الثلاثاء، 22 مارس 2016

السميائيات وتأويل النص الديني : بقلم سعيد بنكراد

عن مومنون لاحدود للدراسات و الأبحاث



تُعنى السميائيات بتحليل الخطاب بمفهومه الواسع، ما يشمل مجموع منتجات السلوك الإنساني ويُصَنف ضمن المضاف الثقافي في حياة الناس، يدخل ضمن ذلك النصوص بكل أنواعها والمفاهيم المعزولة والأحكام المسبقة ومرويات التاريخ وما نسجته الذاكرة الفردية والجماعية من حِكَم وأمثال وأقوال مأثورة، وبما فيها أيضا أشكال العمران وحالات العيش والطقوس الاجتماعية. فهؤلاء يُسَرِّبون أحلامَهم وآلامَهم إلى وقائع من طبائع شتى تُعشش فيها مجمل التمثلات التي تُعد الأساس الذي يقوم عليه جزء كبير من مضمون الأخلاق والسياسة والإيديولوجيا والدين.
لقد كانت عودة السميائيات إلى العلامة ذاتها، أي إلى التجربة الرمزية، مدخلاً مركزياً من أجل التعرف على هوية الإنسان باعتباره كائناً يأتي إلى العالم من خلال ممكنات اللغة في المقام الأول، فداخلها يولد وداخلها ينمو ويضمحل، وهو من يُضَمِّنها رؤاه لهذا العالم أيضاً. إنه يعي ذاته ويعي عالمه وفق آليات التقطيع المفهومي فيها، ما يشمل المظاهر والأبعاد والخصائص والنوعيات. وهي صيغة أخرى للقول، إنّ الوقائع الفعلية لا تتم في عراءٍ أو داخل فضاء غُفل، بل هي طبقات دلالية من طبيعة تراتبية لا تكشف عن جوهر الأشياء، بل تغطي على بعضها بعضاً في الكثير من الحالات.
وذاك هو المبدأ الذي استندت إليه مجمل التعريفات التي حاولت تحديد جوهر اللسان ونمط اشتغاله وطريقته في إنتاج الدلالة والتنويع من تجلياتها. ومن هذا المبدأ انطلقت كلُّ التصورات النظرية القديمة والحديثة حول اللسان، وهو الإرث المعرفي ذاتُه الذي تبنته السميائيات ووسعت من مجالات تطبيقه. إنّ اللسان في كل هذه التقاليد ليس مدونة، أي مجرد تتابع عرضي لكلمات الغاية منها تقديم غطاء لما يَمْثُل حافياً في الطبيعة. إنه، على العكس من ذلك، يقدم وجوداً جديداً تكتسب داخله الأشياء والكائنات ذاكرة تنزاح بها عن إحالاتها على واقع مادي محدود في الشكل والدلالة. وهي طريقة رمزية استطاع من خلالها الإنسان أن يوسع من حجم الوجود ويملأه بدلالات، هو ما يتداوله الناس حقاً، وهو أساس تصوراتهم للمتعة والألم والحياة والموت. إنّ اللغة تَخْلق وتُحيي وتُميت ما تشاء من الكائنات والأشياء.
وهو ما يعني أنّ العلامة هي في المقام الأول أداة رمزية موجهة لتنظيم تجربة فعلية لا أفق لها خارج اللغة. إنها دال يحيل على مدلول في انفصال عما تقوم اللغة بتمثيله. أو هي ماثول مرتبط بموضوع استناداً إلى صيغة رمزية هي ما يجعل الإحالة قابلة للاستمرار في الذاكرة بعيداً عن قاعدة التمثيل المباشر. إنّ العلامة، في الحالتين معاً، لا تقوم بالكشف عن موضوعها من خلال تقديم نسخة موازية له هي صورة لما يمكن أن يدركه المتلقي، بل تُعيد صياغته ضمن سيرورات الرمز. يتعلق الأمر بمعنى الأشياء في اللغة لا الأشياء ذاتها. ذلك أنّ التمثيل الرمزي ليس استنساخاً حرفياً لعالم، بل هو في الأصل تقليص لكل أشكال الحشو والتعدد والتنوع للاحتفاظ بما يمكن أن يشكل صورة ذهنية عامة تستوعب كل النسخ الممكنة.
استناداً إلى ذلك لا يَنْتُج عن التمثيل الرمزي (بكل أسناده) معنى حرفي يمكننا من تَبَيُّن وجودنا في عالم بلا ذاكرة، بل يمكننا ذلك من إدراج هذا العالم كلَّه ضمن تجربة إنسانية متعددة الأبعاد والواجهات. وهي طريقة أخرى للقول إننا لا نعين ولا نسمي، بل نُنْتِج معانيَ مرتبطة بسياقات لا حول ولا قوة للأشياء داخلها عدا أنها مثيرات يُعاد تعريف الكون من خلالها ضمن علاقات مستحدثة في الذاكرة الثقافية، لا في الوجود الطبيعي: ما علاقة الصراحة أو الوقاحة أو الفضيحة بالشمس، وما علاقة الحرير بالنعومة والحليب بالصفاء: فهذه ليست سوى ما يمكن أن ينتج عن "إحساس يُعدّ وعياً بمقاومة دالة على ذات منفصلة عن محيطها"[1] بتعبير بورس، أي ما يطلق عليه الفينومينولوجيون "الاصطدام" بكونه هو الدليل على أننا موجودون في العالم من خلال انفصالنا عنه.
ومن هذه الزاوية وجب النظر إلى التأويل باعتباره جزءاً من التسمية والوصف والتعيين. ذلك أنّ التمثيل ليس نقلاً أميناً، بل هو ذاته صيغة تأويلية لما وقع فعلاً (لحادث). لذلك يتحدد دور العلامة في تخليص العين مما يشدها إلى أفق محاصر بأشياء وكائنات وظواهر، لكي يفتح أمامها أفقاً لمعانٍ تنتشر في كل الاتجاهات. وذاك هو المبدأ الذي يؤكده بورس حين يعتبر العلامة "شيئاً تفيد معرفتُه معرفةَ شيء آخر"[2]. فهذا معناه أننا لا نكتفي بإنتاج ما يمكننا من تعقل محيطنا، بل نطلق العنان لسيرورة تدليلية تتم داخل النص الثقافي بممكناته وإكراهاته. وسيكون مصدر جزء من هذه الدلالات هو الذات التي تَعْرِض أفقها على أفق نصي لا يمكن أن يوجد خارج من يحتضنه. ذلك أنّ "الأنا التي تأتي إلى النص هي ذاتها مزيج من النصوص"، كما كان يقول بارث[3].
وعلى هذا الأساس، لن يكون "خلاصنا" في العودة إلى ما يمكن أن تكشف عنه الوقائع من "حقائق" تستقر عليها العين، بل مصدره قدرتنا على الإمساك بالتعدد فيها استناداً إلى ما تقوله اللغة عنها. فالـمَعنى موجود في اللغة لا خارجها، فهي "نسق يوضح نفسه بنفسه" بتعبير إيكو[4]. وتلك هي طبيعة اللغة وتلك طريقتها في تمثيل العالم، إنّ التعدد الدلالي الذي يحكم تعيين العالم هو القاعدة، أمّا وحدانية المعنى فاستثناء عرضي، أو إحالة على أكثر المناطق ضحالة في الذات الإنسانية، أو على وجود موحش يشكو من خصاص في الدفء الإنساني.
تُعدّ هذه المبادئ في شموليتها محددات مركزية استندت إليها السميائيات بهدف صياغة تصوراتها حول قراءة النصوص والبحث في ما يمكن أن تقوله أو تغطي عليه، أي ما يُصنف ضمن التأويل، وهو نشاط معرفي انحازت إليه السميائيات واعتبرته منطلقاً مركزياً لتحديد معنى أو معاني الوقائع التي تسائلها. فهذا النشاط ليس شيئاً آخر سوى "صب تعبير في تعبير آخر"[5]، كما كان يقول بورس، فنحن لا نراكم المعاني في الفضاء السلوكي الخام، بل نفعل ذلك من خلال الوسائط الرمزية التي تبلورت داخلها كل أشكال هذا السلوك. بعبارة أخرى، إننا نبني سياقات هي أساس المعاني وهي ما يمنحها أشكال تحققاتها.
وهي صيغة أخرى للقول، إننا لا نستمد المعاني من أنفسنا، بل نستوحيها من بناء الوقائع ذاتها، فهذا البناء هو الذي يهدينا إلى ما تُفرزه القراءة أو توحي به. فلا شيء يُستعار من خارج ما يقوم التمثيل الرمزي بالكشف عنه، أي ما يُصَنِّفه السميائيون، وصنفه الهرموسيون قبلهم، ضمن سيرورات التدلال التي تبحث عن معاني الوقائع في ما اختفى في تفاصيل الموصوف في اللفظ، أو في ما استوطن وقائع المعيش اليومي، أو أُعيدت صياغتُه في العين استنادا إلى نمط التمثيل البصري فيها. ذلك أنّ الجسد "الحاس" ذاته يملك ذاكرة، فهو مستودع لانفعالات هي أصل الأهواء التي تَعْلَق بالأحكام التي يُصدرها الناس.
ومع ذلك، فإنّ التأويل ليس ممارسة حرة لا تكترث لإكراهات المنطوق الحرفي. ذلك أنّ المعنى في النص ليس طاقة حدسية، بل هو إفراز لترابطات قائمة بين مكونات ثلاثة هي أساس مجمل التنويعات التي تلحق وجوده وتلقيه، ما يعود إلى الحاضن الثقافي العام، ما يسميه إيكو الموسوعة، تلك الذاكرة العامة التي يمتح منها الناس قدراً كبيراً من أحكامهم ومواقفهم، أي مجموع ما تراكم من خبرات ومعارف مشتركة؛ وما يأتي به قارئ تحركه الرغبة في "الفهم"، فهم ذاته من خلال فهم النص. إنه لا يكتفي بالتعرف على ما هو مُثبت في بنية مستقلة بمعناها ومبناها، بل يأتي بمعان إضافية هي جزء من محيط مشترك بينه وبين عوالم النص.
بعبارة أخرى، إنه ليس مجرد محفل يقرأ، بل هو في الجوهر سؤال يضعه الوعي الثقافي على النص، أو هو أفق لا يمكن، في عُرْف الهرموسية الفلسفية مثلاً، أن يتحقق إلا في مواجهته بأفق آخر هو ما تقترحه عوالم النص صراحة أو توحي به. وهو ما يعني أنّ القول ليس غُفلاً، ولن يكون الـمَقول مجرد كَمَّ خَبَري محايد، فمصدر الفائض من المعنى مستمد من هذا وذاك في الوقت ذاته ضمن سياقات ثقافية هي ذاكرة النص وممكنات تأويله.
وبهذا الترابط لن يكون سبيلنا إلى حقائق "الواقع" هو ما تصطدم به حواسنا، بل يمر عبر سلسلة من "الوسائط" هي ما يشكل جسراً ضرورياً بين ما يُبنى في "الرمز"، وبين ما يحيل أو يوهم بحقيقة عينية لا أحد يشكك فيها. وهي صيغة أخرى للقول إنّ مآل العلامات هو الفعل ولا شيء غيره، ففي الممارسة وحدها تنحل العلامات لتصبح عادة، بتعبير ش. س . بورس[6]. ومن هذه العادة تنبثق أشكال سلوكية جديدة تودع في المفاهيم ومن خلالها تتعمم.
والحاصل أنّ التداول في أمر النصوص لا يمكن أن يتم في انفصال عن السيرورة الثقافية التي يتشكل داخلها المعنى ويصبح "قادراً على التدليل"، بتعبير كريماص، إنها وحدها قابلة للتحديد، ومن خلالها يتحدد حجم المعنى في النص، فهي مستودع الحياة وبؤرتها، وشكل من أشكال وجودها المجرد في الذاكرة. يتعلق الأمر بخطاطات الفعل في الذهن قبل أن يصبح واقعاً، وبما يَبْنيه المتخيل ويحتفي به الناس باعتباره حقيقة لا أحد يشكك فيها. وفي جميع الحالات، فإنّ الأساسي في النص ليس الكم المعنوي الموضوع للتداول، بل النسق الذي يبرره ومن خلاله تتحدد المسارات التأويلية الممكنة والمستبعدة أيضاً. أي إمكانية استثمار الطاقات الدلالية في الحيز الزمني الفضائي الحاضن للفعل الإنساني.
يصدق هذا على كل النصوص، بما فيها النصوص الدينية التي يُقال إنها تشتمل على معنى أصلي أودعته هناك ذات إلهية لا أحد منا يُدرك سرها. وهذا ما كشفت عنه كل المحاولات التي كانت ترغب في استعادة زمنية ولت لا شاهد عليها سوى المعاني التي تضمنتها نصوص تَضِن في الغالب بأسرارها. يدخل ضمن ذلك ما قام به الفيلولوجيون والهرموسيون القدامى وهم يبحثون عن النص الهوميري الأصلي في الإسكندرية وبيرغام، مروراً بترجمة النصوص المقدّسة وملاءمتها مع محيطاته الجديدة (الفولغات وغيرها من الكتابات التي هاجرت من نصها الأصلي لتسكن لغات جديدة)، وانتهاء بالهرموسية الرومانسية التي اعتقدت في وجود معنى أصلي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال نشاط تأويلي يقود إلى وضع اليد على ما كان يوده المؤلف ويفكر فيه.
واستناداً إلى هذا المبدأ أيضاً تحدث الناس في التقليد المسيحي عن المعاني الأربعة للكتابة المقدّسة. فالنص الديني يتشكل في تصور هذا التقليد من تراتبية دلالية تقود من معنى حرفي، أي ما تقوله الكلمات بشكل مباشر، إلى معنى مجازي يتمحور حول ألوهية وإنسانية السيد المسيح (الإيمان)، ثم إلى معنى أخلاقي هو الذي يعلمنا كيف نتصرف في الحياة ونتبع سلوكاً يرضي الله ويرضينا (السلوك)، لكي يستقر في النهاية على معنى باطني يشير إلى ما يجب أن نأمله ونترجاه من الله (الغاية من الوجود).
فهذه النصوص يمكن أن تسلم لقارئها استناداً، إلى طبيعة اللغة وحدها، معانيَ ليست مرئية من خلال العلاقات الموصوفة بشكل مباشر في النص، إذ لا وجود لوحدة من وحدات اللسان يُمكن أن تشتمل على طاقة تعيينية خالصة، ذلك أنّ جزءاً كبيراً من دلالاتها هو من المضاف الإيحائي، ووحدها السياقات المقامية والثقافية قادرة على تحديد طبيعته ومداه. وعلى هذا الأساس، فإنّ الفجوة الفاصلة بين قارئ يأتي إلى النص محملاً بأحكام وتصنيفات ثقافية متنوعة، وبين نص يحتوي، بطبيعته، على الضمني والاستعاري والموحى به، هو ما يحدد الآليات الأساسية لسيرورات التأويل التي تثيرها القراءات المتعددة.
بعبارة أخرى، هناك بالإضافة إلى قصد النص، وهي حقيقة لا يمكن التغاضي عنها، مقاصد أخرى لا يمكن لمضمراته أن تستقيم بدونها. فالنص يتضمن، بحكم إكراهات البناء الفني، استراتيجية تأويلية تستوعب القارئ ضمن فرضياتها، ذلك أنّ عمليات البناء تُسقط، بضرورة "النقص التمثيلي" ذاته، توجيهات تأويلية هي الأساس الذي تقوم عليه حالات استقبال النص، ما كان يسميه أصحاب جماليات التلقي "اللاتحديد" أو "البياض"؛ ومعنى ذلك أنّ النص يولد في أحضان القارئ، "والعلامة توكل للمؤول مهمة الإتيان ببعض من معانيها"[7]. وفي جميع هذه الحالات لم يعد قصد المؤلف مجدياً في البحث عن دلالات النص، فوحده التفاعل بين النص والقارئ يمكن أن يقود إلى التعرف على المعاني وتنويع تجلياتها في النفس.
وهي صيغة أخرى للقول إنّ تدبر أمر النصوص لا يقود إلى استنباط قاعدة من نص خالص، فهذا يفترض أنّ النص مكتفٍ بذاته وقادر على التدليل استناداً إلى مخزون دلالي مفصول عن الكلمات. إنّ الذي يؤول لا يستعيد نسخة، بل يصب النص الأول في لغة موازية تُعدّ في نظره معادلاً كليّاً للنص الموضوع للتأويل. وهذا أمر منافٍ لطبيعة المعنى وترفضه اللغة، فهي لا تشتمل على مرادفات، بل تنتظم ضمن سياقات قد تتشابه في الجذر الدلالي، ولكنها تنزاح عنها من خلال مضافات دلالية تخصص أو تعمم أو تدقق. فالكلمة التي تشرح ترسم حقلاً دلالياً، ولكنها لا يمكن أن تكون موازية في المعنى لتلك التي تحلّ محلها.
فأن يكون المعنى في النص وحده معناه أنّ السلف لم يتركوا لنا نحن الخلف شيئاً يمكن أن نقوله عن نصوص لم تُسَلم لحد الآن سوى جزء بسيط من أسرارها. وهذا ما يؤكده تاريخ تلقي النصوص. فالنص في جوهره مبني لكي يكون جزءاً من الموسوعة التي أفرزته، ولكنه منفتح لكي يكون قادراً على استيعاب الكثير من المعاني التي ستحتضن حالات تلقيه استقبالاً، بما فيها تلك التي لا يتضمنها قصده الأول، "هناك دائماً حالة توسط بين ما قاله المؤلف وبين ما كان يود قوله"[8]. وجزء كبير من هذا التوسط مبني استناداً إلى المشترك الإنساني الكوني الذي يوحد بين سكان الكوكب الأرضي في تصوراتهم للحياة والموت وتدبير شؤون انفعالات موزعة على صالح وطالح ورغبة وطرق في إدراك أبعاد الكون وألوانه وأشكاله. ما يشبه "آدم البهيمي"[9] الذي ننحدر منه جميعاً، حقيقة أو مجازاً.
والحاصل أنّ قراءة النص قد تكون غايتها هي تلك القاعدة السلوكية أو ذاك الحكم المقاصدي، ولكنها لا يمكن أن تتم دون استحضار موقف مسبق هو حاصل تربية وتثقيف وانتماء. قد يتعلق الأمر بتبرير لسلوك في حاجة إلى غطاء ثقافي، أو هي محاولة لاستنباط حكم راسخ في النفس، قبل أن تؤكده النصوص. وهو ما تكشف عنه الأحكام المتنوعة، بل والمتناقضة أحياناً، فالنص الديني الواحد يسلم مواقف يطبعها التشدد والتعصب، والاعتدال والتسامح في الوقت ذاته. إنّ الذي يحرم ويحلل لا يفعل ذلك دائماً استناداً إلى ما يقوله النص، بل يفعل ذلك انطلاقاً من قناعاته وموقفه من نفسه ومن الآخرين. بعبارة أخرى، إنّ التشدد والاعتدال ليسا في النص، بل هما في نفس المتشدد أو المعتدل.
ويمكن أن نقدم في هذا السياق مثالين على نوعين من الوقائع الدينية: ما له علاقة بالنصوص التي تداول في شأنها الأصوليون من أجل استنباط أحكام وقواعد للفعل، وما له علاقة بالنصوص ذات الطابع القصصي. إنّ الأمر في هذا السياق يتجاوز ما يُصنف ضمن المحكم وما يعود إلى المتشابه، لأننا في الحالتين معاً في حاجة إلى استحضار قصد آخر يستوعب "إشارات" أو "دلالات" أو "اقتضاء" يقود إلى تنشيط ذاكرة النص لتجاوز العبارة، أي المعنى الحرفي (المقصود أصالة)، لكي نبحث في سياقات مصاحبة أو ملازمة للعبارة دون أن تكون جزءاً منها.
في ما يتعلق بالحالة الأولى تُعدّ التصنيفات الدلالية التي قدمها الأصوليون دالة في هذا المجال. فالنص الشرعي يدل من خلال عبارته، أو إشارته أو دلالته، أو اقتضائه. وفي كل حالة من هذه الحالات يسلم النص مدلولاً يتجاوز المرئي في الملفوظ بشكل مباشر. مع إمكانية الاستقرار على المعنى الأول، باعتباره المعنى الأصل، في حالة تعارضه مع ما يأتي من سياقاته. هناك فصل ضمني بين قصد الله، وبين قصد اللغة أو قصد المؤول، حتى وإن كان الثاني يُبنى استناداً إلى ما يقترحه الأول، بالإيحاء أو التضمين، أو بحكم حالات الإثبات أو النفي المصاحبة لكل معرفة.
وهو ما يعني وجود تفاوت صريح بين المنطوق المباشر، وبين ما يمكن أن يتسرب إليه من دلالات ليست مقصودة أصالة أو تبعاً، كما يقولون. وهي صيغة أخرى للقول إنّ القصد الأصلي، والمقصود به الذات الإلهية، ليس في ما تقوله الجملة بشكل مباشر فقط، إنه موزع بين محيط لغوي له طرائقه في تسليم معانيه، وبين ذاتية قارئ يبحث في هذا المحيط عما يمكنه من "إضافة" معنى هو حاصل قناعة تسير في اتجاه التشدد أو الاعتدال. هناك في كل حالات هذه النصوص قصد آخر أقوى من قصد التلفظ هو قصد اللغة ذاتها. ولكنه قصد لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال قصد القارئ، فهو الذي يمكن أن يدفع بالنص نحو استيعاب سياقات متعددة، أو يُبقي عليه ضمن القصد الأول باعتباره أصل التشريع.
فما هو أساسي في جميع الحالات ليس النصَ في ذاته، بل السياقات التي تحتويه. بعبارة أخرى، ليس هناك مضمون سابق، إنّ المضامين تُبنى استناداً إلى المفترض من المواقف المسبقة. ولو لم يكن الأمر كذلك لما حُلل هنا ما حرمه الآخرون هناك استناداً إلى النص نفسه؟ فلا يمكن للنص أن يقول هنا شيئاً يمكن أن يلغيه في مكان آخر. وهذا التفاوت هو الذي جعل شيخاً كالفيزازي يغير مواقفه ويحلل ما سبق أن حرمه، ويبرر ما سبق أن أفتى ببطلانه وفساده؛ وهو الذي فضل، من على منبر قناة الجزيرة، كلبه على الإنسان الغربي، دون أن تمنعه هذه القناعة من امتطاء طائرة هي من صنع هذا الغربي ومنتج من منتجات فكره المارق.
وهو ما تثبته مثلاً الحالة التي يتحدث فيها الأصوليون عن إشارة النص، الذي هو في عرفهم دلالة اللفظ على معنى غير مقصود أصالة ولا تبعاً، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق من أجله. فقوله تعالى "أُحل لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، لا تعني حسب منطوق الجملة سوى شيء واحد هو جواز مباشرة الرجال لنسائهم ليلة الصيام، ولكنه دال بالإشارة وحدها على جواز الإصباح جُنباً. فلا شيء في الآية يدل على هذا المعنى سوى "البياض" الذي لم يُخْفه الإثبات أو يلغيه. فبما أنّ التوقيت مفتوح من حيث وجود كلمة "ليلة" التي تغطي فترة زمنية تمتد من المغرب إلى الفجر، فإنّ الإصباح جُنباً أمر مباح. دون أن ننسى أنّ الإباحة هنا تُسقط بالضرورة التحريم الذي من المفترض أنه كان سائداً من قبل، وهو تقدير يُستخرج من الآية التي تقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة 183): لقد أبيح لكم ما كان محرماً على غيركم من قبل.
ومقولة أسباب النزول في هذا السياق بالغة الأهمية، بل هي التي ستحدد طبيعة النشاط الذي يقوم به الشارح للنصوص. قد لا يتعلق الأمر في هذه المقولة بجزء من دلالة الملفوظ، فنحن أمام سياق خارجي؛ ومع ذلك، فإنه يشير إلى سياق ممكن، أو مقام يُقَيد المعنى أو يُطلقه. فلا يمكن في الكثير من حالات التواصل تحديد معنى جملة ما دون العودة إلى ما يقود إلى انتقاء هذا المعنى دون ذاك. إنّ الأمر يتعلق بإكراهات إبلاغية، أو بإمكان سياقي داخلي، وفي الحالتين معاً، فإنه دال على تعددية محتملة قد تشمل النصوص الدالة على معنى حرفي، نص قطعي الدلالة (قُرأت الآية "علم آدم الأسماء كلها" باعتبارها دالة على أنه أقدره على منح الأشياء أسماء). فهذه الإكراهات رافد أساسي في تفسير النص. وهو ما يعني أنها ليست سوى رهان تداولي يحاول تحديد السياقات المسؤولة عن المعاني من قبيل رفع اللبس وتجنب الغموض، والفصل بين المطلق والمقيد.
لذلك لا تصنف هذه الحالات ضمن التأويل، بالمعنى الهرموسي للكلمة، فالمعنى المقصود فيها موجود على مرمى حجر، إنه ظاهر ومِلْك اليد رغم الغطاء الحرفي. نحن أمام ما يطلق عليه الاستعمال، استعمال النص وليس تأويلَه، ذلك أنّ الاستعمال مرتبط بغاية نفعية، استنباط حكم أو إرساء قاعدة للفعل. فكل ما يمكن أن نصل إليه هو حاصل تقدير لا يشكك في المقاصد الأصلية للنص، ولا يعيد بناء علاقاته الداخلية، إنه يكتفي بالكشف عن مسكوت عنه، أو عن معنى مفترض من العبارة (إنّ الذي أفتى بجواز مضاجعة جثة زوجته لم يؤول نصاً، بل انطلق من غيابه. إذا لم يكن هناك نص يحرم، فإنّ الحلال ممكن).
وتلك ليست هي الحالة التي تقدمها مجموعة أخرى من الوقائع الدينية، ويتعلق الأمر بمجمل المحكيات التي روت قصصاً عن الأنبياء والرسل والأولياء الصالحين وعن شعوب سادت ثم بادت. فتلك النصوص من طبيعة أخرى، إنها تُصنف ضمن خطابات عادة ما تُبنى استناداً إلى ميثاق تخييلي، لا يصف حقيقة موضوعية، بل يعيد بناء بعض شروطها بشكل تصويري. ما يمكن أن يتخذ شكل تمثيلات مشخصة تحاكي الحياة، ما يسميه البعض "العبرة" أو "الموعظة". وفي جميع الحالات، لسنا أمام برهنة عقلية قائمة على حجج عقلية، بل أمام "المحتمل"، والمحتمل لا يشير إلى علاقة مع الواقع، بل إلى ما يعتقد الناس أنه واقع حقاً. وهذا معناه أنّ القصة لا يمكن أن تشكل تماثلاً مع حقائق مودعة في واقع قابل للمعاينة، إنها لا تستثير سوى قصص أخرى، أو تسقط مفاهيم هي وجهها المشخص (قصص تحكي عن الصبر والشجاعة والكرم وقوة الإيمان أو ضعفه).
لذلك لن يكون أفق التخييل شبيهاً بأفق التاريخ، فما يُبنى في القصة، كل أنواع القصص، ليس وقائع من التاريخ، بل زمنية نسيها هذا التاريخ ولم يلتفت إليها، لأنها لا تحكي وقائع في الزمن، بل تشير إلى حالات تستشعرها النفس. لذلك لن يكون أفق التخييل سوى انفعالات لا يمكن أن تستقيم إلا ضمن مفاهيم تحكي تاريخ القلق والخوف والرهبة وضياع جزء من ذاكرة الإنسان على الأرض. إنّ بناء المفاهيم من خلال التشخيص ذاته هو الذي يمكن أن يُفسر بعضاً من الشرط الإنساني على الأرض.
وتلك هي قصة يوسف في البئر، ويونس في بطن الحوت، ونعل موسى، والنار التي كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وغيرها من الحالات المروية في أفق استثارة مضامين استعارية تحاكي من خلالها حالات النفس، والاستئناس والرسالة وحرقة المعرفة الجديدة. إنّ الجب ليس جباً إلا في الذاكرة البرانية، أمّا في الوجدان فهو شبيه بالظلام والقبر والموت والاندحار نحو حالة بدئية هي الولادة والبعث الجديد، تماماً كما هو بطن الحوت مفراً أو مهرباً أو خوفاً من رسالة لو وُضعت على الجبال لتصدعت من خشية الله. وكذلك الأمر مع النار، فهي نشاط كيماوي في المقام الأول هو ما يمنحنا الدفء أو تحرق كل شيء في طريقها، ولكنها تأكل القلوب أيضاً، إذا اشتد العشق فيها أو استبدت بها الغيرة، أو تكون إحالة على تجربة استئناسية أليمة ينفصل فيها الإنسان عما تعلم وما انتمى إليه. وهذا الترابط هو الذي جعلته الثقافة دالاً على انفعالات من طبائع مختلفة تشمل الحقد والغيرة والحب في الوقت ذاته. تُعَد النار الأولى جزءاً من تجربتنا الواقعية، وهي ما يمكن أن يتسرب إلى اللغة باعتباره بعداً حرفياً فيها، أمّا الثانية فبناء استعاري لا يأخذ من الأولى سوى عمقها الرمزي الذي تتحقق داخله روابط وعلاقات جديدة.
وتلك هي طبيعة التعبيرات المجازية، إنها لا تحاكي حقيقة، بل تشير إلى "تجربتنا الداخلية للعالم، وتشير أيضاً إلى سيرورات انفعالاتنا"[10]، فما لا تستطيع اللغة تسميته ووصفه بشكل مباشر، وما لا يستقيم ضمن إكراهات قوانين الكون، ببعديها الاجتماعي والطبيعي، تلتقطه أشكال وصيغ استعارية عادة ما تكون هي بؤرة المعاني والغاية النهائية من وقائع القصة. لذلك، فإنّ التقاط البعد الاستعاري للنار وتأويلها باعتبارها دلالة على تمزق داخلي بين ما تعلمه الإنسان من محيطه وبين رغبة في التعرف على حقيقة جديدة تنزه الله عن التجسيد والتبدل والظهور والاختفاء، هو في واقع الأمر فتح لسيرورة تأويلية تعيد تنظيم عناصر النص وفق إسقاطات تأويلية تبحث في المرئي من خلال الحدث القصصي المشخص عن مفاهيم مجردة. إنّ التأويل في هذه الحالة لا ينفي عن الله هذه القدرة على كل شيء، بل يصبها في ما يمكن أن يتم مجازياً داخل الذات "المبلوة" بألم هو جزء من آلام كل المؤمنين الذين أعلنوا عن ميلاد نسق ثقافي جديد لم يتحقق دون عناء[11].
إنّ الاحتفاء بهذا التفاوت بين السجلات الدلالية هو أداتنا لاستعادة ما تخبئه الحكايات وما تُخفيه حالات التشخيص في النصوص القصصية الدينية. فهذه ليست في غالب الأحيان سوى وجه خفي تَجَسَّد في وقائع تُخفي قلقاً ورغبة في استعادة ما مضى أو خوفاً مما سيأتي. إنها تحتاج إلى تدَبُّر يُخلصها من شكل التجلي للإمساك بالجوهر التجريدي فيها، فهو المضمون الصامت لما تقوله الكلمات جهراً. إنّ المروي في هذه النصوص ليس في الغالب من الحالات سوى غطاء، أو ما يسميه بول ريكور "المعرفة المزيفة" التي تشخص حقاً حالات قلق لم يكن المتاح المعرفي قادراً على تفسيرها.
لا يتعلق الأمر بالتشكيك في صدقية القصة، فذاك أمر يخص المؤرخين وغيرهم من الحفريين، بل هو محاولة في البحث في وجهها الاستعاري. إننا لا نلغي قدرة الله على الإتيان بمعجزات هي جزء من ملكوته، ولكننا نحاول، استناداً إلى ثقافتها الأرضية، التوسيع من هذا الملكوت لكي نجعله شاملاً لكل أشكال التعبير، الحقيقي والمجازي. ويبدو أنّ ربط الناس بين الكلمات وبين ما تقوم بوصفه، هو الذي يدفعهم إلى الاعتقاد أنّ الحكايات هي تسجيل لوقائع فعلية، لا مجرد استعارات كبرى، أو تمثيل مجازي، كما هي حال الأساطير والكثير من الخرافات.

* نص المداخلة الذي ألقي بالندوة المصغرة حول "المناهج الأدبية وفهم النص الديني" بصالون جدل الثقافي التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدارسات والأبحاث/ الرباط، 20 فبراير 2016
[1] C S Peirce: Textes anticartésiens, présentation et traduction Joseph Chenu, éd Aubier,1984,p.78
[2] انظر أومبيرتو إيكو: التأويل بين السميائيات والتفكيكية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2004، ترجمة سعيد بنكراد ص 120
[3] R Barthes: S/Z, éd Seuil,1970, p16
[4] Umberto Eco: La structure absente, éd Mercure de France, 1970, p.66
[5] انظر Umberto Eco: Les limites de l’interprétation, éd Grasset,1992, p.300
[6] أومبيرتو إيكو: العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2007، ص 237
[7] Umberto Eco: Lector in Fabula, éd Grasset1985, p.72
[8] Georges Gusdorf: Les origines de l’herméneutique, éd Payot 1988, p.227
[9] أومبيرتو إيكو: دروس في الأخلاق، ترجمة سيعد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2010، ص 122
[10] أومبيرتو إيكو: التأويل بين السميائيات والتفكيكية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2004، ترجمة سعيد بنكراد، ص 158
[11] انظر مقالنا: السرد الديني والتجربة الوجودية، قصة إبراهيم نموذجاً، علامات العدد 39، 2013

الاثنين، 21 مارس 2016

ثقـافــة الفقر في حقل الأنثربولوجيا : خالد طحطح

عن موقع مؤمنون بلاحدود




تبنى الباحث والأنثروبولوجي الأمريكي المختص، من جامعة شيكاغو، لويس أوسكار مفهوم "ثقافة الفقر" في الستينيات من القرن الماضي باعتبارها طبقة خاصة. وقد استمدّ الفكرة من خلال ملاحظاته العميقة للمجتمعات الفقيرة بأمريكا الوسطى والجنوبية، وبالخصوص في منطقة بورتوريكو بالمكسيك، والتي اتخذها ميداناً لدراساته.
إنّ الدرجة التي يجب أن نعتبر فيها الفقر طبقة اجتماعية مختلفة عن بقية الآخرين موضوع تكرَّرَ باستمرار في عدد من الدراسات النظرية؛ فقد سبق أن تحدَّث بإسهاب الفيلسوف الألماني الشهير كارل ماركس عن البروليتاريا الرثة في كتاباته التي انتقد فيها النظام الرأسمالي الأوروبي خلال القرن التاسع عشر. كما قام في العشرية ما بين 1950- 1960 الباحث الفرنكفوني لابنس بدراسة المقيمين في التجمعات السكنية الانتقالية في فرنسا، وهم أشخاص فقراء جداً، وفي الأساس يفترض أن يكون إيواؤهم هناك انتقالياً فقط، ولكنّ هؤلاء السكان أقاموا بصورة دائمة، وتزوجوا فيما بينهم، وكانت احتكاكاتهم مع الخارج شبه منعدمة تقريباً، بل وأكثر من ذلك ظهروا كأنهم مستقرون في هذا الوضع منذ عدة أجيال. كان لهؤلاء الأشخاص الأكثر فقراً جميع مميزات الجماعة الحقيقية المنسجمة، مما يجعلنا على صواب في إطلاق وصْف طبقة اجتماعية عليهم[1]. كان لهذا التحليل وهذه الدراسة المتميزة صدى في الأفكار التي وسَّعها لاحقاً أوسكار لويس السابق الذكر، الذي حلَّل في أبحاثه الشهيرة الحياة الفقيرة بالاستناد إلى ثقافة خاصة بمفهوم الأنثروبولوجيا الثقافية، حيث الفقراء يتقاسمون نظام معتقدات وأنماط سلوك كانوا ينقلونها إلى أولادهم تباعاً بفضل تنشئتهم الاجتماعية الخاصة بهم. وبالطبع فثقافة الفقر هذه كانت متكيفة مع محيطها الخاص، وكانت تسمح لأعضائها بمواجهة صعوبات الحياة اليومية، وهي مثل أية ثقافة أخرى بدون هذا سوف تزول ولا يمكنها الاستمرار في التواجد. هذه الأطروحة حول ثقافة خاصة بالفئات الأكثر فقراً في المجتمعات الصناعية لاقت معارضة قوية في تلك الحقبة من طرف عدد كبير من المختصين في الأنثروبولوجيا الثقافية، لأنّ هذه الفئات كانت، على الأقل، بأمريكا اللاتينية تسهم حقيقة في الثقافة العامة للفئات العمالية، وكان لها أيضاً بالموازاة تواجد بين الطبقات المتوسطة.
ظل هذا النوع من التضارب في التحليل والآراء حاضراً باستمرار في الإجابات المقترحة لتفسير الحضور الدائم للفقراء بين المجتمعات الوافدة (المهاجرة تحديداً). غير أنّ أطروحة ثقافة الفقر التي اختفت لمدة قصيرة ما لبثت أن عادت ثانية إلى الوجود في حالات عديدة، وبقوة أكبر، وقد تم إسقاطها على غيتوات السود في الولايات المتحدة الأمريكية. كما تم ربطها في حالات أخرى بغياب العمل أو تعذره، والذي يعتبر محدداً رئيساً لهذه الطبقة السفلية داخل المجتمع، وبالنسبة إلى لابنس فإنّ العالم السفلي المحروم من كل شيء في الضواحي الفرنسية ربما كان يتألف من ورثة جزء من البروليتاريا التي أهملت أثناء فترات تطور الثورة الصناعية.
لقد ظهرت مفاهيم أخرى سابقاً في الدراسات المختصة التي اهتمت بمجال المهمش، ومنها مفهوم الغريب، الذي يعني حسب مقالة ألبيون سيمول، مؤسس قسم علم الاجتماع والأنثربولوجيا بجامعة شيكاغو، من يقيم في المجتمع على الهامش، فلا يدرك آلياته الحميمية ويبقى على نحو ما خارج الجماعة. وقد تناول موضوع الغريب أيضاً إي شوتز في دراسته عن الغيتو اليهودي. كما تناولته دراسات كثيرة اهتمت بثقافة الزنوج في أمريكا وعلاقتها بالتهميش الذي طالهم على يد العرق الأبيض، وتبرز في هذا الصدد أطروحات روبرت بارك التي حاولت تفسير أصل مشاعر العداء العرقية في الفوارق الاقتصادية[2]. وقد تعمق تلميذه من بعده بوكاردوس الذي نشر أطروحته عن الهجرة والمواقف العرقية، والذي يعتبر امتداداً وتعميقاً لأفكار بارك، مع التركيز على العوامل السوسيو نفسية، والقلق النفسي، ومختلف أنواع الإحباط والضغط التي تنتجها حالة الهجرة مثلاً[3].
إنّ النقطة الحيوية في الجدل الذي أُثير بشأن مفهوم "ثقافة الفقر" - كما طورها أوسكار لويس- يتمثل في كون الفقر منتشراً في كل مكان؛ فهل يتقاسم هؤلاء الفقراء ثقافة مشتركة تميزهم عن غير الفقراء؟ يُركِّز المؤلف على الفرد في تفسيره للفقر مبتعداً بذلك عن التفسيرات البنيوية والمؤسساتية التي تركز على الخصائص والسمات الجماعية. لقد أراد أوسكار - بوصفه عالم أنثروبولوجيا- فهم الفقر والسمات المرافقة له باعتباره ثقافة وطريقة حياة تنتقل من جيل إلى جيل عبر مسارات العائلة؛ فالأطفال يتشربون عادة القيم والسلوكيات الأساسية لثقافتهم من هؤلاء، مما يجعلهم غير مهيئين نفسياً للاستفادة من الفرص التي تتاح لهم لإحداث تغيير حقيقي في حياتهم مستقبلاً.
في هذا الإطار تندرج سيرة أطفال سانشيزLes enfants de Sanchez, التي كتبها أوسكار لويس[4]، والتي قدّم فيها نموذجاً لمنهج بيوغرافي في الأثنولوجيا بجميع مؤهلاتها وخصائصها في الرواية العائلية، من خلال سرد حياة أسرة مكسيكية تحت بروليتارية، عاشت في غرفة واحدة بمدينة كازا كراندي Casa grande. وقد سبق له أن قام بدراسة ميدانية عن الهجرة القروية لقبائل الأزتيك في اتجاه مكسيكو، وبالخصوص إلى مدينة كازا كراندي، وخلالها التقى بسانشير وأولاده عن طريق المصادفة؛ فقرَّر بعدها إنجاز دراسة معمقة عن هذه الأسرة، وخصوصاً حين وافق الإخوة كونسويلو وروبرطو ومارطا ومانويل وخيسوس القيام بسرد حياتهم بحضوره. وقد تم له ذلك بعد أن استطاع كسب ثقتهم من خلال علاقة صداقة طويلة جمعته بهم، لدرجة أنّ أوسكار لويس أحس بأنّ له أسرتين: أسرته في الولايات المتحدة الأمريكية، وأسرة سانشيز التي قضى برفقتها مئات من الساعات.
لقد سرد الرواة من أبناء سانشيز حياتهم كاملة بحضور الباحث لويس أوسكار، وذلك تماشياً مع الأسئلة التي كان يطرحها عليهم هذا الأخير من حين لآخر، وقد كانت مواضيع النقاش متشعبة ومتعددة في آن؛ فقد تحدثوا عن: (المشاكل والعقد/ الموت/ الخيانة/ العنف/ الانحراف/ الإجرام/ الإحساسات والمشاعر/ القدرة على الفرح/ الرغبة في الفهم والحب/ الأمل في حياة أفضل...إلخ). لقد كانت منهجية الاستجواب التي اعتمدها الباحث وسيلة ناجعة للحصول على أكبر قدر من المعلومات. ولذا فإنه يمكننا أن نتحدث من خلال النموذج البحثي الذي اتبعه عن منهج بيوغرافي أو عن منهج تاريخ الحياة، الذي يبتغي إعادة إحياء تجربة الفاعلين؛ فإذا كانت النصوص تفرد مكاناً واسعاً لأصوات أخرى غير أصوات الباحث يستخرجها من خلال الوثائق والسجلات، فإنّ الأمر هنا مختلف تماماً حيث تعطى الأهمية لأصوات المتحاورين في الحقل مباشرة. ومن الملاحظ في النموذج الذي اتخذناه دليلاً غياب أي وسيط؛ فالروايات هنا ليست محكية من طرف شخص برجوازي، وإنما هو تحقيق اجتماعي مع أشخاص غير مختصين يحكون عن حياتهم بعفوية وحرية وبساطة، مما أعطى للعمل جانباً كبيراً من الصدقية والصراحة، إذ التصريحات المختلفة التي استقاها شكلت وسيلة تحقق داخلي سمحت له بإنجاز سيرة موضوعية، حيث تعمق بشكل دقيق في دراسة نفسية هؤلاء الأشخاص الذين عاشوا هذا المستوى المدقع من الفقر لمدة طويلة، خاصة وأنّ هذا الموضوع -حسب أوسكار- لم يكن موضوع دراسة جادة لعلماء النفس والأطباء النفسانيين المختصين.
لقد قدم لويس أوسكار من خلال رواية الحياة الموسومة بـ "أطفال سانشيز" صورة وطريقة بيوغرافية في الأثنولوجيا أُطلق عليها اسم "الأثنوبيوغرافيا"، وقد استخلص الأوربيون وغيرهم من خلال هذه الرواية فائدة كبيرة فيما يتعلق بأهمية روايات الحياة الذاتية؛ فالجمهور القارئ يستمتع كثيراً بقراءة روايات الحياة التي يمكن عدها جنساً هجيناً بين البيوغرافيا والسيرة الذاتية. وهو ما يفسر الرواج الكبير الذي حققته أعمال كثيرة مشابهة خلال فترة السبعينات وما بعدها. ويمكن الإشارة هنا بالدرجة الأولى إلى كتاب: المعرفة والسلطة في المغرب لصاحبه الأنثروبولوجي الأمريكي، من جامعة دارتموند، ديل ايكلمان، الذي يعتبر المجتمعات المركبة مجتمعات لا يمكن فهم مظاهر واقعها السياسي والاجتماعي إلا عن طريق بيوغرافية الأفراد، وهذا ما نلمسه في عدد من الدراسات الأخرى التي اتبعت المنهج نفسه، حيث قام كل من الصحافي الفرنسي جون لاكوتير وزوجته سيمون برسم صور لكل القوى السياسية والاجتماعية الرئيسة التي عملت في الفترة التي أدت أحداثها إلى استقلال المغرب، وذلك عن طريق الوصف البيوغرافي لأهم الشخصيات الفرنسية والمغربية لتلك الفترة. وقام قبله المؤرخ والسوسيولوجي الشهير جاك بيرك من جهته بالكتابة عن حياة العالم المغربي الحسن اليوسي الذي عاش في فترة القرن السابع عشر، وقدمه كنموذج مختلف عن علماء القرويين انتماء ومعرفة وثقافة، وذلك بالنظر إلى جذوره القروية ومواقفه المتمردة تجاه السلطة في عهد المولى إسماعيل. إنه نموذج لعالم من طينة أخرى لم يسلك مسار علماء فاس الموالين للتقليد، بل إنه من العلماء بالغي الندرة في زمانه بالمغرب، غير أنه ليس بالإمكان مقارنته مع علماء الضفة الشمالية للمتوسط، حيث ساد النقد العقلاني قرنين قبل زمانه[5]. وهو العالم ذاته الذي نجده حاضراً أيضاً وبشكل بارز عند صاحب كتاب تأويل الثقافات كليفورد غيرتز عن الإسلام في المغرب وأندونوسيا، والذي أعطى فيه وصفاً دقيقاً للوسط الثقافي والديني خلال فترة حرجة من تاريخ المغرب، وهي فترة تثبيت الدولة العلوية ركائز سلطتها الدينية والسياسية بعد القضاء على خصومها من الدلائيين والسملالين. كما استغل واتربوري، عالم السياسة الأمريكي، حياة تاجر سوسي يعيش في الدار البيضاء ليضرب مثلاً للحساسيات السياسية لجيل بأكمله[6]. وفي السياق نفسه تناولنا في أطروحتنا التي خصصناها للفقيه علي بن محمد السوسي السملالي، مواقف عالم من القرن التاسع عشر، متشبع بالثقافة المدينية بالرغم من جذوره القروية، وجعلناه أحد أهم مفاتيح فهم البنية الثقافية والسياسية لمغرب القرن التاسع عشر، فحياته وكتاباته التي تصنف ضمن دائرة الكتابة الإصلاحية بامتياز تسلط الضوء على بعض الجوانب الخفية من مواقف السلطة من الإصلاح، وعلاقة السلطة بالرعية. كما يُمْكِننا من خلال تتبع سيرة حياته تلمس الفروقات الفردية بين العلماء والكتاب خلال الفترة المدروسة[7].
إنّ منهج السيرة الذي تمّ توظيفه في حقول السوسيولوجيا والأثنولوجيا، والذي سُمِّيَ في البداية بالمنهج البولوني (الذي ركز على روايات الحياة) تمّ تطبيقه أول مرّة في العشرينيات من القرن الماضي، وذلك قبل دراسة لويس أوسكار، حيث قام عالما الاجتماع بمدرسة شيكاغو وليام إسحاق طوماس (1863-1947) وفلوريان ويتولد زنانييكي (1882-1958) بدراسة هامة عن الفلاحين البولونيين المهاجرين إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. وتتطرق هذه الدراسة التي تم نشرها في خمسة أجزاء لوضعية العمال والفلاحين البولونيين في موطنهم الأصلي، ثم وضعيتهم بعد هجرتهم لأمريكا، من خلال تسليط الضوء على أنماط وأشكال التفاعل والعلاقات التي نسجوها فيما بينهم بعد الهجرة أو تلك التي نسجوها مع غيرهم سواء من المهاجرين الآخرين أو المقيمين، وهذا ما استدعى بالضرورة التطرق إلى موضوع الاندماج أو الانصهار. وكما سبق فقد تمّ اعتماد تقنية "دراسة الحالة" أو "المنهج البيوغرافي" من خلال تدوين قصص وحكايا حياة هؤلاء المهاجرين[8]. وقد استمرت الاتجاهات البحثية الأنجلوساكسونية من بعدهما في الاعتماد على هذا المنهج البيوغرافي لدراسة الفئات الاجتماعية المهمشة، التي لم تُتَحْ لها في السابق فرصة الحديث عن نفسها. وهكذا تمّ إنتاج سير فردية واجتماعية متعددة ساهمت في تجديد أبحاث التاريخ والسوسيولوجيا والأنثربولوجيا، وأعادت الاعتبار للمعيش اليومي.

مسرد المراجع والمصادر:
-    إيكلمان، ديل، المعرفة والسلطة في المغرب، صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين، ترجمة محمد أعفيف، ليتوغراف طنجة، طبعة جديدة، 2009
-       طحطح، خالد، علي بن محمد السوسي السملالي بيوغرافية ثقافية، أطروحة دكتوراه، تحت إشراف الأستاذ عبد الرحيم بنحادة، كليّة الآداب والعلوم الانسانية الرباط، نوقشت موسم 2013-2014، مرقونة.
-       عبد الرحمن المالكي، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، إفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الأولى، 2016
-       كولون، آلان، مدرسة شيكاغو، ترجمة مروان بطش، مجد/ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2012
-    المساتي، عادل، سوسيولوجيا الدولة بالمغرب: إسهام جاك بيرك، تقديم أحمد بوجداد، سلسلة المعرفة الاجتماعية والسياسية، الطبعة الأولى، المغرب، 2010
-       يانيك لوميل، الطبقات الإجتماعية، ترجمة جورجيت الحداد، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008
Oscar Lewis, Les enfants de Sanchezautobiographie d'une famille mexicaine, traduit de l'anglais par Céline ZensEdition. Gallimard, Paris, 1963.

[1] يانيك لوميل، الطبقات الإجتماعية، ترجمة جورجيت الحداد، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2008، الطبعة الأولى، ص 26
[2] آلان كولون، مدرسة شيكاغو، ترجمة مروان بطش، مجد/ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ، الطبعة الأولى، 2012 ص ص 57، 67، 72، 73
[3] عبد الرحمن المالكي، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، إفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 2016، 146
[4] Oscar Lewis, Les enfants de Sanchezautobiographie d'une famille mexicaine, traduit de l'anglais par Céline ZensEdition. Gallimard, Paris, 1963
[5] عادل المساتي، سوسيولوجيا الدولة بالمغرب: إسهام جاك بيرك، تقديم أحمد بوجداد، سلسلة المعرفة الاجتماعية والسياسية، الطبعة الأولى، 2010، ص ص 50، 51
[6] بخصوص هذه النقطة تحديداً يراجع، ديل إيكلمان، المعرفة والسلطة في المغرب، صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين، ترجمة محمد أعفيف، ليتوغراف طنجة، طبعة جديدة، 2009، ص 23
[7] خالد طحطح، علي بن محمد السوسي السملالي بيوغرافية ثقافية، أطروحة دكتوراه، تحت إشراف الأستاذ عبد الرحيم بنحادة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، نوقشت موسم 2013-2014، مرقونة.
[8] عبد الرحمن المالكي، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، م، س، ص ص 97، 98

المدرسة والمجتمع وأزمة القيم ـ محمد أسيداه

أنفاس نت 


يطرح صاحب هذه المقالة من منظور لا يقصد، ارتهانا لموقف عدمي، إلى تسويد الأفق، بل إلى مساءلة-لا تنكر الحماس-راهن واقع تعليمي ثقيل التكلفة بطيء المردودية هزيل الفائدة، في مجتمع سريع التحول كثير المطالب بالغ التذمر، في سياق دولي غير مسبوق ينذر بالابتلاء والابتلاع؛ يعتمد المنظور مدخل القيم بما هي أساسا ما يجعل أي فعل إنساني ذا معنى؛ لأنها مبدأ لتعليله وشرعيته، ولأنها ما يجعل الحياة قابلة أو جديرة بأن تعاش.
يصدر هذا المقال عن طائفة من الافتراضات نعرضها على سبيل المساءلة والمناظرة، وندعو إلى تمحيص وجاهتها وتـأمل استلزاماتها:
•  القيم هي ما يمنح التربية والتكوين معنى ؛
•  التربية على القيم هي ما يحقق التعايش ويضمنه ؛
•  التكوين الحقيقي هو ما يحقق المشاركة في فرص الحياة وإمكانياتها ؛
•  لكي يكون الفعل التربوي التكويني(=المدرسة) ذا معنى؛ لا ينبغي أن يكون متناقضا(تناقض القول مع الواقع، القيم مع الممارسة...) ؛
•  لكي تنجح المدرسة يجب أن تتطابق قيمها مع قيم المجتمع، أو أن يتناغم خطابهما بحيث يرى خطاب المجتمع المدرسة ضرورية ويقنع خطاب المجتمع نفسه بأنه مفيد ؛
•  خطاب المجتمع خطاب مضاد لخطاب المدرسة ؛
•   إصلاح المجتمع رهين بإصلاح المدرسة ؛
الانتهاء بالافتراض الأخير الذي هو خلاصة الافتراضات السابقة يعني أن مصدر التنمية البشرية والتنشئة الاجتماعية يعاني خللا مشخصا بأزمة القيم، من دون أن يعني ذلك البتة رد الأزمة إلى ما هو لامادي فقط؛ فالأسباب المادية ربما كانت أكثر قوة ووجاهة.
الحديث عن أزمة التربية والتكوين(=المدرسة اختصارا من الآن فصاعدا)هو حديث لا ينقطع في كل الأمم وعلى مر التاريخ. ومن البدهي أن هذه الأزمة تتلون بوعي المجتمعات وانتظاراتها؛ فأزمة المدرسة في كندا هي غير أزمتها في فرنسا أو في المغرب، ومن ثم تتنوع الحلول تبعا لتصور الأزمة ونوعيتها.
في العصر اليوناني حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، لم يظهر السوفسطائيون إلا لكي يحلوا أزمة التربية والتكوين التي انتهي إليها تعليم الشعراء؛ كان السؤال الخطير، في واقع شهد تنازع الملل والنحل الفلسفية والعقدية وتصارع التعاليم المختلفة التي تزرع الشك واللايقين وقلق المعرفة ولا تستجيب لمطالب الحياة، كان هذا السؤال هو إلى من تكل أولادك إن وجدوا، في مثل هذا السياق؟
إن هذا السؤال يجد راهنيته اليوم ليس من جهة محتوى المقارنة فقط، بل ومن جهة فكرة المقارنة ذاتها؛ كان التعليم الذي قدمه السوفسطائيون تعليما ينسجم مع الجو الديمقراطي الذي أخذ في الاستتباب عهدئذ، ولا سيما مع بركليس"Périclès" (حوالي 495-429 ق.م)، تعليما لم يكن يقدم المعارف المجردة فقط، بل  يقدم كيفية الحياة ومهارة العيش في المدينة. ومن ثم كان تعليمهم لا متهافِتا كما يدعي خصومهم، بل متهافَتاً عليه؛ لأنه مرتبط بحاجة المجتمع.
إن واقعا بشريا يعيش تحديات ورهانات على مستوى العقيدة والمعرفة والعلم، وعلى مستوى الاقتصاد وفرص الحياة وأنماطها، لا يمكن تدبيره إلا إذا ساد وخيم جو ديمقراطي يتم فيه تدبير الشأن العام والبحث عن تحقيق الخير الأسمى للجميع بحرية وحوار ومشاركة وبعقلانية تبني البرامج عبر قراءة التاريخ(استخلاص القيم والخصوصيات الضامنة للوحدة والهوية)، وتحليل الواقع(التعامل النقدي مع المطالب الآنية في ظل إكراهات الواقع المحلي والدُّوَلي) واستشراف المستقبل(البحث عن موطئ قدم في خريطة العالم التي أصبحت افتراضية إلى حد لا يتصور).إن الاقتناع بوجود أزمة في المدرسة المغربية سبب كاف لتدشين مسلسل إصلاح المنظومة التربوية التي يقدم عنها البنك الدولي تقريرا أسود، يقدمه بالوصف ويعيشه المجتمع المغربي بالمعاناة، يقول:«وعلى الرغم من الإنفاق العام الكبير على التعليم(6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، إلا أن النوعية ونطاق التغطية على السواء لا يزالان ضعيفين بصورة ملحوظة. وعلى الرغم من أن الأمية تنخفض ببطء، إلا أن معدلاتها لا تزال عالية بصورة تنذر بالخطر، وبوصولها إلى 48 في المائة تمثل أعلى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والدول الأقل دخلا. وبالمثل، فإنه على الرغم من أن الالتحاق بالمدارس قد زاد، إلا أن 2.5 في المائة من الأطفال لا يزالون لا يلتحقون بالمدارس-وأغلبيتهم من بنات الريف. وتمثل النوعية أيضا مشكلة كما تدل عليها المعدلات الرديئة لاستبقاء التلاميذ في المدارس، حيث يترك 25 من تلاميذ المدارس الدراسة قبل السنة الخامسة، ويبقى فقط 10 في المائة حتى السنة الحادية عشرة. أما طلبة الجامعات، الذين يقضون في المتوسط ثماني سنوات لإنهاء برنامج أربع سنوات، فيجدون غالبا أن مهاراتهم لا تناسب سوق العمل»[1].

لذلك فإن الحديث عن الإصلاح هو رهان على الاستجابة لحاجات المجتمع ومتطلباته، فعندما لا تكون المدرسة بمنتـوجها المعرفي والمهاري والقيمي في مستوى المجتمع بانتظاراته وتحولاته ورهاناته؛ أي عندما لا تكون المدرسة في وفاق مع المجتمع، أو تعجز عن التفاعل معه، تكون الأزمة. لذلك يلح الميثاق في اختياراته وتوجهاته التربوية العامة أي في فلسفته التربوية على"العلاقة التفاعلية بين المدرسة والمجتمع باعتبار المدرسة محركا أساساً للتقدم الاجتماعي وعاملا من عوامل الإنماء البشري المندمج"[2]، كما يلح على" اعتبار المدرسة مجالا حقيقيا لترسيــخ القيم الأخلاقية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان وممارسة الحياة الديمقراطية"[3]. وهذه الفلسفة العامة هي التي توجه مراجعة المناهج التربوية استنادا إلى مدخل بيداغوجي يتمثل في"اعتماد التربية على القيم وتنمية وتطوير الكفايات التربوية والتربية على الاختيار"[4]، واستنادا إلى اختيارات وتوجهات في مجال القيم؛ تعد مرتكزات ثابتة في الميثاق وهي"قيم العقيدة الإسلامية، قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية، قيم المواطنة، قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية"[5].
إذا كانت هذه هي الفلسفة العامة والاختيارات والتوجهات والمرتكزات الأساس، فبأي معنى نتحدث عن أزمة القيم؟
للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نبين أولا ما المدرسة؟ وما المجتمع؟ وما العلاقة بينهما وبين القيم؟

أولا:المدرسة مؤسسة اجتماعية وقناة إديولودجية رسمية[6]:
تكون المدرسة مؤسسة اجتماعية لأنها نظام اجتماعي، مهمتها " تكوين مواطن المستقبل وتربيته"؛ تكوينه عن طريق تعليمه وتأهيله، وتربيته عن طريق تنشئته اجتماعيا، أي عن طريق إكساب المتعلم/التلميذ معارف ومهارات من دونها لا يستطيع فهم العالم والتفاعل معه والتأثير فيه، وعن طريق تنشئته اجتماعيا بإعداده لأن يمارس أدواره الاجتماعية باكتسابه كيف يعيش في الجماعة مع احترام القواعد الاجتماعية المشتركة، وتثمين قيم العدالة والحرية والمسؤولية[7].

أما كونها قناة إيديولوجية رسمية فمعناه أن المدرسة ليست فضاء محايدا اجتماعيا تنقل فيه المعارف العلمية فقط، بل فضاء لإعادة "إنتاج النظام الاجتماعي(عن طريق ممارسة العنف الرمزي الخفي) للطبقة المسيطرة وإضفاء الشرعية عليه، ولفرض تراتبية الطبقات الاجتماعية ولثقافتها[8]، أو"نموذجها الثقافي" كما يقول ألان تورين[9].

ثانيا: المجتمع وحدة عضوية وتوافقية:
المجتمع مفهوم نظري يعني الوحدة البشرية والجغرافية والثقافية والسياسية، التي يقع فيها تنظيم عمليات وقنوات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك(وهو ما يسمى بالمستوى الاقتصادي)، وتوزيع الأدوار ومراتب السلط والنفوذ(المستوى السياسي والاجتماعي)، وأيضا توزيع الرأسمال القيمي والرمزي بحسب لغة بورديو(وهو ما يمثل المستوى الثقافي)[10].
المجتمع بهذا المعنى كلية(Totalité) ذات نسق يمكن أن يعرف من منطقه الخاص ووحدة عضوية وتوافقية (لكنها لا تسلم من التناقضات الاجتماعية الاقتصادية). ويتسم كل مجتمع بنوع من الاستقلالية الثقافية فهو ينظم عالمه بلغته(Langage)، وينتج وضعيته الخاصة به"[11].

ثالثا: القيم معايير وغايات وجود:
ليس من السهل الاتفاق حول مفهوم القيم، وذلك بسبب تعدد الخلفيات والمرجعيات المنطلق منها(فلسفية، دينية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية). ففي الحد الفلسفي، مثلا، تقال القيمة عن كل ما يقبل التقدير. ولها استعمالان: أحدهما معياري نسبي كما في الاقتصاد(حيث ترادف القيمة المنفعة، والمنفعة شيء نسبي يتوقف على الحاجة والعرض والطلب)، وثانيهما معياري مطلق كما في حقل الأخلاق؛ حيث لا تتوقف القيمة على المنفعة أو الحاجة أو الظروف، بل هي مستقلة عن كل اعتبار، إنها قيمة في ذاتها[12]. وفي هذا المعنى الأخير"تضارع القيمة المثال، وتتقابل مع الواقعي (le réel)،أو الموجود(l'étre)، فالقيمة تقابل الموجود كما تقابل الأكسيولوجيا الأنطولوجيا[13].من هنا تصبح القيمة نشاطا ذهنيا متعلقا بسؤال موضوعه"الموجود" وهو موجه توجيها ما(تقدير، تثمين، الجدارة بالثقة). وعموما يمكن القول إن القيمة هي ما يمثل موضوع تفضيل أو تقدير أو رغبة عند جماعة من الذوات، وبذلك فهي ذات بعد اجتماعي.هناك قيم كثيرة استقصاؤها يؤدي إلى الوقوف على تنوع بين قيم اقتصادية(النجاح الاجتماعي، الربح، الانتفاع، المال..) وقيم حيوية(الصحة، الاستقرار..)وقيم أخلاقية ذات بعد سياسي(الحرية، المساواة، الأخوة، التضامن، المواطنة سيادة القانون) وقيم جمالية(الفن، الجمال، البعد الروحي)وقيم فكرية(العقلانية، الحقيقة، الوضوح، الصرامة، التماسك المنطقي، الخصوبة الفكرية، الموضوعية..)وقيم انفعالية عاطفية(التعلق بشيء ما(الأم، الوطن)، الحب، الصداقة، السعادة، الشقاء..)[14].
تحوز هذه القيم ضرورتها ومن ثم صفتها الطبيعية والشرعية في كونها هي ما يمنح الحياة معنى، ومن ثم فإن فقدان القيم هو فقدان للمعنى؛ أي إصابة الحياة بمرض.
أما القيم في الحقل التربوي فهي"مجموعة المعايير الموجهة لسلوك الإنسان ودوافعه في تناسق أو تضارب مع الأهداف والمثل العليا التي تستند إليها علاقات المجتمع وأنشطته، ولذلك فهي تتميز عن غيرها من الدوافع السلوكية، كالعادات والاتجاهات والأعراف، في كونها تتضمن سياقا معقدا من الأحكام المعيارية للتمييز بين الصواب والخطإ، بين الحقيقي والزائف، وتمثل وعيا جماعيا، وتكون أكثر تجريدا ورمزية وثباتا وعمومية، كما تكون أكثر بطءا في التكوين وتهم غاية من غايات الوجود، وامتثالا لأوامر، تنبع من داخل الإنسان وليس بناء على ضغوطات خارجية"[15].
القيم في الحقل التربوي إذن" أنزيمات التعلم المجدد"[16] الهدف منها إعداد التلميذ للإدماج الاجتماعي وإقداره على التعايش ضمن التعدد في مجتمع ديمقراطي منفتح على العالم، وعلى المشاركة في العمل الجماعي لأجل بناء مجتمع عادل ومنصف، استنادا إلى قيمتي المواطنة وحقوق الإنسان؛ ضمان الإدماج الاجتماعي.
وإذا علمنا أن عالمنا اليوم يحتاج إلى أفراد قادرين على فهم التعددية وعلى استثمار غناها، وعلى تخيل حلول جديدة وعلى إخضاع المبتكرات التكنولوجية إلى مبادئ اجتماعية أخلاقية، معنوية(moraux)، قانونية، شرعية، وإذا علمنا أيضا أن هذا العالم يحتاج إلى حيوية أفراد ينخرطون في إنسانية يعرفون ماضيها، ويتحكمون في كفايات ضرورية للمشاركة في الحياة الجماعية الراهنة، ويعرفون كيف يصنعون مستقبلهم ويتحكمون فيه.
إذا علمنا كل ذلك، فإن على التربية أن تهتم على الأقل بثلاث قيم أساس، وأن تعمل على ترسيخها وتشريبها للناشئة:

أ-الضمير: بكل ما يعنيه من صحوة ويقظة ووضوح، بصرف النظر عن كونه وازعا دينيا أو دنيويا وضعيا واجتماعيا.
ب-الشرف والنزاهة: بكل ما يعنيانه من انسجام المرء مع نفسه؛ بحيث يعكس الخارج بأمانة ما بداخله، وذلك لن يتأتى إلا إذا بلغ درجة يتمكن فيها من أن يقول ما يفكر فيه ويفعل ما يقوله ببساطة واستقلالية.
ج-المسؤولية: وهي أن يكون المرء مؤمنا بكونه مسؤولا عما أوكل إليه[17]
إذا تمثلنا كل هذه القيم العامة أو التربوية بوصفها تعبيرا عن الحاجة إلى تكوين شخصية المتعلم المنخرط في شأن الجماعة والوطن، فإلى أي حد يمكن القول إن المدرسة المغربية تتسم بوعي مطابق لهذه الحاجة، وكيف تحضر"صورة" المدرسة في المحكي المجتمعي؟

       كأي مدرسة في العالم، للمدرسة المغربية خطاب يتمثل في تلكم المواد المعرفية الرسمية التي تعرض بغرض التلقين في شكل مقررات دراسية يفترض أن تكون إلزامية ومعممة، ويقدم هذا الخطاب(ظاهريا) نفسه كخطاب حول المعرفة والعلم والقيم والأخلاق بشكل تعميمي، رغبة من مرسله في إظهاره بريئا ومحايدا، وفي صورة إنسانية"[18]

لهذا الخطاب وظيفتان:
-وظيفة موضوعية تكوينية تتمثل في تكوين وإعداد الكفاءات في الميادين الفكرية والمهنية المختلفة؛ أي الإسهام في إنتاج وموالاة إنتاج قوة العمل داخل إطار البناء الاجتماعي المعني القائم،  وتوزيعها بحسب قنوات وشروط اشتغال هذا البناء.
-ووظيفة إيديولوجية للضبط الاجتماعي والتي تتم عبر التنشئة الاجتماعية، المتمثلة في تثبيت مجمل عناصر الإطار القيمي القائم وعلى تشريبها للأجيال الناشئة حفاظا على توازن المجتمع واستقراره، عبر الإيهام بدور المدرسة، وأهمية المستوى العلمي في توزيع الشغل والدخل، وتحقيق الحراك الاجتماعي عبر رفع شعارات التعميم وتكافؤ الفرص والحظوظ، والمساواة...[19]
غير أن تأمل خطابي المدرسة والمجتمع يقود إلى استنتاج أنهما خطابان غير متناغمين إن لم نقل متناقضين ذاتيا وبينيا، وإن اشتركا في الوظيفة؛ فخطاب المدرسة(النظام التربوي)على مستوى القول(أو النوايا)شيء، وعلى مستوى الفعل(أو الإنجاز والمخرجات)شيء آخر، والأمر ينسحب على المجتمع كذلك. وأما بينيا فإن خطاب المجتمع خطاب مضاد لخطاب المدرسة؛ لأن القيم السائدة في المجتمع قيم مضادة لما يريد خطاب المدرسة أن يكرسه(مع العلم بوجود ممارسات داخلية تنقضه).
إن التضاد القائم بين الخطابين ذاتيا وبينيا هو ما نقصد بأزمة القيم أو غياب المصداقية أو أزمة مصداقية.أو بعبارة أخرى"صدام القيم"[20]؛ قيم المدرسة وقيم المجتمع، وبسبب هذا التضاد أو الصدام تصبح القيم التي تراهن عليها المدرسة بعيدة الصلة بالحياة.

رابعا:خطاب المدرسة:
إذا كانت المدرسة العمومية المغربية قد لعبت بعيد الاستقلال مجالا للتنافس والترقية الاجتماعية، فإنه بالاحتكام إلى الأمر الواقع اليوم، المتمثل في خرجها، يمكن القول إنها                                                                                                                                                                                قد فشلت في تحقيق وتكريس هذا الترقي الاجتماعي وذلك بعد أن فقدت ما يفترض أن تظل تتمتع به من مصداقية كانت تستمدها من اشتغالها بوصفها وسيطا للاندماج في البناء الاجتماعي ومساهما فيه؛ لقد أضحى النظام التعليمي الآن مثارا للتذمر ومجالا لهدر الطاقات لا لرعايتها.فهو لم يعد قادرا على أن  يحقق للمواطن مواطنته وإنسانيته عبر ديمقراطية حقيقية تقوم على ضمان تكافؤ الفرص التعليمية لكافة المواطنين من مختلف الشرائح الاجتماعية والانتماءات الثقافية والاقتصادية. كما أصبح عاجزا عن توزيع منصف للرتب الاجتماعية والمهنية وللخيرات والثروات المادية والرمزية وللمهام والمسؤوليات، ولحظوظ الاندماج المهني والثقافي والسياسي والاجتماعي العام بالنسبة إلى منتوجاتها ومخرجاتها من الرأسمال البشري المؤهل.. مما يفترض رفدا نوعيا للتنمية البشرية والسياسية والاجتماعية الشاملة، التي يعتبر المواطن غايتها وضامن تواصلها واستدامتها[21].
في ظل هذه الشروط اهتزت مكانة وقيمة النظام التربوي في المجتمع كما ترتب على ذلك تدهور خطير لــــ"صورة" المدرسة(بل وحتى الجامعة) في الوعي المجتمعي العام. بحيث لم يعد ينظر إليهما على أنهما وسيلة للتكوين النافع والترقي المهني والاجتماعي وللصعود المراتبي، وإنما باعتبارها آلة لتفريح المعطلين من الشباب ولإعادة إنتاج الإحباط والبؤس والأكلاف الاجتماعية الزائدة[22]، ومثل هذا الوضع يجعل المدرسة المغربية تعيش حالة أزمة، ونقصد بذلك أنها تعيش وضعا مضادا لرسالتها ومهمتها ووظيفتها، بدءا من غياب النموذج بسبب فقدان رجل التعليم وضعه الاعتباري ومنزلته القيمية في المجتمع (يعبر عن ذلك مجتمعيا ما يتداول من نكت حول شريحة من رجال التعليم)؛ فبتلازم مع ضعف التقدير المعنوي يقف المجتمع موقف تبخيس فعل المدرس ونزع الثقة منه وتحميله مسؤولية أوضاع شريحة من المتخرجين في مجتمع ينحو نحو الأمية وإن كان يسعى في محوها. زد على ذلك تكريس سلوكيات مضادة لمعنى التربية والتنشئة والتكوين والتقويم، كالنجاح المستسهل، والنسبة المئوية وتدخل الخريطة المدرسية وتفشي ظاهرة الغش واستفحالها، حتى غدت حقا مكتسبا أو مظهرا من مظاهر تكافؤ الفرص.علاوة على هيمنة الكوابح النفسية؛ كغياب الحافز، وغياب الرغبة في التعلم[23]، والإحباط وغياب الأهداف، مما يمكن أن يوصف معه حالات عارمة من التمدرس بالسلوكات اللاعقلانية التي تدفع إلى ممارسة هجرة لا عقلانية كالمخدرات والتطرف والعنف والإرهاب...
بذلك تكون المؤسسة التربوية المغربية قد فقدت تأثيرها وقوتها الإقناعية في شأن ما تنقله أو تعمل على ترسيخه من معارف وقيم ومبادئ؛ فهي لم تعد قادرة لا على التأهيل للإدماج المهني(ولوج سوق الشغل)[24] ولا على التهييء للإدماج الاجتماعي[25].لقد أصبحت المدرسة بمعنى ما مضادة لرسالتها عندما تحولت إلى وسيلة للإقصاء لا الإدماج.وبهذا التحول تكون قد فقدت شرعية وجودها!

خامسا: خطــاب المجتمع:
لقد عجز المجتمع بفعل سيادة سلوكيات متوارثة وتقليدية أو انتهازية وصولية، عن التحول إلى مجتمع مدني ممأسس، قادر على التأثير والفعل والاقتراح والرفض أو الاحتجاج.. مساهما بذلك في تثبيت أسس"ثقافة المواطنة والحق والواجب والتعدد والاختلاف في الفكر والوجدان والممارسة الاجتماعية"[26].
ومثل هذا الوضع يؤثر سلبا في الأداء التربوي والثقافي لمجمل مؤسسات وهيئات وفعاليات هذا المجتمع المدني المذكور، فبدل أن تتحول إلى مؤسسات تربوية موازية للنظام التربوي داعمة لأدواره في مجال التنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، رهنت نفسها في حسابات سياسوية أو مصلحية ضيقة، وارتمت في أحضان صراعات على سلط أو مواقع أو أدوار، الأمر الذي ينم عن ضيق أفقها الفكري والسياسي والاجتماعي؛ فالمؤسسة الحزبية فشلت في المساهمة الفعلية لإنجاح عملية الانتقال الديمقراطي، وعجزت عن أن تشكل قوة اقتراحية حقيقية تجاه المؤسسة الملكية قانعة أو مكتفية بسياسة وسلوك رد الفعل فقط، كما أنها أخطأت في تحديد مسار التجربة السياسية وصبغ بصمتها كفاعل أساسي في معادلة الانتقال، كما عجزت عن صياغة مشروع سياسي واضح.
وكما فقد المواطن الثقة في المؤسسة التربوية، فقد الثقة في الأحزاب؛ فحصلت القطيعة بين النـخـب الحزبية والمطالب الحيوية للمواطن المغربي لتكريسها لاستمرارية أشكال وأنماط الاشتغال السابقة للتجربة الديمقراطية، زد على ذلك عدم أهلية المؤسسة الحزبية لقيادة الانتقال الديمقراطي وعجزها عن القيام بوظيفتها التأطيرية، وتكريسها لواقع العزوف السياسي؛ وذلك من خلال مظاهر متعددة أهمها: غياب التقاليد الديمقراطية داخل الأحزاب نفسها(أزمة تدبير الخلاف، الانشقاقات المتعددة، التحالفات غير الطبيعية، غياب برامج واضحة،  وتقارب خطابات هذه الأحزاب رغم اختلافاتها الإيديولوجية)، وغياب المسؤولية الحزبية لدى بعض النخب الحزبية[27]. والخلاصة تعثر الانتقال الديمقراطي بسبب التكوين الداخلي للأحزاب وخطابها، وبسبب تدخلات المخزن، مما يؤدي إلى تكريس ممارسات معاكسة لإرساء الديمقراطية.
فالمجتمع بعيد عن أن يمثل"مجتمع الجدارة والحداثة" بتبنيه وإعماله لقيم ومبادئ المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فهو لا يزال يشتغل وفق آليات لا عقلانية كالرشوة والمحسوبية والزبونية والفساد والأنانية والانعزالية، وتقديم المصلحة الخاصة، وذلك على حساب المساواة والاستحقاقية والكفاءة والمشاركة وتقدير المصلحة العامة وأخلاق المسؤولية[28].بعبارة أخرى هناك أزمة معنى أو محتوى سوء في المستوى السياسي أو الاجتماعي؛ يتعلق الأمر بالتوليد المفرط للأشكال يوازيه إفقار حاد للمضامين أو المنتوج والمردود، أليس هناك من ألسنة(فاسدة أو صادقة) تتحدث عن حكومتين إحداها للحكم والأخرى للإدارة؟ أليس ثمة كثرة الوزارت يفوق نسبة أكبر البلدان مساحة وساكنة؟ أليس هناك غرفتان في البرلمان كلفة إحداهما المادية قادرة على تشغيل مئات المعطلين من حملة الشواهد العليا؟ أليس هناك أكاديميات ونيابات؟ أليس هناك كليات سيكون إلى جنبها الآن كليات متعددة التخصصات؟ أليس هناك كثرة الأحزاب دون تعددية حقيقية، أليس هناك كثرة النقابات من دون الجرأة على تشكيل قوة اقتراحية أو دفاعية حقيقية، أليس هناك كثرة الجمعيات التي تشتغل في السر لأجل التهيئ للانتخابات بعد أن أفرغت الأحزاب من محتواها وفقدت شرعية مقبوليتها الاجتماعية.باختصار إذا كثرت الأشكال ارتفعت الأكلاف وقل الإنتاج وغاب المعنى، وإذا غاب المعنى غابت العقلانية!
 وإن مجتمعا يتنفس في مثل هذه الأجواء، لبعيد كل البعد عن بناء ثقافة سياسية جديدة يتكون في إطارها تربويا واجتماعيا مواطن عضوي منخرط في هموم واهتمامات مجتمعه السياسية والاجتماعية والحضارية، بل تعمل على العكس من ذلك على بروز وتطور"نسق قيمي" مغاير يكرس في العديد من مكوناته ومستجداته ما يمكن تسميته بـ"ثقافة الانحطاط"بكل قيمها ونماذجها السلوكية اللاعقلانية الآنفة[29].
وهكذا يبدو من خلال الخطابين أن المدرسة والمجتمع تمران بحالة مرضية؛ أزمة قيم تعكس حقائق مؤلمة في سياق يقضي بأن"الحياة سباق بين التربية وحلول الكارثة"[30].

لذلك يمكن القول على سبيل التسليم:
سادسا: لا يمكن إصلاح المجتمع إلا بإصلاح المدرسة:

إذا صح هذا الزعم فإنه لا يمكن إصلاح المدرسة إلا بتوافق مع انتظارات المجتمع مع إرفاد التلميذ/مواطن المستقبل بالمعارف العلمية والتكنولوجية الموازية للتنمية الدولية وعولمة الأسواق ومع إعمال قيم إيجابية تضفي الحيوية والضمان على التنمية المجتمعية وترسخ معاني التوافقية وقبول الآخر.بمعنى آخر لا يمكن أن تتطور المدرسة ولا أن يتطور المجتمع إلا إذا كان هناك توافق على قيم معينة تجيب عن أسئلة من قبيل:

-أي فرد وأي إنسان نريد تكوينه للمستقبل؟
-أي مجتمع نريد العيش فيه، وتتحقق فيه فرص الحياة الكريمة؟

الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تقتضي قيام مدرسة ديمقراطية، ولا ديمقراطية إلا بالتشارك والتعددية، وعندما نتكلم على ديمقراطية تشاركية تعددية: العدالة، الحرية، التضامن، فإن كل واحدة من هذه القيم تحيل على قيم أخرى، فالعدالة تفترض الإنصاف، والحرية تستلزم المسؤولية، والتضامن يؤدي إلى الالتزام.

إن التركيز على هذه القيم معناه إعطاء المدرسة معنى[31]، وهذا المعنى لا يوجد حقيقة في المواد المدرسة ذاتها؛ إنه بناء يتم إنتاجه وإسقاطه عليها من خلال استعمالها وفعاليتها؛ أي من خلال إمكان الحياة بها مستقبلا عندما يتحول النجاح الدراسي إلى ضمانة للنجاح الاجتماعي، ولا ضمان لذلك إلا إذا انتقلنا من ديمقراطية صورية؛ ديمقراطية الأشكال إلى ديمقراطية حقيقية اجتماعية، تتجسد في صيغة انتقال من"الشكل الديمقراطي" إلى"الجو الديمقراطي" أو من"الديمقراطية الكمية" إلى"الديمقراطية النوعية"، وهذا معناه أن ديمقراطية التعليم لا ينبغي خلطها كما حدث في كثير من الأحيان بما اصطلح على تسميته بالتعميم[32]، فتعميم التعليم يخلق ديمقراطية كمية عادة ما ترافق بتنامي التمييز الداخلي. يجب إذن، التمييز بين تحقيق التمدرس وبين تكافؤ الفرص. ولقد بينت التجارب أن التفاوتات الاجتماعية تنعكس في المسارات الدراسية، فالتلاميذ ذوو الأصول الشعبية عادة ما يتم تكديسهم في مسالك لا تضمن الترقية الاجتماعية: إن الذهاب إلى المدرسة شيء والنجاح الدراسي شيء آخر[33]، أما النجاح الاجتماعي فشيء آخر غيرهما.

وإذا كان مشكل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية عاملا رئيسا في الشرخ الاجتماعي الذي يهدد تماسك المجتمع أكثر مما تهدده الانقسامات الثقافية والإثنية، فإن على المدرسة حتى في ظل هذا الشرخ، أن تعمل على إعادة بناء الروابط الاجتماعية على أساس مثل المساواة والحرية والعدالة، أنسب القيم للمجتمعات الديمقراطية.
ومن ثم على المدرسة، بل وعلى المؤسسات الموكول إليها مهمة التربية، أن تعمل على:
إعداد الفرد للمشاركة في المجتمع الذي يعيش فيه ويهتم بشأنه العام وعلى تطوير وعي اجتماعي يحفزه على فعل ذلك.
-مواجهه تحدي التعايش في سياق التعدد الثقافي، فالتعدد هنا يتجاوز البعد الإثني الثقافي، ويحيل على تعدد القيم وتنوع التصورات وأشكال الحياة وحتى الديانات والعلاقات بين النساء والرجال، إن أشكال التمييز والعنف والهيمنة الثقافية تعد تهديدات لمهارة العيش جماعة.    
-العمل، والسياق الدولي سياق ارتباطات متبادلة، على صياغة الهوية الثقافية مع إمكان الانفتاح على العالم، وبلورة مفهوم للمواطنة في مجتمع متعدد.
ومن المناسب الإقرار بأن هذه المطامح الكبرى لن تتحقق إلا إذا أدرجت الدولة المشروع التربوي ضمن مشروع مجتمعي وليس استجابة لإيديولوجيا سياسية هدفها إدارة الأزمة لا حلها أو استجابة لإملاءات قوى خارجية معللة بسوء تدبير القطاع داخليا.
جماع القول: إن إصلاح المدرسة شرط كاف لإصلاح المجتمع، ولا يمكن أن تصلح المدرسة إلا إذا توافر الشرطان الآتيان:
- الإمكانات المادية التي لا يمكن إلا أن تكون مكلفة؛ لأنها مستثمرة لأجل الرأسمال البشري بوصفه الهدف والمنطلق.

- الخطط والبرامج التي لا تضمن تعميم التعليم أو التنشئة الاجتماعية للناشئة عبر كفايات وقدرات ومعارف ومهارات واتجاهات ومواقف، أو من خلال النجاح في الامتحانات أو القبول في سلك دراسي معين فقط، بل عليها أن تضمن أن يكون ذلك مستجيبا للوضعية الاجتماعية ومنسجما معها، أي أن يكون كل ذلك قابلا لتصريفه في عالم الشغل والحياة.
من دون هذين الشرطين ستظل المدرسة المغربية تعيش أزمة، وأن تعيشها بمعنى فقدان المعنى أو تحوله أو انزلاقه أو تغير القيم وصدامها؛ فذلك أمر يؤول في نهاية المطاف إلى وجود خلل في العلاقة بين تكلفة الاستثمار المدرسي والعائد الاجتماعي الهزيل، أما إذا فتحنا الزاوية أكثر على السياق الدولي بقيمة السائدة التي يبشر أو ينذر بها، تبين كيف يصدق القول إن"الحياة صراع بين التربية وحلول الكارثة"، وتبين أنه بإزاء تعليم محو الأمية فإن التعليم العمومي هو تعليم يمضي نحو الأمية، ولذلك إذا لم نستطع تحصين مجتمعنا وعالم واقعنا بقوة المعرفة النافعة والقيم الداعمة فإن العالم الآخر حقيقيا كان أو افتراضيا هاهو ذا يبتلينا...وقد يبتلعنا.
عود على بدء:إذا كان خطاب المجتمع خطابا مضادا لخطاب المدرسة فمعنى ذلك أن قيمه غير متطابقة أو متناغمة مع قيمها، وإذا لم تكن لامتطابقة ولا متناغمة فإن المدرسة لامعنى لها؛ لأنها لا تحقق المشاركة في فرص الحياة، ومن ثم فإنها لن تحقق التعايش وتضمنه.


[1]http://www.albankaldawli.org/mna/ArabicWeb.nsf/DocByUnid/
8855A2156B35C70285256D7C005EECA9?Opendocument
[2] - نفسه:ص:05
[3] - نفسه:ص:05
[4] - مراجعة المناهج التربوية المغربية. الكتاب الأبيض. مشروع منقح ومزيد، لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية للتعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي  والتأهيلي. 2202.ص: 05.
[5] - نفسه: ص:06
[6] - مصطفى محسن: المعرفة والمؤسسة (مساهمة في التحليل السوسيولوجي للخطاب الفلسفي المدرسي بالمغرب).دار الطليعة.بيروت.ط1. 1993.ص:25             
[7]  -Jean Hénaire.valeurs démocratiques et finalités éducatives repères pour une pédagogue
des droits de l'homme. thématique n 4.2001.conflits de valeurs.(page web):
http://www.eip-cifedhop.org/publications/thematique4/thematique4.html
[8] - بيار أنصار: العلوم الاجتماعية المعاصرة.ترجمة نخلة فريفر. المركز الثقافي العربي بيروت/البيضاء.ط1. 1992.ص:38
[9] - نفسه:ص:118.
[10] -مصطفى محسن.المعرفة والسلطة.ص:27 أو في المسألة التربوية (نحو منظور سوسيولوجي منفتح).المركز الثقافي العربي.بيروت/البيضاء.ط2. 2002..ص:51.
[11] - بيار أنصار. مرجع مذكور.ص:184.
[12] - عبد الرحمن بدوي. موسوعة الفلسفة(ماحق موسوعة الفلسفة).المؤسسة العربية للدراسات والنشر.ط1. 1996.ص:216 وما يلي.
[13]-André Lalande.1926.Vocabulaire Téchnique et critique de la philosophie.PUF.15emeéd.1985.(Axiologie)
[14] -Philosophie et spiritualité, 2005, Serge Carfantan
[15] - المصطفى صويلح.مجالات التربية على حقوق الإنسان.  مجلة عالم التربية،ع:15 (التربية على المواطنة وحقوق الإنسان). ص:36
[16] - المهدي المنحرة وآخرون.من المهد إلى اللحد(التعلم وتحديات المستقبل)مطبعة النجاح الجديدة.البيضاء.ط3. 2003.ص:97
يتكلم المنجرة وآخرون عن التعلم المجدد في مقابل التعليم للصيانة، الذي"يتجاهل القيم التي لا تكون جزءا لا يتجزأ من البنية الاجتماعية والسياسية المطلوب صيانتها" (ص97) في سياق يرى أن" كل تعلم وسائله اللغة والأدوات والقيم والعلاقات الإنسانية والتصورات"(ص92).
[17] -Philosophie et spiritualité, 2005, Serge Carfantan
[18] - مصطفى محسن، المعرفة والمؤسسة، ص:25
[19] - مصطفى محسن، في المسألة التربوية، ص:161.
[20] - Koichiro Matssure, Directeur général de l'Unesco: Ou vont les valeurs: http://www.lalibre.be
[21] - مصطفى محسن، إشكالية التربية على المواطنة وحقوق الإنسان بين الفضاء المؤسسي والمحيط الاجتماعي. مجلة عالم التربية ع.15.ص250.
[22] - نفسه، ص:252.
[23]- التعلم بحسب فرويد هو استثمار الرغبة في موضوع المعرفة:Michel Develay, 1996.Donner du sens à l’école.
[24] -(حيث المطلوب الكفاءة والخبرة والمردودية والجودة، بينما لا تزال أغلب برامج التكوين ولا سيما في المدرسة العمومية، تشتغل بعقلية رهان مغربة الأطر أكثر مما تشتغل بحسب رهان التنمية الاجتماعية الاقتصادية، كما لا يتلاءم لا مع البعد الجغرافي للوطن الذي فرض أو فرض عليه اختيار اقتصادي هو الفلاحة ولا مع الإمكانيات السياحية...)
[25] -(المواطنة وحقوق الإنسان، إذ كيف يمكن أن تكون هناك مواطنة من الاقتناع بضمان المستقبل لكل مواطن، وكيف سيكون هناك حقوق إنسان في مجتمع معدل نسبة الأمية الألفبائية فيه يكاد يتجاوز النصف؟ كيف سيكون هناك حقوق إنسان مادام كثير من  البرامج والنصوص  مضاد لقيمها،منها ما يكرس الإقصاء ومنها ما يشرعن العنف المعنوي والمادي، ومنها ما يناقض قيم الحوار والتواصل السليم والتسامح، ناهيك عن انعدام مواد تثمن قيم المواطنة والتضامن والاحترام(والحياء)، كيف سيكون هناك حقوق ما دام هناك عقوق لهذه الحقوق في الواقع(البيت، المدرسة،الشارع، الإدارة))
[26]  - مصطفى محسن. التربية على المواطنة.. م،م.س.:ص:253.
[27] -دفاتر سياسية.ع:65. 8/9. 2004. تقرير الجامعة الصيفية لمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية.الدورة الأولى. بعنوان" إشكالية التنمية الاجتماعية في المغرب، نحو مقاربات جديدة".
[28] - مصطفى محسن، إشكالية التربية على المواطنة.م.مذكور.ص:253
[29] - نفسه:ص:253
[30] - قولة لـ.هـ.ج.ولز. انطر المنجرة وآخرون. م.م.س.ص27
[31] - انظر في شأن علاقة المدرسة بالمعنى الكتاب الدقيق لمحمد بوبكري. المدرسة وإشكالية المعنى.السلسلة البيداغوجية(6).دار الثقافة.ط1.  1998
[32] - حتى هذا المطمح لا يزال بعيد المنال فقد صرح الوزير الأول السيد إدريس جطو أمام مجلس النواب يوم 25 ماي 2005" أن المؤشرات الاجتماعية والبشرية للمغرب لا زالت بالفعل لم ترق إلى المستوى المطلوب نتيجة للتراكمات الماضية. وخص في هذا السياق بالذكر نسبة الأمية التي تناهز40 في المائة ونسبة وفيات الأطفال عند الولادة التي تصل إلى 40 في الألف، وعدد الأطفال الموجودين خارج المنظومة التعليمية الذي يقدر بمليوني طفل"