الأحد، 28 فبراير 2016

تقرير: هكذا يخطط البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لتدمير صناديق التقاعد المغربية موقع بديل



لم تكن الزيادة في أجور موظفي الدولة والجماعات المحلية و المحددة في مبلغ 600 درهم، تزامنا مع الحراك الشعبي الذي شهده المغرب في سنة 2011 وسط زخم حركة 20 فبراير التي جاءت بها كأحد مكاسب الشغيلة المغربية، إلا فاصلا تمهيديا نحو إجراءات أكثر تقشفا وفاصلا يُمتص من خلاله غضب الشارع مع العديد من الوعود في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، هكذا ترى ذلك أكثر المنظمات والجمعيات المدنية الحقوقية والسياسية في المغرب.

في ذلك الوقت (وقت الحراك) أجل المغرب العديد من "الإصلاحات" الاقتصادية التي التزمت بها الحكومة وفقا لبرامج هيكلية من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ولم يكن الصندوق المغربي للتقاعد الذي شهد عملية نهب خطيرة لموارده المالية بحسب ما أعلنته النقابات الأكثر تمثيلية في البلاد، هذه العملية التي تضررت من خلالها الطبقة العاملة بشكل عام -لم يكن- إلا فرصة أخرى لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي لتقديم وصفاتهما وجرعاتهما التي قال عنها رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في أكثر من مناسبة بطريقة غير مباشرة "إنها دواء مر وجب على المغاربة تحمله".

وصفات اججت غضب الشارع المغربي وحركاته الاحتجاجية والنقابية بعد زخم احتجاجات 20 فبراير، مما دفع سياسيين إلى القول إنها ستؤدي حتما إلى انفجار اجتماعي جديد، وهي الوصفات التي يتم اجراؤها تحت الطاولة ويتم اجراء مفاوضاتها بسرية تامة احيانا ويتم عقد من خلالها اتفاقات تحكم مصير البلد وأجيال من أبنائه، قرارات تمس بالقدرة الشرائية للمواطن وتؤدي إلى استفحال الهشاشة والفقر والبطالة، لكن الحكومة تسميها وصفات "الإصلاحات" وتتم عنونة هذه الاجراءات بعناوين براقة بإيعاز من الحكومة.

إجراءات تقشفية تهز الأجراء

كانت الحكومة في 07 يناير عقب عقد مجلسها على أول موعد مع ملف "إصلاح انظمة التقاعد " برسم سنة 2016 التي ستشهد الكثير من تطبيق الإجراءات التقشفية وفق خطة معينة ومعدة سلفا، جرى رسم معالمها في التوصيات التي وضعها كل من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، للمغرب، وذلك بغية تفكيك انظمة الحماية الإجتماعية وبغرض الاستفادة من خط الاحتياط والسيولة، حسب دراسات تُسمى " الأكتوارية" ، وهي تُطبق حساب الاحصاء والاحتمالات على التأمينات وأنظمة الاحتياط" .

وتتلخص التعديلات القانونية لـ "الإصلاح المقياسي" لمعاشات التقاعد المدنية الخاصة بموظفي الدولة الرسميين والجماعات المحلية التي يديرها الصندوق المغربي للتقاعد، والتي اعتبرتها منظمة "أطاك المغرب" في تقرير حول قانون المالية برسم سنة 2016 خطوة أولى نحو تدمير هيكلي لأنظمة التقاعد التضامنية، وهي التعديلات التي تنص على رفع سن التقاعد بشكل تدريجي من 62 سنة إلى 65 سنة مع الزيادة في الاقتطاعات من الرواتب انطلاقا من 10% حاليا إلى 14% مقسمة على سنتين ابتداء من 2015 والاعتماد التدريجي، على مدى 4 سنوات، للراتب السنوي المتوسط خلال 8 سنوات الأخيرة عوض آخر راتب حاليا وتخفيض نسبة الأقساط السنوية لاحتساب المعاش، من 2,5% إلى 2% بالنسبة للتقاعد العادي، ومن 2% إلى 1,5% بالنسبة للتقاعد النسبي ثم رفع المدة الأدنى لطلب التقاعد النسبي إلى 26 سنة عوض 21 سنة للموظف، و20 سنة عوض 15 سنة للموظفة حاليا.

ورغم الإعداد المسبق للإصلاح المعني عبر التوصيات المذكورة، جرى على مدى 10 سنوات الماضية، صرف الملايير من السنتيمات على ما اطلقوا عليه خطة "إصلاح أنظمة التقاعد"، في إطار جملة من المناظرات والأيام الدراسية والأسفار والاجتماعات والتي تطلبت أموالا باهضة إضافة إلى الدراسات كالتي انجزها مكتبا الخبرة الفرنسيين (Actuaria – Charles Riley) في إطار طلب عروض مفتوح كلف ما يناهز 8,6 مليون درهم.

خطة البنك العالمي نحو "صندوق التقاعد المغربي"

الكاتب العام لمنظمة "آطاك المغرب" أزيكي عمر كشف لـ " بديل.أنفو"، أنه في سنة 1994 حدد البنك العالمي ما أسماه بـ " استراتيجية الدعائم الثلاث"، فالأولى، قائمة على نظام التوزيع التضامني الذي يمنح حق التقاعد القانوني للأجراء والموظفين وتموله الاقتطاعات على الأجور (الحماية الاجتماعية). وهنا البنك العالمي يدعو إلى تقليص حجمها بشكل كبير.

والدعامة الثانية تكميلية قائمة على "الرسملة" أي أن التقاعد يأتي من مردودية توظيفات أموال الادخارات تسيرها مجموعات مالية خاصة. وهنا البنك العالمي يرى أنه يجب توسيع هذه الدعامة وتعميم إجباريتها.

أما الدعامة الثالثة، فهي اختيارية وفردية مبنية على "رسملة" صافية تسيره أيضا مجموعات مالية خاصة (تأمينات وبنوك). ويقترح البنك العالمي تشجيع هذه الدعامة الثالثة أكثر عبر الإعفاءات ضريبية.

وهي الاستراتيجية التي أدت إلى استفحال أزمة التقاعد وستؤدي حتما إلى انهيار هذا الصندوق مع ضرب مكاسب الشغيلة حيث أن هذه الاستراتيجية تضرب نظام التوزيع التضامني مع رفع السن القانوني للخروج إلى التقاعد وتخفيض معاشات التقاعد، وذلك لدفع الأجراء والموظفين إلى البحث عن معاشات تكميلية بـ" الرسملة".

من أين بدأت أزمة التقاعد ؟

تمتد أزمة صندوق التقاعد إلى ما بين سنة  1980و1990 بعد تفاقم الديون، حيث وضع المغرب بإيعاز من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي "برنامج التقويم الهيكلي" كتمهيد لإجراءات أكثر تقشفا. واستفحلت هذه الاجراءات مع حلول الأزمة الاقتصادية خلال2007-2008 لتشكل ذريعة تسريع نفس هذه الهجومات على مكاسب الأجراء وخاصة في البلدان الأوربية. أزيكي عمر يقول إن ذلك جاء "في إطار حرب شاملة يشنها الرأسمال ضد العمال بشكل لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية"، وزاد :" نرى في اليونان كيف أن تقليص معاشات التقاعد يشكل إحدى ركائز خطط الترويكا (المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي) لحل الأزمة المالية وتسديد الديون. وفي هذا السياق العام، تندرج خطة الدولة المغربية والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي لضرب مكسب التقاعد".

ومن جهة أخرى، فصلت المنظمات النقابية " الاتحاد النقابي للموظفين التابع للتوجه الديمقراطي داخل الاتحاد المغربي للشغل والجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي" الأسباب الرئيسية التي شكلت ذريعة لاستهداف نظام معاشات الموظفين والموظفات والتي لخصتها في عدم اداء الدولة كمشغل خلال فترة 40 سنة للمساهمات القانونية المتوجبة عليها و ماوصفته بـ "سوء تدبير الصندوق المغربي للتقاعد، واستشراء الفساد والنهب فيه كمؤسسة عمومية، واستعمال أموال الصندوق في توظيفات مالية مضارباتية".

وبحسب "تقرير مجلس القيم وبنك المغرب ووزارة المالية حول الاستقرار المالي برسم سنة 2014 " فقد بلغت التوظيفات التي قامت بها الصناديق الثلاث (الصندوق الوطني للتقاعد، والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، والصندوق المهني المغربي للتقاعد) 207,76 مليار درهم وسجلت ارتفاعا سنويا بمعدل 6,7% في الست سنوات الأخيرة. وهو الأمر الذي دعا النقابات المذكورة لتشير إلى أن هذه الأموال تسيل لعاب المجموعات المالية والبنوك وشركات التأمين الخاصة التي تضغط بشكل كبير أيضا نحو رسملة أنظمة التقاعد.

وأوضحت النقابات أن الأسباب التي أدت إلى تدمير صناديق التقاعد عبر استعمال جزء من موارد نظام المعاشات المدنية ولمدة طويلة لحل أزمة نظام المعاشات العسكرية للصندوق المغربي للتقاعد وتجميد التوظيف الذي أدى إلى تنامي عدد الموظفين والموظفات المحالين على التقاعد، في حين أن عدد الموظفين والموظفات الجدد ظل في تقلص مستمر، و اعتبرت العديد من النقابات هذا التقليص استجابة لإملاءات البنك العالمي.

المغادرة الطوعية لعبت بدورها دورا مهما في المعادلة، الشيء الذي اعتبرته النقابات "تخريبيا" من خلال تكاثر عدد المتقاعدين والمتقاعدات وتقلص عدد الموظفين النشيطين دون الحديث عن التكاليف الباهظة لتعويضات المغادرة وعن افتقاد قطاعات حيوية كالصحة والتعليم لكفاءات عالية لم يتم تعويضها حتى الآن.

وفي تحليلها لأزمة التقاعد، ربطت منظمة "أطاك المغرب " في بيان لها حول تجديد خط الاحتياط والسيولة بضرورة إلغاء المديونية وذلك من أجل تقليص العجز العمومي واعتبرت أن المديونية تمتص بشكل مباشر قسطا هائلا من موارد الدولة لأداء خدمة الدين التي بلغت 163 مليار درهم سنة 2013 مقابل 98 مليار لنفقات الموظفين. فلابد إذن من إلغاء الديون العمومية والقطع مع إملاءات المؤسسات المالية الدولية.

الحكومة على الرف

ظل رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، لوقت طويل يدافع عن خيارات تقشفية معالمها واضحة منذ البداية ويدعو المغاربة إلى الصبر ثم الصبر على هذه الحكومة، بينما يُوقِّع من تحت الطاولة الاتفاق على قرارات مصيرية في تاريخ البلاد. وفي الوقت الذي كانت فيه النقابات الأكثر تمثيلية تطالب بالجلوس على طاولة الحوار الاجتماعي، كانت للحكومة رؤية أخرى وقرارات تم اتخاذها سلفا دون إشراك المعنيين فيها وكان الغرض من هذه "المفاوضات" هو ربح مزيد من الوقت.

ويرى مراقبون مغاربة أن 4 سنوات من عمر حكومة "الإسلاميين" خرج المغرب بخفي حنين في ظل إخفاقات على كل الأصعدة والمجالات ودون أن ينجح " البيجيدون " في الوفاء بوعودهم الإنتخابية شأنهم شأن الأحزاب المشكلة للحكومة، التي كانت قواعد حزب المصباح سباقة لإستنكار العديد من الاصلاحات والقرارات التي اتخذتها، بينما فضل الكثيرون التخلي نهائيا عن هذا الحزب فيما اعتبره آخرون حزبا يمضي في خطة الإصلاح بالثبات والعزيمة المطلوبة.

الأفكار: فيروسات الدماغ : مصطفى عابدين

موقع علومي


أسأل نفسي دائماً لماذا لا يقتنع البعض أن الإنسان تطور من كائنات آخرى وصولاً إلى الصيغة الحالية؟ ما هي المعضلة؟ نحن نقدم دلائل عن نظرية التطور أكثر من الدلائل عن نظرية الجاذبية و مع ذلك يوجد من هم غير مقتنعين بأن التطور حقيقة علمية يعتمد عليها القطاع الطبي بأكمله؟
في هذه المقالة سأقوم بتحليل ما يجري في الدماغ و لماذا نجد أنفسنا نقاوم تقبل الأفكار الجديدة المناقضة لمعارفنا الحالية. لماذا يشعر الكثير من الناس أنهم يقدمون طرح منطقي و علمي موثّق لكن الطرف الآخر يبقى غير مقتنع؟
أنا لا أريد التعمق كثيراً في العمل الدماغي لكن من المهم أن نذكر أن الوعي ليس إلا المرحلة الآخيرة من عدة مراحل سابقة له و أنك عندما تشعر و كأنك اتخذت قرار ما فهذا ليس إلا وهم دماغي يبرر آليات الوصول إلى القرار. الفكرة هنا أنك لست قبطان جسدك و أنما فقط في وظيفة المراقب الذي يشعر و كأنه مسيطر على الجسد. للمزيد من المعلومات اقرأ مقال سابق باسم “الأنا و الروح و الدماغ
كيف يعمل الدماغ (مبسط جداً):
الدماغ يستقبل ألاف الرسائل القادمة من أقسام الاستشعار طوال الوقت (العيون، الأذان، الجلد، الأنف، العضلات، اللسان، الخ) هذه الرسائل يتم ترجمتها و تحويلها إلى قالب افتراضي يماشي أقرب تصور للواقع. يتم تحليل المعلومات و ارسالها للأقسام المختصة للبناء عليها و التفاعل معها.
في حال عدم القدرة على رسم قالب يماشي الواقع يقوم الدماغ بافتراض واقع يفسر الرسائل الواردة بأفضل طريقة ممكنة تؤمن سلامة الجسد بالدرجة الأولى.
دون الدخول في التفاصيل أكثر ما أريد ذكره في هذه المرحلة هو أن الدماغ عبارة عن مجموعة أعضاء عصبية تعمل على رسم قالب يماشي العالم الخارجي بأفضل طريقة ممكنة. هدف هذه العملية هو ليس الوصول إلى حقائق موضوعية و إنما رسم تصور يساهم في بقاء النظام على قيد الحياة. مثلاً في حال أنك سمعت صوت مجهول في منزلك فأول ما سيخطر في بالك هو وجود لص أو خطر ما يمكن أن يهدد حياتك. أنت لا تبدأ بافتراض أنها نافذة المطبخ المفتوحة و أنه صوت الريح.


إن كنت تمشي في الغابة وحيداً و سمعت صوتاً من بين الأشجار وكأنه يتبعك أنت لا تفترض أنه لابد أن يكون غصن شجرة يتمدد بسبب الأمطار، على العكس ستفترض وجود الخطر حتى يثبت العكس. افتراض الخطر أولاً هي استراتجية رابحة لأن ارتكاب استناج خاطئ في حال وجود خطر حقيقي سيكون مكلف جداً (ربما الموت) بينما اكتشاف أن الشعور بالخطر لم يكن إلا انذار خاطئ فستكون تكلفته ليست سوى بعض الافرازات الهرمونية من الأندرنالين و يعود بعدها كل شيئ إلى طبيعته.
هذه الفقرة مهمة لتوضيح أن الدماغ ليس وسيلة للوصول إلى حقائق موضوعية و إنما لقيادة الجسد بشكل يضمن بقائه حتى مرحلة التكاثر على الأقل. كل من لم يكن دماغة كذلك تعرض للانقراض و خرج من المجمع الجيني. إذاً المنطق البشري و العمل الدماغي ليسا معيار تقاس به الحقائق.
طريقة بناء الأفكار:
أقرب تشبيه ممكن أن أقوم به لتوصيف الأفكار هي أنها فيروسات دماغية. الفيروس بشكل عام عبارة عن تعلميات نووية تتفاعل مع الحمض النووي داخل الخلايا الحية و لا قيمة له دون وجوده في حاضنة قادرة على ترجمة هذه التعليمات النووية. الفيروس الذي لا يحمل تعليمات تكون نتيجتها أن ينسخ نفسه عبر خلايا جديدة ينقرض و الفيروس الذي ينجح في نسخ نفسه يبقى و ينتشر بين الأحياء. لهذا نحن لن نجد يوماً فيروس يتضمن في تعليماته أن لا ينسخ نفسه.

مثلاً فيروس الرشح ينتج عنه حالة سيلان مخاطيه و عطس ليس كنتيجة للمرض و أنما كآلية للانتشار. أنت لا تعطس إلا لأن الفيروس الذي أصابك يحتاج أن ينتشر إلى أكبر عدد ممكن من الناس و لهذا يصيب جهازك التنفسي و يجبرك على العطس.
هذا بحث كبير جداً و شيق و ربما أخصص له مقال مستقل في المستقبل. لو كان فيروس الرشح يسبب احمرار للعيون فقط لكان قد انقرض منذ زمن لأنه لا وسيلة له للانتشار. طبعاً الفيروس في رآيي العلمي ليس كائن حي و إنما قطعة تعليمات ننووية تتفاعل مع مضيف حي و لهذا نجد أن قطعة التعليمات هذه ليست معنية ببقاء مضيفها على قيد الحياة طالما أن النتيجة النهائية هي انتقالها لمضيف آخر طوال الوقت.
يجدر التنويه أن الفيروس ليس واعي و ليس لديه مخطط استعماري وإنما هو نتيجة أخطأ في الحمض النووي استطاعت أن تبقى ضمن المجمع الجيني بسبب الأوامر المتضمنة في محتوها التي مكنتها من الإنتشار. هكذا يبدو لنا الآمر و كأنها عملية مخطط لها و مدروسة لكنها في الواقع عملية عمياء ناتجة عن انتقاء طبيعي بين الفيروسات. الفيروسات الأكثر قدرة على الإنتشار تبقى بغض النظر على تأثيرها على الجسم المضيف. طريقة عمل الفيروس هي أنه يغمس نفسه ضمن الحمض النووي للخلايا و يغير في تعليماتها بعض الشيئ.
هذا التغير إن لم يكن ينتج عنه استمرار للفيروس في خلايا آخرى سينتهي و لن نعرف عنه اطلاقاً، لذلك كل الفيروسات التي نعرفها اليوم هي بشكل من الأشكال ناجحة في نسخ نفسها بين الكائنات.
ملاحظة جانبية: من إحدى دلائل نظرية التطور هي دراسة مواقع الفيروسات في الحمض النووي للأحياء إذا أننا نجد أماكن تواجد هذه الفيروسات تاريخياً متتطابق لدى الكائنات التي تنتمي لسلسة واحدة مما يدل على أنها أتت من سلف مشترك كان يحمل هذا الفيروس ضمن حمضه النووي في مرحلة سابقة من تاريخه.
للمزيد من العلومات اقرأ عن:
الفيروسات القهقرية الداخلية
https://ar.wikipedia.org/wiki/أدلة_السلف_المشترك
حسناً لنعود لموضوعنا. أنا شبهت الأفكار بالفيروسات و هذا لأن الأفكار تعمل تماماً كما تعمل الفيروسات.الأفكار تنتشر بناء على المعلومات المتضمنة في محتواها. إن كان المحتوى جدير بالانتشار و قادر على التأقلم فسنجد هذه الأفكار رائجة و إن لم يكن المحتوى قادر على البقاء و التأقلم تندثر و تنقرض.
إذاً الدماغ البشري هو الحاضنة الطبيعية للأفكار و آليات انتشار الأفكار شبيهة بآليات انتشار الفيروسات إذ أن الافكار التي لا قيمة لها على أرض الواقع و لا تمثل شيئ ملموس هي أفكار غير ناجحة في الانتشار و ستنقرض. أنت لا تستطيع حماية نفسك من الأفكار مهما كانت قيمتها المعرفية بالنسبة لك. هذه الأفكار لابد أن تدخل دماغك و لكن تعليمات الفكرة هي ما سيحدد مصيرها في حاضنتك الدماغية. فرص نجاح الفكرة في الاستطيان في دماغك يرتبط بمحتوى الفكرة و مدى قدرتها على الإندماج مع أفكارك المسبقة الآخرى.إذا قلت لك أنه يوجد ضفدع ناطق هو من يقوم بكتابة هذا المقال فأنت ستستقبل هذه الفكرة غصباً عنك لكنك إما تقبلها أو ترفضها بناء على نظام منطقي آخر سأدخل في تفاصيله لاحقاً.
ملخص هذه الفقرة أن الافكار هي عبارة عن معلومات دماغية تنتشر عبر معايير تعتمد على مدى سهولة تداولها و قدرتها في توصيف الواقع. كلما كانت الأفكار تحاكي الواقع كل ما كان أسهل عليها الإنتشار. مثلاً فكرة أن الشمس ستظهر غداً صباحاً هي فكرة رائجة جداً لأنها تحاكي واقع مجرب مسبقاً و لا تتناقض مع أفكار آخرى مثبتة.
يجدر الذكر أن الأفكار لا تأتي بشكل فرادي و إنما عادة تأتي ضمن حزمة من الأفكار الآخرى التي تتطور مع بعضها و تتغير و تتطور بشكل يساعدها على البقاء و التأقلم. البقاء للأفكار الأكثر قدرة على الانتشار و التطور. الأفكار الجامدة الغير قابلة على التغير تنقرض و الأفكار التي تؤدي إلى موت صاحبها قبل التكاثر ستنقرض أيضاً. مثلاً لو أن فكرة معينة تطورت و مفادها أن على الأطفال الإنتحار في سن الثامنة فإن كل من يحمل هذه الأفكار سيموت قبل الوصول لمرحلة التكاثر و بالتالي هذه الفكرة ستنقرض تدريجياً بسبب انقراض مضيفها.
الدماغ هو طريقة الأفكار بالانتشاركيف يتم قبول و رفض الأفكار: الدماغ يعمل بطريقة استقدام المعلومات السابقة طوال الوقت. بعض المعلومات يتم توثيقها على أنها حقائق مثبتة و طالما أن الفكرة المطروحة لا تتعارض مع أفكار سابقة مثبته فهي فكرة مقبولة مبدائياً. يجب التنويه هنا ان الدماغ لا يهمه إن كانت هذه الأفكار فعلاً صحيحة و إنما أنها دائماً تتطابق مع القالب المرسوم للواقع
كما ذكرت في بداية المقال، الدماغ لا يعمل في سبيل الوصول إلى الحقائق و إنما في سبيل رسم قالب عالمي يوصف الواقع في سبيل البقاء على قيد الحياة. مثلاً إن كانت فكرة الإيمان بوجود تنين خفي يحمي الإنسان كلما مشى على شاطئ البحر هي فكرة تساهم في بقاء الإنسان إلى ما بعد مرحلة التكاثر فسنجد أن الأدمغة التي تبنت هذه الفكرة هي الأدمغة التي بقية عبر الأجيال في المناطق الساحلية بغض النظر عن صدقية القصة و قربها من الحقيقة. الدماغ لا تهمه الحقيقة و إنما البقاء. لهذا نجد أن الإنسان معرض للإيمان بالعديد من الظواهر الماورائية دون دلائل و لكن لأنها في مرحلة ما كان لها دور ايجابي في بقائه. كل الأفكار الماورائية مثل الإيمان بوجود أرواح أو أشباح أو ألهة و غيرها من الأفكار كان لها دور ايجابي في بقاء أسلافنا و لذلك هذه الأفكار لاتزال رائجة حتى اليوم.

talking-tree

إذا قلت لك أن لدي شجرة في حديقتي و أن هذه الشجرة هي شجرة ناطقة. فأنت ستقبل مني وجود الشجرة في حديقتي بشكل عام و لكنك سترفض فكرة قدرتها على النطق. لماذا؟ لأن وجود الشجرة لا يتعارض مع أي أفكار مسبقة لديك عن الواقع و وجودها في حديقة أيضاً لا يخالف تصورك عن الأشجار لكن قدرتها على النطق يعارض القالب الموجود لديك حول الأشجار و ما تستطيع فعله.
في هذه الحالة أنا خالفت فكرتك المثبتة حول الأشجار بشكل كبير مما أدى إلى رفضك لللفكرة. في هذا المثال أنا استطعت ارسال فكرة الشجرة الناطقة لك تماماً مثل الفيروس لكن تعليمات الفيروس المرسل لك هي تعليمات فاشلة لا تساهم في استمراره و بالتالي فكرة الشجرة الناطقة لم تنتشر و ستتحول لفكرة غير مقبولة بالنسبة لك، لكن إن قمت باضافة بعض الأفكار المساعدة لفكرة الشجرة الناطقة ربما سأستطيع اقناعك بتقبل فيروسي الفكري.
لن أفسر لك لماذا سأقدم لك الفكرة بالشكل التالي لكني سأستغل بعض غرائزك و طريقة تحليلك و أقدم لك الفكرة بشكل يجعل قبول الشجرة الناطقة أمر أسهل.
في زمن الرسول جاء رجل يسعى يبحث عن علاج لزوجته العاقر (لا تنجب أطفال). قال له الرسول “اذهب في ليلة منتصف الشهر عند اكتمال القمر و اصعد إلى تلة الشجرة الناطقة و خذ زوجتك معك. تأكد أنها طاهرة و أن قلبها صاف و قل لها أن ترتل بعض هذه الكلمات و بإذن السماء ستشفى امرائتك و تنجب لك أطفال كثر”.فعلاً فعل الرجل ما طلبه منه الرسول و كانت دهشته حين سمع صوتاً يأتي من جذع الشجرة يقول له “أنت و بنينك من الصالحين”. بعد ٩ أشهر أنجبت زوجة الرجل له تؤامين اثنين. عاد الرجل و شكر الرسول و أصبحت هذه القصة من معجزات الرسول (ليس رسول الإسلام).
أنا لا أدعي أنني أقنعتك بوجود شجرة ناطقة لكني جعلت رفض فكرتي أمراً أصعب لأنني جردتك من الافكار المناقضة لفكرة الشجرة الناطقة. إذا وجدت قصة الشجرة الناطقة غير منطقية أدعوك أن تسأل نفسك عن قصة أدم و حواء و الأفعى الناطقة و عصى موسى التي تحولت إلى أفعى و غيرها من القصص كمن عاش في بطن حوت و من مشى على الماء.
لماذا لا نقتنع؟
الأن لماذا لا نقتنع من الآخرين بتغيير أفكارنا بسهولة؟ لماذا لا يزال الكثير من الناس لا يصدق أن التطور حقيقة مثلاً؟ تخيل معي أن دماغك عبارة عن معمل كبير فيه مسننات متنوعة منها الكبير و منها الصغير و جميعها مترابطة و تعتمد على بعضها البعض لاستمرار الدوران و العمل.
كل مسنن من هذه المسننات يمثل فكرة ذهنية معينة استقدمتها أنت في وقت ما عبر ظرف ما. كلما كانت هذه المسننات قديمة (منذ الطفولة) كل ما كان صعب تبديلها بسبب تعقيد فكفكت المسننات التي أتت بعدها. يعني تبديل مسنن واحد بسيط قد يتطلب تبديل مئات المسننات الآخرى التي بنيت عليه. عملية بناء الأفكار هي عملية تراكمية كل فكرة تعتمد على فكرة سبقتها تم قبولها. عملية بناء الأفكار هي عملية مكلفة دماغياً و تستهلك موارد غذائية و زمنية
هذا يعني أن لكل مسنن من هذه المسنتات قيمة مادية معينة من الموارد (عذاء، وقت) قمت أنت بصرفها سابقاً. عندما يأتي أحد الأشخاص ليقدم لك فكرة جديدة عليك أنت تقوم باستقبال الفكرة و ثم تحليل محتوها. هل تتناقض هذ الفكرة مع أفكاري المسبقة؟ ما هي تكلفة تبديل هذا المسنن؟ ما هي تداعيات اضافة هذا المسنن على المجموعة؟ ما هي الفائدة من تبديل هذه الفكرة بالنسبة لي؟ هل قالبي الدماغي الإجمالي سيعمل دون تناقضات؟ أنت تقوم بكل هذه الامتحانات السريعة ثم تتخذ قرارك إما بقبول الفيروس الفكري أو رفضة. أنت لا تتقبل الأفكار بناء على محتوها الموضوعي في البداية و إنما بناء على تكلفتها الدماغية عليك إن كانت لا تتناقض مع أفكار آخرى فهذا يعتبر ربح ذهني إذ أنك أضفت قيمة معرفية دون تبديل أي من المسننات و لكن إن كان عليك التبديل فهذا سيعتمد على مدى تناغم هذا المسنن الجديد مع بقية مسنناتك الحالية. لهذا يجدر بنا تقديم المعلومات بشكل لا يظهر خطر استبدال النظام الفكري بأكمله و إنما استهداف مسننات صغيرة هنا و هناك حتى يصبح لدينا كمية كافية من التناقضات في النظام تجعل من عملية تبديل النظام عملية أقل تكلفة.
عن الأديان:
الأنظمة الفكرية الدينية هي مجموعة من الأفكار التي تطورت عبر الزمن بطريقة تستطيع مجابهة كل الاستفسارات و الانتقادات الموجهة عن طريق أفكار مساندة لها مثل (القدسية، المعجزات، الإيمان) بالاضافة لذلك فهي تقدم قالب متكامل حول الكون و الوجود بغض النظر إن كان صحيح أم لا. الأديان تقدم نظام متكامل من المسننات التي يقوم أبائك بتركيبها لك منذ الصغر و هذا لأن أبائهم قاموا بتركيبها لهم ولأن محتوى الرسالة الدينية التي تعلموها هو عن أهمية تعليم الأطفال على هذه الأفكار من الصغر. الأديان التي تقول لأتباعها لا تعلمّوا أفكارنا لأبنائكم إلا بعد مرحلة الطفولة أو انتظروا حتى تكتمل مرحلة النضوج الفكري هي أديان فاشلة و مصيرها الانقراض أمام الأديان التي تتبنى استراتجية أكثر فعالية مع الأطفال interfaith.
المشكلة الفكرية التي تحدث عند الدخول في نقاشات دينية هي أن الأطراف لا تعترف أنها تقوم بعملية تجارية أثناء تبني الأفكار و أننا جميعاً ندافع عن استثمارتنا الفكرية مهما كان. الأغلبية يعتقد أنه فعلاً يقوم بعملية فكرية بوصلتها الوصول إلى حقائق قريبة من الموضوعية. لكن في الواقع جميعنا يدافع عن استثمارته ضمن استراتجيات مختلفة.
عندما يأتي أحد الأشخاص و يحاول أن يبدل بعض الأفكار أو المعتقدات الدينية فإن هذه الشخص لا يقوم بتغير فكرة واحدة فحسب و إنما يهدد النظام ككل و لهذا يتم مجابهة أفكاره على أساس تهديد عام على النظام الفكري ككل. مثلاً عندما نقدم نظرية التطور و نقول أن الإنسان تطور من عائلة القرود العظيمة و انه نوع من أنواع ال APES أول ما يدور في ذهن المستمع لهذه الفكرة “ماذا عن أدم و حواء و النفخ في الطين و خلق الإنسان خليفة الله على الأرض؟” ثم يتم رفض الفكرة لما تسببه من تناقضات فكرية مع النظام القائم… لكن في الواقع الإيمان بأن الإنسان صنع بنفخة على الطين هي فكرة معقدة أكثر من قبول نظرية التطور التي أصبح لها مئات الدلائل و البراهين.
عن الطريقة العلمية في الحصول على المعرفة:
حسناً، ما هو الفرق بين الطريقة الدينية في التفكير و الطريقة العلمية؟ في الواقع الفرق بسيط جداً و هي أن الطريقة العلمية تتبنى مسننات ذو معايير واحدة. أي فكرة تقدم يجب أن تكون قابلة للفحص و الضحد و أي فكرة لا تنطبق عليها هذه الشروط تعتبر فكرة مرفوضة علمياً. مثلاً، عندما أقدم فرضية أن عين الإنسان تطورت من مراحل متعددة فيجب أن أقدم أيضاً كيفية اثبات عكس الفكرة.
يجب ابراز دليل مادي يثبت أن العين لا تتألف من أقسام أقل تعقيداً و أنها غير قابلة للتخفيض. إذا استطاع الناقض لهذه الفكرة تقديم دليل على أن عين الإنسان تأتي قطعة واحدة غير قابلة للتخفيض سيكون نجح في دحض فرضية تطور العين و سأغير أفكاري مباشرة فيما يتعلق بعين الإنسان.الجاذبية هي تأثير الكتلة على الزمكان و نرصدها من خلال انجذاب الأجسام الأقل كتلة نحو الأجسام ذو الكتلة الأكبر. تأثير الجاذبية على الكرة الارضية بأن الأجسام تقع من الأعلى نحو الأسفل (نواة الأرض). نستطيع دحض هذه الفكرة بتجسيد مثال لا تقع فيه الأشياء من الأعلى إلى الأسفل… هذا مثال على فرضية و ألية واضحة لضحدها.
سؤال ترفيهي: لماذا لا يقع بالون الهيلوم إلى الأرض؟ هل هذا مثال يضحد الجاذبية؟
الطرف الآخر (الإيمان بالغيبيات) مثلاً يقول لك أن الأشباح موجودة و لكن لا يقدم لك طريقة أو خريطة واضحة تستطيع من خلالها دحض فكرته.
دائماً اسئل نفسك… “مالذي يجب أن يحدث لكي أثبت العكس؟” إن لم تجد ما تفعله لاثبات العكس فاعلم أن الفرضية المقدمة لك هي فرضية غيبية و ليست علمية.
جميع النظريات و الفرضيات العلمية تتضمن مالذي يجب أن نجده لكي نضحدها و هذا فرق فكري كبير بين الطريقة العلمية و الطريقة الدينية في التفكير.
الدماغ العلمي المبني على مسننات علمية يتضمن كتيب ارشادات كيف تفكك المسننات و كيف تستبدلها بمسننات جديدة دون انهيار النظام ككل بينما الطريقة الدينية تقول لك كلما حاول أحدهم تهديد مسنناتك فعليك بالتمسك بها أكثر لأن النظام كله مبني على بعضه البعض.

في النهاية قد يختلف معي البعض و يوافقني البعض الآخر لكن هذه رؤيتي لموضوع القناعات و المعتفدات… مع العلم أن هذا باب علوم جديد قد فتح
”Mind Viruses” 

السبت، 27 فبراير 2016

تاريخ مفهوم حقوق الإنسان


في حينا قصة قصيرة


بين الوجداني والعرفاني في التعليــم - نور الدين غيلوفي


عن أنفاس نت

يفيد علم النفس التربوي في بحوثه من التقاطع بين علم نفس النمو وعلم النفس العرفاني. ومبحث التعلم إذ ينصرف إلى الاهتمام بالمتعلم، إنما ينطلق من أمرين اثنين يعتبرهما حجر الزاوية ومدار الاهتمام، هما: النمو من جهة وسيرورة الإدراك من جهة ثانية.
إن النمو عبارة عن عملية تكامل في التغيرات الفيزيولوجية والنفسية، تهدف إلى تحسين قدرة الفرد على التحكم في البيئة، وهي عملية منظمة تسير وفق أسس، وتتقدم بناء على قواعد يمكن التعرف عليها ودراستها. والمعرفة بهذه المبادئ ضرورية من أجل أن يفهم المدرس المتعلمين. إذ عليه أن يدرك العملية التي تتفتح خلالها إمكانات الفرد الكامنة وتظهر في شكل قدرات ومهارات، وصفات وخصائص شخصية.
يعنى علم نفس النمو بمختلف المراحل التي يمر بها الإنسان من البداية إلى النهاية، وهذه المراحل المتتابعة إنما تمثل حلقات متصلة يمر فيها الإنسان من النقصان إلى الاكتمال، ثم ينحدر به العمر حتى لا يعلم من بعد علم شيئا. ودراستها إنما تساعد المربي في معرفة خصائص الأطفال والمراهقين و تَبَيُّـن العوامل التي تؤثر في نموهم و سلوكهم. فمتى عرف طريق توافقهم في الحياة توصل إلى بناء المناهج وطرق التدريس وتمكن من إعداد الوسائل المُعينة في العملية التربوية. وإذا فهم الوظائف والأنشطة المعرفية وجد ما يساعده على تعيين أفضل طرق التربية والتعليم التي تناسب المرحلة ومستوى النضج.
سنهتم من الأمر بمرحلة المراهقة وننظر في مستويين منها، هما: المستوى العرفاني والمستوى الوجداني، ونحاول أن نتبين دور كل مستوى منهما في تنمية المستوى الآخر وتأثيره عليه، على ما بين المستويين من تداخل قد يمتنع معه الفصل، إلا استجابة للاقتضاء المنهجي .
تستمد المراهقة قيمتها من كونها تمثل المرحلة الفاصلة الواصلة بين مرحلتي الطفولة والنضج. وتتميز هذه المرحلة بجملة من الخصائص المتعالقة، يعنينا منها الجانبان الوجداني والعرفاني.
لما كانت الأهداف مدخلا مناسبا للنظر في العملية التعليمية باعتبارها فعلا استراتيجيا يستهدف إعداد المتعلمين معرفيا ووجدانيا ونفسيا حركيا، فإننا سننظر في المسألة من جهة ما له صلــة بالأهداف التعليمية بقسميها العرفاني والوجداني.

على أننا ندرك بدءا أن الحدود بين المجالين إنما هي محض حدود نظرية، وذلك لأن النسق العرفاني غير منفصل في حقيقة الأمر عن الأحاسيس الوجدانية. فحين يتعلم الفرد معرفة معينة، تتدخل في تعلمه عوامل الميول والاستحسان والتذوق. والتعلم إذ يُبنى إنما يقوم على أساس مراوحة دائمة بين النسق العرفاني وبين الحالات الوجدانية. ولكن هذه الحالات تبقى غامضة بالنسبة إلى المدرسين، إذ أنهم يشعرون بأهميتها في التدريس ولكنهم لا يستطيعون تحديدها بدقة. فيتجه اهتمامهم إلى العناية بالأهداف ذات الطابع المعرفي ويدعون مادون ذلك، إذ لا يعدون غير المعرفة غاية لهم.
يعرف التعليم بكونه تعديلا للسلوك من خلال الخبرة، أو هو سلسلة من التغيرات في سلوك الإنسان. ولما كان التعليم موصولا بالسلوك الإنساني، فقد كان يردّ إلى جملة من الأهداف السلوكية، إذ يكون المدرس، وهو يخطط لدرسه، في حاجة إلى رصد الأهداف السلوكية أو التعليمية حتى يعطي مبررا لما يقوم بتدريسه لتلاميذه ويكون المتعلمون في حاجة إلى معرفة أهداف التدريس وإلى تبين قيمة ما يدرسونه.
ويحدد الهدف السلوكي بكونه التغير المرغوب فيه المتوقع حدوثه في سلوك المتعلم، والذي يمكن تقديمه بعد مرور المتعلم بخبرة تعليمية معينة.
تصنف الأهداف التعليمية أصنافا نكتفي منها بما يتصل بالمجال العرفاني والمجال الوجداني وما بينهما من تفاعل.  فكيف يتفاعل المجالان؟ وكيف يوظف المجال منهما في تنمية الآخر؟
لئن عمد الباحثون في ميدان التربية والبيداغوجيا إلى تصنيف الأهداف التعليمية إلى أصناف مختلفة (الأهداف المعرفية والأهداف الوجدانية والأهداف النفسية الحركية)، فإنما كان تصنيفهم لغاية منهجية يقتضيها البحث. فالبيداغوجيا الحديثة لا ترى في التعلم فعلا عقليا محضا منفصلا عن العواطف . إذ تبين كثير من البحوث البيداغوجية أن للمشاعر دورا كبيرا في عملية التعلم التي تتحدد بكونها فعلا تواصليا بالأساس، أي تعاونيا تفاعليا. والتعلم في هذا التصور إنما هو انخراط في مشروع جماعي يكتمل بمساهمة مختلف العناصر. 
إذا لمس التلميذ أن له دورا يؤديه داخل القسم تولدت لديه الثقة في النفس وتعززت ثقته في الآخرين، بذلك يستشعر كل تلميذ في القسم المسؤولية وينصرف بكل اهتمامه إلى الدرس يسهم في إنجازه. وإذا كانت العلاقات داخل القسم قائمة على المودة والاحترام المتبادل، فإن ذلك يسهم في نشأة مناخ لتعلم تعاوني بين مختلف الأطراف.
يتعلق الجانب الوجداني- في المجال البيداغوجي- بكل الأهداف التي تصف تغيرا في الاهتمامات والحوافز والقيم، وتطورا في الحكم والقدرة على التكيف والتوافق. وهكذا يتداخل مع الجانب العرفاني، فيكون كل منهما الغاية والأداة في الآن ذاته. فالتلميذ الذي لا يبدي رغبة في درس ما، ينبغي أن نسعى إلى تحفيزه اعتمادا على إثارة ميوله ومشاعره، بل قد نحتاج إلى استفزازه حتى نستثير دافعيته.. مثلا إذا أبدى التلميذ المراهق تراخيا في درس اللغة العربية، فإننا ننصرف إليه لتعزيزه دون انفعال قد يفسد أسباب التواصل معه، فنبين له أن درس اللغة يستهدف الحفاظ عليها وعلى ثقافتنا العربية، وذلك من مسؤوليته هو قبل غيره، فلا ينبغي أن يحقّر أحدنا نفسه. بذلك يتجلى الهدف الوجداني باعتباره صيغة تعبّر عن نية تتعلق بمواقف الشخص، ويشمل الأحاسيس والانفعالات والعواطف.
فحين يوجد عائق في نقل المعرفة إلى التلميذ يتحول الوجدان من آلية لإنجاز الدرس إلى موضوع للدرس يبحث من خلاله المدرس عن جلب انتباه التلميذ إلى أهمية موضوع الدرس وخلق الاهتمام لديه وتحفيزه على تعلم محتوياته.
وحتى يتمكن المدرس من شدّ انتباه التلميذ وإثارة اهتمامه ينبغي أن يكون عارفا بمختلف حاجاته التي تُعتمد كمنطلق للفعل التعليمي. والحاجة هي حالة من التوتر ناتجة عن نقص شيء ضروري. والمدرّس مدعو إلى العمل على تخفيف هذا التوتر, وذلك بإثارة سلوك المتعلم وتوجيهه نحو تغطية النقص, ومن ثم تلبية الحاجة وإشباعها. و يكون ذلك باستدعاء الحافز, وهو القوة التي تدفع المتعلم إلى الفعل.    
تشير الحاجات والحوافز في المجال التربوي إلى كل ما يدفع المتعلم إلى إنجاز مهام معينة قصد تحقيق الهدف، وهذا يعني أن الفعل التربوي ينبغي أن يكون مخططا منظما بكيفية تؤدي إلى تلبية الحاجات واستثمار الحوافز. ذلك أن الحاجات والحوافز الاجتماعية والنفسية والتربوية إنما تشكل محركات للنشاط التعليمي لدى التلاميذ.
حدد بعض الباحثين الحاجات المحفّزة على التعلم في:
- الرغبة في تحقيق الذّات
- والاعتراف بها
- والمسؤولية
- والترقي الشخصي
- والتطور
- والاستقلالية.
إن للمتعلم المراهق حاجات متعددة ينبغي أن يكون المدرّس واعيا بها مدركا لما كان فرديا منها وما كان مشتركا حتى يراعيها حق رعايتها إذ أنها أصبحت أهدافا للتربية، وتتلخص في:
- الحاجة إلى تحيين ذات المتعلم لمواكبة التطور المعرفي، ( فالمراهق ميال إلى كل جديد ).
- الحاجة إلى التحكم في المحيط المباشر للمتعلم.
- الحاجة إلى الحوار والتواصل.
- الحاجة إلى ربط علاقات المودة والمحبة والاحترام.
- الحاجة إلى اكتساب المعرفة وامتلاكها واكتشاف المجهول.
- الحاجة إلى الاستقلال.  
على أن وعي المدرس بحاجات المراهق هذه لايمكن أن يغنيه مالم تتوفر لديه مهارات تساعده في إنجاز الفعل التعليمي، ومن هذه المهارات:
- مهارة التهيئة الذهنية.
- مهارة تنويع المثيرات.
- مهارة استخدام الوسائل التعليمية.
- مهارة إثارة الدافعية للتعلم. 
ويقصد بالدافعية إثارة رغبة التلاميذ في التعلم وحفزهم عليه، وذلك ب:
- التنويع في استراتيجية التدريس.
- ربط الموضوعات بواقع حياة المتعلمين.
- إثارة الأسئلة التي تتطلب التفكير مع تعزيز إجابات التلاميذ.
- ربط أهداف الدرس بالحاجات الذهنية والنفسية والاجتماعية للمتعلمين.
- دعوة التلاميذ إلى المشاركة  في التخطيط لعملهم التعليمي.
وليست الدافعية نتيجة تأثير خارجي، بل هي ناتج طبيعي للرغبة في الإنجاز وإيمان من الشخص بأنه قادر على الفعل. تحضرني في هذا السياق قصة شهدتها مع تلميذة لي درّستها، وكانت مجدّة. دخلت القسم في بعض الحصص، فألفيت التلاميذ يتحاورون في شأن برنامج تلفزي يسمى(ستار أكاديمي)، فساءلتهم في الأمر، وعاتبتهم لانسياقهم وراء مفسدات الذوق..ثم التفتّ أسأل التلميذة المجدّة..فأجابت بأنها قضت ساعتين ونصفا تشاهد البرنامج..فقلت متسائلا: كم تعدّ الأمة؟ وكم ضاع من وقتها؟..فقالت:كثير...ثم إنها أقبلت عليّ يوما تسألني عن عدد أبيات لامية العرب للشنفرى...ولما استفهمت عن علة السؤال علمت منها أنها قد سعت في تعويض ذلك الزمن بأن قضت مثله تحفظ اثنين وثلاثين بيتا من لامية العرب وجدتها بين دفتي كتاب..
لقد أدركت أني أثَرت في التلميذة كوامنها لما أشرت في حواري مع القسم إلى أن الوقت أثمن من أن نصرفه في الاستجابة لهوى رخو..فكان الجانب الوجداني مدخلا إلى تنمية معارفها تنمية ذاتية لم أنتهج فيها نهج الأمر والنهي، ولا سلكت سبيل الوعظ والإرشاد، مما لا يحفز ولا يثير دافعية في مراهقين يقترن إقبالهم على المعارف بفوران عاطفي لابد أن نراعيه حق رعايته.
لابد أن ندرك أن الفعل التعليمي إنما هو فعل تواصلي بالأساس، و حتى يتحقق التواصل فإنه يقتضي أطرافا علاقاتها أفقية، ولا يكون ذلك  إلا متى تخلى المدرس عن صورته التقليدية وأدرك أن التدريس عملية تفاعل اجتماعي وسيلتها الفكر والحواس، والعاطفة واللغة. وحتى يكون التدريس فعالا ينبغي أن يقوم على مبادئ، منها:
- أن يمثل المتعلم محور العملية التربوية، وليس البرنامج أو المجتمع.
- أن تتلاءم مبادئ التدريس وإجراءاته مع حالة التلاميذ الإدراكية والعاطفية والجسمية.
- أن تختلف الأساليب المستخدمة في التعليم باختلاف نوعية التلاميذ.
- أن يُستهدَف تطوير قوى المتعلمين الإدراكية والعاطفية والجسمية والحركية بصيغ متوازنة.
فالذكاء لا يُعَدُّ العاملَ الوحيدَ في تقويم نتائج المتعلم وإنما تزاحمه عوامل أخرى من أهمها النضج العاطفي والنمو النفسي الحركي. والإنسان هو كل هذه العوامل مجتمعة. والذكاء متعدد وليس فردا. وإذا آمن المدرس بتعدد "ذكاءات" المتعلمين واختلافها عمد إلى اتباع مداخل تعليمية-تعلمية متنوعة لتحقيق التواصل مع الجميع داخل القسم منطلقا من الوعي بأن لكل متعلم طريقة في التعلم تناسبه، ومن ثم وجب تنويع أساليب التدريس لمخاطبة كل فئة بما يناسب طريقتها في التعلم.
ليس بين الوجداني والعرفاني تعارض، إنما بينهما تكامل وتساند، فمثلما يتعلم التلميذ المعارف العقلية والمفاهيم النظرية مما يعطي عمقا للأنشطة والوظائف المعرفية لديه، فإنه يتعلم كذلك القيم و يكتسب المواقف، وكون المواقف مكتسبة يجعلها قابلة للتعديل والتغيير، وذلك إنما يتم من خلال العملية التعليمية التي تتحقق فيها غايات التربية والتعليم، وتلك أنما تستمد مصادرها من منظومات القيم الاجتماعية التي تحدد التصور عن المتعلم ومحتويات التعلم. 

نور الدين غيلوفي  تونس