الأحد، 13 مارس 2016

إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري



اعتمد ونشر علي الملأ بموجب قرار الجمعية العامة
للأمم المتحدة 47/133 المؤرخ في 18 كانون الأول/ديسمبر 1992
إن الجمعية العامة،
إذ تضع في اعتبارها أن الاعتراف لجميع أفراد الأسرة البشرية بكرامتهم الأصلية وبحقوقهم المتساوية وغير القابلة للتصرف هو، بموجب المبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة وسائر الصكوك الدولية، أساس الحرية والعدالة والسلم في العالم،
إذ تضع في اعتبارها أيضا أن من واجب الدول، بموجب الميثاق، ولا سيما المادة 55 منه، تعزيز الاحترام العالمي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية والتقيد بها،
وإذ يساورها بالغ القلق لما يجري في بلدان عديدة وعلي نحو مستمر في كثير من الأحيان، من حالات اختفاء قسري، يأخذ صورة القبض علي الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغما عنهم أو حرمانهم من حريتهم علي أي نحو آخر، علي أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو علي أيدي مجموعات منظمة أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون،
وإذ تري أن الاختفاء القسري يقوض أعمق القيم رسوخا في أي مجتمع ملتزم باحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأن ممارسة هذه الأفعال علي نحو منتظم يعتبر بمثابة جريمة ضد الإنسانية،
وإذ تذكر بقرارها 33/173 المؤرخ 20 كانون الأول/ديسمبر 1978، الذي أعربت فيه عن قلقها بشأن التقارير الواردة من أنحاء مختلفة من العالم والمتعلقة بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعى، وعن قلقها كذلك إزاء الكرب والأسى اللذين تسببهما هذه الإختفاءات، وطالبت الحكومات بأن تعتبر القوات المكلفة بإنفاذ القانون وحفظ الأمن مسؤولة قانونا عن التجاوزات التي قد تؤدي إلي حالات اختفاء قسري أو غير طوعي،
إذ تذكر أيضا بالحماية التي تمنحها لضحايا المنازعات المسلحة اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 آب/أغسطس 1949 وبروتوكولاها الإضافيان لعام 1977،
وإذ تضع في اعتبارها علي وجه الخصوص المواد ذات الصلة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تحمي حق الشخص في الحياة وحقه في الحرية والأمن وحقه في عدم التعرض للتعذيب وحقه في الاعتراف بشخصيته القانونية،
وإذ تضع في اعتبارها أيضا اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية، التي تنص علي أنه يجب علي الدول الأطراف أن تتخذ تدابير فعالة لمنع أعمال التعذيب والمعاقبة عليها،
وإذ تضع في اعتبارها مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين، والمبادئ الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين وإعلان مبادئ العدل الأساسية المتعلقة بضحايا الإجرام والتعسف في استعمال السلطة، والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء،
وإذ تؤكد أن من الضروري، بغية منع حالات الاختفاء القسري، ضمان التقيد الصارم بمجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، الواردة في مرفق قرارها 43/173 المؤرخ في 9 كانون الأول/ديسمبر 1988، وبالمبادئ المتعلقة بالمنع والتقصي الفعالين لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام بإجراءات موجزة، الواردة في مرفق قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي 1989/65 المؤرخ في 24 آيار/مايو 1989، التي أيدتها الجمعية العامة في قرارها 44/162 المؤرخ في 15 كانون الأول/ديسمبر 1989.
وإذ تضع في اعتبارها أنه، وإن كانت الأعمال التي تشمل الاختفاء القسري تشكل انتهاكا للمحظورات الواردة في الصكوك الدولية آنفة الذكر، فإن من المهم مع ذلك وضع صك يجعل من جميع حالات الاختفاء القسري جريمة جسيمة جدا ويحدد القواعد الرامية للمعاقبة عليها ومنع ارتكابها،
تصدر هذا الإعلان بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، بوصفه مجموعة من المبادئ الواجبة التطبيق علي جميع الدول، وتحث علي بذل كل الجهود حتى تعم معرفة الإعلان ويعم احترامه.
المادة 1
1. يعتبر كل عمل من أعمال الاختفاء القسري جريمة ضد الكرامة الإنسانية ويدان بوصفه إنكارا لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة وانتهاكا خطيرا وصارخا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأعادت تأكيدها وطورتها الصكوك الدولية الصادرة في هذا الشأن.
2. إن عمل الاختفاء القسري يحرم الشخص الذي يتعرض له، من حماية القانون، وينزل به وبأسرته عذابا شديدا. وهو ينتهك قواعد القانون الدولي التي تكفل، ضمن جملة أمور، حق الشخص في الاعتراف به كشخص في نظر القانون، وحقه في الحرية والأمن، وحقه في عدم التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. كما ينتهك الحق في الحياة أو يشكل تهديدا خطيرا له.
المادة 2
1. لا يجوز لأي دولة أن تمارس أعمال الاختفاء القسري أو أن تسمح بها أو تتغاضى عنها.
2. تعمل الدول علي المستوي الوطني والإقليمي، وبالتعاون مع الأمم المتحدة في سبيل الإسهام بجميع الوسائل في منع واستئصال ظاهرة الاختفاء القسري.
المادة 3
علي كل دولة أن تتخذ التدابير التشريعية والإدارية والقضائية وغيرها من التدابير الفعالة لمنع وإنهاء أعمال الاختفاء القسري في أي إقليم خاضع لولايتها.
المادة 4
1. يعتبر كل عمل من أعمال الاختفاء القسري جريمة يعاقب عليها بالعقوبات المناسبة التي تراعي فيها شدة جسامتها في نظر القانون الجنائي.
2. يجوز للتشريعات الوطنية أن تتضمن النص علي ظروف مخففة بالنسبة للشخص الذي يقوم، بعد اشتراكه في أعمال الاختفاء القسري، بتسهيل ظهور الضحية علي قيد الحياة، أو بالإدلاء طوعا بمعلومات تسمح بإلقاء الأضواء علي حالات اختفاء قسري.
المادة 5
بالإضافة إلي العقوبات الجنائية الواجبة التطبيق، يجب أن تترتب علي أعمال الاختفاء القسري المسؤولية المدنية لمرتكبيها والمسؤولية المدنية للدولة أو لسلطاتها التي نظمت عمليات الاختفاء المذكورة أو وافقت عليها أو تغاضت عنها، وذلك مع عدم الإخلال بالمسؤولية الدولية للدولة المعنية وفقا لمبادئ القانون الدولي.
المادة 6
1. لا يجوز التذرع بأي أمر أو تعليمات صادرة عن أي سلطة عامة، مدنية كانت أو عسكرية أو غيرها، لتبرير عمل من أعمال الاختفاء القسري. ويكون من حق كل شخص يتلقى مثل هذه الأوامر أو تلك التعليمات ومن واجبه عدم إطاعتها.
2. علي كل دولة أن تحظر إصدار أوامر أو تعليمات توجه إلي ارتكاب أي عمل يسبب الاختفاء القسري أو تأذن به أو تشجع عليه.
3. يجب التركيز علي الأحكام الواردة في الفقرتين 1 و 2 من هذه المادة في تدريب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين.
المادة 7
لا يجوز اتخاذ أي ظروف مهما كانت، سواء تعلق الأمر بالتهديد باندلاع حرب أو قيام حالة حرب أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو أي حالة استثنائية أخري، ذريعة لتبرير أعمال الاختفاء القسري.
المادة 8
1. لا يجوز لأي دولة أن تطرد أو تعيد ( refouler) أو تسلم أي شخص إلي أي دولة أخري إذا قامت أسباب جدية تدعو إلي الاعتقاد بأنه سيتعرض عندئذ لخطر الاختفاء القسري.
2. تقوم السلطات المختصة، للتحقق من وجود مثل هذه الأسباب، بمراعاة جميع الاعتبارات ذات الصلة، بما في ذلك القيام، عند الاقتضاء، بمراعاة حدوث حالات ثابتة من الانتهاك المنتظم لحقوق الإنسان علي نحو خطير أو صارخ أو جماعي في الدولة المعنية.
المادة 9
1. يعتبر الحق في الانتصاف القضائي السريع والفعال، بوصفه وسيلة لتحديد مكان وجود الأشخاص المحرومين من حريتهم أو للوقوف علي حالتهم الصحية و/أو تحديد السلطة التي أصدرت الأمر بحرمانهم من الحرية أو نفذته، ضروريا لمنع وقوع حالات الاختفاء القسري في جميع الظروف بما فيها الظروف المذكورة في المادة 7 أعلاه.
2. يكون للسلطات الوطنية المختصة، لدي مباشرة هذه الإجراءات، حق دخول جميع الأماكن التي يحتجز فيها الأشخاص المحرومون من حريتهم وكل جزء من أجزائها، فضلا عن أي مكان يكون ثمة ما يدعو إلي الاعتقاد باحتمال العثور علي هؤلاء الأشخاص فيه.
3. يكون كذلك لأي سلطة مختصة أخري مرخص لها بذلك بموجب تشريع الدولة المعنية أو أي صك قانوني دولي تكون الدولة طرفا فيه، حق دخول مثل هذه الأماكن.
المادة 10
1. يجب أن يكون كل شخص محروم من حريته موجودا في مكان احتجاز معترف به رسميا، وأن يمثل وفقا للقانون الوطني، أمام سلطة قضائية بعد احتجازه دون تأخير.
2. توضع فورا معلومات دقيقة عن احتجاز الأشخاص ومكان أو أمكنة احتجازهم، بما في ذلك حركة نقلهم من مكان إلي آخر، في متناول أفراد أسرهم أو محاميهم أو أي شخص آخر له مصلحة مشروعة في الإحاطة بهذه المعلومات، ما لم يعرب الأشخاص المحتجزون عن رغبة مخالفة لذلك.
3. يجب الاحتفاظ بسجل رسمي يجري تحديثه باستمرار بأسماء جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم في كل مكان من أمكنة الاحتجاز. وإضافة إلي ذلك، يجب علي كل دولة أن تتخذ الخطوات اللازمة لإنشاء سجلات مركزية مماثلة. وتوضع المعلومات الواردة في هذه السجلات في متناول الأشخاص المذكورين في الفقرة السابقة وفي متناول أي سلطة قضائية أو أي سلطة أخري وطنية مختصة ومستقلة، وأي سلطة مختصة، مرخص لها بذلك بموجب التشريع الوطني أو أي صك قانوني دولي تكون الدولة المعنية طرفا فيه، تسعي إلي تقصي مكان وجود أحد الأشخاص المحتجزين.
المادة 11
يجب أن يتم الإفراج عن أي شخص من الأشخاص المحرومين من حريتهم علي نحو يتيح التحقق بصورة موثوق بها من أنه أفرج عنه فعلا، وأنه، علاوة علي ذلك، أفرج عنه في ظل أوضاع تكفل احترام سلامته البدنية وقدرته علي ممارسة حقوقه ممارسة كاملة.
المادة 12
1. تضع كل دولة في إطار قانونها الوطني، قواعد تحدد الموظفين المرخص لهم بإصدار أوامر الحرمان من الحرية، والظروف التي يجوز في ظلها إصدار مثل هذه الأوامر، والجزاءات التي يتعرض لها الموظفون الذين يرفضون دون مسوغ قانوني تقديم المعلومات عن حرمان شخص ما من حريته.
2. كما تكفل كل دولة ممارسة رقابة صارمة، بما في ذلك تحديد التسلسل الواضح لمراقبة من يزاولون المسؤوليات، علي جميع الموظفين المكلفين بالقيام بعمليات القبض علي الأشخاص واعتقالهم واحتجازهم ووضعهم في الحجز ونقلهم وحبسهم، كما تكفل ممارسة تلك الرقابة علي غيرهم من الموظفين الذين يخولهم القانون استعمال القوة والأسلحة النارية.
المادة 13
1. علي كل دولة أن تكفل لكل من لدية علم أو مصلحة مشروعة ويدعي تعرض أي شخص لاختفاء قسري، الحق في أن يبلغ الوقائع إلي سلطة مختصة ومستقلة في إطار الدولة التي تقوم بإجراء تحقيق سريع وكامل ونزيه في شكواه، ومتي قامت أسباب معقولة للاعتقاد بأن اختفاء قسريا قد ارتكب، فعلي الدولة أن تبادر دون إبطاء إلي إحالة الأمر إلي تلك السلطة لإجراء هذا التحقيق، وإن لم تقدم شكوى رسمية. ولا يجوز اتخاذ أي تدابير لاختصار ذلك التحقيق أو عرقلته.
2. علي كل دولة أن تكفل للسلطة المختصة الصلاحيات والموارد اللازمة لإجراء التحقيق بفعالية، بما في ذلك صلاحيات إجبار الشهود علي الحضور وتقديم المستندات ذات الصلة، والانتقال علي الفور لمعاينة المواقع.
3. تتخذ الإجراءات التي تكفل لجميع المشاركين في التحقيق، بمن فيهم الشاكي والمحامي والشهود والذين يقومون بالتحقيق، الحماية من سوء المعاملة أو التهديد أو الانتقام.
4. يسمح لجميع الأشخاص المعنيين بناء علي طلبهم، بالإطلاع علي نتائج التحقيق، ما لم يكن في ذلك إضرار بسير التحقيق الجاري.
5. توضع أحكام خاصة لضمان المعاقبة بالعقوبات المناسبة علي أي معاملة سيئة أو تهديد أو عمل انتقامي أو أي شكل من أشكال التدخل، تقع لدي تقديم الشكوى أو أثناء إجراء التحقيق.
6. يجب أن يكون من الممكن دائما إجراء التحقيق، وفقا للطرق المذكورة أعلاه، ما دام مصير ضحية الاختفاء القسري لم يتضح بعد.
المادة 14
يجب إحالة جميع المتهمين بارتكاب عمل من أعمال الاختفاء القسري في دولة ما، إلي السلطات المدنية المختصة في تلك الدولة لإقامة الدعوى والحكم عليهم، إذا كانت النتائج التي أسفر عنها التحقيق الرسمي تبرر ذلك، ما لم يكونوا قد سلموا إلي دولة أخري ترغب في ممارسة ولايتها طبقا للاتفاقات الدولية المعمول بها في هذا المجال. وعلي جميع الدول اتخاذ التدابير القانونية المناسبة لكفالة محاكمة أي شخص خاضع لسلطتها، متهم بارتكاب عمل من أعمال الاختفاء القسري يتضح أنه خاضع لولايتها أو سلطتها.
المادة 15
يجب علي السلطات المختصة في الدولة، أن تراعي عند اتخاذها قرار منح اللجوء لشخص ما أو رفضه، مسألة وجود أسباب تدعو إلي الاعتقاد بأن الشخص قد شارك في الأعمال الشديدة الخطورة المشار إليها في الفقرة 1 من المادة 4 أعلاه، أيا كانت الدوافع علي ذلك.
المادة 16
1. يجري إيقاف الأشخاص المدعي بارتكابهم أيا من الأعمال المشار إليها في الفقرة 1 من المادة 4 أعلاه، عن أداء أي واجبات رسمية أثناء التحقيق المشار إليه في المادة 13 أعلاه.
2. ولا يجوز محاكمتهم إلا بواسطة السلطات القضائية العادية المختصة في كل بلد دون أي قضاء خاص آخر، ولا سيما القضاء العسكري.
3. ولا يجوز السماح بأي امتيازات أو حصانات أو إعفاءات خاصة في مثل هذه المحاكمات، وذلك مع عدم الإخلال بالأحكام المنصوص عليها في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.
4. تضمن للأشخاص المدعي ارتكابهم هذه الأعمال معاملة عادلة بمقتضى الأحكام ذات الصلة، المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي أي صك دولي آخر معمول به في هذا المجال، وذلك في جميع مراحل التحقيق وإقامة الدعوى وإصدار الحكم.
المادة 17
1. يعتبر كل عمل من أعمال الاختفاء القسري جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم علي مصير ضحية الاختفاء ومكان إخفائه، وما دامت هذه الوقائع قد ظلت بغير توضيح.
2. إذا أوقف العمل بسبل التظلم المنصوص عليها في المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يوقف سريان أحكام التقادم المتصلة بأعمال الاختفاء القسري إلي حين إعادة العمل لتلك السبل.
3. إذا كان ثمة محل للتقادم، فيجب أن يكون التقادم المتعلق بأعمال الاختفاء القسري طويل الأجل بما يتناسب مع شدة جسامة الجريمة.
المادة 18
1. لا يستفيد الأشخاص الذين ارتكبوا أو أدعي أنهم ارتكبوا الجرائم المشار إليها في الفقرة 1 من المادة 4 أعلاه، من أي قانون عفو خاص أو أي إجراء مماثل آخر قد يترتب عليه إعفاء هؤلاء الأشخاص من أي محاكمة أو عقوبة جنائية.
2. يجب أن يؤخذ في الاعتبار، عند ممارسة حق العفو، شدة جسامة أعمال الاختفاء القسري المرتكبة.
المادة 19
يجب تعويض الأشخاص الذين وقعوا ضحية اختفاء قسري، وأسرهم، ويكون لهم الحق في الحصول علي التعويض المناسب، بما في ذلك الوسائل الكفيلة بإعادة تأهيلهم علي أكمل وجه ممكن. وفي حالة وفاة شخص نتيجة لاختفاء قسري، يحق لأسرته الحصول علي التعويض أيضا.
المادة 20
1. علي الدول أن تمنع وتحظر اختطاف أبناء الآباء الذين يتعرضون للاختفاء القسري أو الأطفال الذين يولدون أثناء تعرض أمهاتهم للاختفاء القسري، وعليها أن تكرس جهودها للبحث عن هؤلاء الأطفال وتحديد هويتهم، وإعادتهم إلي أسرهم الأصلية.
2. بالنظر إلي الحاجة إلي الحفاظ علي المصلحة العليا للأطفال المذكورين في الفقرة السابقة، يجب أن تتاح الفرصة، في الدول التي تعترف بنظام التبني، لاستعراض مسألة تبني هؤلاء الأطفال والقيام، بصورة خاصة، بإلغاء أي حالة تبن ناشئة في الأساس عن عمل اختفاء قسري. بيد أنه ينبغي الإبقاء علي هذا التبني إذا أبدي أهل الطفل الأقربون موافقتهم عليه عند بحث المسألة.
3. يعتبر اختطاف أبناء الآباء الذين تعرضوا للاختفاء القسري أو الأطفال المولودين أثناء تعرض أمهاتهم للاختفاء القسري، كما يعتبر تزوير أو إخفاء وثائق تثبت هويتهم الحقيقية، جريمة شديدة الجسامة، يجب معاقبتها علي هذا الأساس.
4. علي الدول أن تبرم، عند الاقتضاء، اتفاقات ثنائية أو متعددة الأطراف تحقيقا لهذه الأغراض.
المادة 21
ليس في أحكام هذا الإعلان ما يشكل إخلالا بالأحكام المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو في أي صك دولي آخر، ولا يجوز تفسيرها بأنها تقيد أو تنتقص من أي حكم من تلك الأحكام.
_______________________

إعلان الحق في التنمية



اعتمد ونشر علي الملأ بموجب قرار الجمعية العامة
للأمم المتحدة 41/128 المؤرخ في 4 كانون الأول/ديسمبر 1986
إن الجمعية العامة،
إذ تضع في اعتبارها مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة المتصلة بتحقيق التعاون الدولي في حل المشاكل الدولية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني وفى تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين،
وإذ تسلم بأن التنمية عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة، في التنمية وفى التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها،
وإذ ترى أنه يحق لكل فرد، بمقتضى أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أن يتمتع بنظام اجتماعي ودولي يمكن فيه إعمال الحقوق والحريات المبينة في هذا الإعلان إعمالا تاما،
وإذ تشير إلى أحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية،
وإذ تشير كذلك إلى ما يتصل بذلك من الاتفاقات والاتفاقيات والقرارات والتوصيات والصكوك الأخرى الصادرة عن الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة فيما يتعلق بالتنمية المتكاملة للإنسان وتقدم وتنمية جميع الشعوب اقتصاديا واجتماعيا، بما في ذلك الصكوك المتعلقة بإنهاء الاستعمار، ومنع التمييز، واحترام ومراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وحفظ السلم والأمن الدوليين، وزيادة تعزيز العلاقات الودية والتعاون فيما بين الدول وفقا للميثاق،
وإذ تشير إلى حق الشعوب في تقرير المصير الذي بموجبه يكون لها الحق في تقرير وضعها السياسي بحرية وفى السعي إلى تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحرية،
وإذ تشير أيضا إلى حق الشعوب في ممارسة السيادة التامة والكاملة على جميع ثرواتها ومواردها الطبيعية مع مراعاة الأحكام ذات الصلة من العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان،
وإذ تضع في اعتبارها الالتزام الواقع على الدول بموجب الميثاق بتعزيز الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز من أي نوع كالتمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره من الآراء أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الملكية أو المولد أو غير ذلك من الأوضاع،
وإذ ترى أن القضاء على الانتهاكات الواسعة النطاق والصارخة لحقوق الإنسان الخاصة بالشعوب والأفراد المتأثرين بحالات مثل الحالات الناشئة عن الاستعمار، والاستعمار الجديد، والفصل العنصري وجميع أشكال العنصرية والتمييز العنصري والسيطرة والاحتلال الأجنبيين، والعدوان والتهديدات الموجهة ضد السيادة الوطنية والوحدة الوطنية والسلامة الإقليمية، والتهديدات بالحرب، من شأنه أن يسهم في إيجاد ظروف مواتية لتنمية جزء كبير من الإنسانية،
وإذ يساورها القلق إزاء وجود عقبات خطيرة في طريق تنمية البشر والشعوب وتحقيق ذواتهم تحقيقا تاما، نشأت، في جملة أمور، عن إنكار الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإذ ترى أن جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية متلاحمة ومترابطة وأن تعزيز التنمية يقتضي إيلاء الاهتمام على قدم المساواة لإعمال وتعزيز وحماية الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنظر فيها بصورة عاجلة وأنه لا يمكن، وفقا لذلك، أن يبرر تعزيز بعض حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها والتمتع بها إنكار غيرها من حقوق الإنسان والحريات الأساسية،
وإذ ترى أن السلم والأمن الدوليين يشكلان عنصرين أساسيين لإعمال الحق في التنمية،
وإذ تؤكد من جديد وجود علاقة وثيقة بين نزع السلاح والتنمية، وأن التقدم في ميدان نزع السلاح سيعزز كثيرا التقدم في ميدان التنمية، وأن الموارد المفرج عنها من خلال تدابير نزع السلاح ينبغي تكريسها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لجميع الشعوب ولرفاهيتها ولا سيما شعوب البلدان النامية،
وإذ تسلم بأن الإنسان هو الموضع الرئيسي لعملية التنمية ولذلك فانه ينبغي لسياسة التنمية أن تجعل الإنسان المشارك الرئيسي في التنمية والمستفيد الرئيسي منها،
وإذ تسلم بأن إيجاد الظروف المواتية لتنمية الشعوب والأفراد هو المسئولية الأولى لدولهم،
وإذ تدرك أن الجهود المبذولة على الصعيد الدولي لتعزيز وحماية حقوق الإنسان ينبغي أن تكون مصحوبة بجهود ترمى إلى إقامة نظام اقتصادي دولي جديد،
وإذ تؤكد أن الحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف، وأن تكافؤ الفرص في التنمية حق للأمم وللأفراد الذين يكونون الأمم، على السواء.
تصدر إعلان الحق في التنمية، الوارد فيما يلي:
المادة 1
1. الحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف وبموجبه يحق لكل إنسان ولجميع الشعوب المشاركة والإسهام في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية والتمتع بهذه التنمية التي يمكن فيها إعمال جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية إعمالا تاما.
2. ينطوي حق الإنسان في التنمية أيضا على الإعمال التام لحق الشعوب في تقرير المصير، الذي يشمل، مع مراعاة الأحكام ذات الصلة من العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان، ممارسة حقها، غير القابل للتصرف، في ممارسة السيادة التامة على جميع ثرواتها ومواردها الطبيعية.
المادة 2
1. الإنسان هو الموضوع الرئيسي للتنمية وينبغي أن يكون المشارك النشط في الحق في التنمية والمستفيد منه.
2. يتحمل جميع البشر مسؤولية عن التنمية، فرديا وجماعيا، آخذين في الاعتبار ضرورة الاحترام التام لحقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بهم، فضلا عن واجباتهم تجاه المجتمع الذي يمكنه وحده أن يكفل تحقيق الإنسان لذاته بحرية وبصورة تامة، ولذلك ينبغي لهم تعزيز وحماية نظام سياسي واجتماعي واقتصادي مناسب للتنمية.
3. من حق الدول ومن واجبها وضع سياسات إنمائية وطنية ملائمة تهدف إلى التحسين المستمر لرفاهية جميع السكان وجميع الأفراد على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة، في التنمية وفى التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها.
المادة 3
1. تتحمل الدولة المسؤولية الرئيسية عن تهيئة الأوضاع الوطنية والدولية المواتية لإعمال الحق في التنمية.
2. يقتضي إعمال الحق في التنمية الاحترام التام لمبادئ القانون الدولي المتصلة بالعلاقات الودية والتعاون فيما بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة.
3. من واجب الدول أن تتعاون بعضها مع بعض في تأمين التنمية وإزالة العقبات التي تعترض التنمية. وينبغي للدول أن تستوفى حقوقها وتؤدى واجباتها على نحو يعزز عملية إقامة نظام اقتصادي دولى جديد على أساس المساواة في السيادة والترابط والمنفعة المتبادلة والتعاون فيما بين جميع الدول، ويشجع كذلك مراعاة حقوق الإنسان وإعمالها.
المادة 4
1. من واجب الدول أن تتخذ خطوات، فرديا وجماعيا، لوضع سياسات إنمائية دولية ملائمة بغية تيسير إعمال الحق في التنمية إعمالا تاما.
2. من المطلوب القيام بعمل مستمر لتعزيز تنمية البلدان النامية على نحو أسرع. والتعاون الدولي الفعال، كتكملة لجهود البلدان النامية أساسي لتزويد هذه البلدان بالوسائل والتسهيلات الملائمة لتشجيع تنميتها الشاملة.
المادة 5
تتخذ الدول خطوات حازمة للقضاء على الانتهاكات الواسعة النطاق والصارخة لحقوق الإنسان الخاصة بالشعوب والأفراد المتأثرين بحالات مثل الحالات الناشئة عن الفصل العنصري، وجميع أشكال العنصرية والتمييز العنصري، والاستعمار، والسيطرة والاحتلال الأجنبيين، والعدوان والتدخل الأجنبي، والتهديدات الأجنبية ضد السيادة الوطنية والوحدة الوطنية والسلامة الاقليمية، والتهديدات بالحرب، ورفض الاعتراف بالحق الأساسي للشعوب في تقرير المصير.
المادة 6
1. ينبغي لجميع الدول أن تتعاون بغية تعزيز وتشجيع وتدعيم الاحترام والمراعاة العالميين لجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون أي تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.
2. جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية متلاحمة ومترابطة، وينبغي إيلاء الاهتمام علي قدر المساواة لإعمال وتعزيز وحماية الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والنظر فيها بصورة عاجلة.
3. ينبغي للدول أن تتخذ خطوات لإزالة العقبات التي تعترض سبيل التنمية والناشئة عن عدم مراعاة الحقوق المدنية والسياسية، فضلا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
المادة 7
ينبغي لجميع الدول أن تشجع إقامة وصيانة وتعزيز السلم والأمن الدوليين، وتحقيقا لهذه الغاية ينبغي لها أن تبذل كل ما في وسعها من أجل تحقيق نزع السلاح العام الكامل في ظل رقابة دولية فعالة، وكذلك من أجل استخدام الموارد المفرج عنها نتيجة لتدابير نزع السلاح الفعالة لأغراض التنمية الشاملة، ولا سيما تنمية البلدان النامية.
المادة 8
1. ينبغي للدول أن تتخذ، على الصعيد الوطني، جميع التدابير اللازمة لإعمال الحق في التنمية ويجب أن تضمن، في جملة أمور، تكافؤ الفرص للجميع في إمكانية وصولهم إلى الموارد الأساسية والتعليم والخدمات الصحية والغذاء والإسكان والعمل والتوزيع العادل للدخل. وينبغي اتخاذ تدابير فعالة لضمان قيام المرأة بدور نشط في عملية التنمية. وينبغي إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية مناسبة بقصد استئصال كل المظالم الاجتماعية.
2. ينبغي للدول أن تشجع المشاركة الشعبية في جميع المجالات بوصفها عاملا هاما في التنمية وفى الإعمال التام لجميع حقوق الإنسان.
المادة 9
1. جميع جوانب الحق في التنمية، المبينة في هذا الإعلان، متلاحمة ومترابطة وينبغي النظر إلى كل واحد منها في إطار الجميع.
2. ليس في هذا الإعلان ما يفسر على أنه يتعارض مع مقاصد ومبادئ الأمم المتحدة أو على أنه يعني أن لأي دولة أو مجموعة أو فرد حقا في مزاولة أي نشاط أو في أداء أي عمل يستهدف انتهاك الحقوق المبينة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفى العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان.
المادة 10
ينبغي اتخاذ خطوات لضمان ممارسة الحق في التنمية ممارسة كاملة وتعزيزه التدريجي، بما في ذلك صياغة واعتماد وتنفيذ تدابير على صعيد السياسات وتدابير تشريعية وتدابير أخرى على الصعيدين الوطني والدولي.
_______________________

السبت، 12 مارس 2016

التربية الجديدة، مغامرة تستحق أن نعيشها مرة أخرى : فيليب ميريو- ت. محمد أبرقي

عن أنفاس نت


 لم تفِ البيداغوجيات البديلة دائما بوعودها،غير أنه  بتأكيدها على دور التحفيز واللذة في فعل التعلم،قد أثارت،واستبقت عددا مهما من الأبحاث الحالية.                              
     وعلى الرغم من أننا نستطيع تمييز البدايات الأولى لحركة التربية الجديدة منذ القرن الثامن عشر، فإنها لم تتهيكل سوى مع المراحل المبكرة في القرن العشرين .
إننا نرى فعلا في سنوات التسعينات، تطورا لمبادرات بيداغوجية أصيلة على هوامش الأنظمة التربوية،والتي انتظمت حول بعض المبادئ الأساس: “يتعلم الطفل بالممارسة” ، “ينبغي تعبئة التلاميذ حول مشاريع حقيقية تماثل ما هو موجود في الحياة” ،”تُكتسب المعارف بطريقة طبيعية-عفوية وليس عبر سلطة البرامج”،” ينبغي للقواعد والمادة نفسها أن تنبع من الجمعي ذاته بهدف تكوين مواطنين حقيقيين” ...إلخ.هكذا تكون نوع من المذاهب ، وترسخت خلال مؤتمرCalais   سنة 1921 ، مع الإعلان الرسمي عن العصبة الدولية للتربية الجديدة . 
برزت التربية الجديدة- داخل قارة أوربا التي أنهكتها الحرب العالمية الاولى، وصارت تطمح إلى بناء مجتمع الأخوة- كترياق ضد كل أشكال “الترويض” المنتجِة للعدوانية والعنف،وازداد الاتفاق حول التربية الجديدة قصد انتقاد “البيداغوجيات التقليدية”،ورغم ذلك فإن تلك التربية الجديدة بعيدة عن أن تكون منسجمة:
بالنسبة لألكسندر نيلAlexander Neil ،مؤسس Summerhill* ،وكذا ماري مونتيسوريM.Montessori التي وضعت التربية الدينية في مقدمة انشغالاتها،فإن احترام الطفل لا يغطي بالنسبة لهما نفس الشيء ! بالنظر عن قرب إلى الموضوعات الكبرى للتربية الجديدة، نكتشف بسرعة أن الشعارات الأكثر توافقا حولها،لا تفضي إلى نفس المشاريع،ولا إلى ذات الممارسات التطبيقية، وهكذا يظل مفهوم المدرسة النشيطة، رغم وضعه في المقدمة، جد غامض وملتبس ، إذ يرى فيه البعض طريقة للتمركز حول العمليات الفكرية للتلاميذ، والتي اشتغل عليها بياجيPiaget بهدف دمقرطة الولوج إلى المعرفة، بينما نجد آخرين مثل فرينيC.Freinet يجعلون منها وسيلة لإرساء مدرسة الشعب المتساوية والمتعاونة، في حين أن غيرهم أمثال فرييرA.Ferrière يثمنون ويشجعون الأنشطة الجماعية للأطفال بهدف تعزيز المنافسة البينفردية ، والانبثاق السريع للقادة المستقبليين.
بين مبدأِ الحرية، ومبدأِ القابلية للتربية
إذا ما اتفقنا بشكل إرادي حول ضروة بناء مدرسة مطابقة للقياس حسب تعبيرE.Claparide فإن عنصر التفريد/الفردانية ليس له نفس المعنى، إذ أنه بالنسبة للذين يريدون من جهة التقيد والتوقف عند القدرات الفطرية للأطفال فإنهم يتخلون عنها عند مناداتهم بالتوجيه القبلي ،أما بالنسبة لمن لا يأخذون بعين الاعتبار المعطى le donné الفطري سوى باعتقاد جازم ،فيرون بأنه من الممكن دوما تجاوزه .
يبدو، في الإجمال، جيدا أن التربية الجديدة وضعت ومنحت القيمة للأفاهيم-النشاط،التحفيز،المشروع،احترام الطفل،التعاون،التكوين على الحرية- دون إرساء المفاهيم، فكل تلك الأفاهيم تؤدي، فعلا، إلى رؤى مختلفة حول التربية والمجتمع، بعضها يحمل آثار الطبيعيين الإحيائيين، والأخرى منها تحمل آثار إرادوية  تقنوية، وبعضها يتمركز حول تصور خاص للنمو،أكثر ″جُوانية)″يجب أن يتفتح الطفل بفضل وسط/ محيط يرعاه( وأخرى تتمسك بتصور يعلي من شأن ما هو خارجي حول نمو الطفل)والذي يجب تنظيمه وتيسيره بأدوات مناسبة( .
يمكننا وضع ذلك التناقض لإبراز ما يبرر عجز مردودية التربية الجديدة، ويهدم مصداقيتها، غير أنه يمكننا أيضا –مثل ما أقوم به شخصيا-اعتبار التربية الجديدة دالة عن التوتر المؤسس للمؤسسة التربوية ، والناجم عن مبدإ الحرية “لا أحد يتعلم وينمو مكان أي كان”، ومبدإ القابلية للتربية “من الواجب علينا القيام بكل شيء كي يتمكن كل طفل من التعلم والنمو” .
القيام بكل شيء دون فعل أي شيء !
يدعونا رواد التربية الجديدة، فيما قد يبدو لنا اليوم مجرد عدم اتفاق عائلي،إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار بتعقد المؤسسة البيداغوجية . ففي النهاية الطريق الوحيدة الممكنة هي القيام بكل شيء دون فعل أي شيء كما كان يقول J.J.Rousseau في كتابه Emile  ،أي وضع،وتفعيل كل ما هو ممكن حتى تتعلم الذات وتنمو من تلقاء نفسها،وابتكار،دون توقف،مؤسسات،وأوساط تربوية،ووضعيات تعلم،ووسائط ثقافية ،تسمح للتلاميذ بالتربية،والانخراط،هم أنفسهم،في مغامرة المعرفة،واكتشاف لذة التعلم،ومتعة الفهم بشكل جماعي مشترك .
هكذا نجد  مثلا عندM.Montessori أو C.Freinet التجسيد القبلي لما ستتواضع عليه الأبحاث الجديدة تحت إسم ″ وضعيات مشكلة ″ ،وإذا كانت منهجيتهم مختلفة نسبيا حيث تصورها Freinet  انطلاقا من وضعيات طبيعية،في حين تبنتها Montessori بمساعدة أدوات معدة أساسا لأجل ذلك،فإن النتيجة المرغوب في التوصل إليها هي نفسها:تجنيد التلميذ وتعبئته انطلاقا من مشروع يسمح له بتجاوز العوائق التي تعترضه أثناء عمله، قصد بلوغ المعارف الجديدة والتوصل إليها. فكل واحد منهم يمتدح ميزات القسم المتغاير،متمثلا بذلك البيداغوجيا الفارقية ،كما أن كل واحد يتخلى عن التصور التقليدي للتنقيط العددي لإحلال تقويم ينبني على ما يمكن تسميته ب " وحدات القيمة/unités de valeur "  .

التربية الجديدة،إذن في هذا المنحى،مغامرة تدعونا اليوم إلى زيارتها مرة أخرى،ليس من أجل الحث بإيمانية على مواعظ دروسها،بل كي نتشبع بديناميتها،ونساعد أنفسنا لفهم مشاكلنا الخاصة،ومن غير استعادة ساذجة  لشعارات مختزلة لتاريخها ونقاشاتها،ولكن عبر النظر إليها كوسيلة لإعادة تقييم خطاباتنا،وممارساتنا. هكذا ينبغي علينا الإنصات لكل ما يمكنه،في التربية الجديدة،أن يزعزع  بشكل ملائم يقينياتنا المستكينة: لا يكفي أن ندرس كي يتعلم التلاميذ ،أوفي القسم المتجانس بعدد يبلغ خمسة وعشرين تلميذا،-يتعلم التلاميذ-وهم يقومون بنفس الشيء،وفي نفس الوقت ليس  هذا هو النموذج الممكن بالنسبة للمدرسة.
إن الدروس،والكتب المدرسية،والبرانم،وحتى دروس التكوين عن بعد عبر الأنترنيت ليست هي الوسائل الوحيدة للتعلم ،والنقط، والتنافس بين الأفراد ليست هي الطرق الوحيدة لتعبئة التلاميذ حول المعارف.إننا لا نكون/نربي على الحرية عبر الأوتوقراطية المنهجية والإكراه التحكمي . نعم، إن التربية مهمة صعبة ، فهي تستلزم في ذات الآن مشروعا سياسيا،وابتكارا تقنيا غير منقطع لمواجهة المقاومات والعوائق. إنها تستلزم منا مواصلة العمل الذي انخرطت فيه التربية الجديدة،بوضوح أكثر،وبصرامة،ولكن بمزيد من الحسم/العزم و،لم لا، بمزيد من الحماسة المبتهجة.

النص الأصلي : Ph.Meirieu «l’éducation nouvelle ,une aventure à revisiter »
Sciences Humaines,octobre2014.                                           
*مدرسة أسسها Alexander Neil سنة 1921 بإنجلترا لتطبيق نظرياته البيداغوجية التي تتمحور حول الحرية المطلقة والسلطة المتفاوض عليها.

مصير الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي ما بين الجابري و أركون ـ المصطفى المصدوقي

عن موقع أنفاس نت
كانت المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الإسلام،و التي تتطابق زمنيا مع فترة العصور الوسطى في الغرب،مليئة بالتساؤلات و الدراسات و المؤلفات العامة،إنها مرحلة التفكير العلمي و النقدي ،مرحلة المناظرات الحرة بين العلماء في الفكر الإسلامي.
كانت الفلسفة قد شهدت ازدهارا ملحوظا ما بين عامي 150-450 هجرية،غير أن هذا الازدهار و النجاح سينحسر مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري،و مع هذا الانحسار سيبدأ العقل الإسلامي في الانسحاب من الساحة العلمية في الوقت الذي بدأ فيه الغرب بالازدهار. 
و من أبلغ الأمثلة التي يمكن أن نضربها بهذا الصدد،مثل ابن رشد،إذ إن مؤلفاته أصابها النسيان و الفشل في المجتمعات العربية،بينما الفكر نفسه و المؤلفات نفسها ترجمت إلى اللاتينية و حظيت بنجاح متزايد في المجتمعات الأوروبية المسيحية حتى القرن السادس عشر.
فلماذا فشل الفكر الفلسفي في الفكر الإسلامي؟لماذا فشل ما كان مزدهرا قبل القرن 13 الميلادي و انسحب من الساحة الفكرية و العلمية؟ذلك هو السؤال الذي سيقود تحركاتنا في هذا المقال.
 سؤال حاول كل من محمد عابد الجابري و محمد أركون أن يجيب عليه،كل بمنهجيته في التحليل و التفكيك.
«لقد ضرب الغزالي الفلسفة ضربة قاضية لم تقم لها بعده قائمة»هكذا كتب محمد عابد الجابري متحدثا عن مصير الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي.
و البيانات التالية هدفها تأكيد هذه الدعوى.
لم تقم للفلسفة العقلية،العقلانية،بعد الغزالي قائمة في ديار الإسلام.هذا واقع تاريخي ،و لا يمكن تفسير هذا الواقع التاريخي-بحسب الجابري- بدون و ضع كتاب " إحياء علوم الدين" و كتاب "تهافت الفلاسفة" على رأس قائمة العوامل و الأسباب.
و لكن...كيف أسهم هذان الكتابان في توقف الفلسفة في المناخ الإسلامي؟
فمن خلال كتابه الإحياء استطاع الغزالي تأسيس التصوف و تكريسه في الساحة الثقافية العربية الإسلامية،لقد أدخل التصوف بقسميه العملي و النظري إلى دائرة السنة من باب السنة :الفقه،فأصبح منذئذ مكونا أساسيا من مكونات الفكر العربي الإسلامي،و قد عمد إلى ذلك و خطط له تخطيطا.
«لقد اكتسح التصوف الساحة،و الساحة السنية خاصة،فنقل خطاب اللاعقل ليس فقط إلى مملكة البيان و البرهان،مملكة النقل و مملكة العقل،بل أيضا إلى مملكة العامة،مملكة التقليد والتسليم،مملكة الجمهور الأمي الواسع»يقول الجابري في كتابه "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"،قبل أن يتابع:«فكانت الربط الصوفية و المشايخ و الطرق هي الأطر الاجتماعية الثقافية و السياسية التي يسري فيها و يتدفق من حولها اللامعقول بلباسه الديني الذي حوله العامة إلى قوة مادية تقف بالمرصاد لكل نهضة عقلية ».
و هكذا..
تمكن الغزالي من صد الفكر العربي الإسلامي عن الفلسفة و توجيهه نحو التصوف.
هذا عن كتابه "احياء علوم الدين" ،أما في كتاب "تهافت الفلاسفة" فقد أصدر الإمام الغزالي بواسطته فتوى فقهية ضد الفلاسفة فكفرهم في مسائل و بدعهم في أخرى.كما استطاع في هذا الكتاب أن يشغب على الفلاسفة،بل أكثر من ذلك استطاع أن يقيم الدليل على أن الفلاسفة عاجزون عن إثبات مسائل العقيدة بواسطة ما يقررونه في علمهم الإلهي.
و في هذا الصدد يقول الجابري:«نعم يمكن القول إن فتوى الغزالي بتكفير الفلاسفة مسبوقة بفتاوى صدرت من فقهاء و متكلمين و بلهجة حادة...مع ذلك يبقى كتاب تهافت الفلاسفة كتاب وحيد و فريد في الثقافة العربية الإسلامية،لم يؤلف مثله قبل الغزالي و لا بعده،وأن تأثيره في صد الفكر العربي الإسلامي عن الفلسفة لا يوازيه إلا تأثير كتابه "الإحياء" في توجيه نفس هذا الفكر نحو التصوف».
لننتقل الآن إلى صاحب كتاب "نقد العقل الإسلامي"...
إن فكر محمد أركون يتمحور حول العديد من التخصصات و المواضيع ،و التي من خلالها يهدف –من بين ما كان يهدف إليه- دراسة سوسيولوجية فشل الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي.و هو يعتبر سوسيولوجيا إخفاق الفكر الفلسفي شيئا مستحيلا التفكير فيه ضمن إطار تاريخ الأفكار التقليدي الذي يتتبع خطا متسلسلا مرتبطا بشكل عام بالأحداث السياسية الأكثر شهرة.
عند أركون فإن المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الإسلام قد اتصفت بالتفوق العقلاني و اتساع العقل و حرية البحث و الإبداع في الإشكاليات المتصلة بالقضايا الدينية الحساسة،و بدرجة عالية من التسامح و الإقبال على المناظرة.و هنا يمكن أن نشير إلى تلك المناظرة الشهيرة بين الغزالي و ابن رشد .فقد كتب الأول "تهافت الفلاسفة"،و كتب الثاني"تهافت التهافت".  و أخيرا انتصر خط الغزالي على خط ابن رشد في الساحة العربية و الإسلامية.
أركون وإن كان  يلتقي مع محمد عابد الجابري في كون الفلسفة لم تقم لها قائمة  في الساحة الإسلامية بعد كتاب "إحياء علوم الدين " للغزالي و كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة الذي ثار فيه ضد أولئك المهووسين بأرسطو،فإنه يرى أن سبب فشل الفلسفة و الفلاسفة لا يعود إلى قوة الغزالي أو صحة خطه الفكري.فالغزالي كمفكر واحد أضعف من أن يؤثر في حركة التاريخ بمثل هذه القوة و الاستمرارية.
و إذن...
فهناك أسباب بنيوية أكثر عمقا بحسب رأي أركون،و هذه الأسباب ينبغي أن نبحث عنها في الأطر الاجتماعية و الاقتصادية و تحولاتها. فلنستمع إليه:«إن غياب الفكر الفلسفي –العقلاني  من الساحة الإسلامية لم يكن في أي يوم من الأيام لا جذريا و لا نهائيا.يعود الأمر في الحقيقة إلى الغياب التدريجي للأطر الاجتماعية-الثقافية التي تتيح إمكانية وجود المعرفة الفلسفية».هكذا يلخص أركون سبب توقف الفلسفة.
و من المناسب أن نضيف هنا أن انحسار هذه المعرفة الفلسفية ليس عائدا إلى سلطة الضبط  و الهيمنة اللاهوتية كما هو عليه الحال بالنسبة للسلطة العقائدية المسيحية،أو أن يكون للإسلام موقف ضد الفلسفة،فلا يمكن لدين أن يقف أمام فكر.و إنما السبب عائد-كما أشرنا إلى ذلك- إلى التغير الذي أصاب الأطر السياسية و الاجتماعية للمعرفة في مجمل العالم الإسلامي بدء من القرن الثاني عشر الميلادي مع وفاة ابن رشد سنة 1198 ميلادية.
كيف يمكن أن نوضح فكرة المفكر و المؤرخ محمد أركون هاته؟
ينبغي الإشارة إلى أن ضعف العالم الإسلامي نتيجة تحول الخطوط التجارية عنه،و انهيار طبقة البورجوازية التجارية في بغداد و العواصم الأخرى قد أدى إلى انهيار الدعامة المادية للحضارة العقلية و  الثقافية.
للتوغل أكثر في فهم الفكرة لندع محمد أركون يتحدث من جديد:«إن الثقافة العربية-الإسلامية التي ازدهرت داخل إطار الإمبراطورية الأموية ثم العباسية كانت مرتبطة بحياة المدن،فنشاط الفلاسفة كان يتمركز في العواصم الكبرى كدمشق،و بغداد،و أصفهان،و القاهرة،و حلب،و فاس،و قرطبة.و كان يتم في ظل البلاطات الكبرى للملوك و الأمراء.و ما دامت الإمبراطورية تتمتع بقوة سياسية و سيطرة على التجارة،فإن البورجوازية التجارية استطاعت المحافظة على مستوى العرض و الطلب في ما يخص المعرفة و الثقافة».
و يمضي أركون في التوضيح،قائلا:«ولكن بدءا من القرن الحادي عشر راحت الأخطار تحدق بحياة المدن و تهددها،هذه المدن التي كانت قد ضعفت سابقا بسبب الصراع مع المحيط البدوي أو الريفي غير المسيطر عليه جيدا.و بالتالي راح الفكر الفلسفي يتراجع شيئا فشيئا لكي يترك الساحة خالية للخطاب التعبوي التجييشي للإيديولوجيا المدعوة بالجهاد».
ثم يواصل صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي الحديث«فلكي يقاوموا الهجمات الصليبية على فلسطين و هجمة العشائر التركية و المغولية على منطقة إيران-العراق لزم عليهم أن يجتمعوا حول إسلام أرثودوكسي(=صحيح)و دوغمائي صارم و لكنه فعال إيديولوجيا من حيث التعبئة و التجييش».
من أجل أن نفهم جيدا حالة الإقصاء المستمر للفلسفة في الساحة الإسلامية،فإنه ينبغي النظر إلى ما حدث فعليا على أرضية هذه المجتمعات الإسلامية بدءا من القرن 12 الميلادي.فلننصت من جديد للمفكر محمد أركون:«كانت هذه المجتمعات المهددة من الداخل و الخارج مجبرة على أن تؤسس نظاما أمنيا خاصا.إن الفلسفة النقدية لا يمكن لها الإسهام في تشييد مثل هذا النظام.على العكس إنها تهدده بالأخطار.وحدها الشريعة الصارمة و الفعالة في نفوس الجماهير يمكن أن تكون دعامة مثل هذا النظام.إنها هي التي وقفت في وجه الحركات "الناشزة" داخليا و في وجه الأخطار الخارجية المتمثلة بالغرب،ثم استمر الحال هكذا».
في ظل هذه الظروف التاريخية ابتدأت تنتشر التعاليم الدينية المكرورة في الزوايا،كما و ابتدأ الدين الشعبي ينتشر في الأرياف تحت إشراف الأولياء و الصالحين المحليين.وقد راحت هذه المتغيرات الاجتماعية و الإيديولوجية تعدل جذريا من شروط الفعالية الثقافية و الفكرية.
هكذا..
اختفى  التفكير الفلسفي من الساحة الفكرية الإسلامية،ليضل الموقف من الفلسفة (موقف الغزالي مثلا) موقفا ثابتا و مستمرا في الوعي الإسلامي حتى يومنا هذا.

الخميس، 10 مارس 2016

الكون والمنطق البشري . نشرت بواسطة: مصطفى عابدين

عن موقع علومي
لماذا المنطق البشري يرفض التطور و يقبل الخلق؟
لماذا الكثير من الناس ترفض النظريات العلمية مثل الإنفجار العظيم أو التطور و تقبل فكرة الخلق ويجدون فكرة “كن فيكون” أكثر منطقية؟
المنطق البشري هو محصلة تطور البشر من كائنات بدائية إلى كائنات أقل بدائية حتى شكلها الحالي و إذا نظرنا في تعمق إلى مكونات هذا المنطق و كيف نشاء سنكتشف أنه منطق مبني على حماية الإنسان من حيوان مفترس هنا و خطر هناك. منطق مبني على التعامل مع الأخطار بشكل سريع و شافي بهدف حماية الإنسان. هذا المنطق لا يهدف إلى معرفة حقائق الأمور لأنها لاتشكل عامل مؤثر على البقاء. أي تفسير منطقي يفسر الحالة القائمة هو مقبول طالما أن النتيجة هي البقاء على قيد الحياة.
لنأخذ بعض الأمثلة…
أنا أمشي في الغابة، فجأة سمعت صوت من بعيد. نظرت باتجاه مصدر الصوت و إذ بقطيع من الضباع. مباشرةً أتخذ قرار الهروب بهدوء لكي لا يكتشف الضباع أمري. لننظر إلى آلية التفسير المنطقية الحاصلة في دماغي لكي أتفادى الخطر.
حين أنظر إلى الضبع أن لا يهمني اللبنة الأساسية التي شكلة بناء جسد الضبع. لا يهمني أنه يتكون من مليارات الخلايا التي تعمل ضمن حمض نووي و أن له أربع أقدام و أن عينه تتألف من ملايين العصيبات الضوئية و أن دماغه ليس إلا العديد من الأعضاء العصيبة التي تدير وظائف الجسد. لا يهمني أن لديه كبد يقوم بتنظيم العمل الكيميائي داخل جسده و أن للضبع رئتين تساعداه على التنفس وأن معدته هي المسؤوله عن عملية الهضم.
المهم أن هذا الكائن اسمه الضبع و هو يشكل خطر بالنسبة لي. هذا التفسير أفضل للوصول إلى نتيجة منطقية تساعدني في تفادي الخطر. لا يهمني أن أعرف أنه مكون من خلايا و بروتينات و باكتيريا و عناصر. هذه المعلومات لا تساهم في حظوظي على البقاء.
حين أنظر إلى نبتة معينة ما يهمني معرفته هو إن كانت صالحة للأكل أم لا. لا يهمني معرفة عملية التركيب الضؤي و ماهية مادة اليخضور و آليات التكاثر لهذه النبتة و الخلايا التي شكلتها. المهم أن هذه النبته هي شيئ واحد اسمه فاكهة الفريز (مثلاً) و أنني أستطيع أكلها و أن طعمها حامض.
حين أرى البحر لا يهمني أنه مركب من عناصر هيدروجين و أوكسجين بشكل سائل. حين أنظر إلى الجبل لا يهمني أنه مكون من التراب و أن التراب يتكون من غازات و مواد عضوية و عناصر كيميائية. المهم أنه جبل عالي و هو لا يتحرك و لا يشكل خطر على حياتي.
ما أود الوصول إليه أن المنطق البشري هو غريزة حسابية هدفها تحليل المعلومات و ربط الدلالات بشكل يساهم في بقاء الكائن الحي. الإنسان لم يكن مهتم بمعرفة حقائق الأمور بواقعها و إنما بما يتماشى مع حاجاته البقائية. نتيجة هذا المنطق أن الإنسان يجد أن وجود الاشياء كمواد مصنوعة هو تفسير منطقي أكثر من التفسير العلمي بالتطورالتراكمي لكل شيئ في هذا الكون.
(يوجد العديد من الأمثلة من نظرية النسبية لأنشتاين التي لازلت أجدها غير منطقية و لا أستطيع تقبلها غريزياً مثل مثال “التوأمين”)
مع تطور الحضارة البشرية و ابتكار الطريقة العلمية التي تعتمد على الأدلة و البراهين و التجارب التطبيقية انطلقت شرارة العلم و بدأت رحلة اكتشاف ماهية هذا الكون. المشكلة في المنطق البشري هي سبب العديد من الإشكاليات التي نقع بها في فهم العلوم. لا يمكننا بناء أي افتراض علمي بناء على المنطق لأن المنطق هو ليس قانون علمي تطبيقي و ليس مسلمة كونية صحيحة للجميع.
______________________
بعض الفرضيات المنطقية التي سأستعرضها في هذا البحث:
– طالما أن للكون نقطة بداية فلابد أن يكون لهذا الكون خالق….
– خالق الكون لابد و أن يكون أعظم من هذا الكون لأنه خالقه….
– هذا الخالق لابد و أن يكون خارج الزمان و المكان لأنه هو من خلقهما….
______________________
طالما أن للكون نقطة بداية فلابد أن يكون لهذا الكون خالق:
العلم يثبت نقطة بداية لهذا الكون (النظرية العلمية اسمها الإنفجار العظيم).
نعم، الدلائل على انفجار عظيم سبّب وجود هذا الكون أصبحت مؤكدة. أذكر منها بشكل مختصر الإشعاعات الكونية الخلفية و التي توضح درجات حرارة الكون و أثاراللإنفجارالعظيم على شكل برودة حرارة الكون كل ما تقدمنا بالزمن. أيضاً تأثير دوبليرالذي ساهم في كشف أن الموجة الكهرومغناطيسية القادمة من النجوم تحمل طيف أحمر و بالتالي يوضح كيف أنها تبتعد عنا. نعم المجرات تبعد عن بعضها بسبب توسع الكون المستمر و المتصاعد (أي أن الإنفجار مازال مستمر). أيضاً الخارطة الكيميائية للعناصر و التي تفسرها نظرية الإنفجار العظيم بشكل دقيق جداً حيث أن تفاعل العناصر ينتج عنه عناصر جديدة في عملية تطور تراكمية إلى أن نصل للخارطة الحالية. أيضاً تشكل النجوم و أجيال النجوم. يمكن للقارئ أن يبحث أكثر عن نظرية الإنفجار الكبير، لكن موضوع البحث مختلف لذلك سأكتفي بهذا القدر من الأمثلة.
طاقة من لاشيئ:
الكثير من الأحيان يتم عرض فكرة تناقض مفهوم وجود الطاقة من العدم مع قانون مصونية الطاقة (لطاقة لا تخلق من العدم بل تتغير من شكل إلى أخر) و لكن في الواقع بوجد لدينا  مفصلين مهمين هنا.
أولاً أن مجموع طاقة الكون هي صفر و هذا يعني أنه كل ما نراه من حولنا من مادة عادية (انا و أنت و الكون المنظور) و مادة و طاقة مظلمة سنجد أن الكون  منبسط ذو طاقة حيادية.
فيديو توضحي حول فكرة أن مجموع الطاقة صفر ـ ليس مترجم

إذاُ ماذا يعني أن الكون مسطح هذا يعني أن مجموع الطاقة في الكون ليست ايجابية أو سلبية و إنما حيادية و بهذا لا نكون خالفنا قانون مصونية الطاقة. إذا كان الكون قبل أن ينشأ يساوي صفر فهو مازال يساوي صفر.
النقطة الثانية التابعة لهذا المحور هي أنه لا يوجد شيئ اسمه “عدم”. أجد استخدام كلمة عدم يمين و شمال، كيف يمكنك تفسير نشوء الكون من العدم؟ و هذا السؤال هو سؤال خاطئ علمياً إذ أنه لا يوجد عدم في الكون. هل هذا دليل على أن الكون أزلي؟ ربما لكن الجواب الصحيح أننا لا نعرف بشكل قاطع كيف بدأ الكون. من هذه النقطة أود أن أنوه إلى نقطة و هي أن نظرية الإنفجار العظيم لا تفسر من أين جاء الكون أو كيف بدأ و إنما تشرح كيف تطور الكون بعد اللحظة الأولى من الإنفجار العظيم. نحن لا نعرف إن كان هذا الإنفجار جزء من سلسلة لا منتهية من الإنفجارات أو إن كان الإنفجار بجزء صغير من الكون (الكون المنظور بالنسبة لنا) لكنا نعمل و بحث عن الأجوبة و ربما قد لا نصل إلى جواب، لكن هذه ليست دعوة لقبول الأساطير و القصص الشعبية كبديل للمنهج العلمي في المعرفة.
من خلق الخالق:
من خلق خالق الخالق؟ و من خالق خالق خالق الخالق؟” الأساطير حلت المشكلة عبر مرسوم ملكي أن الخالق لا خالق له لأنه خلق نفسه. لماذا يقبل الإنسان  بقانون ملكي يقتضي أن الخالق خلق نفسه و لا يقبل أن بيحث في نظريات علمية تفسر نشوء الطاقة من العدم؟
على الأقل يوجد لدينا قاعدة علمية ننطلق منها و نحاول تفسير نشوء المادة من الفراغ و نعمل على تفسير معنى كلمة عدم. ربما نصل ‘لى استنتاج أن الكون أزلي لا بداية له. نعم هذا يخالف منطقنا البشري، لكن المنطق هو وسيلة بقائية كما ذكرت سابقاً و ليست بوصلة معرفية للوصول إلى الحقائق. يوجد العديد من الأمثلة التاريخية حيث طرح العلم نظريات كانت غير منطقية في البداية و ثم تم تبنيها و تطوير المنطق البشري لمجاراتها. أذكر منها نظرية  كوبرينكاس الذي قال أن الكرة الأرضية ليست المركز و أنها تدور حول الشمس و نظرية النسبية لأنشتاين  التي تقول أن لاشيئ يتجاوز سرعة الضوء و أن الوقت بعد من أبعاد المكان. الكثير من الناس لازال لا يفهم نظرية أنشتاين و خصيصاً الشق المتعلق بموضوع الجاذبية و السرعة و الزمن. أيضاً يوجد لدينا نظريات الفيزياء الكمية التي تطرح لنا أفكار بعيدة كل البعد أن منطقنا اليومي الكلاسيكي و تطرح لنا أمور تجعلنا نسأل عن حقيقة وجودنا أصلاً.
لتكون (س) بسيطة: 
في العديد من الأحيان نحتاج إلى افتراض بعض الأمور لكي نستطيع تبسيط فكرة غير واضحة لنا أو معادلة رياضية يصعب حلها. في رياضيات الجبر مثلاً في بعض الأحيان نفترض أن (س) هي كذا لنستطيع الوصول لقيمة (س) الحقيقية. هذا يعني أن أي فرضية نضعها عن (س) يجب أن تكون بسيطة نوعاً ما و أن لا تكون معقدة أكثر من المعادلة التي نحاول حلها أصلاً.
أما في حال قمنا بوضع افتراض لقيمة (س) بحيث تكون (س) أعقد من المعادلة بذاتها فإن هذه الاستراتجية ستكون فاشلة و لن نستطيع الوصول إلى نتيجة علمية.
إذا سألتك ما هو سبب كروية الأرض؟ عليك أن تفترض بعض الأجوبة و محاولة مقارنة أجوبتك مع ما نشهده من دلائل تثبت أو تنفي فرضيتك. كل ماكانت فرضيتك لا تعتمد على الكثير من العناصر المجهولة كلما سهل علينا التحقق من صحتها.
كروية الأرض سببها:
– فرضية 1: وجود شخصية خيالية اسمها نور الماء و هي تحب الأجسام الكروية و هي التي كورة الأرض.
– فرضية 2: بفعل الجاذبية التي تعمل على جذب جميع المواد باتجاه نواة الذرة.
من الواضح أن الفرضية الأكثر علمية هي الأبسط و التي تتماشى و تتطابق مع مانرصده من حولنا.
من هذا السيق سأطرح استفسار يتعلق بمسبب الكون. أليس افتراض خالق لهذا الكون هو افتراض أكثر تعقيداً من السؤال الأصلي الذي نحاول الإجابة عليه. أليس وجود خالق قادر على الخلق ليس فقط الكون و إنما نفسه هو أكثر تعقيداً من الفرضية الفيزيائية التي تفسر نشوء الكون من العدم دون حاجة مسبب؟ أليس افتراض خالق له ادراك و إرادة و حاجات و كلمات و رسائل و كتب و أسماء و أبناء و أعداء و أصحاب هو اقتراض معقد أكثر بكثير من السؤال الذي بدأنا بحثنا من أجله؟
______________________
مقولة: “خالق الكون لابد أن يكون أعظم من هذا الكون لأنه خالقه”
المنطق البشري يفترض أن الخالق لابد و أن يكون أكثر تعقيداً من المخلوق. مثلاً نحن نفترض أن وجود الطاولة يستدعي وجود النجار. و أن النجار لابد أن يكون أكثر تعقيداً لكي يستطيع تطويع الخشب لصناعة الطاولة أليس هذا منطقي؟ نعم هذا منطقي و لهذا علينا الحذر من تبني ماهو منطقي دون التعمق أكثر في التفاصيل. المنطق البشري ليس الوسيلة الأفضل للوصول إلى المعرفة. الطريقة الأفضل هي اتباع المنهج العلمي المبني على الدلائل القابلة للفحص و التحقق. هكذا نضع منطقنا البشري جانباً و نعمل ضمن منهجية تضمن عدم التحيز و تصب كل نتائجها ضمن خزان معرفي نسمية المحتوى العلمي.
دعونا نحلل هذه الفرضية بطريقة مختلفة عن ماهو متعارف عليه…
من منظور العظّمة و تعقيد الخالق:
أليس أكثر عظَّمة أن يكون نجارالطاولة أقل تعقيداً من الطاولة؟
إذا قلت لك أن هذا النجار صنع هذه الطاولة من هذا الخشب. أنت تقبل هذه الجملة لأنها مبنية على مفاهيم و معارف منطقية. الخشب يأتي من الشجر و النجار لديه عقل و وعي يؤهله لصناعة الطاولة. نعم هذه الفرضية منطقية لكنها بعيدة عن العظّمة.. أين العظمة في الخلق إن كان الخالق أكثر تعقيداً..
في المقابل إذا قلت لك أن هذا الطاولة خُلقت بسبب عوامل طبيعية و مؤثرات بسيطة جداً. على الرغم من عظّمة هذا الفرض إلا أنك سترفضه لأنه ينافي المنطق المبرمج لديك لماهية الأمور و كيف ممكن لطاولة أن تنشاء من لاشيئ أو بسبب ظواهر طبيعية 100٪
لاشك أن خالق الكون الأبسط من الكون هو أكثر عظّمة من خالق الكون الأكثر تعقيداً من الكون.
______________________
مقولة: “هذا الخالق لابد و أن يكون خارج الزمان و المكان لأنه هو من خلقهما”
في العديد من نفاشاتي الدينية مع أصدقائي أسمع هذه الجملة. “الخالق خارج الزمان و المكان” أود أن أحلل هذه الجملة بطريقة علمية.
أولاً يجب التنويه أن كلمة “خالق” من المنظور الديني تعني الاله شخصي له اسم محدد يستطيع أتباع هذا الإله مناداته و التواصل معه. أيضاً يستطيع هذا الإله مساعدة أتباعه و تغير مجرى الأمور. هذا الإله له طقوس معينة للتواصل وهو يعمل بدور الرقيب على أعمال مخلوقاته و يعاقب و يكافئ. يغضب و يفرح. و له إرادة ويكره و يأمر و يلبي. إذاً هو كيان مترابط مع هذا الكون.
لكن في حال تعمقنا في النقاش عادة ما يتم اللجوء إلى محورين. الأول أن الخالق خارج الزمان و المكان و الثاني أن الخالق قادر على كل شيئ. دعونا ننظر بعمق أكثر….
إذا كان الخالق خارج الزمان و المكان فهذا يعني أنه غير موجود في هذا الكون و هذا لا يختلف كثيراً عن قول أن الخالق غير موجود من الناحية العملية. عدم الوجود هو تحديداً أن يكون الكيان خارج الزمان و المكان و أن يكون فاقد التأثير على الكون.
أما إن كان الخالق ضمن الكون فنحن عبر رصدنا لجميع الظواهر الكونية لانجد أي ظواهر خارجة عن الطبيعية أو غير مألوفة. كل ما نرصده يتطابق مع تحليلنا العلمي و تفسيرنا لماهية الأمور. إذاً لا دليل لدينا على وجود أي كيان أو طاقة مؤثرة في الكون غير مفسرة علمياً بالنسبة لنا.
ثم أن قول أن الخالق قادر على كل شيئ هذه عبارة غير علمية لا تستحق التعقيب لأنني ببساطة أستطيع اصدار أمر ملكي مقابل يقول أن الفيزياء الكمية قادرة على كل شيئ أيضاً.
القاعدة هنا أن ما يتم فرضه دون دليل نستطيع ضحده دون دليل أيضاً”. *هيتش” 
______________________
إذاً من أين أتى كل شيئ؟
– نظرية الإنفجار الكبير تفسر لنا كيف نتجت أول العناصر (هيدروجين و الهيلوم) و كيف أن التفاعلات النووية بين العناصر و التي أخذت مليارات النسين من التفاعل أوجدت جميع العناصر المتواجدة حتى يومنا هذا و مازال الإنفجار مستمر و بشكل تصاعدي
– نظرية التطور لا تفسر لنا من أين بدأت الحياة و إنما تفسر لنا كيف تنوعت الأحياء و من أين تطور الإنسان. نظرية التطور تقسر لنا أيضاً علاقات الأحياء بين بعضها و تصرفاتهم و غرائزهم
– يوجد محاولات مخبرية كثيفة لتفسير نشوء الحياة و فقط قبل يومين (30 تشرين الأول 2014) استطاع بعض العلماء من انشاء أنزيم قد يفسر لنا كيف بدأت الحياة. أيضاً في عام 1995 بدأ العالم كريغ فينتشر في مشروع علمي يهدف لصناعة خلية حية من العدم. فعلاً بعد 15 عام من البحث و العمل في مجال العلوم الدقيقة و الأحماض الوراثية استطاع فريقه من صناعة خلية حية تتألف من مليون عنصر جيني قام فريقه بكتابتها. هذه الخطوة مهمة جداً على الصعيدين العلمي و الفلسفي إذ أن الإنسان استطاع للمرة الأولى في التاريخ من صناعة الحياة من العدم. 
أنا لن أستطيع التطرق بشكل تفصيلي لهذه المواضيع العلمية بسبب تعقيد كل موضوع. ممكن أن أتفرع إلى هذه المواضيع ضمن مقالات مختلفة لكن أعتقد أن موضوع المنطق و الخلق هو موضوع يستحق أن يكون موضوع مستقل.
______________________
الملخص:
لاشك أن الأسئلة المتعلقة بجذورنا و من أين أتى هذا الكون الرائع المهيب هي أسئلة في عقل كل إنسان. لاشك أن معرفة حقائق هذه الأمور سيشكل تحول مصيري في تاريخ التطور الحضاري للجنس البشري الذي انطلق منذ 200 ألف سنة من أفريقيا في سبيل البحث عن الطعام و انتهى به المطاف خارج المجموعة الشمسية. العلم هو أفضل الوسائل التي ابتكرها الإنسان لانها الوسيلة التي تضمن لنا الوصول لأقرب توصيف للواقع الذي نعيشه. جذور الحياة و الكون هي بحوث علمية بحته اجابتها ستكون نتيجة بحوث و تجارب علمية في جامعات العلم و مختبرات البحوث و ليس في بيوت الدين.
اقحام قوى خارجية للاجابة على أي شيئ هو هروب من الإجابة و الاستسلام بعدم المعرفة و قبول الجهل بالأمور. الإعتراف أننا لا نعرف كيف بدأت الحياة هي الخطوة أولى في رحلة البحث عن الإجابة. الإدعاء بالوهم بمعرفة الشيئ هي رصاصة في صلب البحث. كيف نبحث عن ما لا نعلم أنه ضائع؟
عبر السنين أثبت لنا العلم أننا في كون يعمل ضمن قوانين موضوعية بعيدة عن السحر و المعجزات. لهذا أنا لم أطلب من القارئ و لا لحظة واحدة أن يقبل مني أي معلومة مفترضة بقفزات سحرية أو معجزات. في هذا السياق أطلب من القارئ أن يقيم البحث بطرق علمية و أن يبحث أكثر في المواضيع العلمية التي ذكرت ضمن هذا المقال.
الكون مليئ بالإبهار و العظّمة و من المحزن أن نفسره من منظور خرافات و أساطير سومرية. نحن ادراك الكون لنفسه ومن المحزن أن لا ندركه…..

الأربعاء، 9 مارس 2016

تمثّلات الصّورة في المجال التربويّ - عبد الله عطيّة

عن أنفاس نت


توطئة: 
تشهد الأنظمة التربويّة تحوّلات كبيرة في العديد من مرتكزاتها و أسسها سواﺀ ما تعلّق بمحتويات برامجها أو خياراتها البيداغوجيّة أو أنماطهـا التقييميّة. و لعــلّ تلك المراجعات و التحوّلات مردّها النقلة المجتمعــيّة التي أحدثها التطوّر العــلميّ وخاصّة في جانــبه التكنولوجيّ و تخصيصا تكنولوجيا المعلومات و الاتصال. و فـي هذا الصدد يبدو البعض محقّّا حـــين اعتبر "أنّ النقلة المجتمعيّة التي ستحدثها تكنولوجيا المعلومات ماهي في جوهرها إلّا نقلة تربويّة في المقام الأوّل"(1) .و بهذا المعنى فـإنّ البحث في العلاقة بين هذا المنتج العلمي   و آثاره التربويّة و البيداغوجيّة هو في صميم رهانات النظم التربويّة اليوم و مشاريع المؤسّسات التعليميّة .  
فحــين نــلقي نظرة على المحيط البيداغوجيّ المؤثّر في كلّ ممارسة تربويّة و خاصّة داخل الفصول يتّــضـح بجلاﺀ أنّ حضور الصّورة كثيف، و أن لا معنى لنشاط لا يستند إلى هذه الوسيلة البيداغوجيّة الهامّة " فالتعليم بوصفه فنّ اقتناﺀ المعرفة و ملاحقتها و توصيلها و توظيفها" (2)  يجــد في الصّورة سندا تربويّا لا غِـنى له عــنه  لأنّ عمــليّة الرؤية تختصّ بوضــعيّة مــزدوجة وفــق المنظور الفلسفي فهي تُحِيل من جهة أولى على مصدر تنجم عنه، و ترتبط  من جهة ثانية بمشهد أو موضوع تستهدفه. فالصّورة جهاز من الرّموز تستـدعي التفكيك و التأويل، و علــيه فـــإنّ الاشتغال البيداغوجيّ عليها لا يقلّ شأنا عن إنتاجها. إنّ تـنزيل الصورة في الحقل البيداغوجي تنزيل وظيفيّ و ليس اعتباطيّا ، فحــضورها الكــاسح في مخـتلف المحاميـــل البيداغوجيّة   يؤشّر على أنّها ليست تأثـيثــا جمــاليّا أو تسلـــية بصريّــــة بقدر مــاهي ضــرورة بيداغوجيّة  (nécessité Pédagogique). إنّ الملاحظات اليقظة للمشهد التعليميّ- التعلّميّ تقودنـا إلى القول أنّ الأهداف المرسومة من قبل المدرّس، أيّا كانت دقّتها و درجة طموحها، لا سبيل إلى تحقّقها مــا لــم تكن الوضعــيّات البيداغوجــيّة المصاحبة للــدّرس تضمن تفاعلا بين المتعلّمــين من ناحية ، و بينهم و بين سنداته() من ناحية ثانــية. و فــي هــذا الجانب يكون اهتمامنا بتمثّلات الصّورة لدى المتعلّمين و مشروعيّة حضورها في الأنشطة البيداغوجيّة المختلفة. 
1 - محاولة في تعريف الصورة: 
الصـّورة لغة هي“ شكل الشيء و هيــئـته/ وهـــي مثال الشيء المرسوم عــلى صفحة مــن الورق أو النسيج، وصورة الأمر كـذا أي صفــته، ج صُوَرٌ و صِوَرٌ و صُوْرٌ ”(3) / يعــرّف ابن مــنظور الصورة:“ تصوّرت الشيء توهّــمت صورته فتصوّر لي و التصاوير التماثــيل. " وهــي كذلك تَشكُّلُُُ ُمرئيّ قد يكــون على درجة كبيرة من التشابه مع الواقع ". وهي تـَمثّلُُ ُذهنيّ وحينـــها نكون إزاء صــور ذهنيّة، الصّورة من هذه الزاوية تجريد ذهنيّ للواقع. 
الصّورة أيـضا وفــق المقاربة النفـسيّة- الاجتماعيّة تتّصل بالمكانة، أي بــصورة "الأنا" لـدى“ الآخر و كذلك بصورة“ الآخر” لدى“ الأنا”، هي ما يحمله “الآخر” عن“ الأنا” من الانطباعات و الأحكام بل و من المواقف. 
إنّ هذه التعاريف تكاد تلتقي حول معنى مشترك يتمثّل في الرّسم و الارتسام، الرّسم كمعطى مادّي   و الارتسام كحالة ذهنيّة أو وجدانيّة، وهو معنى له امتداد بدوره في الحقل البيداغوجيّ، ذلك أنّ الصّورة وسيلة تعليميّة "يستحيل التفكير دونها" كما قال أرسطو، و "الصّورة لم تعد أفضل من ألف مقال بل صارت أفضل من مليون مقال." يرتبط التفكير بالصّورة بما يسمّّى التفكير البصريّ و التفكير البصريّ كما يعرّفه آرنهايم  "محاولة لفهم العالم من خلال لغة الشكل و الصّورة، و التفكير بالصّورة يرتبط بالخيال، و الخيال يرتبط بالإبداع" (4)، ذلك أنّ "90٪ من مدخلاتنا الحسيّة هي مدخلات بصريّة كما تقول بعض الدراسات الحديثة" (5). ويذهب البعض من الأخصائيين في هذا المبحث إلى اعتبار أصل كلمة الصّورة يونانيّا يعود إلى الجذر القديم "أيقونة"  ، و التي تشير إلى التشابه و المحاكاة ، الأيقونة في معجم لاروس "هي صورة المسيح و العذراء و القديسين في الكنائس الشرقيّة".
2- مبادىﺀ التعلّم بالصّورة:
لئن سلّمنا بأنّ الواقع لا معنى له دون صور و أنّ وعينا به تحدّده في الكثير من الأحـيان الصّــور التي تُغرق حياتنا و تنمّط سلوكاتنا و تفرض علينا مسالـك فــي التـواصل محكومة بهذه الثورة الإعـلاميّة و التكنولوجيــّة فإنّنا مع ذلك نحتاج في المجال التربوي إلى بيان بيداغوجي   ينهض على مجموعة مــن المبادئ التي تــيسّر للمدرّس/ المتعلّم اســـتثمار الصّورة الاستثمار الناجع و الواعي و تمثّل إطــارا نظريّا مرجعيّا يتحرّك ضمنه.(أ) – المبدأ الأوّل يتمثّل في كون التعلّم مسارا ديناميّا و بنــائيّا: أي أنّ المتعلّم فــي تعامله مــع مختلف الوســائل التعليــــميّة، و الصّورة إحــداها، يبني المعرفة بإسهام ذاتيّ و متدرّج. المعرفة بـــهذه الصـورة بناء والتعلّم اكتشاف للمعرفة و بحث عن المعنى من خلال الصّورة و فيها.(ب)- المبدأ الثاني يتمثّل في أنّ التعلّم هو أساسا إقامة صلات بيـن معطيات جديدة و معـارف سابقة. ذلــك أنّ معالجة المعلومة التي قد توفّرها الصورة تتمّ بالاستعانة بما يختزنه المتعلّم في ذاكرته من المعارف القبليّة و المهارات. فهذه المكتسبات توجّه اشتغاله غلى الصورة و تؤثّر في قراءته لها و استنطاقها.     (ج)- المـــبدأ الثالث ينهض عــلى اعــتبار الـــتعلّم مـن خلال الصورة يســتدعي التنظيم الواعي للمعارف و البحث في هيكلتها و  أنساقها بعيدا عن التداخل و الغـموض. فالمتعامل مع الصّورة يرتقي فــي هذه النقطة بالذات إلى مرتبة الفنان في حرصه على رشاقة المعلومة و وجاهة الفكرة و جماليّة البناء.  (د)- المبدأ الرابع أساسه أنّ التعلّم بالصّورة يمسّ المعارف المعلـــنة و الصريحة (الخبريّة) مــثلما يمسّ أيضا المعارف الإجرائية و الأداتيّة. ذلك أنّ الاشتـغال عــلى الصّورة فــي الشأن التربويّ و خاصّة في علم النفس- العرفاني يتطلّب التمييز بين المعارف: فهي قد تكون معلنة و صريحة و مفتاحها ســؤال "ماذا؟" مثلما قد تكون أيضا إجرائيّة  تتّصل بالكيفيّة “ كيف؟” أو كذلك الإشراطيّة باعتماد تقنية السؤال الآتية“ متى  و لماذا ” نعتمد المعرفة المعلنة- الخبريّة أو الإجرائيّة ؟ 
إذن الــمعرفة تســـتحيل لــدى المتعلّم وفق هـــذا المنظور متمثّلة عبر ممارسات موجّهة و تشاركيّة تارة و فرديّة مستقلّة تارة أخرى. 
(ه)- المبدأ الخامس البيداغوجيّ الذي يوفّر للمتعلّم إمكانات القراءة المتفهّمة و المتبصّرة للصّورة يــقـوم على مدى اهتمامه و انجذابه إلى هذا النشاط المهاريّ و نعني بذلك الدّافعيّة فهــي الــتي تحدّد درجة انخراطه في الأنشطة و مشاركـــته في شــتىّ مراحلها. إنّ المتغيّرات الوجــــدانيّة ( صورة الذات لدى المتعلّم/ شعوره بالأمان و القدرة على الفـــعل/ سلامة العــقد البيداغـــوجيّ ووضوح بنوده...). إنّ لكلّ ذلك التأثير الحاسم في تصرّفات المتعلّم فــي وضعــيات التعلّم و فــي مباشرة الصّـور كسندات ديداكتيكيةّ. إنّ التــعلّم هــو تغيير في السلوك بفعل الممارسة و التجربة، و إنّ الضّجر و الملل اللذين يشعر بهما المتعلّم ينـتجان عــن النمطيّة مــن ناحية و عن الطرق البيداغوجيّة التقليديّة التي لا تعترف بالمتعلّم كـذات لـها انتظاراتها و نسقها المناســب في التعلّم. 
إنّ الدافعيّة هي أساس كلّ تعلّم، فهي في صميم الفعل التربويّ، هي الرّغبة في الحضور الفاعل وهـي تختلف باختلاف المتعلّمين لعدّة اعتبارات:   
- المعنى الذي يعثر عليه المتعلّم أثناء عمله .
- الاتجاهات النفعيّة التي تحكم أنشطته.
- الحاجة التي تدفعه إلى أن ينجز نشاطا دون غيره.
- المتعة / اللّذة  التي يستشعرها أثناء النشاط.
- صورة الذات و الآخر التي استنبطها طوال مراحل تعلّمه.       -
(3)-الصّورة و الصّورُ الذهنيّة : إنّ تنــوّع التصرّف في الصور الذهنيّة ( العقليّة) يوفّر إضاءة معمّقة لمسالك اشتغال المتعلّمين على الصّورة، فالانتباه و التخييل و التخزين و الفهم و التحويل تندرج جميعها ضمن مــسار التعلّم، وهــي حركات ذهنيّة تتمّ دائما في شكل صور ذهنيّة قد تثير عديد الإشكاليّات للمتعلّمين و للمدرّسين أيضا.
(أ)-  للمتعلّمين: نشــير إلى تعــدّد الأسباب، منها مــا يتعلّق بالصّــور الذهــنيّة الغـــامضة و غــير الدقــيقة واللاّيقينيّة. بحيث أنّ المعاني التي تولّدها لا تكون منتــجا مشتــركا لــكلّ الحواس [ المتعلّم ضعيف البصر/أو السمع مثلا يتفاعل بنقص مع المعلومة المتاحة] ، و منها أيـضا ما يتعلـّق بالتحويل الداخلي للمــعلومة المرئيّة إلى معلومة منطوقة و العكس صحيح، خـــاصّة في مستوى التعامل مع عـــديد العبارات الــتي تنطق بغير ما تكتب أو تكتب بخلاف ما تنطق.
(ب)- للمدرّسين: يحـدث أن يتواصل المــدرّسون مــع متعلّميهم بــقناة تواصليّة محدّدة مرتبطة بنمط مفضّل للصّورة الذهنيّة لديهم، كأن تتضمّن رسالة التواصل خطابا يبدو بديهيّا للمدرّس :[ "نلاحظ مــن خـــلال هــذه الصورة أنّ..."،" ترون أنّ أعلى الصورة أقرب إلى التعبير عن..".] فـمثل هذه الملاحظات تدلّ عــلى أنّ ما ماهو مهيمن في العلاقة البيداغوجيّة بين المدرّس و المتعلّمين هــو الصورة الذهنيّة البصريّة و حــينــها يجـد المتعلّم السمعي صعوبة فــي اســـتيعاب مثل هذا الخطاب، فهو يتابع بصريّا ما يــوجّه المدرّس إليه الاهــتمام ولكنّه لا يقــدر على إثارته مــرئيّا و عينيّا بحــكم أنّه يتصرّف أنجع استنادا إلى الصورة الذهنيّة السمعيّة. في حين أنّه لو حاول مدرّسه أن يعبّر بصوت مرتفع عمّا يكــتبه و يلاحــظه أثــناء كــلّ عمليّة قراءة لـلصّور أو غيرها من وضعيّات التعلّم فإنّ المتعلّم يكون حينئذ قادرا على معالجـة المعطيات المعرفيّة الجديدة مــن خلال صورته الذهنيّة السمعيّة و استعانة بالبصريّ لديه. 
*- أشكال الصّور الذهنيّة (العقليّة): إنّ الصّور العــقليّة تنشأ في معظـــمها من الـــمداخل الحسيّة و على هذا الأساس نجد أنواعا مختلفة مــن هذه الصّور الذهنيّة :
- السمعيّة و تنشأ من حاسّة السمع .
- البصريّة (الرؤية/ العين).
- الشميّة (حاسة الشمّ/ الأنف) .
- الذوقيّة ( الذوق/ اللّسان)
وفي السائد الثقافيّ و المعرفيّ نجد أنّ أكثر الصّور الذهنيّة اعتمادا هي الصّور البصــريّة و السمعيّة. الصّور الذهنيّة البصريّة تتمثّل فـي إعادة النظر ،فــي مستوى الــرأس، فـــي المعلومة المطلوب حفظها أو فــهمها أو موضعتها. فــي حين أنّ التصرّف في الصّورة الذهنيّة السمعيّة يعني إعادة قول المُعطىَ المعرفيّ في مستوى الرأس أيضا لتمثّله و استيعابه. وعليه فإنّه يتحتّم من منظور تواصليّ بيداغوجيّ الأخذ بعين الاعتــبار تنــوّع هذه الأشكال من الصّور الذهنيّة و إحكام توظيفها و الاســتئناس بــها عــند كلّ تعليمــة بيداغوجيّة و اشتــغال تعلّمي، وهو ما يعني في الأدبيّات البيداغوجيّة اعتماد مسارات تعليم و تعلّم مختلفة و مراعاة الفروق الفرديّـة بين المتعلّمين ( البيداغوجيا الفارقية) . إنّ كلّ اقتراح بيداغوجي و كلّ موقف ديداكتيكي- تعلّمي يرتكز عــلى تصوّر مشدود - سواﺀ كان ضمنيّا أو معلنا- إلى ما نعنيه بالـمعرفة، و بــجذورها الابستيمولوجــية و بعــمليّة تمريرها إلى المتعلّمين. و في هذا المستوى تكون الممارسـة البيداغــوجيّة مــؤشّرا عــلــى مــدى الوعي بهذا المتصوَّر الثقافي للمعرفة و بآليّات نقلها و تبليغـها. الصّورة تـــحمل مضاميــن معرفيّة لهــا سياقــاتها الثقافيّة والحضاريّة و المشتغل عليها بدوره مسنود برأسمال رمزيّ – أيّا كانت درجــة قوّته و أهـمّيته- و بــذلك فإنّ كلّ مباشرة لها تستبطن رؤية و تصوّرا بــل موقفا فـــي الكثير مــن الأحـيــان، هذا إلى جانب كونها تشهد له أو عليه بالاقتدار و الحِرَفية خاصّة في مستوى مهاريّ و تقنيّ.  
(4)- تمثلات المعرفة بالصورة:
نجدـّد التأكيـــد على أنّ مفــهوم الصّورة لا يتعدّى كونها " كلّ مضمون مرئيّا كان أو مسموعا. و مهما تعدّت أنواعها و مصادرها فالصورة تظلّ شهادة على واقع أو انعكاســا أو تصويرا أو تأويــلا لــه أيــضا من خلال نظرة مبدع. فهي تنبع من رغبة في تبليغ واقع ملحوظ أو مظهــر لعالــم مــحســوس" (6). غــير أنّ تمثّلات المعرفة بالصورة متعدّدة بحيث أنّ المشاهد - والمتعلّم مشاهد - لا يكــتــفي ببساطة بمشاهدة مــوضوع قد قام الضوء بتشكيله لكنّه يحرص على بلــوغ استنــتاجات معيّنة بالاشتــغال عــلى العمليّات العقلــيّة التّي حدّدتــها كارولين بلومر وهي أنشـطة معرفيّة في جوهرها يمكـــنها أن تؤثّر فــي الإدراك البــصري و تتمثّل في:(7)    
*- الذاكرة:  وهي أكثر الأنشطة العقليّة أهميّة في الإدراك البصري الدقيق وهي الصّلة التي تربطنا بكلّ الصّور. و لقد استخدم الناس الصّور كمعينات للذاكرة أو كوسائل لتقويتها. 
*- الإسقاط:  الصّور و الرّسوم أشكال تتكوّن من الاحتكاك بالطبيعة و الواقـع و الذات وهــي بذلــك مستلهَمَة منها معبّرة عنها... و هكـــذا يتمّ إسقــاط الحالة العقــليّة عـلى مــوضوع ما، أو جملة أو كلمة أحيانا نستخرج المعاني الخاصّة منها. إنّ السبيل إلــى هذه المعاني هـي العمليّات العقليّة و الخــبرات السّابقة و الــمعاني التي نخصّ بها الصّور التي نراها و ندركها.  
*- التوقّع:  ويعني بإيجاز أنّ الصّورة موضوع القراءة و التحليل لا تُفصِح في الغالب عـن معانيها مكــشوفة  وعارية بل إنّ ادراكاتنا البصريّة لها قد تكون زائفة أو مضلّلة أحيانا. لذلـك تــلجأ الفنون البصريّة في أحيان كثيرة إلى عملّيّة تكــوين التوقّّــعات هــذه و كسرها بأشكال مفاجئة بحيــث ينــكشــف ما لم يحسب له حساب. *- الانتقائية:  ذلك أنّ الكـــثير مـــن عمــــليّات الإدراك البصري تـكــون عمليّـات لاواقعيّة أي أنّـــها تلقائيّة و ليست متعمّدة تدخل من خلالها أعداد كبيرة من الصّور. وقد لا تترك آثارا تذكر بعد ذلك لدينا... مثل هــذه الصّور العفويّة المستلهمة من الحياة اليوميّة وقع تمثيلها داخل المنظومة الخاصّة بالصّور في المخّ و كلّ مـــا على المرء أنّ يقوم به بعد ذلك هو أن يحدّد الطريقة المناسبة للتعامل مع هذه الـموضوعــات أو الأحــداث أو الأشخاص في هذا الوقت أو ذاك و في هذا الموقف أو غيره من المواقف.   *- الثقافة:  للثقافة تأثير حاسم في إنتاج الصّورة و كذلك في توليد معانيها بل لا منــدوحة مــن القــول أنّ "الصّورة ثقافة " و أنّ الرّصيد الثقافيّ شرط لإنـتاج الصّورة و لتفكيك رموزهــا و مكوّناتــها. فالثقافة تحــدّد الأهميّة المعطاة للعلامات و الرّموز و التي تؤثّر في الأفراد المنتسبين لهــا و لغــيرها مــن الثقافات فينتجون معرفة لا تخرج عادة عن سياقها الثقافيّ.
تقوم الصورة بدور هامّ في تنظيم المعارف و بناء المحتوى، فهي تنفرد بخصائص تجعلها أقرب إلــى المتعلّم من النصّ أو الوضعيّة. فالصّورة في البيداغوجيا الحديثة تستميل المتعلّم و تــشوّقه بحكــم قدرتــها على إثارة ذهنه و تحريك مشاعره ذلك أنّها تضمن فعل المعــايشة و تــزيد من تعميق فهم الناشئة للمعنى و ترسيخه في ذاكرتها جنبا إلى جنب مع اللفظة الداّلة عليه. و على هذا الأساس يفترض أن تكون المشاهد الصوريّـة دقــيقة في تصوير المعنى و تحديده، واضحة بسيطة و بارزة الملامح، يسهل من خلالها إدراك المعنى و تشخـيصه، أو المدلول المراد تجسيده في الذهـــن. فــإذا كانــت " القراءة هــي فنّ اليقظة إلى الكلمات" (8) و المقــصود بالقراءة ههنا قراءة النصّ، فإنّ قراءة الصّورة هــي بدورها فنّ اليقظة إلــى الأشكــــال و الألــوان و الرّموز والدّلالات سواء في معناها الخارجيّ المرتبط بالإدراك والرؤية أي ما يحدث في الواقع و كذلــك مـــن خلال مختلف المشاهد التي تتجلىّ فيها الصّور و تتــوالى، أو فــي معناها الدّاخــلي الباطنــي الذي يــتطلّب جــهــدا لاستجلائه و العثور عليه. " إنّ الصّورة هي بالتأكيد آمرة أكثر من الكتابة، إنّها تفرض الدلالـة دفــعــة واحدة دون تحليلها أو تفتيتها. إلّا أنّ هذا لم يعد اختلافا تكوينيّا. فالصّورة تصبح كتابة في اللّحظة التـي تكون فــيــها دالّة، إنّها مثل الكتابة تدعو إلى حكم القوّة" (9).    هذا القول يعترف بسلطة الصّورة تماما مثلما يعترف بسلطة شارح الصّورة و قارئها، و علـه فــإنّ مستويات التعامل معها مختلفة بحيث لا يستقيم الحكم، بيداغوجيّا، على قراءة ما دون الأخذ بعـيـن الاعــتـبار الــدرجــة العلميّة للمتعلّمين و السياقات المعرفيّة و المحوريّة التي تنضوي ضمنها. فكأنّنا بهـذا المعنى أمــام " فــعــاليّة رمزيّة بالغة التأثير للصّورة". فالصورة رمزيّة غير أنّهـــا لا تملــك الخصــائص الدلاليّة للّغة. "إنّـــها طفولة العلامـــة" على حــدّ تعبير ريجيس ديبراي(10)، وهـــو مــا  يقتضي حقيقة أن يحرص المدرّس على تنويع تمشّياته البيداغوجيّة و تثمين المبادرة الفرديّة و استثمار منتوج المتعلّمين استنادا إلى مبدإ بيداغوجي مركزيّ يتخذ من قاعدة العمل المستقلّ أساسا للتربية الحديثة. " إنّ التربية لابدّ أن تسعى لإكساب الفرد أقصى درجات المرونة و سرعة التفكيـر و قــابليّة التنــقّل بمعــناه الواسع، التنقّل الجغرافي لتغيّر أماكن العمل و المعيشة، و التنقّل الاجتماعيّ تحت فـعــل الحــراك الاجتماعيّ المتوقّع، و التنقّل الفكريّ كنتيجة لانفجار المعرفة و سرعة تغيّر المفاهيم (11). فالمدرسة لا معنى لوجودها إن لم تستهدف تشكيل تعلّمات المتعلّمين. فالمتعلّم هو أهمّ منتوج لمؤسسة المدرسة بقطع النظر عــن محتوى/ مضمون هذا التعلّم.  التعلّم كفاية من حيث كونه:*محصّلة بناء ذاتي للمعرفة: فلــكـــي يتعــلّم وجــب أن يتملّك التلميذ آلــيّات هذا النشاط و مفاتيحه. و يمثّل استثمار الصّورة في العمليّة التربويّة أحد مناشط هذا الاقــتــدار الــبيداغوجي، لأنّ الــصّورة تخــتــرق جميع مجالات التعلّم المختلفة ( اللغويّة و الاجتماعيّة و العلميّة و التقنيّة).  *تطوير استراتيجيّات: فحين يَعِي المتعلّم بكيفيّة اشتغال الذاكرة و بميكانيزمات التفكير لديه يــكون قــد وفّر لنفسه هامشا كبيرا من الاستقلاليّة و النجاعة، هذا يعني أنّ تطوير الاستراتيجيّات المعـرفيّة و إن كــان متأكّدا باعتباره مطلبا تعليميّا فإنّه غير كاف لبناﺀ شخصيّة متوازنة فالدّراسات الحديثة تُولـي اهــتـمامــا مــتزايدا بما يعرف بالميتا-معرفي في التعلّم  أعني بـأن يتعلّم المـتعلّم كـيــف يتعلّم و نــذكــر في هــذا الســّياق مساهمات "فيقوتسكي" و"برونر" و "ميريو" التي اهتمّت كثيرا باستراتيجيّات التعلّم أكثر من اهتمامها بمضامــين التعلّم لأّنّ هذه الأخيرة – المضامين- متحوّلة و متغيّرة في حين أنّ الاستراتيجيّات و الكفايات تكون فــي معـظمــها ثابتة و متّصلة بذات المتعلّم و بشخصيّته و باقتداراته و استعداداته و منها قطعا ما تكـون الصّورة مَشغَلا لها. * غائيّا: فحتّى ينخرط المتعلّمون في أنشطة التعلّم، ومنها الاشتغال على الصّورة و بالصّورة أيضا، يتعيّن أن يتوفّر لهم الإحساس بأنّ ما يُقترح عليهم من سنـدات تعلّم و محتويــــات مصاحـــبة لــهـا ذات بعــد نفعيّ آنيّا و مستقبليّا. ومن هنا فإنّ تنويع الوسائل التعليميّة بقــــدر ماهو دعم للتنشيط في الدروس و استدعاﺀ للمتعلّمين بأن يكونوا فاعلين فيها بقدر ماهو أيضا وجه من وجوه التجديد البيداغوجيّ الذي تنشده النظم التربويّة اليــوم. و في هذا المعنى يكون التجديد " تمشّيا يهــدف إلى إحداث تغيير و ذلك بإقحام عنصر في نسق محكم البناﺀ " (12).

خاتمـــــــــــــة:  
هكذا تختصّ الصّورة بحضور متأكّد في المقاربات البيداغوجيّة و في طرائق التدريس النّشيطة ، فهي تضمن احتكاكا يكاد يكون مباشرا بالمعنى من خلال تجسيد المفاهيم وربطها بالواقع بمـا يسهّل عــلى المتعلّم اجــتياز الحدّ الفاصل بين التفكير الذي يتعامل مع الأشياﺀ الماديّة و شواهد العالم المدرَكة حسيّا، و بين التفكير المجرّد الذي يتعامل مع المجرّدات و الرّموز. غير أنّ الوسائل التعليميّة المؤثِّثة للأنشطة البيداغوجيّة متــنـوّعة فهـي "وسائل إيضاح" و "معينات"، وهي جزﺀ من تقنيات التعليم أو ما اصطلح عليه حديثا بالتكنولوجيـا التربــويّة  و التي تشمل الصّورة و النصّ و الوضعيّة الدالّة و الرّسوم البيانيّة و الجــداول الإحصائيّـة الــخ.... كلّ هذه الوسائل تـوفّر الخـــبرات الحسيّة للمتعلّمين و تثير انتباههم و تركيزهم و تزيد فاعليّتهــم و نشاطــهـــم الذاتي و مشاركتهم في العمليّة التربويّة "فمثلما هناك صور في الكلمات، هناك أيضا كلمات في الصور" (13).   



الهوامش:   
(1)- د. نبيل علي / العرب و عصر المعلومات/ عالم المعرفة عدد 184 أفريل 1994 ص 361 .  
(2)- المصدر السابق ص362. 
(3)- قاموس المعتمد/ دار صادر بيروت لبنان ط(6) 2008 ن، (ص351). 
(4) – د. شاكر عبد الحميد: عصر الصّورة (ص8). عالم المعرفة، يناير 2005.
(5)- المصدر السابق، نفس الصفحة.
(6)- التربية بالصورة، التربية على الصورة/ يوسف الحشايشي ( التجديدات البيداغوجيّة)منشورات التفقّديّة العامة للتربية ،الملتقى (14) مارس 1999 .
(7)- شاكر عبد الحميد، عصر الصّورة/ عالم المعرفة ( يناير 2005) (ص162/163).
(8)- د. مصطفى ناصف: اللغة و التفسير و التواصل/ عالم المعرفة عدد193 يناير 1995 (ص41).
(9)- رولان بارط " الميثولوجيا" ، ورد في كتاب الفلسفة (4 آداب). م. و.ب الجزء الأول،ص141.
(10)- ريجيس ديبراي: حياة الصورة و موتها ، نشر غاليمار باريس 1992، ترجمة فريد الزاهي، ورد في كتاب الفلسفة (س4 آداب)،الجزء الأوّل،  المركز الوطني البيداغوجي، (ص 141/142).
(11)- د. نبيل علي: العرب و عصر المعلومات/ عالم المعرفة عدد 184/ أفريل 1994. 
(12)- التجديدات البيداغوجيّة/ منشورات التفقديّة العامّة للتربية / الملتقى الرابع عشر مارس 1999، وزارة التربية. (13)- د. شاكر عبد الحميد، عصر الصّورة (مصدر سابق) (ص195).     
عبد الله عطيّة ( متفقد أوّل للتعليم الثانويّ تونس )