولملوك فرنسا باستقلال مطلق في المجال التشريعي الزمني.

وقد ولّدَ ظهور التيارات العقلانية وفلسفة الأنوار في أواسط القرن الثامن عشر، نزعة ضاربة في عدائها للإكليريكية،لا على الصعيد النظري فحسب، بل كذلك على الصعيد العملي من خلال الإجراءات القانونية والاقتصادية التي اتخذتها الثورة الفرنسية ضد الكنيسة والسلك الكهنوتي. فعلى الصعيد النظري ـ الفلسفي، وجدت الأيديولوجيا العلمانية أو المعادية للإكليريكية خير ناطقين بلسانها في أشخاص مفكرين مشاهير، من أمثال روسو، داعية الدين الطبيعي، وفولتير الذي نادى بتوحيد السلطة الزمنية والدينية معاً في وحدة سياسية، والموسوعيين من أمثال مونتسكيو الذي دعا إلى مبدأ فصل السلطات، وديدرو ودالمبير، اللذين جعلا من المادة مبدأ أول، ومن الإنسان، لا الله، مركز الكون.

فضلاً عن ذلك فقد نشأت مذاهب سياسية واقتصادية كبرى كالمذهب الليبرالي، والراديكالي الذي انبثق عنه اتجاهات اشتراكية مادية و مثالية، ونظم الاشتراكيةالإصلاحية والثورية.

كما تأسس المذهب الوضعي على يد سان سيمون وأوغست كونت، الذي يدعو إلى هيمنة العلم على السياسة، تحت شعار النظام والتقدم، وتكريس العلم منهجاً في الحياة مما أدى إلى ثورة في البنى الاجتماعية، والنهضة الاقتصادية، والتفتح الفكري والفني والرخاء المادي، والتحرر من ثقافة رجال الكنيسة وتسلطهم، وإحلال مفاهيم إنسانية لمصلحة الفرد في مجتمعه ومفاهيم سياسية تحصن حقوق الفرد وحرياته، وتنظم علاقاته مع السلطة والدولة في إطار الحق و الواجب.

وبهذا فرضت العلمانية نفسها في فرنسا، في شكل سياسي عام 1879، وباتت الغالبية في البرلمان للعلمانيين، وأمكن إصدار سلسلة من القوانين وضعت حداً شبه نهائي لتدخل الكنيسة في الشؤون العامة، فحل التشريع المدني بدل الكنسي في مجالات عدة، ولعل أهمها ميادين التعليم والأحوال الشخصية وإقرار الزواج المدني، مع كل ما يرتبط بذلك من تغيرات اجتماعية وتربوية، مما استتبع قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان سنة 1904، وفي عام 1945 كرس الدستور الفرنسي بصورة نهائية علمانيةالدولة، وإقرار فصل تام بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.

وكانت إسبانيا من أسبق الدول الأوربية إلى إعلان علمانيتها بعد فرنسا، وذلك في ظل الحكم الجمهوري بين عامي 1868 و1876. أما في أمريكا، فعلى الرغم من الطابع الليبرالي والعقلاني لإعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1776، فإن المكسيك كانت هي السباقة إلى التكريس العلني لعلمانية الدولة منذ أواسط القرن التاسع عشر، كما كانت تركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك أول دولة إسلامية تتبنى العلمانية. وبالمقابل فإن الدولة اليهودية، أي إسرائيل، ماتزال بين سائر دول العالم أكثرها طائفية،لأنها جعلت من الدين نفسه قومية، ولم تتخذ لنفسها دستوراً لأن أي دستور معناه الحد من سلطة التوراة والشريعة الموسوية.

وباستثناء ما تبقى الدول الاشتراكية (رغم أنها لاتعد علمانية خالصة بسبب دعايتها الإلحادية)، يندر اليوم وجود أي دول أو دساتير علمانية خالصة، فالقانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية)، الصادر في عام 1949، يؤكد مثلاً أن «الشعب الألماني واعٍ لمسؤوليته أمام الله». ودساتير النرويج والسويد لاتبيح أن يكون رئيس الدولة غير بروتستنتي، كما لايبيح دستور إنكلترا أن يكون الملك غير أنغليكاني، أما دستور سويسرا الاتحادي الصادر عام 1874، فيعزز مبدأ سيطرة الدولة على الكنيسة، وهو أحد الأسباب التي جعلتها تمتنع عن التصديق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. كذلك تشترط دساتير بعض الدول العربية والإسلامية التي أخذت بالحداثة أن يدين رئيس الدولة بدين الإسلام، وتنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.

ومع هذا فلم تقتصر العلمانية على الغرب وحسب، فسرعان ما تسربت أفكارها إلى الشرق، وكان لها تأثيرها في توجيه الأفكار الإصلاحية، فراجت بعض الدعوات للاقتداء بها والأخذ بما ينسجم مع روح الدين الإسلامي ومع التطور الاجتماعي. وقد أسهم كل من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وهما من أوائل المصلحين، في ذلك.

والشعار الذي طرحته العلمانية العربية هو الدعوة لقومية عربية يكون الرابط فيها اللغة لا الدين، وتكون القيم السائدة فيها هي القيم الإنسانية العالمية، لا القيم الدينية. من هنا كان توجه هذا التيار العلماني توجهاً اجتماعياً إنسانياً، فرض نظرة تجديدية للمجتمع ترتكز على مقومات سياسية ومعرفية جديدة. ومن أبرز الممثلين المسيحيين لهذا التيار العلماني القومي العربي بطرس البستاني وأديب إسحاق وأنطون سعادة وناصيف اليازجي وشبلي شميل وفرح أنطون وأمين الريحاني وغيرهم. ورغم أن العلمانيين المسيحيين كانوا السباقين لطرح موضوعاتهم ضمن هذا الإطار العلماني بفعل أوضاعهم الاجتماعية وبفضل اطلاعهم على الأفكار الأوربية التي احتضنت هذا الاتجاه، إلا أن ثمة تيارات عريضة من العلمانيين المسلمين قد شقت طريقها وسط فكر عصر النهضة، متحدية بذلك الاتجاهات المحافظة والتقليدية، ودعت إلى مزيد من الحرية والعلم والتربية، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين، أبرز رواد التربية الحديثة. وقد ترافقت دعوة  قاسم أمين هذه مع دعوة إصلاحية مماثلة، قال بها محمد عبده ودعت إلى تحرير العقل من قيود التقليد ومهدت بذلك لتقبل الإصلاحات السياسية، بيد أن دعوة أمين كانت أكثر برمجة وتحديداً، إذ أدرك أن العلم وحده هو الذي يحرر الإنسان من الخوف والجهل، ويمنحه الحرية الفردية وحق التعبير بحرية عن معتقداته ومبادئه ونشر آرائه بعيداً عن أي مؤثرات دينية تقليدية، إضافة إلى النهوض بالمجتمع ومواكبة الحضارة والرقي والتقدم.

ولم يكن قاسم أمين النموذج الوحيد عن العلمانية العربية التي برزت في القرن العشرين، رغم تميزه، وذلك لتوسع الموضوعات التي طرحتها هذه العلمانية، ففي إطار التفكير القومي يبرز ساطع الحصري ممثلاً للقومية العلمانية، بنظريته المنهجية التي تبين أن روابط اللغة والتاريخ والثقافة المشتركة، وليس رابط الدين، هم أساس القومية العلمانية العربية. ومن الدعوات البارزة أيضاً في إطار العلمانية العربية دعوة علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» إلى الفصل التام بين الدين والدولة. وكذلك دعوة طه حسين بمنهجه الشكي الذي طال به قسماً من المقدسات الإسلامية والقصص القرآنية، كما كان لدعوة إسماعيل مظهر النقدية في العلمانية الروحية ولدعوة عبد الرازق السنهوري في العلمانية التشريعية إضافة إلى العلمانيين شكيب أرسلان، ورفيق العظم، ومحمد حسنين هيكل وغيرهم، أثر كبير في المجتمع العربي، فما زالت أفكارهم تلقى اهتماماً بالغاً.





طيبولوجيا الأخطاء السياسية ـ د.زهير الخويلدي


أنفاس نت


" لا حقيقة دون خطأ مصحح...ولا يتم الاعتراف بالخطأ إلا بعد حين. فالعقل هو الذي يعود إلى ماضيه في حد ذاته من أجل الحكم عليه"  - غاستون باشلار-
تعاني السياسة من تكاثر الأمراض وتزايد الآفات ويمكن ذكر رذائل الطغيان والاستبداد والشمولية من جهة ممارسة الحكم في علاقة بالمحكومين والعنصرية والاستبعاد والاحتكار والتمركز من جهة ذهنية الحكام وبنية السلطة القائمة وكذلك العنف والكذب والجهل في علاقة بأخلاقيات النظام السياسي الحاكم.
لقد دنّس التملق والطمع والنية السيئة  قداسة القيم المدنية وعفّن التسلق والأنانية والوصولية الجو السياسي وتم حشر الخطأ في دائرة الأمراض التي تعاني منها الحاضنة الشعبية وتم اعتباره أحد الرذائل التي عرقلت تقدم الحراك المواطني ووقع الاتفاق على تأثيمه واستبعاده من حيث هو عيب ونقص وارتجال وتعثر.
غير أن واقع الممارسة ومحمول النظرية يثبتان خلاف ذلك ويدعوان الذهن المتبصر إلى مراجعة هذا الموقف والكف عن إصدار الأحكام المسبقة على الأخطاء باعتبارها فرصة من أجل تربية الشعور السياسي ومناسبة للتمرين والاختبار والاستعداد والتدرب على الفعل وتكرار الممارسة ونيل الثقة والنجاح المتأني.
لو قام الفكر الحاذق بدراسة تحليلية نقدية لأشكال حضور الأخطاء في الحقل السياسي منقبا في رمزيتها ووظائفها وباحثا في دورها الإجرائي في تشكل السلطة وإعادة إنتاجها في صورة قوانين وتدابير وتوزيعها بطريقة منصفة على الأفراد والمجموعات فإنه يقر بصعوبة الظاهرة وواقع تعقد التكوين وطابعها الخلاق وصيرورتها المولدة ويستوجب السير في جملة من التمشيات التطهيرية ومعالجة استراتيجية للمشكل تميز بين العاجل والآجل وبين العلل المستعصية والعلل التي يمكن التخلص منها.
فماهي المنزلة الابستيمولوجية التي يبدو عليها الخطأ في المجال السياسي؟ هل هو علامة على غياب الكفاءة ونقص الخبرة وطريق نحو الفشل والتردي والعجز أم أنه  يخفي التقدم بصورة معينة ويمثل حقل التجربة الحاسمة وشرط إمكان تحقيق النجاح وبلوغ الحقيقة ومراكمة المهنة وتجويد القدرات؟ وبأي معنى يهتم الفكر الفلسفي السياسي بالأخطاء راهنا ؟ هل يتناولها من جهة رصدها واقتناصها وتفاديها أم من جهة صناعتها وتنميتها واستثمارها؟ هل يكفي الانخراط في تجربة الفهم وتفعيل المعقولية العلمية من أجل مقاربة جذرية للظاهرة أم أن الأمر يقتضي القيام بالتشريح وإجراء التفكيك من أجل الاستشراف والخلق؟
يربط الإنسان العامي بين الخطأ والعثرة ويفسر ذلك بالسهو والغفلة والنسيان وفي الجانب الاصطلاحي يقع المرء في الأخطاء عند ممارسته القراءة والكتابة وسرد الأحداث التاريخية وتذكر شخصيات الماضي.
بيد أنه يمكن التمييز بين الخطأ المعرفي الذي ينتج على خلل في المنهج واضطراب في التفكير والخطيئة الأخلاقية التي يقترفها الإنسان برغم درايته بالقاعدة السلوكية وعلمه بطرق جلب المنفعة وإتباع الأفضل.
لعل الخطأ السياسي ينتمي إلى مجال الأخطاء التي لا يمكن التسامح معها وتلافيها وذلك لأنه قريب من الخطأ القضائي والخطأ الإداري والخطأ الطبي وهي كلها أخطاء فضيعة وربما تؤدي إلى الهلاك الفوري.
 تكاثر الأخطاء في المجال السياسي يؤدي حتما إلى استفحال الأزمات وتوتر العلاقة بين المجتمع والدولة وانتشار الفساد في البني العميقة للمؤسسات ويجلب نتائج كارثية على التربية والثقافة والاقتصاد والحياة.
إذا كان مصدر الأخطاء في المجال السياسي هم الأفراد باعتبار قلة من دوائر النفوذ هم الذين يصدرون الأوامر ويتابعون القرارات فإن الجميع يتحمل التبعات وعدد كبير من المواطنين يشاركون في الخسائر.
اللاّفت للنظر أن الخطأ ينتمي إلى حقل دلالي يضم المغالطة والتزييف والوهم والاغتراب والكذب والتشويه ويتنافر من جهة المنطق والأخلاق مع الصدق والصراحة والحقيقة والفضيلة والصواب والمصداقية.
في هذا الإطار كثيرا ما يلتجئ السياسي إلى استعمال المغالطات في خطابه بغية التأثير والهيمنة ويتعمد تحريف بعض الوقائع وممارسة الكذب من أجل تحقيق بعض المنافع والاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها ويجانب الحقيقة والمعيار في الكثير من الأحيان تجنبا للمشاكل وقصد صناعة رأي عام موافق له.
المشكلة أن الأخطاء في الحياة اليومية تربي الناس وتثقفهم وتكسبهم الخبرة وتصحح لهم معلوماتهم وترشدهم إلى الخيار الأسلم بينما الأخطاء في الحياة السياسية تصيب القيم بالعديد من الأضرار وتمزق النسيج المجتمعي وتؤدي إلى ذهاب الديمقراطية وضياع علوية القانون وتدمر الأوطان وتخرب المدن.
بهذا المعنى يفضي الخطأ في الحقل السياسي إلى كوارث على الشعوب ويؤدي إلى إحلال الهمجية مكان التحضر واندلاع الخلافات بين الأفراد والحروب الأهلية والنزاعات بين الدول والتصادم بين الحضارات.
في الظاهر ينتج الخطأ عن التصحر المعرفي والتشنج السلوكي والانفعال العاطفي والضعف الوظيفي ولكنه يرتبط في مرحلة أولى بسوء التقدير وقلة التدبير وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة في الأوقات المناسبة وغياب التخطيط العلمي والنظرة الاستراتيجية وفي مرحلة ثانية وفي مستوى أعمق يرجع إلى خلل بنيوي في الذهنية وتراكم شبكة من المسلمات القبلية التي تعوق عن التقدم وتعيد إنتاج الفشل والتعثر. كما يجلب الخطأ رذائل اليأس من الآتي والخوف من المداهم وغياب الاستقرار وانعدام الطمأنينة ويُصيب الإرادات بالشلل ويُضاعف من الصعوبات والمشاكل ويُهدر الطاقات ويُضيع الفرص ويُعمق الفوارق.
لقد حادت الأنظمة السياسية عن المبدأ وتبخر حلم الشعوب في الحكم الصالح والدولة الحامية وتأخرت العدالة الاجتماعية والمساواة السياسة وتمتع الأفراد والجماعات بالحريات والحقوق داخل وحدة التنوع. لكن أين يسكن بالتحديد الخطأ السياسي ؟ وهل ينبع من خواء في مجال النظرية أم عجز على مستوى الممارسة؟
والحق أن المصدر الذي ينحدر منه الخطأ يكمن في مرحلة أولى في وثوقية الأطر النظرية  وشكلانيتها وفي مرحلة ثانية في انسيابية التجربة وتشتتها وفي مرحلة ثالثة عند المرور من المعرفة إلى التطبيق.
إذا كانت السياسة من حيث هي فن تتحرك في دائرة الممكن وبعيدة بالتالي عن العلم الضروري الذي ينطلق من مقدمات بديهية ويصل إلى نتائج منطقية وإذا كان رجل السياسية يتسلح بالحذر من أجل رصد الجزئي ومتابعة التفاصيل وتعقل الأحداث وإنقاذ الظواهر واستيعاب المداهم وقنص الفرص المتاحة فإنه من المفيد تغيير النظرة وتبديل الموقف المعرفي والالتزام العملي واعتبار الخطأ مفتاح تأويلي للمشهد السياسي يفتح الطريق نحو الرأي السديد والفعل الحصيف ويخرج المجتمع من القعود والانتظار إلى الفاعلية والإبداعية.
يمكن تقديم شبكة كاملة من الأخطاء التي تم ارتكابها في الميدان السياسي وتعكس الأمية المتفشية والتي ربما تكون ناتجة إما عن رواسب طفولية في الشخصية وإما أمراض المراهقة الدائمة والمتأخرة التي ظهرت عليها. في هذا الصدد بأي يتم تقديم أولوية لقمة العيش على الكرامة وتُقَايَضُ التنمية الذاتية بحتمية التبعية تجاه الخارج؟ وكيف تكون الحرية والتعددية هي المقابل المعنوي الذي يضحى بغية تعزيز الأمن وضمان الاستقرار والسلم؟ ولماذا توضع دائما السيادة في الباب الخلفي الذي يتم إغلاقه عند أول شعور بخطر ضياع المواطنة؟ وما وجاهة اعتبار القُطرية والتقسيم والتجزئة أفضل البدائل عن الوحدة والاندماج والتكتل والتكامل الوطني؟ وهل تتساوى شراكة الدولة الرخوة  مع القيم التقدمية التي فرضتها إرادة الشعوب زمن ثورة الأمل؟
في الواقع لا توجد أخطاء بسيطة وتافهة تقبل التدارك بسرعة وتحتاج إلى الانتباه والحرص والمزيد من التركيز وأخطاء فادحة عادت على المجتمع بعواقب كارثية وأصاب ضَرَرُها البنى العميقة للدولة وأثرت على مصير الناس وبالتالي لا يمكن التخلص منها بسهولة وإنما يحتاج العلاج منها إلى التبصر والوعي.
لا يجب أن تترك الأخطاء تمر هكذا بلا رصد وتشخيص وإثارة ومراقبة وتحسس وتبيان وتطهير ونقد ومحاسبة ولا ينبغي الاكتفاء بإدانة مرتكبي الأخطاء ولومهم ومعاقبتهم فقط بل يلزم الإصلاح والتصحيح والتقويم والتسديد وذلك بأخذ الحيطة والاعتبار والتوقي من تكرارها ومعاودة الهزائم والفشل والتفويت.
ليس ثمة خطاب سياسي لا يقع في الأخطاء والانتكاسات ولا توجد تجربة سياسية لا تتعرض للإجهاض والعرقلة والإخفاق وإنما السياسي الحاذق هو الذي يلتزم بالسير على طريق معرفة الأخطاء وذلك بالحذر من الوقوع فيها بحسن التدبير وجودة الروية والتحلي بالحكمة العملية والتعقل الإيتيقي والتدبير الإنسي.
ليس من المفروض أن يتعلم سياسيو المرحلة الراهنة من أخطائهم فحسب بل يجب عليهم أن يتعلموا من أخطاء الذين سبقوهم والذين قد يأتوا بعدهم وأن يتحملوا مسؤولية إزاء جيلهم والأجيال السابقة واللاحقة.
جملة القول أن الوقوع في الخطأ لا يمثل عيبا عضويا وليس قدرا محتما ولكن البقاء عنده وتكراره إلى ما لانهاية هو الدائرة المغلقة التي لا مخرج منها، وبالتالي يمكن الإقرار ببنائية الخطأ وإبداعية المواجهة معه. فهل مشكلة السياسات الفاشلة ترجع إلى غياب بدائل صحيحة أم إلى انعدام نماذج عن أخطاء تكوينية؟

الأحد، 18 سبتمبر 2016

مترجم: كيف تخلق الرأسمالية مزيداً من “انعدام العدالة” ؟

تم نشر هذا المقال فى موقع evonomics بعنوان How Capitalism Actually Generates More Inequality للبروفيسور جوفيرى هودسون، وهو أستاذ الاقتصاد فى كلية هيرتفوردشير فى بريطانيا.

ترجمة :- محمد رمضان  



لماذا توسعة الأسواق وزيادة التنافسية لن يقللوا الفجوة في توزيع الثروة ؟!

على الأقل اسميا ، فالرأسمالية تمتلك أجندة تنويرية عن الحرية والعدالة الاجتماعية ، فهناك حرية التجارة والمساواة امام القانون ، يعنى ذلك أن كل  الناس سواء كانوا فقرا او أغنياء يحتكمون في معظمهم لنفس الدرزينه من  القواعد القانونية ، لكن مع انعدام المساواة في القوة الاقتصادية والثروة ، فذلك العامل المهم يتم تحييده عن معادلة المساواة في الرأسمالية .
فاليوم في الولايات المتحدة أغنى 1% يمتلكون 34% من الثروة ، وأغنى 10 % يمتلكون 74% من الثروة ، وأيضا فى المملكة المتحدة فأغنى 1% يمتلكون 12% من الثروة ، وأغنى 10 % يمتلكون 44% من الثروة ، فرنسا أغنى 1% يمتلكون 24% من الثروة واغنى 10% يمتلكون 62 % من الثروة وكذلك في سويسرا التي يمتلك  أغنى 1% فيها 35% من الثروة ، 24% فى السويد ، 15% فى كندا على التوالي ، وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة  فإن  كثيرا من الدول النامية تسير فى نفس المدى الرقمي .
في كتابهم المشترك ” على مستوى الروح ”  لريتشارد ويكنسون وكيت بيكت ، يبين الكاتبان الأثار الاجتماعية الناتجة عن سوء توزيع الثروة ، منطلقين من قاعدة بيانات تغطى  23 دولة نامية و 50 ولاية أمريكية ، لقد وجدوا أن هناك علاقة عكسية بين سوء توزيع الثورة والصحة النفسية والجسدية ، أيضا التعليم الجيد ، ودمج الاطفال في المجتمع ، الثقة في المجتمع ومؤسساته ، وعلى الجانب الأخر هناك علاقة طردية بين سوء توزيع الثروة وإدمان المخدرات ، انتشار الجريمة والعنف الاجتماعي والسمنة المفرطة وزيادة نسبة الحمل عند المراهقين . انتهى الكاتبان لنتيجة مفادها أن سوء توزيع الثروة تنتج العديد من السلبيات عن طريق الضغوط الاجتماعية النفسية التي تتولد من تفاعل الفرد مع مجتمع غير عادل .
إن عدم المساواة هو داء متوطن في الرأسمالية الحديثة منذ النشأة وحتى الآن ، فالبيانات التي جمعها ” توماس بيكيتى ” في كتابة الهام ( رأس المال في القرن الواحد والعشرين ) وكذلك التي جمعتها في كتابي ( صياغة مفاهيم الرأسمالية ) تثبت ذلك ، فتلك التباينات الضخمة في الثروة بين دول رأسمالية مختلفة نتجت تراكميا على مدى عقود ، وهذا يدعم الطرح القائم أنه يمكن التخفيف من الآثار السيلية لسوء التوزيع في ظل الرأسمالية .
لكن في البداية علينا أن نوضح الأسباب التي تنتج وتعيد إنتاج الظرف القائم في الرأسمالية الحديثة والمتعلق بسوء توزيع الدخل والثورة على حد سواء ، أو بصيغه أخرى علينا ان نبحث عن الميكانزمات التي تدمج بها الرأسمالية مسألة سوء التوزيع في السوق ؟ ، بالتأكيد فإن نسبة ما من التفاوت في الدخل ناتجة عن التفاوت في المهارات الفردية والمواهب بين الأفراد ، لكن هذا لا يفسر الفجوة الكبيرة خاصة في العقود الأخيرة للرأسمالية ، فمعظم سوء التوزيع هو ناتج بالأساس عن الميراث أو ميراث الثروة بشكل أدق ، والعملية هنا مركبة وتراكمية إلى حد بعيد ، فسوء التوزيع الناتج عن الميراث ينتج فروقا فرديا في التعليم والقوة الاقتصادية وامتلاك رأس المال وبالتالي فروقا كبيره في الدخل بين الأغنياء والفقراء .

هل تخلق الأسواق هذا التفاوت الكبير ؟!

إلى أي مدى يمكن أن ننسب سوء توزيع الثورة للمؤسساتية الحالية للرأسمالية المتمثلة في السوق ؟ فبعيدا عن النخب الأرستقراطية التي نجت بشكل ما من بدايات الرأسمالية ، أو النخب الاقتصادية التي تكونت في البدايات المبكرة للرأسمالية  فإن الكثير من الاقتصاديين يسلمون بصحة الطرح القائل بأن ميكانيكية السوق الرأسمالي هي المسببة لعدم المساواة أو سوء توزيع الدخل والثروة . في الواقع الاقتصادي فإن القوة النسبية بين البائعون والمشترون في السوق وقدرتهم المختلفة للتأثير على السعر تنعكس على الدخل المتولد لدى الطرفين بشكل كبير ، فعندما يمتلك بائع واحد في السوق أصولا قابلة للبيع والتداول السريع فإن السوق يميل ناحيته منهيا أي ادعاءات بالمنافسة الكاملة .
ولكن هل مع خلق المنافسة الكاملة أي التوسع الكبير في إمكانات السوق عن طريق توسعة القاعدة الخاصة بالبائعين في السوق سوف يحل مشكلة سوء التوزيع تلك ؟! في رأيي ان الأسواق مجردة لا يمكن لومها عن مشكلة سوء التوزيع ، وكذلك التنافسية في السوق بالتبعية ، فهذه الحجة الفارغة هي كمثل توجيه اللوم للمياه على غرق سباح ضعيف فيها ، ويجب أن نبحث عن الاسباب الموضوعية الخاصة بسوء التوزيع والتي هي في رأيي بعيدة عن السوق بصيغته المجردة .
فلا يمكن أن نقول أن ما قبل الرأسمالية كانت هناك عدالة في توزيع الثورة ،ومن ثم جاءت الأسواق ومعها التنافس وخلقت سوء توزيع الثروة والدخل . فالأسواق قائمة على تبادل اختياري بين البائع والمشترى ويبحث كلاهما عن الربح، وهو أساسي في السوق ، وأحد أطراف هذه العملية من المؤكد  سوف يربح أكثر من الآخر لكن من الاستحالة أن يستمر هذا الطرف في الربح دائما ، وإن حدث هذا فأنت تتحدث عن أسواق جبرية بدون التنافسية الموجودة فعليا بدرجة ما في السوق الرأسمالي الحالي  .
وهناك خطأ أخر في الطرح القائل بمسئولية الأسواق عن سوء توزيع الثروة وهو أن الأسواق هي مؤسسات وجدت منذ الاف السنين  ولم تكن الفجوة بتلك الحجم ، وبالتالي يجب علينا أن نبحث فى تجريد هذا الادعاء من مضمونة والذى في رأيي هو بداية للبحث عن الأسباب الموضوعية التي جعلت من مؤسسات الرأسمالية الأخرى – غير الأسواق – هي دافع أساسي لعدم المساواة ، ولا أقول أن الأسواق ليس لها دور ، لكن ليس الدور الرئيسي على الأقل في أخر 400 عام من عمر البشرية .
مصادر سوء توزيع الثروة في الرأسمالية .
إذن وبالتسليم بأن الأسواق كأداة مجرده ليست السبب المباشر في سوء توزيع الثورة فما هو السبب الأساسي ؟!
والاجابة على هذا السؤال يجب أن تشكل حجر الأساس في أي إجراء  سوف تتخذه الرأسمالية لإصلاح التفاوت الكبير  في توزيع الثروة ، لقد تطورت الرأسمالية في ظل سوء توزيع للثورة وورثته ( حرفيا ) من أنماط الانتاج السابقة لها ، تلك المنظومة المتكاملة من الانتاج التي تعمل على توزيع الثروة على أسس طبقية وجندرية وعرقية ، وعبر إتاحة فرصة الربح الأكبر في البدايات يتم تضخيم هذا التفاوت الكبير بالموقع الجغرافي والقدرة على التأثير في  السوق الرأسمالي ، وبواسطة تتبع عمليات  السوق وحدها لا يمكننا أن نكون صورة معمقة وشاملة عن مصدر سوء التوزيع ، فالأسباب الأوسع والأكثر تجذرا هي في الرأسمالية ذاتها .
ولأن  في الرأسمالية العمال ليسوا أقنان  ، فلا يمكنهم استخدام قدرتهم على العمل مدى الحياه للحصول على قروض تمويلية من أجل امتلاك رأس المال الخاص بهم ،فالحرية الاقتصادية تمنعهم من الحصول على تلك القروض لأن العمل وحدة ليس ضمانة كافية لتمويل قرض ،  وعلى الجانب الأخر فالرأسماليون لديهم تلك الضمانات وهى بالأساس رأس المال والأصول  المملوكة  لهم لذلك يقترضون المال ويستثمرون  وحجم تلك الأصول الضامنة ( collateralizable assets  ) يتفاوت مما يؤدى لتضخيم الفجوة في امتلاك الثروة أو (collateralizable wealth. ) وبالتالي ينتج سوء توزيع الثروة بالتبعية ،وحتى عندما يتاح للعمال امتلاك تلك الأصول الضامنة فإنها تبقى صغيرة بالمقارنة بما يمتلكه الرأسماليون وتتركز في الأساس على هيئة عقارات للسكن وليس للاستثمار ، فالرأسماليون دائما في بداية السباق .ويمكن أن أقول ان الطرفين لا يلعبون على نفس الملعب من الأساس .
هذه الأفضلية المطلقة هي دافع رئيسي لعدم المساواة وسوء التوزيع، فقبل كل شيء يبدو رأس المال هو السبب وليست الأسواق ، يبدو هذا ماركسيا بعض الشيء ، لكن دعني أقول لك لا لأنني أعرف رأس المال بطريقة مختلفة عن تلك التي عرفة بها ماركس وعلماء اجتماع واقتصاد أخرون  ،  فمفهوم رأس المال في نظري مرتبط بمفهومة في قطاع الأعمال –  تعريف توماس بيكيتى مقارب له –   ، فرأس المال هو قيمة المال أو القيمة السوقية للأصل الذى يستخدم كأصل ضامن للاقتراض ، على  عكس العمل الذى لا يمكن أن يستخدم كأصل ضامن للتمويل .
وبما أن العمل أحرار فى تغيير وظائفهم فى الرأسمالية الحديثة ، فقد عمد أصحاب العمل على إزالة الحوافز الاستثمارية التي تدفعهم للاستثمار فى عنصر العمل ، ومع التطور التكنولوجي الكبير واتجاه الرأسمالية لأن تكون أكثر أتمته   يخلق هذا في النهاية عمالة غير ماهرة رخيصة الأجر ويزيد من هوة الفجوة بين الطبقات مالم يتم في الحسبان وضع إجراءات تعويضية ، وتلك الطبقات المهمشة اجتماعيا هي سمة كبيرة في الدول النامية وايضا في الدول الرأسمالية .

عامل أخر مهم في معادلة سوء التوزيع وهو استحالة الفصل بين العامل وعنصر العمل  [1] ، على لعكس من ذلك فأصحاب العمل والاقطاعيين في السابق هم أحرار في ممارسة التجارة وترك أعمالهم الأصلية تسير بطريقة مباشرة ، وهو ما يدفع بالمزيد من الأرباح في جيوبهم . وهذا يضع العمال في وضع سيئ وهذا “السيئ ” يتراكم ليصبح ” اكثر سوءا ” لتجد في النهاية أن سوء التوزيع هو نتيجة حتمية للنظام الرأسمالي .
كل تلك الأسباب التي ذكرتها والتي تقود لحتمية سوء التوزيع لا يمكن معالجتها عن طريق توسعة الأسواق وزيادة المنافسة ، فهي نتاج الرأسمالية نفسها ونظامها الأساسي في تسليع العمل ، وإن قدر للرأسمالية الاستمرار فسوف يكون عليها أن تعالج تلك الاختلالات ، والاجراءات التعويضية (compensatory arrangements ) قد تكون حلا جيدا ، فهي جيدة في الحد من تضخم الفجوة وايضا لا تأتى على حماية الملكية الخاصة .
هذا النوع من التباين الحاد بين عنصر العمل ورأس المال يعنى أن الاجراءات الحمائية المفرطة في الفردية من قبل أصحاب الأعمال تجاه مطالب  النقابات المهنية والعمالية هي محض هراء ، ففي نظام يتمايز كل مكوناته ضد عنصر العمل لابد أن يمتلك العمال حق الرد على هذه التمييز ، حتى لو كان حق الرد هذا يعنى غياب المنافسة في السوق .

الحد من عدم المساواة في ظل الرأسمالية .

 التجارب الاشتراكية في القرن العشرين في روسيا والصين قد سحقت حقوق الانسان في سعيها نحو معالجة سوء توزيع  الثروة ، وبالتأكيد ليس هذا هو الطريق التي نود أن نسلكه ، عوضا عن هذا من الممكن التفكير في حل في ظل الرأسمالية لا يلغى قدرة الرأسمالية على الانتاجية وتوليد الثروة .
قديما قدم توماس باين (Thomas Paine ) [2] حلا جيدا ، حيث اقترح فرض ضريبة على الثروة الموروثة ، وتقديم تلك الضريبة على هيئة منحة مالية لكل الشباب حين يبلغون سن  الرشد ، في هذه  الحالة يتم إعادة تدوير الثروة من الاموات للأحياء ومن القلة للأكثرية ، ومن أجل خلق فرص متكافئة للجميع دافع باين عن دولة الرفاهة حيث قال بأهمية ومسئولية الدولة المباشرة أن تضمن حياه كريمة لمن يتخطون سن التقاعد  ، وحديثا قام كل من ( بروس أكيرمان وآنى السوت ) في إدراج أجندة باين على طاولة مناقشاتهم في كتابهم المشترك ( مجتمع أصحاب المصالح ) ، لقد جادل الكاتبان أنه يجب  تحرير التنمية الذاتية للأفراد مقتبسين كلمات فرانسيس باكون [3] ” الثروة مثل السماد العضوي ليست جيدة إلا حين يتم نشرها على نطاق واسع ” .

ولقد أكد  ( أكرمان والسوت  ) على ضرورة  فرض  ضرائب تصاعدية على الثروة بدلا من الدخل  ، وايضا وبالاستناد لطرح ” باين ” السابق  جادل الاثنان أن قيمة تلك الضريبة التصاعدية يجب ان تقدم على هيئة هبات ومنح بحد ادنى 80 ألف دولار وهو المبلغ المعادل لتكلفة شهادة جامعية من   جامعة خاصة فى الولايات المتحدة ، ويجب أن تحفظ تلك الضريبة في الاحتياطي الفيدرالي في حالة الموت وتقدم كهبه عن بلوغ سن الرشد . هذا بالتأكيد سوف يساهم في إعادة توزيع الثروة على اسس صحيحة بدون الاعتداء على حق الملكية الفردية .تلك الملكية الفردية التي يجادل البعض ممن يعارضون ذلك الطرح بأنها قدس الأقداس التي لا يجب الاعتداء عليها .وأن من حق كل مواطن أن يخلق الثروة ليورثها لأطفاله عند مماتة .  لكن عبقرية باين تتضح في أن  الضريبة تأخذ عند البلوغ هذا يخلق نوعا من المنفعة التبادلية بين الثروة والضريبة التصاعدية على الثروة  .ومع الوقت سوف يصبح الناس أكثر تقبلا لفكرة الضرائب التصاعدية على الثورة إذا استفاد بعضهم بتلك الضريبة فى مرحلة الشباب ، سوف يتم تدوير الثروة للأجيال الاصغر بدلا من إهداراها ، وسوف يزداد اقتناع الناس مع الوقت بأن تلك الضرائب هي في مصلحة المجتمع ككل ..

في الاقتصاد هناك عدة طرق لتوزيع القوة والتأثير على قاعدة أوسع  ، فمثلا شعبية توسيع عدد العمال المالكين للأسهم في المصانع هي في تزايد ، وهذه هي طريقة مرنة وفعالة عن طريق تمرير حقوق الملكية لعوامل الانتاج بين الجميع ، ففي الولايات المتحدة وحدها 1000 شركة توظف أكثر من 10 ملايين عامل وموظف هي جزء بشكل ما في هذه العملية عن طريق حقوق الأسهم أو علاوات الأرباح أو تملك حصص في الشركة نفسها . تلك الملكية الجماعية تزيد من الدافعية للعمل والانتاجية وتساعد على  توفير الرضا من العمال على نوعية العمل الذى يؤدونه .
ومع اتجاه الرأسمالية نحو أن الأتمتة  يجب أن تكون هناك أولوية لزيادة المعرفة التكنولوجية للعمال لأن ما دون ذلك يعنى تهميش تلك الفئات الاجتماعية . وايضا يجب أن تلفت الرأسمالية أكثر نحو التأثير البيئي للتصنيع والحفاظ على جودة الحياه في معدلات عالية في مناحي كثيرة أولها صحة الأفراد ، ومع التأثير الديناميكي للاستثمار وإعادة الاستثمار يجب مراعاة الا يقع كل الربح في يد الرأسماليين كما قال باين من 1779 ، ونحن الآن في أمس الحاجة لأن نعيد تحديث مفهوم باين حول إعادة توزيع الثروة بما يتناسب مع متطلبات عصرنا  الحالي .

الهوامش .

[1] –  اشارة للمفهوم الماركسي عن الاغتراب الاجتماعي .

[2] – هو ناشط سياسي انجلوامريكى وفيلسوف سياسي اشتهر بمواقفه الداعمة لاستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا .

[3] – مفكر وفيلسوف إنجليزي  وعضو في اول مجلس للوردات في المملكة المتحدة ،من أوائل الفلاسفة الذين صاغوا ما سمى لاحقا على يد روسو وهوبز وجون لوك بنظرية العقد الاجتماعي  .